القدس كل القدس حرم مقدس - كما أن مكة كل مكة حرم مقدس – ولقد أطلق القرآن الكريم علي هذه المدينة المقدسة مصطلح " المسجد " قبل الفتح الإسلامي لها وقبل بناء المساجد الإسلامية فيها فهي " مسجد " كما أن مكة " مسجد " أي قبلة للساجدين ، لقد عاملوها كما شاء الله لها معاملة الحرم المقدس وتجلي هذا الاعتقاد الإسلامي في أحداث الفتوح ، فكما أن مكة حرم مقدس و لذلك لا يحل فيها القتال .. كذلك عامل الفاتحون المسلمون القدس، فحاصرها جيش المسلمين بقيادة أبي عبيده بين الجراح حتى رغب أهلها في الصلح دونما قتال لأنها حرم لا يحل فيها القتال بل ظلت هذه الحرمة عقيدة إسلامية مرعية عبر عصور التاريخ، فعلي الرغم من أن الصليبيين الذين اقتحموا القدس عنوة عام 1099 م قد أبادوا جميع من بها من المسلمين وأقاموا فيها مجزرة دامت سبعة أيام، لم يسلم من الذبح فيها حتى الذين احتموا بالمسجد الأقصى فذبحهم الصليبيين حتى جرت الدماء في المسجد كالنهر وسبحت فيه خيول الصليبيين حتى لجم هذه الخيول: علي الرغم من ذلك عامل صلاح الدين الأيوبي هذه المدينة المقدسة معاملة الحرم الذي لا يجوز ولا يحل فيه قتال فحاصرها عام 1187 حتى سلم الصليبيون فيها فهي ليست مجرد مدينة وإنما هي حرم وبعبارة صلاح الدين " إنها ميراثنا و إرثنا وإرث كل أصحاب الديانات .. فيها تجتمع الملائكة.. ومنها عرج بنبينا إلي السماء " و لتقديس الإسلام لهذه المدينة باعتبارها مسجدا وحرماً و قبلة للنبوات السابقة .. لأن الإسلام وحده هو الذي جعل الإيمان بالنبوات والرسالات السابقة جزءا من عقيدته تميزت السلطة الإسلامية عبر تاريخ السيادة السياسية للدولة الإسلامية علي مدينة القدس بإشاعة قدسيتها لكل أصحاب المقدسات من أبناء كل الديانات السماوية .بينما كان العكس هو موقف كل السلطات غير الإسلامية التي استولت علي مدينة القدس فالرومان قد احتكروها لأنفسهم دون اليهود والمسيحيين في حقبة الوثنية الرومانية، وبعد أن دخلوا في المسيحية احتكروها دون اليهود وعندما فتح المسلمون القدس، كان من مطالب أهلها النصارى لآ يسكن فيها أحد من اليهود ولا أحد من اللصوص .. وصنع هذا الاحتكار أيضا الصليبيون الذين احتلوها 90 عاما فبعد أن ذبحوا اليهود والمسلمين احتكروا مقدسات المدينة حتى حولوا المسجد الأقصى إلي كنيسة لاتينية ومسجد قبة الصخر إلي اصطبل لخيول فرسان الإقطاع اللاتين … ونفس الاحتكار يصنعه الصهاينة اليوم عندما يطاردون الوجود العربي فيها – إسلاميا ومسيحيا – ويهددون المقدسات بالاستيلاء و الهدم و التحويل . والفارق بين المسلمين وغيرهم في هذه القضية إشاعة قدسية القدس أو احتكارها ليس مجرد تسامح يقابل التعصب و إنما هو دين و اعتقاد ديني فالإسلام وحده هو الذي يعترف بكل الرسالات ومن ثم يعترف بقدسية مقدسات أهلها ولقد جعلت دولته من أمان و تأمين غير المسلمين علي عقائدهم و كنائسهم مع أنفسهم و أموالهم ونسائهم و أبنائهم ديناً