علاقة علي بن أبي طالب رضي الله عنه...بأبي بكر الصديق رضي الله عنه
تحليل د/ علي الصلابي 12/6/1429 ـ 16/06/2008
كلام قاطع ! واعتذر جدا على الإطالة والله ؛
لكن لزم الأمر ومن قرأ فهم فالمر خطير وهو من تصحيح امور ديننا ! الله المستعان
أولاً: مبايعة علي لأبي بكر بالخلافة رضي الله عنهما:
وردت أخبار كثيرة في شأن تأخّر علي عن مبايعة الصديق، وكذا تأخّر الزبير بن العوام،
وجُلّ هذه الأخبار ليست بصحيحة،
وقد جاءت روايات صحيحة السند تفيد بأن عليًا والزبير – رضي الله عنهما- بايعا الصديق في أول الأمر،
فعن أبى سعيد الخدري- رضي الله عنه- قال:
لما توفي رسول الله -- قام خطباء الأنصار.. فذكر بيعة السقيفة,
ثم قال: ثم انطلقوا، فلما قعد أبو بكر على المنبر نظر في وجوه القوم فلم ير عليًا، فسأل عنه، فقام أناس من الأنصار، فأتوا به، فقال أبو بكر: ابن عم رسول الله -- وختنه أردت أن تشق عصا المسلمين؟! فقال: لا تثريب يا خليفة رسول الله ، فبايعه، ثم لم يرَ الزبير بن العوام، فسأل عنه حتى جاؤوا به، فقال: ابن عمّة رسول الله وحواريه، أردت أن تشق عصا المسلمين؟! فقال مثل قوله: لا تثريب يا خليفة رسول الله فبايعاه.
ومما يدل على أهمية حديث أبي سعيد الخدري الصحيح أن الإمام مسلم بن الحجاج صاحب الجامع الصحيح- الذي هو أصح الكتب الحديثية بعد صحيح البخاري – ذهب إلى شيخه الحافظ محمد بن إسحاق بن خزيمة – صاحب صحيح ابن خزيمة- فسأله عن هذا الحديث، فكتب له ابن خزيمة الحديث، وقرأه عليه، فقال مسلم لشيخه ابن خزيمة: هذا الحديث يساوى بدنة، فقال ابن خزيمة: هذا الحديث لا يساوى بدنة فقط، إنه يساوى بدرة مال,
وعلق على هذا الحديث ابن كثير – رحمه الله – فقال:
هذا إسناد صحيح محفوظ، وفيه فائدة جليلة، وهي مبايعة علي بن أبي طالب، إما في أول يوم، أو في الثاني من الوفاة،
وهذان حق، فإن علي بن أبي طالب لم يفارق الصديق في وقت من الأوقات، ولم ينقطع عن صلاة من الصلوات خلفه,
وفي رواية حبيب بن أبي ثابت، حيث قال: كان علي بن أبي طالب في بيته، فأتاه رجل، فقال له:
قد جلس أبو بكر للبيعة، فخرج عليّ إلى المسجد في قميص له، ما عليه إزار ولا رداء، وهو متعجِّل، كراهة أن يبطئ عن البيعة، فبايع أبا بكر، ثم جلس، وبعث إلى ردائه فجاؤوه به، فلبسه فوق قميصه.
وقد سأل عمرو بن حريث سيعد بن زيد-رضي الله عنه- فقال له: متى بويع أبو بكر؟
قال سعيد: يوم مات رسول الله كره المسلمون أن يبقوا بعض يوم، وليسوا في جماعة.
قال: هل خالف أحد أبا بكر؟ قال سعيد: لا. لم يخالف إلاّ مرتد، أو كاد أن يرتد، وقد أنقذ الله الأنصار، فجمعهم عليه وبايعوه.
قال: هل قعد أحد من المهاجرين عن بيعته؟ قال سعيد: لا، لقد تتابع المهاجرون على بيعته,
وكان مما قال علي رضي الله عنه لابن الكواء وقيس بن عباد حينما قدم البصرة وسألاه عن مسيره قال "" لو كان عندي من النبي ما تركت أخا بني تيم بن مرة [يقصد أبا بكر] وعمر بن الخطاب يقومان على منبره ولقاتلتهما ولو لم أجد إلاّ بردي هذا، ولكن رسول الله لم يقتل قتلاً ولم يمت فجأة، مكث في مرضه أيامًا وليالي يأتيه المؤذن فيؤذنه بالصلاة، فيأمر أبا بكر فيصلي بالناس، وهو يرى مكاني، ولقد أرادت امرأة من نسائه [عائشة بنته وأمنا]أن تصرفه عن أبي بكر فأبى وغضب وقال: "" أنتن صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصلِّ بالناس ""
فلما قبض الله نبيه ونظرنا في أمورنا، فاخترنا لدنيانا من رضيه نبي الله, وكانت الصلاة أصل الإسلام, وهي أعظم الأمور وقوام الدين،
فبايعنا أبا بكر، وكان لذلك أهلاً، ولم يختلف عليه منا اثنان، ولم يشهد بعضنا على بعض، ولم نقطع منه البراءة،
فأديت إلى أبي بكر حقه، وعرفت له طاعته وغزوت معه في جنوده، وكنت آخذ إذا أعطاني، وأغزو إذا أغزاني، وأضرب بين يديه الحدود بسوطي.
وكان مما قال في خطبته على منبر الكوفة في ثنائه على أبي بكر وعمر: «فأعطى المسلمون البيعة طائعين، فكان أول من سبق في ذلك من ولد عبد المطلب أنا»,
وجاءت روايات أشارت إلى مبايعة علي لأبي بكر رضي الله عنهما في أول الأمر وإن لم تصرح بذلك،
فعن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف أنه قال: إن عبد الرحمن بن عوف كان مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه
ثم قام أبو بكر فخطب الناس، واعتذر إليهم وقال: «والله ما كنت حريصًا على الإمارة يومًا ولا ليلة قط، ولا كنت فيها راغبًا، ولا سألتها الله -عز وجل- في سر ولا علانية، ولكني أشفقت من الفتنة، وما لي في الإمارة من راحة، ولكن قلدت أمرًا عظيمًا ما لي به من طاقة ولابد إلاّ بتقوية الله عز وجل، ولودِدْتُ أن أقوى الناس عليها مكاني اليوم».
قال علي -رضي الله عنه- والزبير: «ما غضبنا إلاّ لأنا قد أخرنا عن المشاورة، وأنا نرى أبا بكر أحق الناس بها بعد رسول الله إنه لصاحب الغار، وثاني اثنين، وإنا لنعلم بشرفه، وكبره، ولقد أمره رسول الله بالصلاة بالناس وهو حي».
وعن قيس العبدي قال: «شهدت خطبة علي يوم البصرة قال: فحمد الله وأثنى عليه، وذكر النبي وما عالج من الناس، ثم قبضه الله عز وجل إليه،
ثم رأى المسلمون أن يستخلفوا أبا بكر رضي الله عنه فبايعوا وعاهدوا وسلموا، وبايعت وعاهدت وسلمت، ورضوا ورضيت، وفعل من الخير وجاهد حتى قبضه الله عز وجل، رحمة الله عليه».
