مجادلة النصارى على البالتوك:
هذا بشكل عام فيما يخص محاورة ومجادلة أهل الكتاب؛ أما ما يحدث في غرف "البالتوك"، وما يفعله النصارى في هذه الغرف، فيجب أولا قبل أن نحكم عليه أن نعرف جيدا ما يحدث، وأنت قد أشرت إلى جزء منه، ولكني أحب أن أصحح لك بعض الأمور بحكم أني قد تابعت بعض هذه الغرف، فهم أولا يعرضون بعض الشبه الواهية، وهم يحاولون أن يجعلوا بعض النصارى يظهرون بوصفهم كانوا مسلمين ثم تنصروا ويتحدثون بهذه الصفة، مما يلقي الوهن في قلوب الضعفاء من المسلمين الحاضرين.
كما أنهم من خلال المتابعة يتركون بعض الفرص لبعض المسلمين لكي يتكلموا، وهم يقصدون أن يظهروا ضعف ثقافة هؤلاء المسلمين حتى ينجحوا في حلقتهم، مما يزعزع عقيدة بعض ضعاف الإيمان، بل إنهم يحرصون أشد الحرص على أن يتكلم هؤلاء، فإن ظهر من المتكلمين من يدرك أبعاد الشبهة المطروحة، ولديه القدرة على التفنيد والرد، فإنهم يأخذون الحديث منه ويحاولون التشويش عليه ولا يسمحون له بالمتابعة حتى لا يظهر ضعفهم.
وبالتالي فإن دخول هذه الغرف في الحقيقة هو مصيدة للضعاف، والذي يستطيع أن يجادلهم بما يكشف حقيقتهم فإنهم لا يتيحون له الفرصة، وهذا يعني أن نتيجة الحوار معروفة ومحددة مسبقا، وهي ظهور ضعف المسلمين، وهذا بخلاف بعض الغرف التي يقوم عليها مسلمون، فهم يسمحون للنصارى أن يتكلموا ويقومون بالرد عليهم، لأن الدارس للعقيدة الإسلامية وتاريخ الإسلام وفقه القرآن والسنة لا يخاف أن يتحدث مع أحد، ومن علامات انهزام الإنسان أن يحكر على الآخر، وأن يمنعه من الحديث والكلام.
ولذا، فإن هناك شروطا لمن يدخل على هذه الغرف ليحقق الواجب؛ ذلك أنه يجب أن يغلب على ظنه أنه سيفعل شيئا نافعا من إسداء حق، أو إظهار غش، أو دحض للشبهات المعروضة.
فإن لم يجد في نفسه القدرة على هذا، أو رأى أنه لن يجد فرصة مواتية بسبب طريقة إدارة هذه الغرف، فإنه يجب عليه البحث عن وسيلة أخرى، كأن يجهز رسالة قصيرة تحتوي على مجموعة من الروابط التي تناقش الشبهة المطروحة وترد عليها، موضحا أن إدارة الغرفة منعته من الحديث وأن الروابط التي قدمها فيها الرد على الشبهة المثارة لمن أراد الحقيقة والعلم.
بل إنه من الواجب البحث والتنقيب عن وسائل يستخدمها هؤلاء الدارسون المتعمقون فيما يطرح من شبهات حتى يغلقوا على أهل الكتاب أكاذيبهم وأباطيلهم.
أما من ليس عنده علم فيجب عليه ألا يدخل هذا المجال، فربما أضر من حيث أراد أن ينفع، وقد قال الإمام ابن تيمية في الجدال المذموم: "والمذموم شرعًا ما ذمّه الله ورسوله كالجدل بالباطل، والجدل بغير علم، والجدل في الحق بعدما تبين".
وقال الإمام ابن تيمية أيضا: "كل من لم يناظر أهل الإلحاد والبدع مناظرةً تقطعُ دابرَهم لم يكن أعطى للإسلام حقَّهُ، ولا وَفَىَ بموجب العلم والإيمان، ولا حصل بكلامه شفاء الصدور وطمأنينة النفوس، ولا أفاد كلامه العلم واليقين".
ويمكن لمن أراد أن ينال هذا الخير الوفير، أن ينشأ موقعا على الإنترنت لتعليم الراغبين في الدخول في هذا المجال، من خلال "مدرسة رد الشبهات"، بحيث تكون حلقة من حلقات التعليم عن بعد، يقوم على وضع خططها بعض أساتذة العقيدة، بحيث يوضع منهج علمي لتدريسه، يمكن أن يكون على شكل محاضرات، مع المادة العلمية المكتوبة، ويحدد عدد من الساعات، ويكون هناك محاضرات مباشرة بين الشيوخ، بحيث يتم هذا الأمر في إطارين:
الأول، المحاضرات والتفاعل.
الثاني، ورش عمل، بحيث يقوم الشيخ بطرح بعض الشبهات، ويسمع من الطلاب الرد عليها، ثم يكون هناك توجيه وتصحيح.
