-
النوع الثالث والعشرون: المُدْرَج
وهو على أقسام.
القسم الأول:
ما ذكر في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من كلام بعض رواته بأن يَذْكر الصحابي أو غيره كلامًا لنفسه فيرويه مَنْ بَعْدَه موصولا بالحديث غير فاصل بذكر قائله فيلتبس الأمر على مَنْ لا يعرف حقيقة الحال فيتوهم أن الجميع من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد يقع ذلك في آخر الحديث وهو الأكثر أو في وسطه أو في أوله وهو قليل نادر.
مثال الإدراج في أول الحديث: ما رواه الخطيب البغدادي [عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْبِغُوا الْوُضُوءَ وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنْ النَّارِ] فقوله [أَسْبِغُوا الْوُضُوءَ ] مدرج من قول أبى هريرة كما في رواية البخاري واحمد [حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ مَرَّ بِقَوْمٍ يَتَوَضَّئُونَ فَقَالَ أَسْبِغُوا الْوُضُوءَ فَإِنِّي سَمِعْتُ أَبَا الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنْ النَّارِ] .
مثال الإدراج في وسط الحديث: ويكون السبب فيه استنباط الراوي حكما من الحديث أو تفسير بعض الألفاظ الغريبة أو غير ذلك :
فمن الأول: ما رواه الدارقطني [ عن هشام بن عروة عن أبيه عن بُسْرَة قالت سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ أو أُنْثَيَيْهِ أو رُفْغَيْهِ فليتوضأ ] رواه الدارقطني 546 من رواية عبد الحميد بن جعفر.
ولفظة أُنْثَيَيْهِ أو رُفْغَيْهِ مدرجة في الحديث من كلام عروة غير مرفوع لأنه كان يرى أن حكمهما حكم الذَّكَر فظن بعضهم أنه من الحديث.
ومن الثاني : ما رواه البخاري ومسلم [ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْر ِعَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاءُ وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ ـ وَهُوَ التَّعَبُّدُ ـ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ ] رواه البخاري 3 و مسلم 422 من حديث عائشة في بدء نزول الوحي.
فقوله ( وهو التعبُّد ) مدرج من قول الزهري.
مثال الإدراج في آخر الحديث: ما رواه الترمذي وابن ماجة [عن خَبَّاب بن الأَرَتِّ قال لولا أنى سمعت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول لا تَمَنَّوُا الموت لتمنيتُ وقال يؤجر الرجل في نفقته كلها إلا التراب أو قال في البناء] رواه الترمذي 2671 وابن ماجة 4302.
والسياق هكذا يشير إلى أن الكلام الأخير من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ظن ذلك المباركفوري شارح الترمذي وليس كذلك وإنما هو من كلام خَبَّاب بن الأَرَتِّ كما جاء مُفَسَّرًا في البخاري 5734 .
القسم الثاني:
أن يكون جملة الحديث عند الراوي بإسناد إلا طرفًا منه فإنه عنده بإسناد آخر فَيُدْرِجُهُ مَنْ رواه عنه على الإسناد الأول فيروى الحديثين بالإسناد الأول.
مثاله حديث رواه سعيد بن أبى مريم عن مالك عن الزهري عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا ولا تنافسوا..
فقوله ولا تنافسوا مدرج أدرجه ابن أبى مريم من حديث آخر لمالك عن أبى الزناد عن الأعرج عن أبى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ولا تجسسوا ولا تنافسوا..
وكلا الحديثين رواهما البخاري ومسلم من طريق مالك وليس في الأول ولا تنافسوا وهى في الثاني البخاري 6143 و 6135 ومسلم 6701 و 6703.
القسم الثالث:
أن يروى حديثا عن جماعة بينهم اختلاف في إسناده أو متنه فلا يذكر الاختلاف بل يُدْرِج روايتهم على الاتفاق.
مثاله ما رواه الترمذي من طريق عبد الرحمن بن مهدي [عن سفيان الثوري عن واصل ومنصور والأعمش عن أبى وائل عن عمرو بن شُرَحْبِيل عن عبد الله قال قلت يا رسول الله أي الذنب أعظم قال أن تجعل لله ندًّا وهو خلقك قال قلت ثم ماذا قال أن تقتل ولدك خشية أن يَطعم معك قال قلت ثم ماذا قال أن تزني بحليلة جارك] رواه الترمذي 3482 و 3483. فرواية واصل مدرجة على رواية منصور والأعمش لأن واصلا لا يذكر فيه عمرو بن شُرَحْبِيل بل يجعله عن أبى وائل عن عبد الله .
وقد بَيَّنَ الإسنادين معا يحيى بن سعيد القطان في روايته عن سفيان وفصل أحدهما عن الآخر. وقد أجمع أهل الحديث والفقه على أنه لا يجوز تَعَمُّد شيء من الإدراج حتى قال ابن السمعاني مَنْ تعمد الإدراج فهو ساقط العدالة ومِمَّن يُحَرِّف الكَلِمَ عن مواضعهِ وهو مُلْحَقٌ بالكذَّابين . وقد صنف الخطيب البغدادي في المدرج كتابه الفصل للوصل المدرج في النقل ولخصه الحافظ ابن حجر وزاد عليه قدره مرتين وأكثر في كتاب سماه تقريب المَنْهَج بترتيب المُدْرَج .