إن عليًا -رضي الله عنه- لم يفارق الصديق في وقت من الأوقات، ولم ينقطع عنه في جماعة من الجماعات،
وكان يشاركه في المشورة، وفي تدبير أمور المسلمين. ويرى ابن كثير ومجموعة من أهل العلم أن عليًا جدّد بيعته بعد ستة أشهر من البيعة الأولى،
أي بعد وفاة فاطمة رضي الله عنها، وجاءت في هذه البيعة روايات صحيحة.
ولكن لما وقعت البيعة الثانية ؟
اعتقد بعض الرواة أن عليًا لم يبايع قبلها، فنفى ذلك والمثبت مقدم على النافي.
وهناك كتاب اسمه «الإمام علي جدل الحقيقة والمسلمين الوصية والشورى» لمحمود محمد العلي زعم صاحبه بأنه يبحث وينشد الحقيقة، ولكن صاحبه لم يتخلص من المنهج الشيعي الرافضي في الطرح ووضع السمّ في العسل،
ولذلك وجب التنبيه،
وقد تعرض لبيعة علي رضي الله عنه، وزعم بأن أحقية علي -رضي الله عنه- بالخلافة قائمة على الوصية.
ثانيًا: علي -رضي الله عنه- ومساندته لأبي بكر في حروب الردة:
كان علي رضي الله عنه لأبي بكر رضي الله عنه عيبة نصح له [أي علي كموضع العيب عند أبي بكر فيستره كما يستر أحدنا موضع عيبته وقال للأنصار أنتم عيبتي أي كموضع عيبتي التي يجب علي سترها]، مرجحًا لما فيه مصلحة للإسلام والمسلمين على أي شيء آخر،
ومن الدلائل الساطعة على إخلاصه لأبي بكر ونصحه للإسلام والمسلمين، وحرصه على الاحتفاظ ببقاء الخلافة واجتماع شمل المسلمين
ما جاء من موقفه من توجه أبى بكر رضي الله عنه بنفسه إلى ذي القصة،
وعزمه على محاربة المرتدين، وقيادته للتحركات العسكرية ضدهم بنفسه،
وما كان في ذلك من مخاطرة وخطر على الوجود الإسلامي,
فعن ابن عمر رضي الله عنه يقول: أقول لك ما قال رسول الله يوم أحد:
لُمّ سيفك ولا تفجعنا بنفسك، وارجع إلى المدينة، فو الله لئن فجعنا بك لا يكون للإسلام نظام أبدًا
، فرجع. فلو كان علي رضي الله عنه – أعاذه الله من ذلك – لم ينشرح صدره لأبي بكر وقد بايعه على رغم من نفسه،
فقد كانت هذه فرصة ذهبية ينتهزها علي، فيترك أبا بكر وشأنه،
لعله يحدث به حدث فيستريح منه ويصفو الجو له، وإذا كان فوق ذلك – حاشاه الله – من كراهته له، وحرصه على التخلص منه، أغرى به أحدًا يغتاله، كما يفعل الرجال السياسيون بمنافسيهم وأعدائهم, وقد كان رأي علي -رضي الله عنه- مقاتلة المرتدين،
وقال لأبي بكر لما قال لعلي: ما تقول يا أبا الحسن؟ قال: أقول: إنك إن تركت شيئًا مما كان أخذه منهم رسول الله فأنت على خلاف سنة الرسول، فقال: أما لئن قلت ذاك لأقاتلنهم وإن منعوني عقالاً.
ثالثًا: تقديم علي رضي الله عنه لأبي بكر:
تواترت الأخبار عن علي رضي الله عنه في تفضيله وتقديمه لأبي بكر رضي الله عنه فمن ذلك:
1- عن محمد بن الحنفية [هو محمد بن علي بن أبي طالب نُسِب إلى امه ليعرف عن غيرهمن أولاد علي]قال: قلت لأبي[وأبوه علي بن أبي طالب]:
أي الناس خير بعد رسول الله ؟ قال: أبو بكر، قلت: ثم من؟ قال: عمر، وخشيت أن يقول عثمان قلت: ثم أنت؟ قال: ما أنا إلاّ رجل من المسلمين.
2- عن علي رضي الله عنه قال: ألا أخبركم بخير هذه الأمة بعد نبيها: أبو بكر. ثم قال: ألا أخبركم بخير هذه الأمة بعد أبي بكر: عمر.
3- عن أبي وائل شقيق بن سلمة قال: قيل لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه:
ألا تستخلف علينا؟ قال: ما استخلف رسول الله فأستخلف، ولكن إن يرد الله بالناس خيرًا فسيجمعهم بعدي على خيرهم، كما جمعهم بعد نبيهم على خيرهم.
4- وقال علي رضي الله عنه: لا يفضلني أحد على أبي بكر وعمر إلاّ جلدته حد المفتري.
5- قول علي لأبي سفيان رضي الله عنهما: إنا وجدنا أبا بكر لها أهلاً.
وهناك آثار يُستأنس بها في إيضاح العلاقة الطيبة بين علي وأبي بكر منها:
(أ) عن عقبة بن الحارث قال: خرجت مع أبى بكر الصديق من صلاة العصر بعد وفاة النبي بليال
وعلي يمشي إلى جنبه، فمر بحسن بن علي يلعب مع غلمان، فاحتمله على رقبته وهو يقول:بأبي يشبهُ النبي = ليس شبيهًا بعلي
قال: وعلي يضحك.
(ب) وعن علي -رضي الله عنه- قال: «من فارق الجماعة شبرًا، فقد نزع ربقة الإسلام من عنقه» فهل كان علي يفعل ذلك؟ كان رضي الله عنه يكره الاختلاف ويحرص على الجماعة.
قال القرطبي: من تأمّل ما دار بين أبي بكر وعلي من المعاتبة ومن الاعتذار،
وما تضمن ذلك من الاتفاق عرف أن بعضهم كان يعترف بفضل الآخر،
وأن قلوبهم كانت متفقة على الاحترام والمحبة، وإن كان الطبع البشري قد يغلب أحيانًا،
لكن الديانة ترد ذلك – والله الموفق-.
وأما ما قيل من تخلّف الزبير بن العوام عن البيعة لأبي بكر، فإنه لم يرد من طريق صحيح، بل ورد ما ينفي هذا القول، ويثبت مبايعته في أول الأمر، وذلك في أثر أبي سعيد الصحيح وغيره من الآثار.
(ج) قال ابن تيمية: وقد تواترت عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أنه قال: «خير الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر»،
وقد رُوي هذا عنه من طرق كثيرة قيل إنها تبلغ ثمانين طريقًا، وعنه أنه يقول: «لا أوتى بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلاّ جلدته حد المفتري».
وقال أيضًا: ولم يقل قط أني أحق بهذا – أي الخلافة – من أبي بكر، ولا قاله أحد بعينه إن فلانًا أحق بهذا الأمر من أبي بكر، وإنما قال من فيه أثر لجاهلية عربية أو فارسية إن بيت الرسول أحق بالولاية؛
لأن العرب في جاهليتها كانت تقدم أهل الرؤساء، وكذلك الفرس يقدمون أهل بيت الملك، فنقل عمن نقل عنه كلام يشير به إلى هذا.
