(153)قتل الإنسان ما أكفره‏*‏ من أي شيء خلقه‏*‏ من نطفة خلقه فقدره‏*(‏ عبس‏:17:19)‏
هــذه الايات الثلاث جاءت في نهاية النصف الأول من سورة عبس وهي سورة مكية‏,‏ وآياتها اثنتان وأربعون بعد البسملة‏,‏ وقد سميت بهذا الاسم لإعراض رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ عن صحابي كفيف هو عبد الله عمرو بن قيس المعروف باسم ابن أم مكتوم‏(‏ رضي الله عنه‏)‏ حين جاء يسأل في أمر من أمور الدين ورسول الله منهمك في دعوة نفر من زعماء قريش‏,‏ وألح الصحابي الكريم في سؤاله كثيرا مما دفع برسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ ـ وهو أحلم الناس ـ إلي العبوس‏,‏ وعلي الرغم من أن الصحابي الكريم لم يدرك ذلك إلا أن الله‏(‏ تعالي‏)‏ أنزل هذه السورة الكريمة عتابا لخاتم أنبيائه ورسله‏,‏ ولأحب خلقه إليه‏,‏ وتأكيدا علي قيمة إسلامية عليا يرضاها ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ من عباده مؤداها ألا يكون التفاضل بين الناس إلا علي أساس من تقواهم لله‏,‏ وخشيتهم لجلاله‏,‏ ومراقبتهم لأوامره ونواهيه‏,‏ ويقينهم بلقائه‏,‏ وانتظارهم لحسابه‏,‏ لا علي أساس حسب كل واحد منهم ونسبه‏,‏ أو جاهه وسلطانه‏,‏ أو جنسه ولونه‏,‏ أو غير ذلك من معايير الأرض الفاسدة التي نهانا ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ عنها بقوله العزيز‏:‏
إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير‏*(‏ الحجرات‏:13)‏
ومن أجل إقرار هذه القيمة الإسلامية التي لا يمكن للمجتمعات الإنسانية أن تنصلح بغيرها أنزل ربنا‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ هذا العتاب لأحب خلقه إليه‏,‏ وأقربهم من رضوانه‏,‏ وذلك من فوق سبع سماوات لتبقي هذه القيمة حاكمة للمجتمعات الإسلامية في كل زمان ومكان إذا أرادت أن تحيا علي هذه الأرض حسب منهج الله‏,‏ وأن تحقق رسالتها بنجاح في هذه الحياة‏,‏ وأن تفوز بمرضاة الله‏.‏ والمجتمعات الإسلامية لم تتخلف إلا حينما تخلت عن هذا المعيار الرباني الصحيح فقدمت الرعاع المتسلقين أصحاب الشهوات‏,‏ وحاربت أهل التقوي والورع والثبات علي دين الله‏,‏ فوصلت إلي ما وصلت إليه من تشرذم وتفرق وهوان وإذلال لأن هذه سنة من سنن الله التي لا تتخلف ولا تتبدل‏,‏ ولا تتوقف‏,‏ وفي ذلك تقول الآيات‏:‏
عبس وتولي‏*‏ أن جاءه الأعمي‏*‏ وما يدريك لعله يزكي‏*‏ أو يذكر فتنفعه الذكري‏*‏ أما من استغني‏*‏ فأنت له تصدي‏*‏ وما عليك ألا يزكي‏*‏ وأما من جاءك يسعي‏*‏ وهو يخشي‏*‏فأنت عنه تلهي‏*‏ كلا إنها تذكرة‏*‏ فمن شاء ذكره‏*‏ في صحف مكرمة‏*‏ مرفوعة مطهرة‏*‏ بأيدي سفرة‏*‏ كرام بررة‏*‏
‏(‏عبس‏:1‏ ـ‏16)‏

وبعد نزول هذه الآيات حرص رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ علي إكرام هذا الصحابي الجليل‏(‏ ابن أم مكتوم‏)‏ كلما رآه‏,‏ لأنه كان من أوائل من بادر بالإسلام في مكة المكرمة‏,‏ ومن أوائل من هاجر إلي المدينة المنورة‏,‏ وهو الذي نزل القرآن الكريم بعتاب فيه من الله‏(‏ تعالي‏)‏ لخاتم أنبيائه ورسله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏).‏ وكان من ذلك الإكرام استخلافه علي المدينة المنورة مرتين‏,‏ ثم كان إكرام الله‏(‏ تعالي‏)‏ له بالشهادة في معركة القادسية‏,‏ فرضي الله‏(‏ تعالي‏)‏ عنه وأرضاه‏.‏
كذلك يروي عن رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ أنه ما عبس في وجه فقير قط بعد هذه الواقعة‏,‏ ولا تصدي لغني قط‏.‏ ويروي لنا سفيان الثوري‏(‏ رضي الله عنه‏)‏ أن الفقراء كانوا أمراء في مجلسه‏.‏
ولقد كان في إعلان رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ لهذا العتاب الإلهي الموجه لشخصه الكريم أبلغ شهادة علي صدق نبوته‏,‏ وكمال عبوديته لله‏(‏ تعالي‏),‏ وعلي نبل خلقه‏,‏ فلا يقوي علي إبراز مثل هذا العتاب إلا نبي كريم‏,‏ يدرك معني الألوهية فيخضع لله الخالق بالطاعة والعبادة‏,‏ ويعرف قدسية الوحي الذي يتنزل إليه بكلمات الله التامات المنزهة عن كل نقص‏,‏ أو اضافة أو حذف‏,‏ والملزمة بالتبليغ‏.‏