-
النوع الرابع والعشرون: الموضوع
تعريفه: هو المختلق المصنوع وهو شر الأحاديث الضعيفة أي الذي يُنسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كذبا وليس له صلة حقيقية بالنبي صلى الله عليه وسلم وليس هو بحديث لكنهم سموه حديثا بالنظر إلى زعم راويه ولا تحل رواية الحديث الموضوع لأحد علم حاله في أي معنى كان إلا مقرونا ببيان وضعه والتحذير منه.
وذلك لما رواه مسلم [ عن سَمُرَة بن جُنْدُب والمغيرة بن شعبة قالا قال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ حَدَّث عنى بحديث يُرَى أنه كذب فهو أحد الكاذِبِين ] رواه مسلم في أول صحيحه 1.
بخلاف غيره من الأحاديث الضعيفة التي يُحْتَمَلُ صدقها فى الباطن فإنه يجوز روايتها. ويُعْرَفُ الوضعُ بإقرار واضعه أو ما يَتَنَزَّلُ منزلة إقراره وقد يفهمون الوضع من قرينة حال الراوي أو المروى فقد وُضِعَتْ أحاديثُ يشهد بوضعها ركاكة ألفاظها ومعانيها.
والوضاعون أصناف أعظمهم ضررًا قوم منسوبون إلى الزهد وضعوا الحديث احتسابا في زعمهم الباطل للحث على الخير والترغيب والترهيب فَتَقَبَّلَ الناسُ موضوعاتهم ثقة بهم.
سئل نوح بن أبى مريم أحد الوضاعين عن الحديث الذي وضعه في فضائل القرآن سورة سورة فقال رأيتُ الناس أعرضوا عن القرآن واشتغلوا بفقه أبى حنيفة ومغازي ابن إسحاق فوضعتُ هذا الحديث حسبة .
وقد وضع قوم أحاديث انتصارا لمذهبهم كالروافض ووضع بعضهم للتوصل لأغراض دنيوية كالتقرب للخلفاء والأمراء طمعا فى عطائهم ووضع القُصَّاص للتَّكَسُّب والتَّرَزُّق.
والواضع ربما صنع كلاما لنفسه فرواه مسندا وربما أخذ كلام بعض الحكماء أو الأمثال فرواه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم،ومثاله، الحديث الطويل الذي يُرْوَى عن أُبَىِّ بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم فى فضل القرآن سورة سورة.
ولقد أخطأ الواحدىُّ والثعلبىُّ وغيرهما من المفسرين فى إيداعه تفاسيرهم .
وأحسن كتاب فى الموضوعات هو تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأحاديث الشنيعة الموضوعة لابن عَرَّاق الكَنَاني .
-
النوع الخامس والعشرون:المقلوب
تعريفه: ما أَبْدَل فيه راويه شيئا بآخر فى السند أو المتن سهوا كان أو عمدا وهو ينقسم إلى قسمين رئيسيين :
القسم الأول ما وقع القلْب فيه غلطاً وسهواً:
وحكم هذا القسم أنه ضعيف لأنه ناشئ عن اختلال ضبط الراوي للحديث وهو نوعان:
النوع الأول القلب في الإسناد:
وهو أن يكون متن الحديث بإسناد فينقلب عليه ويرويه بإسناد آخر.
مثاله ما رُوِى عن إسحاق بن عيسى الطبَّاع قال حدثنا جرير بن حازم عن ثابت عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [ إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني ].
قال إسحاق بن عيسى فأتيتُ حماد بن زيد فسألتُه عن الحديث فقال وهم جرير بن حازم إنما كنا جميعا في مجلس ثابت البناني وحجاج بن أبى عثمان الصَّوَّاف معنا فَحَدَّثَنَا حجاج الصَّوَّاف عن يحيى بن أبى كثير عن عبد الله بن أبى قتادة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم [ قال إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني].
فظن جرير بن حازم أنه فيما حدثنا ثابت عن أنس.
وبهذا تبين انقلاب السند على جرير ورواه على الصواب البخاري ومسلم البخاري 640 ومسلم 1395.
النوع الثاني القلب في المتن : وهو أن يقع القلب في المتن بأن توضع لفظة مكان لفظة.
مثاله ما في حديث السبعة الذين يظلهم الله:
[وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ يَمِينُهُ مَا تُنْفِقُ شِمَالُه]ُ..
وصوابه كما في البخاري..
[ وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ أَخْفَى حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ] :
[حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى جَمِيعًا عَنْ يَحْيَى الْقَطَّانِ قَالَ زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ أَخْبَرَنِي خُبَيْبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ الْإِمَامُ الْعَادِلُ وَشَابٌّ نَشَأَ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ يَمِينُهُ مَا تُنْفِقُ شِمَالُهُ وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ وحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى قَالَ قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ عَنْ خُبَيْبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَوْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِثْلِ حَدِيثِ عُبَيْدِ اللَّهِ وَقَالَ وَرَجُلٌ مُعَلَّقٌ بِالْمَسْجِدِ إِذَا خَرَجَ مِنْهُ حَتَّى يَعُودَ إِلَيْهِ] رواه مسلم 1712 كتاب الزكاة.
وصوابه كما في البخاري حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ [ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ بُنْدَارٌ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي خُبَيْبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ الْإِمَامُ الْعَادِلُ وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ أَخْفَى حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ .] البخاري 260 كتاب الآذان.