(د) تسمية أبي بكر بالصديق وشهادة علي له بالسبَّاق والشجاعة: عن يحيى بن حكيم بن سعد قال: سمعت عليًا رضي الله عنه يحلف:لله أنزل اسم أبي بكر من السماء، الصديق,
وعن صلة بن زفر العبسي قال: كان أبو بكر إذا ذُكر عند علي قال:
السبَّاق تذكرون، والذي نفسي بيده ما استبقنا إلى خير قط إلاّ سبقنا إليه أبو بكر,
وعن محمد بن عقيل بن أبى طالب قال: خطبنا علي فقال:
أيها الناس، من أشجع الناس؟ قلنا: أنت يا أمير المؤمنين. قال ذاك أبو بكر الصديق،
إنه لما كان في يوم بدر وضعنا لرسول الله العريش فقلنا: من يقم عنده لا يدنو إليه أحد من المشركين؟ فما قام عليه إلاّ أبو بكر،
وإنه كان شاهرًا السيف على رأسه كلما دنا إليه أحد هوى إليه أبو بكر بالسيف،
ولقد رأيت رسول الله وأخذته قريش عند الكعبة فجعلوا يتعتعونه ويترترونه، ويقولون:
أنت الذي جعلت الآلهة إلهًا واحدًا، فو الله ما دنا إليه إلاّ أبو بكر ولأبي بكر يومئذ ضفيرتان, فأقبل يجأ هذا، ويدفع هذا،
ويقول: ويلكم أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم.. وقُطعت إحدى ضفيرتي أبي بكر،
فقال علي لأصحابه: ناشدتكم الله أي الرجلين خير: مؤمن آل فرعون أم أبو بكر؟ فأمسك القوم،
فقال علي: والله ليوم من أبي بكر خير من مؤمن آل فرعون، ذلك رجل كتم إيمانه فأثنى الله عليه، وهذا أبو بكر بذل نفسه ودمه لله.
رابعًا: اقتداء علي بالصديق في الصلوات وقبول الهدايا منه:
إن عليًا -رضي الله عنه- كان راضيًا بخلافة الصديق، ومشاركًا له في معاملاته وقضاياه، قابلاً منه الهدايا رافعًا إليه الشكاوي،
مصليًا خلفه، محبًا له، مبغضًا من بغضه, وشهد بذلك أكبر خصوم الخلفاء الراشدين،
وأصحاب النبي ومن تبعهم بهديهم، وسلك مسلكهم، ونهج منهجهم,
فهذا اليعقوبي الشيعي الغالي في تاريخه يذكر أيام خلافة الصديق فيقول:
وأراد أبو بكر أن يغزو الروم فشاور جماعة من أصحاب رسول الله فقدموا وأخروا فاستشار علي بن أبي طالب فأشار أن يفعل، فقال: إن فعلت ظفرت؟ فقال: بشرت بخير، فقام أبو بكر في الناس خطيبًا، وأمرهم أن يتجهزوا إلى الروم،
وفي رواية: سأل الصديق عليًا كيف ومن أين تبشر؟ قال: من النبي حيث سمعته يبشر بتلك البشارة، فقال أبو بكر: سررتني بما أسمعتني من رسول الله يا أبا الحسن، سرك الله.
ويقول اليعقوبي أيضًا: وكان ممن يُؤخذ عنهم الفقه في أيام أبي بكر علي بن أبي طالب وعمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وزيد بن ثابت وعبد الله بن مسعود,
فقدم عليًا على جميع أصحابه [أي كان ايضا المقدم عند أبي بكر!]،
وهذا دليل واضح على تعاملهم مع بعضهم وتقديمهم عليًا في المشورة والقضاء،
فعندما كتب خالد بن الوليد إلى أبي بكر بقوله له:
إنه وجد رجلاً في بعض نواحي العرب ينكح كما تنكح المرأة،
فجمع أبو بكر لذلك أصحاب رسول الله منهم علي،
فقال علي: إن هذا ذنب لم يعمل به إلاّ أمة واحدة, ففعل الله بهم ما قد علمتم، أرى أن تحرقه بالنار، فاجتمع رأي أصحاب رسول الله أن يُحرق بالنار، فأمر به أبو بكر أن يحرق بالنار،
وكان علي رضي الله عنه يمتثل أوامر الصديق؛ فعندما جاء وفد من الكفار إلى المدينة، ورأوا بالمسلمين ضعفًا وقلة لذهابهم إلى الجهات المختلفة للجهاد واستئصال شأفة المرتدين والبغاة الطغاة، وأحس منهم الصديق خطرًا على عاصمة الإسلام والمسلمين، أمر الصديق بحراسة المدينة، وجعل الحرس على أنقابها يبيتون بالجيوش،
وأمر عليًا والزبير وطلحة وعبد الله بن مسعود أن يرأسوا هؤلاء الحراس، وبقوا كذلك حتى أمنوا منهم.
وللتعامل الموجود بينهم وللتعاطف والتواد والوئام الكامل كان علي وهو سيد أهل البيت ووالد سبطي الرسول يتقبل الهدايا والتحف، دأب الإخوة المتساوين فيما بينهم والمتحابين كما قبل الصهباء الجارية التي سُبيت في معركة عين التمر، وولدت له عمر ورقية, وأيضًا منحه الصديق خولة بنت جعفر بن قيس التي أُسرت مع من أسر في حرب اليمامة وولدت له أفضل أولاده بعد الحسن والحسين وهو محمد بن الحنفية، وكانت خولة من سبي أهل الردة، وبها يُعرف ابنها، ونُسب إليها محمد بن الحنفية,
يقول الإمام الجويني عن بيعة الصحابة لأبي بكر: وقد اندرجوا تحت الطاعة عن بكرة أبيهم لأبي بكر – رضي الله عنه – وكان علي -رضي الله عنه- سامعًا لأمره، وبايع أبا بكر على ملأ من الأشهاد، ونهض إلى غزو بني حنيفة.
ووردت روايات عديدة في قبوله هو وأولاده الهدايا المالية، والخمس، وأموال الفيء من الصديق رضي الله عنهم أجمعين، وكان علي هو القاسم والمتولي في عهده على الخمس والفيء، وكانت هذه الأموال بيد علي، ثم كانت بيد الحسن ثم بيد الحسين، ثم الحسن بن الحسن ثم زيد بن الحسن
وكان علي رضي الله عنه يؤدي الصلوات الخمس في المسجد خلف الصديق، راضيًا بإمامته، ومظهرًا للناس اتفاقه ووئامه معه
وكان علي رضي الله عنه يروى عن أبي بكر بعض أحاديث رسول الله
فعن أسماء بنت الحكم الفزاري قالت: سمعت عليًا رضي الله عنه- يقول:
كنت إذا سمعت من رسول الله علمًا نفعني الله به، وكان إذا حدثني عنه غيري استحلفته فإذا حلف صدقته،
وحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر قال: سمعت رسول الله يقول: «ما من عبد مسلم يذنب ذنبًا ثم يتوضأ فيحسن الوضوء ثم يصلي ركعتين ثم يستغفر الله إلاّ غفر الله له».