كذلك كان في إعلان هذا القرار الإلهي في وجه زعامات قريش ـ والمسلمون في بدء الدعوة قلة مستضعفة وسط محيط جاهلي تسوده العصبيات العرقية العمياء‏,‏ والأعراف الظالمة الجائرة‏,‏ والاستعلاء علي الحق‏,‏ وعبادة الأصنام والأوثاق‏,‏ والغرق في الخرافات والأساطير ـ كان في ذلك أعظم شهادة علي أن هذا النبي الخاتم والرسول الخاتم كان موصولا بالوحي‏,‏ ومؤيدا من قبل خالق السماوات والأرض‏.‏
وتستمر الآيات في تأييد هذا القرار الإلهي تذكرة من الله‏(‏ تعالي‏)‏ لمن شاء أن يتذكر من خلق الله‏,‏ خاصة وأن التذكرة مدونة في صحائف القرآن الكريم‏,‏ وهي صحف مكرمة‏,‏ مرفوعة مطهرة بتطهير الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ لها‏,‏ وحفظه إياها‏,‏ وتكريمها بأمر منه‏,‏ فهي مطهرة من أية مداخلات بشرية‏,‏ أو تحريفات وضعية‏,‏ أو محاولات للتزييف‏,‏ لأنها محفوظة بأيدي الملائكة المكرمين‏(‏ بأيدي سفرة‏*‏ كرام بررة‏*)‏

وتتابع الآيات بعد ذلك في تعجب من موقف الإنسان الذي يكفر بالله‏,‏ ويرفض الإيمان به‏,‏ ويعرض عن هدايته‏,‏ ويستعلي علي الخضوع لجلاله بالطاعة والعبادة‏,‏ فتذكره بأصله ومنشئه‏,‏ وضعفه في وجوده‏,‏ وحاجته إلي رعاية ربه في مختلف مراحل هذا الوجود‏,‏ خاصة في المراحل الأولي منه‏.‏ وفي ذلك تقول الآيات‏:‏
قتل الإنسان ما أكفره‏*‏ من أي شيء خلقه‏*‏ من نطفة خلقه فقدره‏*‏ ثم السبيل يسره‏*‏ ثم أماته فأقبره‏*‏ ثم إذا شاء أنشره‏*‏ كلا لما يقض ما أمره‏*(‏ عبس‏:17‏ ـ‏23)‏
أي أن الإنسان ـ علي ضعفه ـ أعطاه الله‏(‏ تعالي‏)‏ عددا من المواهب والقدرات‏,‏ ويسر له سبل الحياة‏,‏ وطرق الهداية‏,‏ والإنسان غافل عن ذلك كل الغفلة فلا يؤدي ما عليه لله تعالي من حقوق‏,‏ ولا يقوم بواجبات الاستخلاف في الأرض من عمارتها إلي اقامة عدل الله فيها‏,‏ حتي إذا جاءه الموت وجد الله عنده فوفاه حسابه في القبر قبل البعث والعرض الأكبر أمام الله‏(‏ تعالي‏)‏ وحساب الآخرة‏,‏ والخلود فيها إما في الجنة أبدا أو في النار أبدا‏,‏ فما أكفره بنعم الله‏,‏ وما أجحده بأفضال خالقه عليه‏,‏ وما أغفله عن حقيقة رسالته في هذه الحياة‏...!!‏

ولفظ‏(‏ قتل‏)‏ هو دعاء علي الكافر‏,‏ ولعن له‏,‏ وغضب من الله‏(‏ تعالي‏)‏ عليه‏,‏ وتوعد له بالعذاب والمهانة في الآخرة‏,‏ فمهما يطل عمره في الدنيا فهو حتما ميت‏,‏ ومآله القبر تحت الأرض في ظلمة‏,‏ ووحدة‏,‏ ووحشة‏,‏ والقبر إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران‏.‏
لذلك صاغ ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ هذه الآية السابعة عشرة من سورة عبس بصيغة الاستفهام الاستنكاري‏,‏ التوبيخي‏,‏ التقريعي للإنسان الكافر استنكارا لكفره بالله مع كثرة إحسان الله‏(‏ تعالي‏)‏ إليه‏,‏ وسؤالا عن أسباب كفره وسبل الإيمان ميسرة لديه‏,‏ وتعجبا من شدة كفر الكافرين‏,‏ وتأكيدا علي استحقاقهم العذاب بأشد ألوانه‏...!!‏ ولذلك ختمت هذه الآيات السبع بقول الحق‏(‏ تبارك اسمه‏):‏ كلا لما يقض ما أمره‏*(‏ عبس‏:23)‏ ولفظة‏(‏ كلا‏)‏ هنا بمعني‏(‏ حقا‏)‏ إن الإنسان الكافر لم يفعل ما أمره به الله‏(‏ تعالي‏)‏ فاستحق العذاب الذي حذره منه عن طريق ما جاء به الأنبياء والمرسلون‏.‏
وبعد ذلك تنتقل السورة الكريمة إلي استعراض واحدة من آيات الله الكبري ألا وهي إعداد الطعام المناسب‏,‏ والكافي‏,‏ واللازم للأحياء ومنهم الإنسان وأنعامه‏,‏ ولذلك تلفت الآيات الأنظار إلي هذه الحقيقة وذلك بقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
فلينظر الإنسان إلي طعامه‏*‏ أنا صببنا الماء صبا‏*‏ ثم شققنا الأرض شقا‏*‏ فأنبتنا فيها حبا‏*‏ وعنبا وقضبا‏*‏ وزيتونا ونخلا‏*‏ وحدائق غلبا‏*‏ وفاكهة وأبا‏*‏ متاعا لكم ولأنعامكم‏*‏
‏(‏عبس‏:24‏ ـ‏32)‏