القسم الثاني : ما وقع القلب فيه عمداً
ويتنوع حكمه على حسب رغبة الراوي من ذلك :
1ـ فإنْ قصد الإغراب حتى يظن الناس أنه يروى ما ليس عند غيره فَيُقْبِلوا على الرواية عنه فهذا حرام يقدح في عدالة صاحبه ويُدْخِلُه في زمرة الهالكين المتَّهَمِين بالكذب ويكون الحديث الذي قلبه من نوع المختلق الموضوع فإن كان الراوي المُبْدَل به قد تفرد بالحديث فإن هذا القلب يسمى سرقة الحديث ويقال في فاعله إنه يسرق الحديث.
مثاله: [ ما رواه عمرو بن خالد الحراني عن حماد بن عمرو النَّصِيبي عن الأعمش عن أبى صـالح عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فَإِذَا لَقِيتُمْ الْمُشْرِكِينَ فِي الطَّرِيقِ فَلَا تَبْدَءُوهُمْ بِالسَّلَامِ وَاضْطَرُّوهُمْ إِلَى أَضْيَقِهَا].
فهذا حديث مقلوب قلبه حماد بن عمرو فجعله عن الأعمش فإنما هو معروف بسُهَيْل بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ هكذا أخرجه مسلم من رواية سفيان وشعبة وجرير بن عبد الحميد وعبد العزيز الدَّرَاوَرْدِي كلهم عن سهيل.
[ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فَإِذَا لَقِيتُمْ الْمُشْرِكِينَ فِي الطَّرِيقِ فَلَا تَبْدَءُوهُمْ بِالسَّلَامِ وَاضْطَرُّوهُمْ إِلَى أَضْيَقِهَا] أخرجه مسلم 5789 و 5790 وأحمد من رواية سفيان وشعبة باقي مسند المكثرين9349والترمذي 1527 السير عن رسول الله من رواية عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ و سنن أبي داود 4529 الأدب من رواية شُعْبَةُ.
2ـ وإنْ قصد اختبار حفظ المحدث أو قبوله التلقين فهذا جائز كما فعل أهل بغداد مع الإمام البخاري فإنه لما قدم بغداد اجتمع إليه قوم من أهل الحديث فقلبوا مائة حديث فجعلوا إسناد هذا لِمَتْنِ ذلك وإسناد ذلك لِمَتْنِ هذا وألقوها عليه امتحانا فلما فرغوا من إلقائها الْتَفَتَ إليهم فَرَدَّ كل متن إلى إسناده فأذعنوا له بالفضل .
-
النوع السادس والعشرون:معرفة صفة من تُقْبَل روايتُه ومن تُرَدُّ روايته وما يتعلق به
من جرح وتعديل
أجمع جماهير أئمة الحديث والفقه على أنه يُشْتَرط فيمن يحتج بروايته أن يكون عدلا ضابطا لما يرويه. ويشترط لعدالة الراوي أن يكون مسلما بالغا عاقلا سالما من أسباب الفِسْق وخَوارِمِ المُرُوءة .
والمراد بالضابط أن يكون الراوي مُتَيَقِّظًا حافظًا إن حدّثَ من حفظه ضابطًا لكتابهِ إن حدّثَ منه وإن كان يُحَدِثُ بالمعنى اشترط مع هذا أن يكون عالمًا بكل ما يُحِيل المعنى.
ونوضح ذلك بمسائل :
المسألة الأولى: عدالة الراوي تارة تثبت بتنصيص عَدْلَيْن عليها وتارة تثبت بالاستفاضة فمن اشتهرت عدالته بين أهل العلم وشاع الثناء عليه بالثقة والأمانة كفى ذلك في عدالته وذلك كمالك والسفيانين والأوزاعي والليث وابن المبارك والشافعي وأحمد ومَنْ جرى مجراهم.
المسألة الثانية: يُعْرَفُ ضبط الراوي بأن نقارن رواياته بروايات الثقات المعروفين بالضبط والإتقان فإن وافقهم غالبا وكانت مخالفته نادرة عرفنا كونه ضابطا ثَبْتًا وإن وجدناه كثير المخالفة لهم عرفنا اختلال ضبطه ولم نَحْتَج بحديثه .
المسألة الثالثة: التعديل مقبول من غير ذكر سببه على المذهب الصحيح المشهور لأن أسبابه كثيرة يصعب ذكرها وأما الجرح فلا يُقبل إلا مُفَسَّرًا مُبَيَّن السبب لاختلاف الناس فيما يوجب الجرح ولهذا احتج البخاري ومسلم فى صحيحيْهما برجال سبق الطعن فيهم وذلك دالٌّ على أنهم ذهبوا إلى أن الجرح لا يثبت إلا مفسر السبب .
وأما كتب الجرح والتعديل التي لا يُذْكَرُ فيها سبب الجرح ففائدتها التوقف في قبول حديث من جَرَحُوه فإن بحثنا عن حاله وانزاحت عنه الرِّيبة وحصلت الثقة به قبلنا حديثه كجماعة في الصحيحين بهذه المثابة.
المسألة الرابعة: الصحيح أن كل واحد من الجرح والتعديل يثبت بقول واحد وقيل لابد من اثنين.