ولما قُبض رسول الله اختلف أصحابه فقالوا: ادفنوه في البقيع, وقال آخرون: ادفنوه في موضع الجنائز، وقال آخرون: ادفنوه في مقابل أصحابه،
فقال أبو بكر: أخّروا فإنه لا ينبغي رفع الصوت عند النبي حيًا ولا ميتًا، فقال علي رضي الله عنه: «أبو بكر مؤتمن على ما جاء به».
قال أبو بكر: «عهد إليّ رسول أنه ليس من نبي يموت إلاّ دفن حيث يُقبض», وشهد علي رضي الله عنه للصديق عن عظيم أجره في المصاحف، فعن عبد خير قال: سمعت عليًا يقول: «أعظم الناس أجرًا في المصاحف: أبو بكر الصديق، هو أول من جمع بين اللوحين».
خامسًا: الصديق والسيدة فاطمة وميراث النبي:
قالت عائشة رضي الله عنها: إن فاطمة والعباس – رضي الله عنهما- أتيا أبا بكر رضي الله عنه يلتمسان ميراثهما من رسول الله وهما يطلبان أرضه من فدك، وسهمه من خيبر،
فقال لهما أبو بكر: إني سمعت رسول الله يقول: «لا نورث، ما تركنا صدقة، إنما يأكل آل محمد من هذا المال»
وفي رواية قال أبو بكر رضي الله عنه.... لست تاركًا شيئًا كان رسول الله يعمل به إلاّ عملت به، فإني أخشى إن تركت شيئًا من أمره أن أزيغ.
وعن عائشة - رضي الله عنها – قالت: إن أزواج النبي ، حين توفي رسول الله، أردن أن يبعثن عثمان بن عفان رضي الله عنه إلى أبي بكر، ليسألنه ميراثهن من النبي فقالت عائشة -رضي الله عنها- لهن: أليس قد قال رسول الله : «لا نورث، ما تركناه صدقة»؟!
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : «لا يقتسم ورثتي دينارًا، ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة».
وهذا ما فعله أبو بكر الصديق رضي الله عنه مع فاطمة -رضي الله عنها- امتثالاً لقوله ، لذلك قال الصديق: «لست تاركًا شيئًا كان رسول الله يعمل به إلاّ عملت به» وقال: «والله لا أدع أمرًا رأيت رسول الله يصنعه إلاّ صنعته».
وقد تركت فاطمة -رضي الله عنها- منازعته بعد احتجاجه بالحديث وبيانه لها، وفيه دليل على قبولها الحق وإذعانها لقوله ،
قال ابن قتيبة: وأما منازعة فاطمة أبا بكر -رضي الله عنها- في ميراث النبي فليس بمنكر؛ لأنها لم تعلم ما قاله رسول الله وظنت أنها ترثه كما يرث الأولاد آباءهم، فلم أَن أخبرها بقوله كفّت,
وقد غلا الرافضة في قصة ميراث النبي غلوًا مفرطًا،
مجانبين الحق والصواب، معرضين متجاهلين ما ورد من نصوص صحيحة في أنه لا يورث، وجعلوا ذلك من أصول الخلاف بين الصحابة وآل البيت- رضي الله عنهم أجمعين – وامتدادًا لأمر الخلافة، فاتهموا الصحابة- رضوان الله عليهم- بإيقاع الظلم والجور على آل البيت، ولا سيما أبو بكر الصديق وعمر الفاروق – رضي الله عنهما – اللذين غصبا الخلافة من آل البيت كما في زعمهم، وأضافوا إلى ذلك غصب أموال آل البيت، وغصب ما فرض الله لهم من حقوق مالية، ويعتبر الرافضة قضية فدك، ومنع فاطمة من إرثها من أهم القضايا، التي تواطأ عليها الصحابة بعد غصب الصديق رضي الله عنه للخلافة منهم على حد تعبيرهم، وذلك حتى لا يميل الناس إلى آل البيت بسبب هذا المال فيجتمعوا عليه ويخلعوه من الخلافة.
والمتتبع لكتب الرافضة في هذه المسألة يجد أنها تنصب على إنكار حديث رسول الله : «نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة» واستقطاب الأدلة لمحاولة إبطاله،
فمن ذلك:
1- زعمهم أن هذا الحديث وضعه أبو بكر الصديق رضي الله عنه:
وفي ذلك يقول الحلي: إن فاطمة لم تقبل بحديث اخترعه أبو بكر من قوله: ما تركناه صدقة. وقال أيضًا: والتجأ في ذلك إلى رواية انفرد بها. وقال المجلسي بعد أن نص على أن أبا بكر وعمر أخذا فدكًا: ولأجل ذلك وضعوا تلك الرواية الخبيثة المفتراة: نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة ويقول الخميني في ذلك: نقول إن الحديث المنسوب إلى النبي لا صحة له، وأنه قيل من أجل استئصال ذرية النبي.
ويُجاب على ذلك: بأن هذا القول كذب محض وافتراء واضح؛ إذ هذه الرواية لم ينفرد بها أبو بكر -رضي الله عنه- بل إن قوله : «لا نورث ما تركناه فهو صدقة»، رواه عنه أبو بكر وعثمان وعلي وطلحة، والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف والعباس بن عبد المطلب، وأزواج النبي ، وأبو هريرة وحذيفة بن اليمان رضي الله عنهم أجمعين.
وفي ذلك يقول ابن تيمية: والرواية عن هؤلاء ثابتة في الصحاح والمسانيد، ومشهورة يعلمها أهل العلم بالحديث،
فقول القائل: إن أبا بكر انفرد بالرواية يدل على فرط جهله أو تعمده الكذب.
وقال ابن كثير بعد ذكره لمن روى الحديث: «وأن هذا الزعم من الرافضة باطل، ولو تفرد بروايته الصديق- رضي الله عنه – لوجب على جميع أهل الأرض قبول روايته والانقياد له في ذلك»,
وقد قال الدكتور سليمان بن رجاء السحيمي صاحب الكتاب القيم «العقيدة في أهل البيت بين الإفراط والتفريط»:
ويؤيد هذا ما جاء من كتب الرافضة عن الإمام جعفر الصادق الإمام الخامس المعصوم عندهم فيما رواه الكليني والصفار، والمفيد أنه قال: قال رسول الله :
«من سلك طريقًا يطلب منه علمًا سلك الله به طريقًا إلى الجنة، والعلماء أمناء، والأتقياء حصون، والأوصياء سادة، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر النجوم ليلة البدر، وأن العلماء ورثة الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، ولكن ورثوا العلم، فمن أخذ منه أخذ بحظ وافر.
وفي رواية: «إن العلماء ورثة الأنبياء، وذلك أن الأنبياء لم يورثوا درهمًا ولا دينارًا، وإنما أورثوا أحاديث من أحاديثهم». وما أرث منك يا رسول الله؟ قال: «ما أورث النبيون».
2- زعمهم أن هذا الحديث مخالف لقوله تعالى: (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ). [النساء:11] وقالوا: ولم يجعل الله ذلك خاصًا بالأمة دونه .