والأمر بالنظر هنا ليس لمجرد النظر للإبصار ولكنه النظر للاعتبار‏,‏ لأن الطعام ضرورة من ضرورات الحياة‏,‏ ولازمة من لوازمها‏,‏ ولا يملك عاقل الادعاء بأن له يدا في دورة الماء حول الأرض‏,‏ ولا في إنبات البذور‏,‏ ولا في شق الأرض لإخراج البادرات النباتية من داخلها‏,‏ ولا في عمليات التمثيل الضوئي التي يهييء الله‏(‏ تعالي‏)‏ لنا بها مختلف أنواع الثمار والبذور والمحاصيل التي يحيا عليها كل من الإنسان والحيوان‏.‏
ولا يستطيع عاقل كذلك الادعاء بأن له يدا في إخراج نوع واحد من أنواع النبات والتي يقدر المعروف لنا منها بأكثر من ثلاثمائة ألف نوع‏.‏ يمثل كل نوع منها ببلايين الأفراد التي يتميز كل منها بصفاته الشكلية والتشريحية وتتميز ثماره بألوانها وأشكالها وطعومها المختلفة‏.‏

وقد ضرب الله‏(‏ تعالي‏)‏ لنا في هذه السورة المباركة من نماذج النباتات ومحاصيلها وثمارها الحبوب‏,‏ والأعناب‏,‏ والعلف الرطب للبهائم‏,‏ والتين الجاف‏,‏ والزيتون‏,‏ والنخل‏,‏ والحدائق الغلب أي الغليظة الأشجار العظيمة الملتفة‏,‏ وأشجار الفاكهة‏,‏ والكلأ‏,‏ والمرعي‏.‏ وهذه النماذج تكاد تغطي كل ما يحتاجه الإنسان وأنعامه ودوابه من مجموعات النبات الرئيسية‏.‏ وخاتمة رحلة الإنسان في هذه الحياة الدنيا ـ مهما تطل ـ وخاتمة تمتعه بمباهجها وزخرفها ـ إن طال شيئا من ذلك ـ هي الموت‏,‏ والقبر‏,‏ ثم البعث‏,‏ والحشر‏,‏ والعرض الأكبر أمام الله‏(‏ تعالي‏)‏ للحساب والجزاء‏,‏ وما يصاحب ذلك من أهوال وفزع أو رحمة وسكينة ثم الخلود إما في الجنة أبدا أو في النار أبدا‏,‏ وفي ذلك تختتم هذه السورة المباركة بقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
فإذا جاءت الصاخة‏*‏ يوم يفر المرء من أخيه‏*‏ وأمه وأبيه‏*‏ وصاحبته وبنيه‏*‏ لكل امريء منهم يومئذ شأن يغنيه‏*‏ وجوه يومئذ مسفرة‏*‏ ضاحكة مستبشرة‏*‏ ووجوه يومئذ عليها غبرة‏*‏ ترهقها قترة‏*‏ أولئك هم الكفرة الفجرة‏*(‏ عبس‏:33‏ ـ‏42)‏
والصاخة هي النفخة الثانية في الصور‏,‏ وسميت بذلك لأنها تصخ الآذان من شدتها‏,‏ وقد استخدمت هذه اللفظة كاسم من أسماء يوم القيامة‏,‏ الذي يجبر الإنسان علي الفرار من أقرب الناس إليه‏,‏ وألصقهم به من شدة أهواله‏,‏ وتعاظم الأحداث فيه‏..!!‏

وبعد انتهاء الحساب ينقسم الناس إلي أصحاب الوجوه المسفرة‏,‏ المشرقة‏,‏ المضيئة‏,‏ المستبشرة بتكريم الله‏(‏ تعالي‏)‏ لها بالجنة وقد بشروا بها‏;‏ وهي وجوه المؤمنين بالله الذين عبدوه في الدنيا بما أمر وجاهدوا من أجل عمارة الأرض وإقامة عدل الله فيها‏,‏ ووجوه أخري للكفرة الفجرة الذين كفروا بالله وبأنبيائه ورسله وبخاتمهم أجمعين‏,‏ وبالرسالة الخاتمة‏,‏ فخرجوا علي أوامر الله‏,‏ وتجاوزوا حدوده‏,‏ وانتهكوا حرماته‏,‏ وملأوا الأرض ظلما وجورا وفسادا واستعلاء علي الخلق‏,‏ فعلا وجوههم الندم والحزن‏,‏ وارتسمت علي قسماتها بوادر الحيرة والحسرة واليأس‏,‏ وغشيتها ملامح الفزع والهلع والذل والعار وقد علم أصحابها أن مصيرهم إلي النار‏..!!‏
ومصائر العباد ترتسم علي وجوه أصحابها في الآخرة فيعرف أصحاب الجنة من أصحاب السعير‏,‏ وبذلك يلتقي أول سورة عبس بخواتيمها في تزاوج عجيب يجمع بين معيار من معايير الحق في الدنيا استهلت به هذه السورة الكريمة‏,‏ وبين الجزاء في الآخرة‏,‏ إما في الجنة وإما في النار مما يشهد للقرآن الكريم بأنه كلام الله الخالق الذي أنزله بعلمه علي خاتم أنبيائه ورسله‏,‏ وحفظه بعهده الذي قطعه علي ذاته العلية‏,‏ فحفظ علي مدي الأربعة عشر قرنا الماضية في نفس لغة وحيه‏(‏ اللغة العربية‏)‏ حفظا كاملا‏:‏ كلمة كلمة وحرفا حرفا‏,‏ وسيبقي محفوظا بحفظ الله إلي أن يرث الله‏(‏ تعالي‏)‏ الأرض ومن عليها‏.‏
من ركائز العقيدة في سورة عبس