المسألة الخامسة: إذا اجتمع فى شخص جرح مُفَسَّرٌ وتعديل فالجرح مقدم لما فيه من زيادة العلم فإن كان عدد المعدلين أكثر فالصحيح الذي عليه الجمهور أن الجرح مقدم أيضا وإذا اجتمع فى الراوي جرح غير مُفَسَّر وتعديل فالتعديل مقدم وإذا خلا المجروح عن تعديل قُبِل الجرح فيه غير المفسر إذا صدر من عارف لأنه إذا لم يُعَدَّل فهو فى حيِّز المجهول وإعمال قول المُجَرِّح فيه أولى من إهماله .
المسألة السادسة: لا يجزئ التعديل من غير تعيين المُعَدَّل فإذا قال حدثني الثقة أو نحو ذلك لم يُكْتَفَ به على المذهب الصحيح فإن كان القائل مجتهدًا كمالك والشافعي أجزأ ذلك فى حق من يوافقه فى مذهبه على ما اختاره بعض المحققين .
المسألة السابعة: إذا روى العدل عن رجل وسماه لم تُجْعَلْ روايتُه تعديلا منه له عند أكثر العلماء من أهل الحديث وغيرهم وكذا عمل العالم أو فُتْيَاه على وِفْق حديث رواه ليس حكما منه بصحته وكذا مخالفته له ليست قدحا فى صحته ولا فى راويه .
المسألة الثامنة: رواية المجهول وهو على قسمان:
1ـ مجهول العين : وهو من لم يَرْوِ عنه إلا راوٍ واحد ولم يُوَثَّق وروايته لا يُحتج بها عند أكثر العلماء من أهل الحديث وغيرهم وترتفع جهالة العين برواية عَدْلَيْنِ عنه.
2ـ مجهول الحال :وهو من روى عنه أكثر من راو ولم يُوثَّق ويسمونه أيضًا بالمستور وروايته يُحْتَجُّ بها لدى طائفة معتبرة من العلماء ويُشْبِه أن يكون العمل على هذا الرأي في كثير من كتب الحديث المشهورة في غير واحد من الرواة الذين تقادم العهد بهم وتعذرت الخبرة الباطنة بهم وقد فَرَّق بعض العلماء بين مجهول الحال والمستور فعرف مجهول الحال بأنه مجهول العدالة ظاهرًا وباطنًا والمستور بأنه مجهول العدالة باطنًا لا ظاهرًا لكونه عُلِمَ عدم الفسق فيه وهذا الفرق يمكن لمن شاهد الرواة وأما بالنسبة إلينا فليس أمامنا إلا المصنفات في الرجال ولم يُفَرَّق فيها بين الاثنين فكانا بالنسبة إلينا سواء .
فوائد:
1ـ قال الحافظ الذهبي ما علمتُ فى النساء مَنِ اتُّهِمَت ولا مَنْ تركوها وجميع من ضُعِّفَ منهنَّ إنما هو للجهالة .
2ـ يُقْبَل تعديل المرأة للرجال إذا كانت عارفة بالتعديل كما يُقبل خبرها .
3ـ مَنْ عُرِفَت عينه وعدالته وجهل اسمه ونسبه احتج بخبره كقولهم ابن فلان أو والد فلان وفى الصحيحين من ذلك كثير.
4ـ إذا قال الـراوي أخبرنـي فـلان أو فـلان فإن كـان كل واحـد من المذكورين عَدْلاً كان الحديث ثابتا والعمل به جائز لأن السماع قد تحقق من عدل مسمى فأما إذا قال عن فلان أو غيره وفلان عدل أو قال عن فلان أو فلان وأحدهما عدل والآخر مجهول فلا يحتج به لاحتمال كونه عن غير العدل .
المسألة التاسعة: المبتدع الذي يُكَفَّر ببدعته لا تُقبل روايته بالاتفاق وأما من لم يُكَفَّر ببدعته فتقبل روايته إذا لم يكن داعية إلى بدعته ولم يرو ما يُقَوِّى بدعته ولا تُقبل روايتُه إذا كان داعية أو روى ما يُقَوِّى بدعته وهو مذهب أكثر العلماء.
المسألة العاشرة: التائب من الكذب وغيره من أسباب الفسق تُقبل روايته إلا التائب من الكذب فى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تقبل روايته أبدا وإن حسنت توبته كذا قاله أحمد بن حنبل وغيره .
المسألة الحادية عشرة: إذا روى ثقة عن ثقة حديثا فرجع المَرْوِىُّ عنه فنفاه فإن كان جازما بنفيه بأن قال ما رويتُه أو كذب علىَّ ونحوه وجب ردُّ ذلك الحديث لتعارض قولهما ولا يقدح ذلك في باقي روايات الراوي عنه فإن لم يجزم بأن قال لا أعرفه أو لا أذكره أو نحوه لم يقدح ذلك في هذا الحديث.ومَنْ روى حديثا ثم نسيه لم يسقط العمل به عند جمهور المحدثين والفقهاء والمتكلمين وقال بعض أصحاب أبى حنيفة رضى الله عنه يجب إسقاطه والصحيح قول الجمهور لأن المروى عنه بصدد النسيان والراوي عنه ثقة جازم فلا تُرَدُّ روايتُه بالاحتمال وقد روى كثير من الأكابر أحاديث نسوها فحدثوا بها عمن سمعها منهم فيقول أحدهم حدثني فلان عنِّى أنِّى حدثتُه.
وجمع الخطيب ذلك في كتابه أخبار مَنْ حدث ونسى.