والحقيقة أن الخطاب شامل للمقصودين بالخطاب، وليس فيه ما يوجب كون النبي من المخاطبين بها, فهو لا يُقاس بأحد من البشر، فهو أولى بالمؤمنين من أنفسهم، ولأن الله حرم عليه صدقة الفرض والتطوع، وخُصّ بأشياء لم يُخص بها أحد غيره ، ومما خصه الله به، هو وإخوانه من الأنبياء عليهم السلام كونهم لا يورثون، وذلك صيانة من الله لهم لئلا يكون ذلك شبهة لمن يقدح في نبوتهم بأنهم طلبوا الدنيا وخلفوها لورثتهم، أما بقية البشر فلا نبوة لهم يقدح فيها بمثل ذلك،
كما صان الله تعالى نبينا عن الخط والشعر صيانة لنبوته عن الشبهة، وإن كان غيره لم يحتج إلى هذه الصيانة.
وقال ابن كثير في رده على استدلال الرافضة بالآية: إن رسول الله قد خُصّ من بين الأنبياء بأحكام لا يشاركونه فيها.. فلو قدر أن غيره من الأنبياء يورثون، وليس الأمر كذلك، لكان ما رواه الصحابة، وعلى رأسهم أبو بكر، مبينًا لتخصصه بهذا الحكم دون من سواه. وبهذا يتبين بطلان استدلالهم بمخالفة الحديث.
3- زعمهم أن منع الإرث والاستدلال بهذا الحديث مخالف لقوله تعالى: ( وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ) [النمل:16]، ومخالف لما حكاه الله عن نبيه زكريا عليه السلام: (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) [مريم: 5، 6].
حيث قالوا: إن الميراث يقتضي الأموال وما في معناه، وليس لأحد أن يقول إن المراد بالآية العلم دون المال.
ويُجاب على ذلك بما يلي: إن الإرث اسم جنس يدخل تحته أنواع، فيستعمل في إرث العلم والنبوة والملك وغير ذلك من أنواع الانتقال. قال تعالى: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا) [فاطر:32]، وقال تعالى: (أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ). [المؤمنون:10،11] وغير ذلك من الآيات الواردة في هذا الشأن،
وإذا كان كذلك فقوله تعالى: (وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ) وقوله: ( يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ) إنما يدل على جنس الإرث، ولا يدل على إرث المال، وذلك أن داود عليه السلام كان له أولاد كثيرون غير سليمان فلا يختص سليمان بماله،
فدل على أن المراد بهذا الإرث إرث العلم والنبوة ونحو ذلك، لا إرث المال، والآية سيقت في بيان مدح سليمان وما خصه الله به من النعمة، وحصر الإرث في المال لا مدح فيه؛ إذ إن إرث المال من الأمور العادية المشتركة بين الناس، وكذلك قوله تعالى: (يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) ليس المراد به إرث المال؛ لأنه لا يرث آل يعقوب شيئًا من أموالهم، وإنما يرث ذلك منهم أولادهم وسائر ورثتهم لو ورثوا.
كما أن قوله: (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي) [مريم:5] لا يدل على أن الإرث إرث مال؛ لأن زكريا لم يخف أن يأخذوا ماله من بعده إذا مات، فإن هذا ليس بمخوف، وزكريا عليه الصلاة والسلام لم يعرف له مال، بل كان تاجرًا يأكل من كسب يده كما في صحيح مسلم، ولم يكن ليدخر منها فوق قوته حتى يسأل الله ولدًا يرث عنه ماله، فدل على أن المراد بالوراثة في هاتين الآيتين وراثة النبوة، والقيام مقامه.
يقول القرطبي في تفسيره للآية: وعليه فلم يسل من يرث ماله؛ لأن الأنبياء لا تورث، وهذا هو الصحيح من القولين في تأويل الآية، وأنه عليه الصلاة والسلام أراد وراثة العلم والنبوة، لا وراثة المال لما ثبت عن النبي أنه قال: «إنا معشر الأنبياء لا نورث، ما تركنا صدقة», وهذا الحديث يدخل في التفسير المسند لقوله تعالى: (وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ) وعبارة عن قول زكريا (فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) وتخصيص للعموم في ذلك، وإن سليمان لم يرث من داود مالاً خلّفه داود بعده. وإنما ورث منه الحكمة والعلم، وكذلك ورث يحيى من آل يعقوب، وهكذا قال أهل العلم بتأويل القرآن ما عدا الروافض.
ومما تجدر الإشارة إليه أن الرافضة خالفوا ما استدلوا به على وجوب الميراث،
وذلك أنهم حصروا ميراثه في فاطمة – رضي الله عنه – فزعموا أنه لم يرث النبي إلاّ هي،
فأخرجوا أزواجه وعصبته مخالفين عموم الآيات التي استدلوا بها،
فقد روى الصدوق بسنده عن أبي جعفر الباقر قوله: لا والله ما ورث رسول الله العباس ولا علي، ولا ورثته إلاّ فاطمة عليها السلام، وما كان أخذ علي -عليه السلام- السلاح وغيره إلاّ أنه قضى عنه دينه.
وروى الكليني والصدوق والطوسي بأسانيدهم إلى الباقر أيضًا قوله: وورث علي -عليه السلام- من رسول الله علمه، وورثت فاطمة عليها السلام تركته, بل وأخرجوا فاطمة من ذلك، حيث زعموا أن النساء لا يرثن العقار،
فقد بوب الكليني في كتابه الكافي بابًا بعنوان: إن النساء لا يرثن من العقار شيئًا، وساق تحته روايات منها: عن أبي جعفر الصادق إنه قال: النساء لا يرثن من الأرض ولا من العقار شيئًا.
روى الصدوق بسنده إلى ميسر قال: سألته – يقصد الصادق – عن النساء ما لهن في الميراث؟ فقال: أما الأرض والعقارات فلا ميراث فيه, وبهذا يتبين عدم استحقاق فاطمة – رضي الله عنها – شيئًا من الميراث، بدون الاستدلال بحديث: نحن معاشر الأنبياء لا نورث, فما دامت المرأة لا ترث العقار والأرض، فكيف كان لفاطمة أن تسأل فدك – على حسب قولهم- وهي عقار لا ريب فيه, وهذا دليل كذبهم وتناقضهم فضلاً عن جهلهم.
وأما ما زعموه من كون الصديق – رضي الله عنه – سأل فاطمة أن تحضر شهودًا، فأحضرت عليًا وأم أيمن فلم يقبل شهادتهما، فهو من الكذب البين الواضح،
قال حماد بن إسحاق: فأما ما يحكيه قوم أن فاطمة عليها السلام طلبت فدك، وذكرت أن رسول الله أقطعها إياها، وشهد لها علي -عليه السلام- فلم يقبل أبو بكر شهادته لأنه زوجها، فهذا أمر لا أصل له ولا تثبت به رواية أنها ادّعت ذلك، وإنما هو أمر مفتعل لا ثبت فيه.
- أن السنة والإجماع قد دلاّ على أن النبي لا يورث: ]
قال ابن تيمية: كون النبي لا يورث ثبت بالسنة المقطوع بها، وبإجماع الصحابة،
وكل منها دليل قطعي، فلا يعارض ذلك بما يُظن أنه عموم، وإن كان عمومًا فهو مخصوص؛ لأن ذلك لو كان دليلاً لما كان إلاّ ظنيًا فلا يعارض القطعي؛
إذ الظني لا يعارض القطعي، وذلك أن هذا الخبر رواه غير واحد من الصحابة في أوقات ومجالس،
وليس فيهم من ينكره، بل كلهم تلقاه بالقبول والتصديق، ولهذا لم يصر أحد من أزواجه على طلب الميراث،
ولا أصرّ العمّ على طلب الميراث، بل لما طلب من ذلك شيئًا فأخبر بقول النبي رجع عن طلبه،
واستمر الأمر على ذلك على عهد الخلفاء الراشدين إلى علي، فلم يغير شيئًا ولا قسم له تركة.