‏(1)‏ الإيمان بالله‏(‏ تعالي‏)‏ ربا‏,‏ وبالإسلام دينا‏,‏ وبسيدنا محمد‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ نبيا ورسولا

‏(2)‏ التسليم بالأخوة الإنسانية‏,‏ ومن ثم عدم جواز المفاضلة بين الناس إلا علي أساس من تقوي الله‏(‏ تعالي‏)‏ وخشيته‏,‏ وترك كل المعايير المادية حانبا‏,‏ من مال وجاه وسلطان‏,‏ وغير ذلك من المعايير الاجتماعية الخاطئة التي فرقت الناس شيعا بدون أدني حق‏.‏

‏(3)‏ اليقين بوحي السماء‏,‏ وبوحدة رسالة الأنبياء والمرسلين التي تكاملت في بعثة النبي الخاتم والرسول الخاتم‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ ولذلك تعهد الله‏(‏ تعالي‏)‏ بحفظها فحفظت في نفس لغة وحيها إلي يوم الدين‏.‏

‏(4)‏ الإيمان الكامل بأن الله‏(‏ تعالي‏)‏ يخلق الإنسان من نطفة فيقدر له صفاته‏,‏ وجنسه‏,‏ وأجله ورزقه‏,‏ وشقاوته أم سعادته‏,‏ وييسر له سبل الخروج إلي الحياة‏,‏ وأساليب الهداية والنجاح فيها‏.‏

‏(5)‏ التسليم بأن الموت حق علي العباد‏,‏ وأن البعث والنشور حتمي عليهم كذلك‏.‏

‏(6)‏ اليقين بأن الله‏(‏ تعالي‏)‏ هو خالق كل شيء‏,‏ وأنه‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ هو الذي يرزق كل حي‏,‏ ويهييء له طعامه‏.‏ ومن الأحياء الإنسان وأنعامه‏,‏ والنباتات التي أنبتها لهم من الأرض بمختلف أنواعها‏,‏ وأشكالها‏,‏ وأحجامها‏,‏ وألوانها‏,‏ وطعومها بقدرة تشهد له‏(‏ سبحانه‏)‏ بالألوهية‏,‏ والربوبية‏,‏ والخالقية والوحدانية‏.‏

‏(7)‏ الإيمان بحتمية الآخرة وبضرورتها‏,‏ وأهوالها التي تجعل المرء يفر من أقرب الناس إليه وألصقهم به‏,‏ وبانقسام الناس فيها بين مؤمن مستبشر سعيد‏,‏ وكافر شقي تعيس‏,‏ وشتان بين المصيرين‏.‏

من الإشارات الكونية في سورة عبس
‏(1)‏ التأكيد علي خلق الإنسان من نطفة تحمل جميع صفاته‏,‏ وكل المقدر له‏.‏
‏(2)‏ الإشارة إلي انتهاء فترة الحضانة الرحمية بولادة الجنين‏,‏ وإلي تذليل طريق خروجه من بطن أمه بيسر إلي الحياة من حولهما‏.‏
‏(3)‏ الجزم بحتمية الموت‏,‏ وضرورة القبر‏,‏ وحتمية البعث والحساب والجزاء‏.‏
‏(4)‏ الإشارة إلي حقيقة أن كثيرا من الناس تمضي بهم الحياة دون أن يعرفوا الغاية من وجودهم فيها‏,‏ أو أن يحققوا شيئا من واجباتهم فتنتهي آجالهم وكل واحد منهم صفر اليدين من الحسنات‏,‏ مثقل الكاهل بالذنوب‏,‏ ولذلك قال‏(‏ تعالي‏):‏

كلا لما يقض ما أمره‏*(‏ عبس‏:23)‏
‏(5)‏ لفت أنظار الناس إلي معجزة توفير الطعام لجميع الكائنات الحية وفي مقدمتها الإنسان وأنعامه‏.‏
‏(6)‏ الإشارة إلي دورة الماء حول الأرض بوصف إنزاله من السماء‏.‏
‏(7)‏ وصف شق الأرض بواسطة إنزال الماء عليها أو ريها من أجل استزراعها‏,‏ أو شقها بواسطة البادرات النباتية الخارجة منها‏,‏ وكله صحيح‏.‏
‏(8)‏ الإشارة إلي خلق مختلف أنواع النباتات‏,‏ وإعطاء النماذج الأساسية منها التي تشكل الغذاء الرئيسي لكل من الإنسان وأنعامه من مثل الحبوب‏,‏ والأعناب‏,‏ والبقول والخضراوات وعلف الدواب الرطب كالبرسيم‏(‏ القضب‏),‏ والزيتون‏,‏ والنخل‏,‏ والحدائق ذات الأشجار المتشابكة‏,‏ وأشجار الفاكهة‏,‏ والكلأ والمرعي‏(‏ الأب‏).‏
‏(9)‏ تشبيه إحياء الأجسام بعد تحللها وتحولها إلي تراب بإحياء النبات من الأرض الهامدة بعد إنزال الماء عليها‏,‏ ووصف مايصيب الناس من هلع في يوم القيامة بفرار المرء من أقرب الناس إليه وألصقهم به‏.‏
وكل قضية من هذه القضايا تحتاج إلي معالجة خاصة بها‏,‏ ولذلك فسوف أقصر الحديث هنا علي النقطة الأولي من القائمة السابقة والتي تتعلق بخلق الإنسان من نطفة مقدرة‏,‏ يقدرها الله‏(‏ تعالي‏)‏ بعلمه وحكمته وقدرته كما جاء في الآيات‏(17‏ ـ‏19)‏ من سورة عبس‏,‏ وقبل الوصول إلي ذلك لابد من استعراض أقوال عدد من المفسرين القدامي والمعاصرين في شرح دلائل هذه الآيات المباركات‏.‏

