الباقلاني وحبر الروم الأعظم
نبذة حول سير المناظرة:
لقد رفض القاضي الباقلاني أن يخلع عمامته عندما دخل قصر الإمبراطور بل أنه أصر على عدم نزع خفيه لما طلب منه ذلك وقال: لا أفعل ولا أدخل إلا بما أنا عليه من الزي! وقال: أنا رجل من علماء المسلمين، وما تحبونه منا ذل وصغار! والله قد رفعنا بالإسلام وأعزنا بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم. وأيضاً فإن من شأن الملوك إذا بعثوا رسلهم إلى ملك آخر، رفع أقدارهم،لا إذلالهم. سيما إذا كان الرسول من أهل العلم. ووضع قدره انهدام عند الله تعالى وعند المسلمين! فما كان من الإمبراطور إلا أن رحب به ووافق على كطالبه وشروطه!
عود إلى مناظرة الباقلاني:
ونظراً لطول المناظرة فإني أنقل بعض المواقف منها على النحو التالي:
الموقف الأول:
"إن الطاغية (إمبراطور الروم) سأله: كيف جرى لزوجة نبيكم؟ بقصد توبيخاً (ويشير الي اتهامها بالزنا في حادثة الافك). فقال: كما جرى لمريم العذراء .وبرأهما الله، لكن عائشة لم تأت بولد، فأفحمه".
الموقف الثاني:
قال له الملك (الإمبراطور:"هذا الذي تدعونه في معجزات نبيكم من انشقاق القمر، كيف هو عندكم؟ قلت (الباقلاني): هو صحيح عندنا،وانشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رأى الناس ذلك. وإنما رآه الحضور، ومن اتفق نظره إليه في تلك الحال.
فقال الملك: وكيف لم يره جميع الناس؟
قلت (الباقلاني): لأن الناس لم يكونوا على أهبة ووعد لشقوقه وحضوره.
فقال (الملك): وهذا القمر بينكم وبينه نسبة وقرابة؟ لأي شئ لم تعرفه الروم وغيرها من سائر الناس، وإنما رأيتموه أنتم خاصة؟
قلت (الباقلاني): فهذه المائدة (أي المائدة التي نزلت على عيسى عليه السلام من السماء) بينكم وبينها نسبة؟ وأنتم رأيتموها دون اليهود،والمجوس، والبراهمة،وأهل الإلحاد، وخاصة (يونان) جيرانكم، فإنهم كلهم منكرون لهذا الشأن، وأنتم رأيتموها دون غيركم. فتخير الملك".
وهنا استدعى الملك أحد القساوسة الكبار ليتدخل:
قال الباقلاني: "فلم أشعر إذ جاؤوا برجل كالذئب أشقر الشعر مسبله، فقعد، وحكيت له المسألة فقال (القسيس): الذي قاله المسلم لازم، هو الحق لا أعرف له جواباً إلا ما ذكره. فقلت له: أتقول إن الكسوف إذ كان يراه جميع أهل الأرض أم يراه أهل الإقليم الذي بمحاذاته. قال (القس): لا يراه إلا من كان في محاذاته. قلت: فما أنكرت من انشقاق القمر، إذا كان في ناحية لا يراه إلا أهل تلك الناحية، ومن تأهب للنظر له؟ فأما من أعرض عنه وكان في الأمكنة التي لا يرى القمر منها فلا يراه. فقال (القس): هي كما قلت. ما يدفعك عنه دافع. وإنما الكلام في الرواة الذي نقلوه. وأما الطعن في غير هذا الوجه، فليس بصحيح. فقال الملك: وكيف يطعن في النقلة؟ فقال النصراني: شبه هذا من الآيات، إذا صح وجب أن ينقله الجم الغفير، إلى الجم الغفير، حتى تصل بنا العلم الضروري به، ولو كان كذلك لوقع إلينا العلم الضروري به. فلما لم يقع به العلم الضروري به، دل على أن الخبر مفتعل باطل. فالتفت الملك إلي وقال: الجواب.
قلت (الباقلاني): يلزمه في نزول المائدة، ما يلزمني في انشقاق القمر، ويقال له لو كان نزول المائدة صحيحاً، لوجب أن ينقله العدد الكثير، فلا يبقى يهودي ولا نصراني ولا ثنوي إلا ويعلم بهذا بالضرورة. ولما لم يعلموا ذلك بالضرورة، دل ذلك على أن الخبر كذب. فبهت النصراني والملك، ومن ضمه المجلس، وانفض المجلس على هذا".
الموقف الثالث:
قيل إن ملك الروم وعد القاضي الباقلاني الاجتماع معه في محفل من محافل النصرانية، فحضر الباقلاني وبولغ في زينة المجلس وأدناه الملك منه وأجلسه بجانبه وكان الملك في أبهته وخاصته عليه التاج ورجال ممكلته يحيطون به ثم جاء البطرك قيم ديانتهم (البابا في زمانه) فسلم القاضي عليه أحفى سؤال ولنترك القاضي عياض والذهبي يحكيان لنا ما حدث في هذا الموقف الطريف:
"وقال له (الباقلاني): كيف الأهل والولد؟ فعظم قوله هذا عليه، وعلى جميعهم وتغيروا له، وصلبوا على وجوههم، وأنكروا قول أبي بكر عليه (الباقلاني)".
"فقال الملك: مه! أما علمت أن الراهب يتنزه عن هذا! فقال (الباقلاني): تنزهونه عن هذا، ولا تنزهون رب العالمين عن الصاحبة والولد!".
المفضلات