قال ابن تيمية: قد تولى الخلافة (عليّ) بعد ذي النورين عثمان، وصار فدك وغيرها تحت حكمه،
ولم يعط منها شيئًا لأحد من أولاد فاطمة، ولا من زوجات النبي ولا ولد العباس،
فلو كان ظلمًا وقدر على إزالته لكان هذا أهون عليه من قتال معاوية وجيوشه،
أفتراه يقاتل معاوية مع ما جرى في ذلك من الشر العظيم، ولا يعطي هؤلاء قليلاً من المال، وأمره أهون بكثير؟!
وبإجماع الخلفاء الراشدين على ذلك احتج الخليفة العباسي أبو العباس السفاح على بعض مناظريه في هذه المسألة
على ما نقل ابن الجوزي في تلبيس إبليس قال: وقد روينا عن السفاح أنه خطب يومًا فقام رجل من آل علي رضي الله عنه قال: إنا من أولاد علي رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين، أعني على من ظلمني. قال: ومن ظلمك؟ قال: أنا من أولاد علي رضي الله عنه والذي ظلمني أبو بكر رضي الله عنه حين أخذ فدك من فاطمة،
وقال: ودام على ظلمكم؟ قال: نعم، قال: ومن قام بعده؟ قال: عمر رضي الله عنه قال: ودام على ظلمكم. قال: نعم، قال: ومن قام بعده؟ قال عثمان رضي الله عنه قال: ودام على ظلمكم؟ قال: نعم، قال: ومن قام بعده؟ فجعل يلتفت كذا وكذا ينظر مكانًا يهرب منه.
وبتصويب أبي بكر رضي الله عنه في اجتهاده صرَّح بعض أولاد علي من فاطمة – رضي الله عنهما- على ما روى البيهقي بسنده عن فضيل بن مرزوق قال: قال زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب: أما لو كنت مكان أبي بكر، لحكمت بما حكم به أبو بكر في فدك,
كما نقل أبو العباس القرطبي اتفاق أهل البيت بدءًا بعلي رضي الله عنه ومن جاء بعده من أولاده، ثم أولاد العباس الذين كانت بأيديهم صدقة رسول الله، إنهم ما كانوا يرون تملكها، إنما كانوا ينفقونها في سبيل الله، قال- رحمه الله-:
إن عليًا لما ولي الخلافة ولم يغيرها عما عمل فيها في عهد أبي بكر وعمر، وعثمان، ولم يتعرض لتملكها، ولا لقسمة شيء منها، بل كان يصرفها في الوجوه التي كان من قبله يصرفها فيها،
ثم كانت بيد حسن بن علي، ثم بيد حسين بن علي، ثم بيد علي بن الحسين، ثم بيد الحسين بن الحسن، ثم بيد زيد بن الحسين، ثم بيد عبد الله بن الحسين، ثم تولاها بنو العباس على ما ذكره أبو بكر البرقاني في صحيحه،
وهؤلاء كبراء أهل البيت –ر ضي الله عنهم- وهم معتمدون عند الشيعة وأئمتهم، لم يرو عن واحد منهم أنه تملكها ولا ورثها ولا ورثت عنه، فلو كان ما يقوله الشيعة حقًا لأخذها علي أو أحد من أهل بيته لما ظفروا بها.
وقال ابن تيمية: قد تولى (عليّ) الخلافة بعد ذي النورين عثمان، وصارت فدك وغيرها تحت حكمه، ولم يعط منها شيئًا لأحد من أولاد فاطمة، ولا من زوجات النبي ، ولا ولد العباس، فلو كان ظلمًا وقدر على إزالته لكان هذا أهون عليه من قتال معاوية وجيوشه، أفتراه يقاتل معاوية مع ما جرى في ذلك من الشر العظيم، ولا يعطي هؤلاء قليلاً من المال، وأمره أهون بكثير؟
وقال ابن كثير: وقد تكلمت الرافضة في هذا المقام بجهل، وتكلفوا ما لا علم لهم به، وكذبوا بما لم يحيطوا بعلمه، ولما يأتهم تأويله، وأدخلوا أنفسهم فيما لا يعنيهم, فلو تفهموا الأمور على ما هي عليه لعرفوا للصديق فضله، وقبلوا منه عذره الذي يجب على كل أحد قبوله، ولكنهم طائفة مخذولة، وفرقة مرذولة، يتمسكون بالمتشابهة، ويتركون الأمور المقررة عند أئمة الإسلام من الصحابة والتابعين من بعدهم من العلماء المعتبرين في سائر الأعصار والأمصار، رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين.
5- تسامح السيدة فاطمة مع أبي بكر: وقد ثبت عن فاطمة – رضي الله عنها- أنها رضيت عن أبي بكر بعد ذلك، وماتت وهي راضية عنه، على ما روى البيهقي بسنده عن الشعبي أنه قال: لما مرضت فاطمة أتاها أبو بكر الصديق فاستأذن عليها، فقال علي: يا فاطمة، هذا أبو بكر يستأذن عليك؟ فقالت: أتحب أن آذن له؟ قال: نعم، فأذنت له، فدخل عليها يترضاها، فقال: والله ما تركت الدار والمال، والأهل والعشيرة، إلاّ ابتغاء مرضاة الله، ومرضاة رسوله، ومرضاتكم أهل البيت، ثم ترضَّاها حتى رضيت.
قال ابن كثير: وهذا إسناد جيد قوي، والظاهر أن عامر الشعبي سمعه من علي، أو ممن سمعه من علي.
وبهذا تندحض مطاعن الرافضة على أبي بكر التي يعلقونها على غضب فاطمة عليه،
فلئن كانت غضبت على أبى بكر في بداية الأمر[على سبيل الفرض] فقد رضيت عنه بعد ذلك، وماتت وهي راضية عنه، ولا يسع أحدًا صادقًا في محبته لها، إلاّ أن يرضى عمن رضيت عنه,
ولا يعارض هذا ما ثبت في حديث عائشة: إنما يأكل آل محمد من هذا المال، وإني والله لا أغير شيئًا من صدقة رسول الله عن حالها التي كانت عليها في عهد رسول الله ، ولأعملن فيها بما عمل به رسول الله ، فأبى أبو بكر أن يدفع لفاطمة منها شيئًا، فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك فهجرته فلم تكلمه حتى توفيت.