من أقوال المفسرين
في تفسير قوله‏(‏ تعالي‏):‏
قتل الإنسان ما أكفره‏*‏ من أي شيء خلقه‏*‏ من نطفة خلقه فقدره‏*(‏ عبس‏:17‏ ـ‏19)‏
‏*‏ ذكر ابن كثير‏(‏ رحمه الله‏)‏ ما مختصره‏:‏ يقول تعالي ذاما لمن أنكر البعث والنشور من بني آدم‏:(‏ قتل الإنسان ما أكفره‏),‏ قال ابن عباس‏:‏ لعن الإنسان‏,‏ وهذا لجنس الإنسان المكذب لكثرة تكذيبه‏(‏ ما أكفره‏)‏ أي ما أشد كفره‏,‏ وقال ابن جرير‏:‏ ويحتمل أن يكون المراد‏:‏ أي شيء جعله كافرا أي ما حمله علي التكذيب بالمعاد؟ وقال قتادة‏:(‏ ما أكفره‏)‏ ما ألعنه‏,‏ ثم بين تعالي له كيف خلقه من الشيء الحقير‏,‏ وأنه قادر علي إعادته كما بدأه فقال تعالي‏:(‏ من أي شيء خلقه‏*‏ من نطفة خلقه فقدره‏*)‏ أي قدر أجله ورزقه وعمله وشقيا أم سعيدا‏..‏
‏*‏ وجاء في تفسير الجلالين‏(‏ رحم الله كاتبيه‏)‏ مانصه‏:(‏ قتل الإنسان‏)‏ لعن الكافر‏(‏ ما أكفره‏)‏ استفهام توبيخ أي‏:‏ ما حمله علي الكفر‏[‏ أو ما أشد كفره‏](‏ من أي شيء خلقه‏)‏ استفهام تقريري ثم بينه فقال‏:(‏ من نطفة خلقه فقدره‏)‏ علقة ثم مضغة‏,‏ إلي آخر خلقه‏.‏
‏*‏ وذكر صاحب الظلال‏(‏ رحمه الله رحمة واسعة‏)‏ مانصه‏:(‏ قتل الإنسان‏!)...‏ فإنه ليستحق القتل علي عجيب تصرفه‏..‏ فهي صيغة تفظيع وتقبيح وتشنيع لأمره‏..‏ وإفادة أنه يرتكب مايستوجب القتل لشناعته وبشاعته‏..(‏ ما أكفره‏!...‏ ما أشد كفره وجحوده ونكرانه لمقتضيات نشأته وخلقته‏.‏ ولو رعي هذه المقتضيات لشكر خالقه‏,‏ ولتواضع في دنياه‏,‏ ولذكر آخرته‏.‏ وإلا فعلام يتكبر ويستغني ويعرض؟ وماهو أصله وماهو مبدؤه؟‏..(‏ من أي شيء خلقه؟‏)..‏ إنه أصل متواضع زهيد‏,‏ يستمد كل قيمته من فضل الله ونعمته‏,‏ ومن تقديره وتدبيره‏(‏ من نطفة خلقه فقدره‏)..‏ من هذا الشيء الذي لاقيمة له‏,‏ ومن هذا الأصل الذي لاقوام له‏..‏ ولكن خالقه هو الذي قدره‏.‏ قدره‏:‏ من تقدير الصنع وإحكامه‏.‏ وقدره‏:‏ من منحه قدرا وقيمة فجعله خلقا سويا‏,‏ وجعله خلقا كريما‏,‏ وارتفع به من ذلك الأصل المتواضع‏,‏ إلي المقام الرفيع الذي تسخر له فيه الأرض وما عليها‏.‏
‏*‏ وجاء في بقية التفاسير المتاحة لنا كلام مشابه لا أري حاجة إلي تكراره‏.‏