وعهدا وميثاقا بينما اليهودية لا تعترف لا بالمسيحية ولا بالإسلام، والنصرانية تتخذ نفس الموقف من الآخر الديني ومن المقدسات ولذلك لم تكن صدفة ولم يكن مجرد تسامح أن تشيع قدسية القدس بين كل أصحاب المقدسات في ظل السيادة الإسلامية علي القدس وأن تقع هذه المدينة وقداستها في الاحتكار عندما يحتلها الآخرون الأمر الذي يجعل من السيادة الإسلامية علي القدس المصلحة المحققة لكل أصحاب الديانات، وليس فقط للمتدينين بالإسلام ولأن هذه هي الحقيقة التي جسدتها السيادة الإسلامية علي القدس فلقد رأينا عبر تاريخ هذه المدينة المقدسة حجج أوقاف الكنائس المسيحية تنص علي أن يكون نظار هذه الأوقاف الكنسية من المسلمين بل وتنص كثير من هذه الحجج علي أن تكون مفاتيح الكنائس بيد اسر مقدسية إسلامية ولأن هذا هو مقام القدس في العقيدة الإسلامية وموقعها في التاريخ الإسلامي ومكانتها في السيادة الإسلامية فإننا يجب أن نتعامل معهـا في هـذا الطور من أطوار الصراع التاريخي باعتبارها أكثر من قطعة ارض و أعظم من مدينة وأهم من عاصمة للدولة الفلسطينية و أخطر من كونها قلب الصراع العربي الصهيوني … إنها كل ذلك و أكثر من ذلك إنها جزء من عقيدة أمــة يبلغ تعدادها مليار وثلث المليار .صحيح أننا نواجه في القدس وفلسطين مشروعا استعماريا استيطانيا عنصريا ولكنه ليس كغيره من المشاريع الاستيطانية العنصرية كالذي قام في جنوب أفريقيا مثلاً وإنما نواجه، أبعادا أسطورية دينية لهذا المشروع الاستيطاني الاستعماري العنصري تجعل من استدعاء الأبعاد الدينية الإسلامية لموقفنا من هذه القضية ضرورة صراعية، فضلاً عن أنها دين و اعتقاد، فهذا المشروع الاستيطانـي العنصـري القائم الأن في القدس وفلسطين، وقد تبلور أول ما تبلور في اللاهوت البروتستانتي الغربي انطلاقا من الفكر الأسطوري حول " رؤيا يوحنا " وعودة المسيح عليه السلام ليحكم الأرض ألف سنة سعيدة بعد معركة هـرمــجــدون والذي جعل من جمع اليهود وحشدهم في فلسطين وتهويد القدس و إقامة الهيكل علي أنقاض المسجد الأقصى ، أي جعل من تحقيق العلو الصهيوني ديناً يدين به البروتستانت في الغرب، ثم حدث التبشير بهذا المشروع البروتستانتي بين الجماعات اليهودية، فتلقفته الصهيونية – كحركة قومية عنصرية – إبان زحفها علي الشرق الإسلامي – وبحثها عن أقليات توظفها كمواطئ أقدام في المشروع الاستعماري ، فاجتمعت لهذا المشروع الاستيطاني الاستعماري العنصري عناصر متعددة ومركبة منها :
1- البعد الديني في لاهوت النصرانية الغربية وهو الذي بدا بروتستانتياً، ثم مارس الابتزاز والتأثير علي الكنيسة الكاثوليكية الغربية، حتى جعلها تشرع في تهويد نصرانيتها بدلا من تحقيق الاعتراف اليهودي بالنصرانية – فهي الآن تتحدث عن " دمج المسيح في إسرائيل " وتعدل ليس فقط في الفكر المسيحي وإنما في الأناجيل والصلوات لتصل إلي طلب الغفران من اليهود بعد أن عاشت قروناً تبيع صكوك الغفران .