مثاله ما رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة من رواية رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ:
[ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ أَبُو مُصْعَبٍ الزُّهْرِيُّ حَدَّثَنَا الدَّرَاوَرْدِيُّ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ قَالَ أَبُو دَاوُد وَزَادَنِي الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْمُؤَذِّنُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ قَالَ أَخْبَرَنِي الشَّافِعِيُّ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِسُهَيْلٍ فَقَالَ أَخْبَرَنِي رَبِيعَةُ وَهُوَ عِنْدِي ثِقَةٌ أَنِّي حَدَّثْتُهُ إِيَّاهُ وَلَا أَحْفَظُهُ قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ وَقَدْ كَانَ أَصَابَتْ سُهَيْلًا عِلَّةٌ أَذْهَبَتْ بَعْضَ عَقْلِهِ وَنَسِيَ بَعْضَ حَدِيثِهِ فَكَانَ سُهَيْلٌ بَعْدُ يُحَدِّثُهُ عَنْ رَبِيعَةَ عَنْ أَبِيهِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ الْإِسْكَنْدَرَانِيُّ حَدَّثَنَا زِيَادٌ يَعْنِي ابْنَ يُونُسَ حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ عَنْ رَبِيعَةَ بِإِسْنَادِ أَبِي مُصْعَبٍ وَمَعْنَاهُ قَالَ سُلَيْمَانُ فَلَقِيتُ سُهَيْلًا فَسَأَلْتُهُ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ مَا أَعْرِفُهُ فَقُلْتُ لَهُ إِنَّ رَبِيعَةَ أَخْبَرَنِي بِهِ عَنْكَ قَالَ فَإِنْ كَانَ رَبِيعَةُ أَخْبَرَكَ عَنِّي فَحَدِّثْ بِهِ عَنْ رَبِيعَةَ عَنِّي] رواه أبو داود 3612 والترمذي 1393 وابن ماجة 2458.
زاد أبو داود في روايته أن عبد العزيز الدَّرَاوَرْدِى قال فذكرتُ ذلك لسُهيل فقال أخبرني ربيعة وهو عندي ثقة أنِّى حدثتُه إياه ولا أحفظه .
المسألة الثانية عشرة: اختلفوا فيمن أخذ على التحديث أجرا فقال قوم لا تُقبل روايته وهو قول أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهوية وأبى حاتم الرازي لأن ذلك يخرم المروءة عُرفًا ويجعل للتُّهْمَة طريقًا إليه ورخص في ذلك أبو نعيم الفضل بن دُكَيْن وعلى بن عبد العزيز المكي وآخرون قياسا على أجرة تعليم القرآن وكان أبو الحسين بن النَّقُورِ يأخذ الأجرة على التحديث لأن الشيخ أبا إسحاق الشيرازي أفتاه بجوازها لكون أصحاب الحديث كانوا يمنعونه الكسب لعياله .
المسألة الثالثة عشرة : لا تُقبل رواية من عُرف بالتساهل فى سماع الحديث أو إسماعه كمن لا يبالي بالنوم فى السماع أو يحدث لا من أصل مصحح أو عُرف بقبول التلقين فى الحديث بأن يُلَقَّن الشيءَ فيحدثُ به مِنْ غير أن يَعْلم أنه ليس مِنْ حديثه أو عُرف بكثرة السهو فى رواياته إذا لم يحدث من أصل صحيح أو كثرت الشواذ والمناكير فى حديثه قال ابن المبارك والحميدي وأحمد بن حنبل وغيرهم مَنْ غلط فى حديث فَبُيِّنَ له غلطه فلم يرجع وأصر عنادًا على رواية ذلك الحديث سقطت رواياته .
المسألة الرابعة عشرة : أعرض الناس في هذه الأعصار المتأخرة عن اعتبار مجموع ما بَيَّنَّا من الشروط فى السامع والمُسْمِع وذلك لأن المقصود بالسماع فى هذه الأزمان المحافظة على بقاء سلسلة الإسناد التي خُصَّتْ بها هذه الأمة فَلْيُعْتَبَرْ من الشروط ما يليق بهذا الغرض فيُكْتَفَى فى الشيخ بكونه مسلما بالغا عاقلا غير متظاهر بالفسق والسُّخْف وفى ضبطه بوجود سماعه مُثْبَتًا بخط غير مُتَّهَم وبروايته من أصل موافق لأصل شيخه وفى عصرنا الحالي أصبح الاعتمـاد في ذلك على الطبعـات الجيـدة للكتب والقصد بالسماع منه بقاء الحديث مسلسلا بحدثنا وأخبرنا.
المسألة الخامسة عشرة: اصطلح علماء هذا الفن على استعمال ألفاظ يُعَبِّرون بها عن وصف حال الراوي من حيث القبول أو الرد ويُدِلُّون بها على المرتبة التي ينبغي أن يوضع فيها من مراتب الجرح أو التعديل.
-
مراتب التعديل
القسم الأول:
المرتبة الأولى: وهى أعلاها شرفا مرتبة الصحابة رضى الله عنهم.
المرتبة الثانية : وهى أعلى المراتب فى دلالة العلماء على التزكية وهى ما جاء التعديل فيها بما يدل على المبالغة أو عُبِّرَ بأفضل التفضيل كقولهم أوثق الناس وأثبت الناس وأضبط الناس وإليه المنتهى فى التثبت ويلحق به لا أعرف له نظيرًا فى الدنيا ولا أحد أثبت منه أو مَنْ مِثْل فلان أو فلان لا يُسْأَل عنه.