من الدلالات العلمية للآيات الكريمة
خلق الإنسان من النطفة الأمشاج‏:‏
‏(‏النطفة‏)‏ في اللغة العربية هي القليل من الماء الذي يعدل قطرة أو بضع قطرات‏.‏ يقال‏:(‏ نطف‏)‏ الرجل‏(‏ ينطف‏)‏ و‏(‏ ينطف‏)(‏ نطفا‏)‏ و‏(‏ نطفانا‏)‏ بمعني تقاطر منه الماء بعد وضوئه أو غسله‏.‏ ويقال‏:(‏ نطفت‏)‏ القربة إذا قطرت من‏(‏ النطف‏)‏ بمعني تقاطر الماء قطرة قطرة‏:‏ و‏(‏النطفة‏)‏ أيضا هي الماء الصافي القليل من مثل قليل الماء الذي يبقي في الدلو أو في القربة ويعرف باسم‏(‏ النطافة‏)‏ وجمعها‏(‏ نطف‏)‏ و‏(‏ نطاف‏).‏ و‏(‏ النطف‏)‏ أيضا الدلو‏,‏ والواحدة منه‏(‏ نطفة‏).‏ ويقال‏:‏ ليلة‏(‏ نطوف‏)‏ أي ممطرة باتت تمطر حتي الصباح‏.‏
وتسمي صغار اللؤلؤ باسم‏(‏ النطف‏)‏ تشبيها لها بقطرات الماء‏.‏
ويستعار‏(‏ النطف‏)‏ للتعبير عن الكرم وفعل الخيرات فيقال‏:‏ فلان‏(‏ منطف‏)‏ المعروف أي يتقاطر المعروف منه بمعني أنه دائم المعروف‏,‏ و‏(‏ ينطف‏)‏ بالخير أي يندي به إشارة إلي ديمومة ذلك منه‏.‏
وقد استخدم القرآن الكريم لفظة‏(‏ النطفة‏)‏ للتعبير عن خلية التكاثر‏(Gamete)‏ سواء كانت مؤنثه أي بييضة‏(Ovum)‏ أو مذكرة أي حيمن‏(Sperm)‏ وذلك في اثنتي عشرة آية علي النحو التالي‏:‏
‏(1)‏ خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين‏*(‏ النحل‏:4)‏
‏(2)‏ قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا‏*(‏ الكهف‏:37)‏
‏(3)‏ ياأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة‏,‏ ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة‏..*(‏ الحج‏:5)‏
‏(4)‏ ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين‏*‏ ثم جعلناه نطفة في قرار مكين‏*‏ ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين‏*(‏ المؤمنون‏:12‏ ـ‏14)‏
‏(5)‏ والله خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم جعلكم أزواجا‏..*(‏ فاطر‏:11).‏
‏(6)‏ أو لم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين‏*(‏ يس‏:77).‏
‏(7)‏ هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة‏..*.(‏ غافر‏:67)‏
‏(8)‏ وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثي‏*‏ من نطفة إذا تمني‏*(‏ النجم‏:46,45).‏
‏(9)‏ أيحسب الإنسان أن يترك سدي‏*‏ ألم يك نطفة من مني يمني‏*‏ ثم كان علقة فخلق فسوي‏*‏ فجعل منه الزوجين الذكر والأنثي‏*‏ أليس ذلك بقادر علي أن يحيي الموتي‏*‏
‏(‏القيامة‏:36‏ ـ‏40)‏

‏(10)‏ إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا‏*(‏ الإنسان‏:2).‏
‏(11)‏ قتل الإنسان ما أكفره‏*‏ من أي شئ خلقه‏*‏ من نطفة خلقه فقدره‏*‏
‏(‏ عبس‏:17‏ ــ‏19).‏

ومن الآية الثانية في سورة الإنسان يتضح أن القرآن الكريم يسمي اتحاد نطفتي التكاثر الذكرية والأنثوية باسم النطفة الأمشاج وتعرف باسم اللقيحة المخصبة‏(Zygote)‏ إشارة إلي إتمام عمليتي التلقيح والإخصاب‏.‏
وتعتبر الإشارات القرآنية الكريمة من مثل‏(‏ النجم‏:46,45)‏ و‏(‏الانسان‏:2)‏ أول تعبير علمي دقيق عن تخلق الجنين باتحاد النطفتين الذكرية والأنثوية‏,‏ وهي حقيقة لم يتوصل إليها العلم المكتسب إلا في نهاية القرن الثاني عشر الهجري أي الثامن عشر الميلادي‏(1186‏ هـ‏/1775‏ م‏).‏
فمنذ عهد أرسطو‏(384‏ ــ‏322‏ قبل الميلاد‏)‏ إلي أواخر القرن الثامن عشر الميلادي ساد الاعتقاد في أوروبا كلها بأن الجنين الإنساني يتكون من ماء الرجل فقط‏,‏ وأن رحم المرأة ليس سوي محضن له‏,‏ أو يتكون من دم الحيض فقط‏.‏ وأن ماء الرجل ليس سوي عامل مساعد‏(‏ عاقد‏)‏ له‏.‏ وبعد تصنيع المجهر في سنة‏1677‏ م‏(Hook&Hamm)‏ تم اكتشاف الحيوان المنوي‏(‏ الحيمن‏),‏ وانتشرت خرافة أن الجنين يخلق كاملا في هيئة مصغرة جدا عند رأس الحيمن‏,‏ ثم تزداد أبعاده بمرور فترة الحمل‏(Hartsoeker,1694),‏ وعلي الرغم من التعرف علي حويصلة البييضة في أواخر القرن السابع عشر الميلادي‏(RegnierdeGraaf,1672)‏ إلا أن البييضة لم تكتشف إلا في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي‏,‏ ولم يعرف أن كلا من الحيمن والبييضة من خلايا الجسم إلا في سنة‏1859‏ م‏,‏ وفي أواخر القرن التاسع عشر الميلادي تمت ملاحظة عملية إخصاب البييضة بواسطة الحيمن‏(Hertwig,1875,VanBeneden,1883),‏ وهذه الحقيقة قررها رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ من قبل اثني عشر قرنا‏.‏ فقد أخرج الإمام أحمد في مسنده أن يهوديا مر برسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ وهو يحدث أصحابه‏,‏ فقالت قريش‏:‏ يايهودي إن هذا يزعم أنه نبي‏,‏ فقال‏:‏ لأسألنه عن شئ لا يعلمه إلا نبي‏,‏ فقال‏:‏ يا محمد‏!‏ مم يخلق الإنسان؟ فقال رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏):‏ يايهودي‏:‏ من كل يخلق‏,‏ من نطفة الرجل ومن نطفة المرأة‏.‏
وعلي ذلك فإن النطفة المقصودة في آيات سورة عبس‏(17‏ ــ‏19)‏ هي النطفة الأمشاج أي المختلطة وهي الناتجة عن التقاء النطفتين الأنثوية والذكرية‏,‏ والمعروفة علميا باسم اللقيحة المخصبة‏(Zygote).‏ وقد يكون المقصود هو نطفة المرأة وحدها‏(‏ البييضة‏)‏ التي خلق منها الله‏(‏ تعالي‏)‏ عبده ونبيه عيسي ابن مريم من أم بلا أب بمعجزة لا يقدر عليها إلا رب العالمين‏.‏ وإن كان الإنسان قد حاول منذ أكثر من نصف قرن استنساخ الضفادع والفئران‏,‏ والقردة‏,‏ وفي سنة‏1998‏ م تمكن الاسكتلندي ويلموت وفريقه من استنساخ النعجة دوللي بالطريقة اللا جنسية بعد فشل أكثر من‏280‏ محاولة علي مدي عدد طويل من السنين‏,‏ مما يشير إلي أن الأصل في عملية التكاثر هي النطفة المؤنثة‏,‏ وأن النطفة المذكرة يمكن الاستغناء عنها بأية خلية جسدية كاملة عدد الصبغيات تقوم بإخصاب البييضة المنزوعة النواة بوضعهما معا تحت مجال كهرومغناطيسي شديد لتحفيز اندماجهما معا‏,‏ كما حدث في إنتاج النعجة دوللي التي ما لبثت أن ظهرت عليها علامات الشيخوخة المبكرة ثم نفقت‏.‏