2- والبعد الاستعماري العلماني بل والدهري الوضعي و المادي – فبونابرت هو أول من دعا إلي توظيف هذه الأساطير الدينية في خدمة مشروعة الاستعماري … وسيكس السياسي الإنجليزي – الذي عقد مع بيكو الفرنسي معاهدة { سيكس –بيكو} سنة 1916 لتمزيق الدولة العثمانية، وتوزيع أجزائها العربية بين القوي الاستعمارية قد أقاموا له تمـثالا في قـريته " سلـدمير بمقاطـعة يوركشـاير " مكتـوب عليـه "ابتهجي يا قدس ". فالقدس هي هدف الاستعمار الغربي العلماني كما هي هدف اللاهوت النصراني الغربي، وعندما دخل الجنرال الإنجليزي " اللنبي " القدس سنة 1917 تقمص صورة باباوات الحروب الصليبية فقال " اليوم انتهت الحروب الصليبية ويومها نشرت مجلة بنسن الإنجليزية رسما يمثل ريتشارد قلب الأسد الملك الصليبي وهو يقول الآن تحقق حلمي " أما الجنرال الفرنسي " جورو " الذي يرفع راية العلمانية الفرنسية المتطرفة – فهو الذي يذهب عند دخوله دمشق سنة 1920 إلي قبر صلاح الدين الأيوبي ليركه بقدمه، و يقول " ها نحن قد عدنا يا صلاح الدين " فالبعد العلماني الغربي، يحالف ويعانق ويساند ويوظف البعد اللاهوتي الغربي في الصراع علي القدس و فلسطين .
3- والبعد الإمبريالي الأمريكي المعاصر الجامع بين الدين و الاستعمار ، هاهو يوظف { المسيحية الصهيونية } في خدمة " تديين " الاغتصاب الصهيوني الغربي للقدس و فلسطين فالكونجرس الأمريكي ، عندما يقرر في عام 1995 نقل السفارة الأمريكية إلي القدس و بنائها علي أرض الأوقاف الخيرية الإسلامية يقول في مقدمة قراره { إن القـدس هي الوطن الروحي لليهودية } مع أن القـدس لم يرها نبي اليهودية – موسي عليه السلام ، ولم تنزل فيها توراة اليهودية و إذا كان داود وسليمان عليهما السلام قد عاشا فيها برهة من تاريخها الطويل فهما في نظر اليهود ملوكا وليسوا أنبياءاً ، فمتي كانت القدس الوطن الروحي لليهودية ؟ إن الإمبريالية الصهيونية تحول الأساطير إلي دين تدعم به الاغتصاب .
4- وأخيرا البعد العنصري الصهيوني، الذي حول اليهودية إلي عنصرية صرفه ، لا علاقـة لهـا بذلك الدين السماوي الذي أنزله الله علي سيدنا موسى عليه السلام . فتعريف اليهودي في دائرة معارف كيانها الاستيطاني هو المولود من أم يهودية أي أن هذا العامل البيولوجي وليس التدين بالدين هو الذي يحدد يهودية اليهودي فالمولود من أم يهودية حتى ولو كان ابـن زنــا أو ملحدا يصبح يهوديا من شعب الله المختار ، وصاحب الحق في الاستيطان والاغتصاب للقدس و فلسطين هكذا نواجه في القـدس وفلسطين استعمارا استيطانيا عنصريا، يوظف الأساطير والأوهام ليجعلها دينا يدعم المشروع الاستعماري وروحانية تغلف الاستيطان فهل نترك العدو يدعم الباطل بالأساطير ونهمل نحن تأييد الحق والمطلب العربي القومي بحقائق الوحي الإلهي و صادق الاعتقاد الديني وناصع صفحات واقع الحضارة و التاريخ ؟ إن الذين يخافون من { أسلمة } الصراع حول القـدس حتى إذا حسنت نواياهم هم لا يعرفون قيمة الأسلمة الإيمانية التي ورثوها عن الأجداد في هذا الصراع التاريخي الطويل وهو بهذا إنما ينزعون من الأمة أمضي أسلحتها في هذا الصراع فيرجحون بذلك كفة الأعداء، إن إسلامية القـدس هي وحدها ضمان شيوع قدسيتها بين جميع المقدسات، من كل الديانات ومن ثم فإنها ضمان عدم احتكارها وهو الاحتكار الذي يهددها بالتهويد في هذه الأيام .
المفضلات