المرتبة الثالثة : إذا كرر لفظ التوثيق إما مع تباين اللفظين كقولهم ثَبْتٌ حجةٌ أو ثبت حافظ أو ثقة ثبت أو ثقة متقن أو مع إعادة اللفظ الأول كقولهم ثقة ثقة ونحوها.
المرتبة الرابعة: ما انفرد فيه بصيغة دالة على التوثيق كثقة أو ثبت أو متقن أو حجة أو إمام أو عدل ضابط أو كأنه مصحف.
المرتبة الخامسة: ليس به بأس أو لا بأس به أو صدوق أو مأمون أو خيار الخلق أو ما أعلم به بأسا أو محله الصدق.
المرتبة السادسة : ما أشعر بالقرب من التجريح وهى أدنى المراتب كقولهم شيخ أو يُروى حديثه أو يُعتبر به أو صالح الحديث أو يُكتب حديثه أو مُقَارِب الحديث أو مقبول أو صدوق سيئ الحفظ أو صدوق له أوهام . والحكم فى أهل هذه المراتب الاحتجاج بالأربعة الأولى منها وأما التي بعدها فإنه لا يُحتج بأحد من أهلها لكون ألفاظها لا تُشعر بشريطة الضبط بل يُكتب حديثهم ويُختبر وأما السادسة فالحكم فى أهلها دون أهل التي قبلها وفى بعضهم من يُكْتب حديثه للاعتبار دون اختبار ضبطهم لوضوح أمرهم .
القسم الثاني: مراتب الجرح
المرتبة الأولى : وهى أسهل مراتب الجرح كقولهم فيه مقال أو ليس بذاك أو ليس بالقوى أو ليس بحجة أو فيه ضعف أو لَيِّن الحديث أو سيئ الحفظ .
المرتبة الثانية : وهى أسوأ من سابقتها وهى فلان لا يحتج به أو ضعيف أو ضعفوه أو مضطرب الحديث أو حديثه منكر.
وحكم مَنْ ذُكِر فى هاتين المرتبتين أنـه تصـلح روايتـه فى المتـابعات والشواهد لتقوية الحديث لإشعار هذه الصيغ بصلاحية المتصف بها لذلك.
المرتبة الثالثة : وهى أسوأ من سابقتيْها كقولهم ضعيف جدًّا أو مردود الحديث أو مطروح الحديث أو لا يُكْتب حديثه أو لا تَحِلُّ الرواية عنه أو ليس بشيء .
المرتبة الرابعة : كقولهم فلان يسرق الحديث أو فلان مُتَّهَم بالكذب أو الوضع أو ساقط أو متروك أو ذاهب الحديث .
المرتبة الخامسة : كقولهم دجَّال أو كذَّاب أو وضَّاع .
المرتبة السادسة: ما يدل على المبالغة كأكذب الناس أو إليه المنتهى فى الكذب أو هو ركن الكذب وحكم هذه المراتب الأربع الأخيرة أنه لا يُحتج بواحد من أهلها ولا يُستشهد به .
-
النوع السابع والعشرون: كيفية سماع الحديث وتَحَمُّله وصفة ضبطه
يصح التَّحَمُّل قبل الإسلام والبلوغ فَتُقْبَل رواية من تَحَمَّل قبل الإسلام وروى بعده.
مثاله ما رواه البخاري ومسلم وأبي داود [ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ فِي الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ] رواه البخاري 3087 ومسلم 1063 سنن أبي داود الصلاة688.
كما تُقْبَل رواية من سمع قبل البلوغ وكان مُمَيِّزا وروى بعد البلوغ فقد سمع كثير من الصحابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بلوغهم وقُبلت روايتهم كالحسن والحسين وابن عباس وابن الزبير والنعمان بن بشير وغيرهم مثاله ما رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة عن الحسن بن عَلِىٍّ :
[ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا شَرِيكٌ عَنْ أَبِي إِسْحَقَ عَنْ بُرَيْدِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ عَنْ أَبِي الْحَوْرَاءِ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ عَلَّمَنِي جَدِّي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلِمَاتٍ أَقُولُهُنَّ فِي قُنُوتِ الْوِتْرِاللَّهُمَّ عَافِنِي فِيمَنْ عَافَيْتَ وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ وَاهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ وَبَارِكْ لِي فِيمَا أَعْطَيْتَ إِنَّكَ تَقْضِي وَلَا يُقْضَى عَلَيْكَ إِنَّهُ لَا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ سُبْحَانَكَ رَبَّنَا تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ] رواه أبو داود 1427 والترمذي 466 والنسائي 1756 وابن ماجة 1234..
وقد وُلد الحسن بن على سنة ثلاث من الهجرة فدل على صحة تَحَمُّل الصبي.