التقدير في داخل النطفة‏:‏
‏(‏القدر‏)‏ و‏(‏التقدير‏)‏ تبيين كمية الشئ‏,‏ يقال‏(‏ قدرته‏)‏ و‏(‏قدرته‏)‏ أي أعطيته قدره‏,‏ و‏(‏قدر‏)‏ الشيء مبلغه‏,‏ و‏(‏قدر‏)‏ غيره أي أعطاه قدره أو‏(‏ القدرة‏),‏ و‏(‏المقدرة‏)‏ بكسر الدال وفتحها هي‏(‏ القدرة‏)‏ المادية والمعنوية ومنها اليسار‏,‏ و‏(‏القدر‏)‏ و‏(‏القدر‏)‏ ما يقدره الله من القضاء‏.‏
و‏(‏تقدير‏)‏ الله الأشياء علي وجهين أحدهما‏:‏ أن يجعلها علي مقدار مخصوص ووجه مخصوص حسبما اقتضت حكمته‏,‏ بصورة لا يتأتي منها غير ما قدره لها‏,‏ وثانيهما‏:‏ إعطاؤها القدرة علي القيام بما هيأها الله‏(‏ تعالي‏)‏ لها‏.‏
ومن ذلك قول ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
إنا كل شئ خلقناه بقدر‏*‏
‏(‏القمر‏:49).‏

ومنه الآيات التي نحن بصددها والتي يقول فيها ربنا‏(‏ سبحانه وتعالي‏):‏
من نطفة خلقه فقدره‏*.(‏ عبس‏:19).‏

أي أوجده فيه بعلمه وحكمته وقدرته‏,‏ ومن ذلك تحديد كل من الصفات السائدة التي سوف تظهر علي الجنين‏,‏ والمتنحية التي يورثها لأجياله اللاحقة‏,‏ ومن ذلك أيضا تحديد الجنس‏(‏ ذكرا كان أم أنثي‏).‏ فبالتقاء النطفتين الذكرية‏(‏ وتحمل‏23‏ صبغي‏)‏ والأنثوية‏(‏ وتحمل‏23‏ صبغي‏)‏ تتكون النطفة الأمشاج التي يتكامل فيها عدد الصبغيات إلي‏(46)‏ صبغي مرتبة في‏(23)‏ زوجا‏,‏ منها‏(22)‏ تحمل الصفات الجسدية‏,‏ وزوج واحد يحمل الصفات الجنسية وهما‏(*+*)‏ في الأنثي‏,(Y+*)‏ في الذكر‏.‏
ويتم إخصاب النطفة المؤنثة‏(‏ البييضة‏)‏ بنطفة ذكرية واحدة‏,‏ وفي ذلك يقول المصطفي‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏):‏ ما من كل الماء يكون الولد‏..(‏ أخرجه مسلم‏).‏
وفي ذلك روي ابن مسعود‏(‏ رضي الله عنه‏)‏ أن رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ قال‏:‏ النطفة إذا استقرت في الرحم أخذها ملك الأرحام بكفه فقال‏:‏ يارب‏!‏ مخلقة أم غير مخلقة؟ فإن قيل‏:‏ غير مخلقة لم تكن نسمة‏.‏ وقذفها الرحم دما‏,‏ وإن قيل‏:‏ مخلقة‏,‏ قال يارب‏!‏ ذكر أم أنثي؟ شقي أم سعيد؟ وما الأجل؟ وما الأثر؟ وما الرزق؟ وبأي أرض تموت؟ والمقصود بالنطفة هنا النطفة الأمشاج المختلطة بالتلقيح والإخصاب‏.‏
وروي حذيفة بن أسيد‏(‏ رضي الله عنه‏)‏ أن رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ قال‏:‏ إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكا فصورها وخلق سمعها وبصرها وعظامها ولحمها وجلدها ثم قال‏:‏ يارب‏!‏ أذكر أم أنثي فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك‏(‏ صحيح مسلم‏/‏ كتاب القدر‏).‏
وروي ابن مسعود كذلك أن رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ قال‏:‏ إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة‏,‏ ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك‏,‏ ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك‏,‏ ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح‏,‏ ويؤمر بأربع كلمات‏:‏ يكتب رزقه‏,‏ وأجله‏,‏ وعمله‏,‏ وشقي أو سعيد‏(‏ صحيح مسلم‏/‏ كتاب القدر‏).‏ وتأتي دراسات علم الأجنة بعد اربعة عشر قرنا من كلام رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ لتثبت ان وجه الجنين لا تبدو عليه الملامح البشرية إلا في اليوم الثاني والأربعين من عمره‏,‏ وأن الخطوات الرئيسية التي تعطي المضغة بدايات الشكل الإنساني تكتمل بين اليوم الأربعين والخامس والأربعين من عمر الجنين حين يتم تكون الأعضاء‏,‏ وانتشار الهيكل العظمي بصورة واضحة‏,‏ مع استمرار النمو بانقسام الخلايا‏,‏ وتمايز الأعضاء والأجهزة‏.‏
وقد أثبتت دراسة الصبغيات أنها مكونة من جزيئات الحمض النووي الريبي منقوص الأكسجين أو الدنا‏(DeoxyribonucleicAcidorDNA)‏ الذي تكتب بمكوناته الشفرة الوراثية لكل كائن حي‏.‏
‏(JamesWatson&FrancisCrick,1955)‏