يمكن بعدها أن يمنح الطالب شهادة من متخصصين في الرد على الشبهات، أو ما كان يعرف في قديم الزمن بالإجازة، بحيث نرشح من يستطيع القيام بالعمل، وهذا أمر متفق عليه بين جميع العقلاء، أنه لا يدخل الإنسان في شيء إلا إذا كان أهلا له، وإن كنا لا نجيز لإنسان أن يعطي لأخيه "حقنة" طبية إلا بعد التدرب عليها، وإن كان لا يصلح الكمبيوتر إلا المختص، فلا يكون الدين والرد على الشبهات المثارة حوله بأقل من هذا، والتخصص أمر حث عليه الشرع، فكان واجبا قبل الدخول في مثل هذه الحلبات الصراعية التي ليس فيها نية صادقة من النصارى، مع سفاهة ما يقولون، وضحالة ما يطرحون من أفكار في كثير من الأمور، غير أنهم يعتمدون على جهل كثير من الشباب الذي ما عاد يعرف شيئا عن دينه.
** ويمكن سرد أهم الشروط التي يجب أن تتوافر فيمن يتصدى للرد على الشبهات المثارة على البالتوك فيما يلي:
1- أن يكون مؤمنا صادقا مخلصا مجتنبا للكبائر، لأن الصغائر يقع فيها كل أحد، ولكنه يجاهد أيضا نفسه في البعد عن الصغائر، وهذه الحالة الإيمانية تكون من أسباب فتح الله تعالى على الإنسان، فيلهم الحجة بتوفيق من الله تعالى، مادام مخلصا له سبحانه.
2- العلم بما يتكلم فيه، فلا يجوز أن يدخل الإنسان وهو ناقص البضاعة، ومن المرفوض عقلا وشرعا أن يدخل الإنسان في معركة بلا سلاح، لأنه يعرض نفسه للقتل، والجهاد ليس المقصود منه أن يُقتل المسلم، بل المقصود منه أن يقاتل العدو بكل ما أوتي من قوة، والمجادلة والمحاورة نوع من الجهاد الفكري.
3- أن يطلع على ثقافة أهل الكتاب، وأن يقف على نقاط الضعف عندهم، وأن يكون على دراية بما يعرف بـ"مقارنة الأديان".
4- أن يكون لديه علم بالتقنيات العلمية، بحيث يعرف إمكانيات الأداة التي يستخدمها، والخيارات والحيل التي يتيحها البرنامج الذي يعمل من خلاله، فيمكنه الاستفادة منه بأكبر صورة ممكنة، ويقي نفسه من أن يكون تحت أيدي الآخرين.. إذا كان لذلك سبيل، أو يكون عنده البدائل الممكنة.
5- ألا ينجرّ في جزئيات وتفاصيل لا علاقة لها بالموضوع الأساسي محل النقاش، بل يكون محددا فيما يقول، منظما لأفكاره قبل أن ينطق بها، يدرك ما يقوله في كل جزئية، بحيث ينطلق من المعطيات إلى النتائج بتسلسل عقلي.
6- أن يلتزم الحديث بالحسنى، فيقول عن الشيء الصواب أنه صواب، وعن الخطأ أنه خطأ؛ فهناك أقوال لعلمائنا خطأ وعلى العالم أن يحكم بخطئها، وندرك أن أقوال الرجال ليس لها قدسية عندنا خصوصا إذا كان أهل العلم قد ردوا عليها، ولكن القدسية للكتاب والسنة الصحيحة، أما اجتهاد العلماء فهو محل أخذ ورد، وقد يكون اجتهادهم صوابا لعصرهم، يناسب البيئة التي قيل فيها ولكنه قد لا يتناسب مع عصرنا، وأنه واجب علينا الرجوع إلى أقوال الأئمة المجتهدين في عصرنا.
7- ألا ينجرّ إلى بعض الأمور المطروحة منهم، وأن ننطلق من الثوابت، والتأكيد على الكليات في المسألة، ويمكن التسليم لهم ببعض الأمور من باب استدعاء الحجة، كما فعل إبراهيم عليه السلام: (فلما رأى كوكبا قال هذا ربي)، (فلما رأي القمر بازغا قال هذا ربي) إلى آخر الآيات التي تختم بقوله: (يا قوم إني بريء مما تشركون).
8- يحتاج المحاور نوعا من الشدة العقلية في بعض الأحايين، إن كان الخصم لا يرتدع إلا بهذا، ولذا قال الله تعالى: (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا)، فاستثنى الظالمين من الحسنى إن لم تجدِ معهم، ومعظم من يديرون حلقات البالتوك من النصارى على هذا المنوال؛ قال الإمام ابن تيمية رحمه الله: "فالظالم لم يؤمر بجداله بالتي هي أحسن، فمن كان ظالمًا مستحقًا للقتال غير طالب للعلم والدين فهو من هؤلاء الظالمين الذين لا يجادلون بالتي هي أحسن، بخلاف من طلب العلم والدين ولم يظهر منه ظلم، سواء كان قصده الاسترشاد، أو كان يظن أنه على حق ويقصد نصر ما يظنه حقًّا، ومن كان قصده العناد يعلم أنه على باطل ويجادل عليه فهذا لم يؤمر بمجادلته بالتي هي أحسن، لكن قد نجادله بطرق أخرى نبين فيها عناده وظلمه وجهله جزاءً له بموجب عمله".
وعلى ذلك فإن من يدخل هذه الغرف للمشاهدة فحسب، فهو ممن يتوجب عليه الإعراض عنهم لما لهؤلاء من خوض وسب وشتم للإسلام ورسوله وأهله، أما من دخل دفاعا عن الإسلام، ودحضا لهذه الشبهات محققا للشروط المطلوبة فيمن يتصدى لهذه المهمة، فهو من المجاهدين الصادقين بإذن الله، ونسأل الله له السداد والتوفيق.
المفضلات