أقسام طرق تَحَمُّل الحديث وألفاظ الأداء:
حصر العلماء طرق الأخذ للحديث وتلقيه عن الرواة فى ثمانية أقسام :
القسم الأول السماع من لفظ الشيخ : وهى أعلى مراتب التلقي للحديث وبواسطتها تلقى الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم وينقسم السماع إلى إملاء وتحديث من غير إملاء ويكون من حفظه ويكون من كتابه ويجوز لمن تحمل عن طريق السماع أن يؤدى بكل ألفاظ الأداء مثل حدثنا وأخبرنا وأنبأنا وعن وقال وقد درج على هذا أكثر رواة الحديث المتقدمين ثم وجدوه توسعًا يؤدى إلى اشتباه السماع بغيره لذلك رجحوا الأداء بلفظ يدل على السماع فى استعمال المحدثين وأرفع الألفاظ سمعت ثم حدثنا وحدثني والأفضل أن يقول فيما سمعه وحده من لفظ الشيخ حدثني وما سمعه من لفظه مع غيره حدثنا.
القسم الثاني القراءة على الشيخ : وأكثر المحدثين يسمونها عَرْضًا لكون القارئ يعرض على الشيخ ما يقرؤه كعرض القرآن على المقرئ وسواء كنتَ أنت القارئ أو قرأ غيرك وأنت تسمع قرأتَ من كتاب أو من حفظك وسواء حفظ الشيخ ما يقرأ أو لم يحفظه لكن يمسك أصله هو أو ثقة وهى رواية صحيحة بلا خلاف فى جميع ذلك وهى تلي السماع فى المرتبة وأما صيغة الأداء فى الرواية بها فعلى مراتب أجودها وأسلمها أن يقول قرأت على فلان أو قرئ على فلان وأنا أسمع فأقر به ويتلوه ما يجوز من العبارات فى السماع من لفظ الشيخ مطلقة إذا أتى بها هاهنا مقيدة بأن يقول حدثنا قراءة عليه أو أخبرنا قراءة عليه ونحو ذلك وقد صار إطلاق لفظ أخبرنا عند أداء هذا القسم هو الشائع الغالب على أهل الحديث وأن يقول فيما قرأ عليه بنفسه أخبرني وما قُرئ عليه وهو حاضر أخبرنا .
وهو على فروع:
الفرع الأول: إذا كان أصلُ الشيخ حالَ القراءة بيد موثوق به مُراعٍ لما يُقْرَأ أَهْلٍ لذلك فإن كان الشيخ يحفظ ما يُقْرَأ فهو كما لو كان بيده وأولى وإن كان لا يحفظه فالسماع صحيح وبه عمل معظم الشيوخ وأهل الحديث وإن كان الأصل بيد القارئ وهو موثوق به دينا ومعرفة فهو أولى بالتصحيح فإن كان بيد مَنْ لا يُوثق بإمساكه ولا يُؤمن مِن إهماله لما يُقرأ لم يصح السماع سواء كان بيد القارئ أو غيره إذا كان الشيخ لا يحفظ ما يُقرأ .
الفرع الثاني : إذا قرأ على الشيخ قائلا أخبرك فلان أو نحوه والشيخ ساكت مصغٍ إليه فَاهِمٌ له غير منكر كفى ذلك فى صحة السماع وجواز الرواية به ولا يشترط نطق الشيخ لفظا هذا هو الصحيح الذي قطع به الجماهير من الفقهاء والمحدثين وغيرهم اكتفاء بظاهر الحال.
الفرع الثالث: لا يجوز إبدال حدثنا بأخبرنا أو عكسه فى الكتب المؤلفة .
الفرع الرابع : إذا كان السَّامِعُ أو المُسْمِعُ يَنسخ حال القراءة فإن امتنع فهم الناسخ للمقروء لم يصح السماع وإن فهمه صح مثاله حضر الدارقطني بمجلس إسماعيل الصفَّار فجلس ينسخ جزءًا كان معه وإسماعيل يُملى فقال له بعض الحاضرين لا يصح سماعك وأنت تنسخ فقال فهمي للإملاء خلاف فهمك ثم قال تحفظ كم أملى الشيخ من حديث إلى الآن فقال لا فقال الدارقطني أملى ثمانية عشر حديثًا فَعُدَّت الأحاديث فوُجِدَتْ كما قال ثم قال الحديث الأول عن فلان عن فلان ومتنه كذا والحديث الثاني عن فلان عن فلان ومتنه كذا ولم يزل يذكر أسانيد الأحاديث ومتونها على ترتيبها فى الإملاء حتى أتى على آخرها فعجب الناس منه .
الفرع الخامس: ويجرى هذا أيضا فيما إذا كان السامع أو الشيخ يتحدث أو القارئ يفرط فى الإسراع أو كان السامع بعيدا من القارئ وما أشبه ذلك بحيث لا يفهم ويُستحب للشيخ أن يجيز للسامعين رواية جميع الكتاب الذي سمعوه لاحتمال وقوع شيء من ذلك فينجبر بالإجازة وإن كتب خطه لأحدهم كتب سمعه منى وأجزت له روايته عنى.
الفرع السادس: يصح السماع ممن هو وراء حجاب إذا عُرِفَ صوتُه إن حدث بلفظه أو حضوره بِمَسْمَعٍ منه إن قرئ عليه وينبغي أن يجوز الاعتماد فى معرفة صوته وحضوره على خبر من يُوثَقُ به فقد كان السلف يسمعون من عائشة وغيرها من أمهات المؤمنين وهن يحدثن من وراء حجاب .
تم الجزء الأول من الكتاب..
وإلى الجزء الثاني والمعنون بـ (منهج تدوين السيرة النبوية المطهرة) بمشيئة الله تعالى..