وهذا الحمض النووي هو مركب كيميائي شديد التعقيد‏,‏ وإذا تكسر كيميائيا ينتهي إلي حمض الفوسفوريك‏,‏ وإلي عدد من السكريات والقواعد النيتروجينية‏.‏ ويتكون من شريط مزدوج الجدار بسلميات فاصلة بين الجدارين‏,‏ وهذا الشريط لاف علي ذاته علي هيئة الحلزون المزدوج الجدار‏(DoubleHelixDNAMolecule)‏ وتقاس أبعاد هذا الحلزون بالأجزاء من الميكرون‏(‏ والميكرون يساوي جزءا من ألف من الملليمتر‏)‏ ولكن إذا تم فرده فإن طوله يصل إلي حوالي الأربعة سنتيمترات‏.‏
ويقسم كل صبغي علي طوله بعدد من العلامات المميزة إلي وحدات طولية يحمل كل منها عددا من المورثات أو الناسلات‏(Genes),‏ يكتب كل منها بعدد من الشفيرات‏(Codons)‏ وتتكون كل شفيرة من عدد من ثلاث نويدات‏(Nucleotides),‏ وتتكون النويدة من زوج من القواعد النيتروجينية‏(APairofNitrogenousBases)‏ المرتبطين برباط وسطي دقيق‏,‏ وتستند كل قاعدة نيتروجينية في جهتها الخارجية إلي جزئ من السكر‏,‏ وآخر من الفوسفات في ترتيب محكم دقيق تكون فيه جزيئات السكر والفوسفات الجدارين المتقابلين لحلزون الحمض النووي‏,‏ وتنتشر بينهما القواعد النيتروجينية في علاقات تبادلية شديدة الإحكام تحدد الصفات الوراثية للكائن الحي‏.‏

وهذه القواعد النيتروجينية هي أربع قواعد فقط تكتب بتبادلاتها الشفرات الوراثية لجميع بني آدم فتعطي لكل فرد بصمته الوراثية التي تميزه عن غيره‏,‏ وتجعله فريدا في صفاته المنظورة والخفية‏.‏
وعدد كل من القواعد النيتروجينية وجزيئات السكر وجزيئات الفوسفات في الجزئ الواحد من جزيئات الحمض النووي‏=6,2‏ بليون جزئ‏*3=18,6‏ بليون جزئ‏.‏ ولو اختل وضع جزئ من هذه البلايين من الجزيئات عن مكانه فإما أن يؤدي إلي تشويه الجنين أو إلي القضاء عليه قضاء تاما‏.‏
وتعتبر النويدات‏(Nucleotides)‏ هي الحروف التي تكتب بها كلمات الشفيرة الوراثية‏(DNACodon).‏ وتعتبر الأخيرة هي الكلمات التي تكتب بها جمل المورثات‏(‏ حاملات الوراثة أو الناسلات المعروفة باسم الجينات‏Genes)‏ والتي يطلق عليها أحيانا اسم الوحدة الوظيفية الوراثية‏(Cistron).‏

وهنا تتضح طلاقة القدرة الإلهية في روعة تقدير الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ لصفات كل جنين لحظة التقاء الخليتين التكاثريتين أي النطفتين الذكرية والأنثوية‏(‏ الحيمن والبييضة‏)‏ ليكونا معا النطفة الأمشاج فيتكامل عدد الصبغيات‏,‏ وتتكون بذرة الجنين‏,‏ حيث تتحد كل الصفات الموروثة السائدة منها والمتنحية عن خطي الأب والأم في تكامل عجيب لعله المقصود من لفظة التقدير في قول ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏ من نطفة خلقه فقدره‏*.‏ وهذه حقائق لم تدرك إلا خلال القرن العشرين‏,‏ وتسبق كل من القرآن الكريم وأحاديث رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ بها مما يقطع بأن القرآن العظيم هو كلام الله الخالق الذي أنزله بعلمه علي خاتم أنبيائه ورسله‏,‏ وحفظه بعهده في نفس لغة وحيه‏(‏ اللغة العربية‏)‏ علي مدي الأربعة عشر قرنا الماضية وإلي أن يرث الله الأرض ومن عليها‏,‏ فالحمد لله علي نعمة الإسلام‏,‏ والحمد لله علي نعمة القرآن‏,‏ والحمد لله علي الدوام وصلي الله وسلم وبارك علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلي يوم الدين‏.‏