فإن هذا بحسب علم عائشة – رضي الله عنها – رواية الحديث، وفي حديث الشعبي زيادة علم، وثبوت زيارة أبي بكر لها وكلامها له ورضاها عنه،
فعائشة – رضي الله عنها – نفت والشعبي أثبت، ومعلوم لدى العلماء أن قول المثبت مقدم على قول النافي؛
لأن احتمال الثبوت حصل بغير علم النافي، خصوصًا في مثل هذه المسألة، فإن عيادة أبي بكر لفاطمة – رضي الله عنها- ليست من الأحداث الكبيرة التي تشيع في الناس، ويطّلع عليها الجميع، وإنما هي من الأمور العادية التي تخفى على من لم يشهدها، والتي لا يعبأ بنقلها لعدم الحاجة لذكرها، على أن الذي ذكره العلماء أن فاطمة – رضي الله عنها – لم تتعمد هجر أبي بكر رضي الله عنه أصلاً، ومثلها ينزه عن ذلك لنهي النبي عن الهجر فوق ثلاث، وإنما لم تكلمه لعدم الحاجة لذلك,
قال القرطبي صاحب المفهم في سياق شرحه لحديث عائشة المتقدم: ثم إنها (أي فاطمة) لم تلتق بأبي بكر لشغلها بمصيبتها برسول الله ولملازمتها بيتها، فعبر الراوي عن ذلك بالهجران،
وإلاّ فقد قال رسول الله : «لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث»,
وهى أعلم الناس بما يحل من ذلك ويحرم، وأبعد الناس عن مخالفة رسول الله ، وكيف لا تكون كذلك وهي بضعة من رسول الله وسيدة نساء أهل الجنة؟!
وقال النووي: وأما ما ذُكر من هجران فاطمة أبا بكر رضي الله عنه فمعناه انقباضها عن لقائه، وليس هذا من الهجران المحرم، الذي هو ترك السلام والإعراض عند اللقاء،
وقوله في هذا الحديث: (فلم تكلمه) يعني في هذا الأمر، أو لانقباضها لم تطلب منه حاجة ولا اضطرت إلى لقائه فتكلمه، ولم يُنقل قط أنهما التقيا فلم تسلم عليه ولا كلمته,
لقد انشغلت فاطمة – رضي الله عنها – عن كل شيء بحزنها لفقدها أكرم الخلق، وهي مصيبة تزري بكل المصائب، كما أنها انشغلت بمرضها الذي ألزمها الفراش عن أية مشاركة في أي شأن من الشؤون، فضلاً عن لقاء خليفة المسلمين المشغول – لكل لحظة من لحظاته – بشؤون الأمة، وحروب الردة وغيرها، كما أنها كانت تعلم بقرب لحوقها بأبيها، فقد أخبرها رسول الله بأنها أول من يلحق به من أهله, ومن كان في مثل علمها لا يخطر بباله أمور الدنيا،
وما أحسن قول المهلب الذي نقله العيني: ولم يرو أحد أنهما التقيا وامتنعا عن التسليم، إنما لازمت بيتها، فعبر الراوي عن ذلك بالهجران.
ومما يدل على أن العلاقة كانت وطيدة بين الصديق والسيدة فاطمة إلى حد أن زوجة أبي بكر أسماء بنت عميس هي التي كانت تمرّض فاطمة بنت النبي ،
ورضي الله عنها، في مرض موتها، وكانت معها حتى الأنفاس الأخيرة، وشاركت في غسلها وترحيلها إلى مثواها، وكان علي رضي الله عنه يمرضها بنفسه وتعينه على ذلك أسماء بنت عميس، رضي الله عنها،
وقد وصتها بوصايا في كفنها ودفنها وتشييع جنازتها، فعملت أسماء بها,
فقد قالت السيدة فاطمة لأسماء: إني قد استقبحت ما يُصنع بالنساء، إنه يطرح على المرأة الثوب فيصفها، فقالت أسماء: يا بنت رسول الله ، ألا أريك شيئًا رأيته بأرض الحبشة، فدعت بجرائد رطبة فحنتها ثم طرحت عليها ثوبًا، فقالت فاطمة: ما أحسن هذا وأجمله! به تُعرف المرأة من الرجال.
وعن ابن عبد البر: أن فاطمة -رضي الله عنها- أول من غُطّي نعشها في الإسلام، ثم زينب بنت جحش، وكان الصديق دائم الاتصال بعلي من ناحية ليسأله عن أحوال بنت النبي خلاف ما يزعمه القوم، فمرضت (أي فاطمة رضي الله عنها) وكان علي يصلي في المسجد الصلوات الخمس،
فلما صلى قال له أبو بكر وعمر: كيف بنت رسول الله؟ ومن ناحية أخرى من زوجه أسماء حيث كانت هي المشرفة والممرضة الحقيقية لها، ولما قُبضت فاطمة من يومها فارتجت المدينة بالبكاء من الرجال والنساء،
ودهش الناس كيوم قبض فيه رسول الله ، فأقبل أبو بكر وعمر يعزيان عليًا ويقولان: يا أبا الحسن، لا تسبقنا بالصلاة على ابنة رسول الله,
وقد توفيت ليلة الثلاثاء لثلاث خلون من رمضان سنة إحدى عشرة،
روى ابن مالك بن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده علي بن الحسين، قال: ماتت فاطمة بين المغرب والعشاء فحضرها أبو بكر وعمر وعثمان والزبير وعبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنهم- فلما وُضعت ليُصلّى عليها،
قال علي: تقدم يا أبا بكر، قال أبو بكر رضي الله عنه: وأنت يا أبا الحسن؟ قال: نعم، فو الله لا يصلي عليها غيرك، فصلّى عليها أبو بكر رضي الله عنه ودفنت ليلاً.
وجاء في رواية: صلى أبو بكر رضي الله عنه على فاطمة بنت رسول الله فكبّر عليها أربعًا,
وفي رواية مسلم: صلّى عليها علي بن أبي طالب وهي الرواية الراجحة.
ولقد أجاد وأفاد محمد إقبال في قصيدته العصماء (فاطمة الزهراء) فقال:
نَسَبُ المسيح بنى لمريمَ سيرةً = بقيت على طول المدى ذكراها
والمجدُ يشرفُ من ثلاث مطالعٍ = في مهد فاطمةٍ فما أعلاها
هي بنتُ من؟ هي زوجُ من؟ هي أم من؟ = من ذا يداني في الفخار أباها
هي ومضةٌ من نورِ عينِ المصطفى = هادي الشعوب إذا ترومُ هداها
من أيقظ الفطرَ النيامَ بروحه = وكأنه بعد البلى أحياها
وأعاد تاريخَ الحياة جديدةً = مثلَ العرائسِ في جديد حُلاها
هى أسوةٌ للأمهات وقدوةٌ = يترسمُ القمرُ المنيرُ خطاها
جعلت من الصبر الجميل غذاءَها = ورأت رضا الزوجِ الكريمِ رضاها
إلى أن قال:
لولا وقوفي عند شرعِ المصطفى = وحدودِ شرعتِه ونحن فداها
لمضيتُ للتطوافِ حول ضريحِها = وغمرْتُ بالقبلاتِ طيبَ ثراها
سادسًا: مصاهرات بين الصديق وأهل البيت وتسمية أهل البيت بعض أبنائهم باسم أبي بكر:كانت صلة سيدنا أبي بكر الصديق خليفة رسول الله بأعضاء أهل البيت، صلة ودية تقديرية تليق به وبهم،
كانت هذه المودة والثقة متبادلة، وكانت من المتانة بحيث لا يُتصوَّر معها التباعد والاختلاف مهما نسج المسامرون الأساطير والأباطيل؛
فالصديقة عائشة بنت الصديق بنت أبي بكر كانت زوجة النبي ،
ومن أحب الناس إليه مهما احترق الحساد ونقم المخالفون، فإنها حقيقة ثابتة وهي طاهرة مطهرة بشهادة القرآن مهما جحدها المبطلون وأنكرها المنكرون،
ثم أسماء بنت عميس التي كانت زوجة لجعفر بن أبي طالب شقيق علي، فمات عنها وتزوجها الصديق، وولدت له ولدًا سماه محمدًا الذي ولاّه على مصر،
ولما مات أبو بكر تزوجها علي بن أبي طالب فولدت له ولدًا سماه يحيى.
وحفيدة الصديق كانت متزوجة من محمد الباقر- الإمام الخامس عند الروافض وحفيد علي رضي الله عنه -،
وقد نقل الأستاذ إحسان إلهي ظهير من كتب الروافض ما يثبت التلاحم والمصاهرة بين بيت النبوة وبيت الصديق؛
فقد أثبت أن قاسم بن محمد بن أبي بكر حفيد أبي بكر، وعلي بن الحسين بن علي أبي طالب حفيد علي كانا ابني خالة،
فأم قاسم بن محمد وعلي بن الحسين هما بنتا يزدجرد بن شهريار – بن كسرى- اللتان كانتا من سبي الفرس في عهد عمر رضي الله عنه،
وتوسع إحسان إلهي ظهير في إثبات المصاهرات وعلاقات المودة والتراحم المتبادل بين أهل البيت وبيت الصديق,
وكان من حب أهل البيت للصديق والتوادّ ما بينهم أنهم سموا أبناءهم بأسماء أبي بكر رضي الله عنه،
فأولهم علي بن أبي طالب حيث سمّى أحد أبنائه أبا بكر، وهذا دليل على حب ومؤاخاة وإعظام وتقدير علي للصديق رضي الله عنهما،
والجدير بالذكر أنه ولد له هذا الولد بعد تولية الصديق الخلافة والإمامة، بل وبعد وفاته كما هو معروف بداهة،
وهل يوجد في الشيعة اليوم المتزعمين حب علي وأولاده رجل يسمى بهذا الاسم، وهل هم موالون له أم مخالفون؟
وعلي رضي الله عنه لم يسم بهذا ابنه إلاّ تيمناً بالصديق وإظهارًا له المحبة والوفاء وحتى بعد وفاته،
وإلاّ فلا يوجد في بني هاشم رجل قبل علي سمى ابنه بهذا الاسم، ثم لم يقتصر عليّ بهذا التيمن والتبرك وإظهار المحبة والصداقة للصديق بل بعده بنوه أيضًا مشوا مشيه ونهجوا نهجه، فالحسن والحسين، سمّى كل واحد منهما أحد أولادهما بأبي بكر،
فقد ذكر ذلك اليعقوبي والمسعودي وهما من مؤرخي الروافض,
واستمر أهل البيت يسمون من أسماء أولادهم بأبي بكر، فقد سمّى ابن أخي علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو عبد الله بن جعفر الطيار بن أبي طالب فإنه سمى أحد أبنائه باسم أبي بكر، وهذه من إحدى علامات الحب والود بين القوم، خلاف ما يزعمه الروافض اليوم من العداوة والبغضاء والقتال الشديد والجدال الدائم بينهم.
سابعًا: علي -رضي الله عنه- في وفاة الصديق:
كان علي رضي الله عنه من ضمن من استشارهم الصديق فيمن يتولى الخلافة من بعده، وكان رأي علي أن يتولى الخلافة بعد الصديق الفاروق.
ولما حان الرحيل ونزل الموت بأبي بكر، كان آخر ما تكلم به الصديق في هذه الدنيا قوله تعالى: ( تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ). [يوسف:101].
وارتجت المدينة لوفاة أبي بكر الصديق، ولم تر المدينة منذ وفاة الرسول يومًا أكثر باكيًا وباكية من ذلك المساء الحزين،
وأقبل علي بن أبي طالب مسرعًا، باكيًا، مسترجعًا ووقف على البيت الذي فيه أبو بكر فقال:
رحمك الله يا أبا بكر، كنت إلف رسول الله وأنيسه ومستراحه وثقته وموضع سره ومشاورته،
وكنت أول القوم إسلامًا، وأخلصهم يقينًا، وأشدهم لله تقوى، وأخوفهم لله، وأعظمهم غناء في دين الله عز وجل،
وأحوطهم على رسول الله ، وأحدبهم على الإسلام، وأحسنهم صحبة، وأكثرهم مناقب،
وأفضلهم سوابق، وأرفعهم درجة، وأقربهم وسيلة، وأشبههم برسول الله هديًا وسمتًا، وأشرفهم منزلة،
وأرفعهم عنده، وأكرمهم عليه، فجزاك الله عن رسول الله وعن الإسلام أفضل الجزاء،
صدّقت رسول الله حين كذّبه الناس، وكنت عنده بمنزلة السمع والبصر،
سماك الله في تنزيله صديقًا فقال: ( وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ). [الزمر:33]،
واسيته حين بخلوا، وقمت معه على المكاره حين قعدوا، وصحبته في الشدة أكرم الصحبة، ثاني اثنين صاحبه في الغار،
والمنزل عليه السكينة، ورفيقه في الهجرة، وخليفته في دين الله وأمته، أحسن الخلافة حين ارتدوا، فقمت بالأمر ما لم يقم به خليفة نبي،
ونهضت حين وهن أصحابه، وبرزت حين استكانوا، وقويت حين ضعفوا، ولزمت منهاج رسول الله إذ وهنوا،
وكنت كما قال رسول الله ضعيفًا في بدنك قويًا في أمر الله، متواضعًا في نفسك عظيمًا عند الله تعالى،
جليلاً في أعين الناس كبيرًا في أنفسهم، لم يكن لأحدهم فيك مغمز، ولا لقائل فيك مهمز،
ولا لمخلوق عندك هوادة، الضعيف عندك قوي عزيز حتى تأخذ بحقه، القريب والبعيد عندك سواء،
وأقرب الناس عندك أطوعهم لله عز وجل وأتقاهم...شأنك الحق والصدق، والرفق، قولك حكم وحتم،
أمرك حلم وحزم، ورأيك علم وعزم، اعتدل بك الدين، وقوي بك الإيمان، وظهر أمر الله،
فسبقت – والله – سبقًا بعيدًا، وأتعبت من بعدك إتعابًا شديدًا، وفزت بالخير فوزًا مبينًا، فإنا لله وإنا إليه راجعون،
رضينا عن الله -عز وجل- قضاءه وسلّمنا له أمره، والله لن يُصاب المسلمون بعد رسول الله بمثلك أبدًا،
كنت للدين عزًا، وحرزًا وكهفًا، فألحقك الله -عز وجل- بنبيك محمد
ولا حرمنا أجرك، ولا أضلنا بعدك،
فسكت الناس حتى قضى كلامه، ثم بكوا حتى علت أصواتهم
وقالوا: صدقت.
وجاء في رواية: إن عليًا قال عندما دخل على أبي بكر بعدما سُجّي:
ما أحد أحب أن ألقى الله بصحيفته أحب إليّ من هذا المسجّى.
المفضلات