ولله الحمد والمنة والحمد لله الذي بنعمته تتم الصَّالِحَاتِ
والحمد لله أولا وآخراً وظاهراً وباطناً.
وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وسلامٌ على المرسلين وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
-
دروس في تدوين السيرة النبوية الشريفة
الدرس الأول
السيرة في اللغة : الطريقة والهيئة ، يقال : سار بهم سيرة حسنة ، وسيَّر سيرة : أي حدَّث أحاديث الأوائل [ابن منظور ، لسان العرب ، مادة (سير) .].
وفي الاصطلاح : تاريخ حياة شخص معين . وقد تطورت دلالة هذا المصطلح بفضل كتابات العلماء المسلمين لسيرة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وأصبحت تدل على علم مستقل ، وهو علم السيرة النبوية ، وقد يستخدم لفظ ( السيرة ) مطلقًا ليدل على السيرة النبوية أيضًا [ ينظر : دائرة المعارف الإسلامية ( الترجمة العربية ) . الكردي ، راجع عبد الحميد ، شعاع من السيرة النبوية ... ، دار الفرقان ، عمان ، الأردن ، 1985 ، ص 13 .] .
ولما رُتِّبَت الأحاديث في الأبواب؛ جُمعت السيرة في أبواب مستقلة، كان أشهرها باب يسمى : ( المغازي والسير ) أو ( الجهاد والسير ) [ ينظر من كتب الحديث في هذا الشأن : البخاري ، الصحيح 4/17-54 على سبيل المثال .].
غير أنه بمرور الزمن أخذت السيرة تستقل عن الحديث ، وصارت كتب السير والمغازي تؤلَّف بمفردها في النصف الثاني من القرن الأول الهجري ، وتأكدت هذه الاستقلالية في القرن الثاني الهجري .
يروي المدائني عن ابن شهاب الزهري (ت124ﻫ) ، قال وهو يحدث عن خالد بن عبد الله بن يزيد القسري البجلي [ اليماني الأصل ، سكن دمشق ، ثم ولي مكة للوليد بن عبد الملك سنة 89 ، ثم العراقين ( الكوفة والبصرة ) سنة 105 ، وطالت ولايته حتى عزله هشام بن عبد الملك سنة 120 ﻫ ، وولى مكانه يوسف بن عمر الثقفي، وسلطه عليه حتى قتله. انظر : الزركلي ، الأعلام] قال:
قال لي خالد بن عبد الله القسري: اكتب لي النسب ، فبدأت بنسب مضر ، وما أتممته ، فقال : اقطعه ... واكتب لي السيرة.. [الأصفهاني ، الأغاني 19/59 .].
ولا يمكن أن نفرق بين السيرة والمغازي؛ إذ هما مفهومان مترادفان، يستعملان بمعنى واحد، يقول ابن كثير متحدثًا عن ابن إسحاق : ( قال ابن إسحاق في المغازي) وهو يعني السيرة [ابن كثير، البداية والنهاية 3/243 .].
وقد جعل الواقدي كلمة ( المغازي ) عنوانًا لكتابه ، وشمل سيرة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المدينة فقط .
ومنذ ذلك الوقت لقيت السيرة النبوية اهتمامًا واسعًا من العلماء، خاصة علماء المدينة، الصحابة ومن بعدهم..
فقد روي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه أنه قال :
" كنا نُعَلِّم أبناءنا مغازيَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، كما نُحَفِّظُهم الآية من القرآن.".
وجاء هذا الاهتمام ؛ لما لأقوال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأفعاله من أهمية عظيمة في حياته وبعد وفاته ؛ لأنه القدوة للمسلمين ، وأنهم بحاجة إلى معرفة تفاصيل حياته ،حيث قال تعالى : [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً{21}] الأحزاب:21 .ومن الطبيعي أن تكون المدينة المنورة محضنًا لرواد علم السيرة النبوية ؛ لأنها موقع أحداث هذه السيرة ، ولأن أبناءها من الصحابة الكرام شهدوا تلك الأحداث، ونقلوها إلى أبنائهم ( التابعين )، والذين سافروا أو هاجروا منهم جميعًا، نقلوها إلى المسلمين في الأمصار التي دخلوها واستقروا فيها ، فكانوا رواد هذا العلم رواية، كما كانوا رواده تدوينًا .
وسوف نعرض فيما يلي أبرز هؤلاء الرواد وما اشتهروا به ، وذلك حسب تسلسلهم الزمني :
1ـ أبان بن عثمان ( ت بين 99-105 ﻫ) : وهو ابن الخليفة عثمان بن عفان، ومن كبار التابعين، ولد بالمدينة وعاش بها، وولي إدارتها سبع سنين، ومات فيها ما بين( 99-105 ﻫ ) وهو في عِداد المحدثين الذين كان لهم ميل إلى دراسة المغازي وذكره ابن سعد مع وفيات سنة 105 ﻫ. [ ينظر الأستاذ الدكتور عبد العزيز الدوري ، نشأة علم التاريخ ، ص 21 . وابن سعد ، الطبقات 5/112 ، الذهبي ، العبر 1/129.].
أما عن تأليفه في السيرة ، فقد أورد ابن سعد إشارة عند حديثه عن : المغيرة بن عبد الرحمن إذ قال : ( كان ثقة قليل الحديث ، إلا مغازي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أخذها من أبان بن عثمان ، فكان كثيرًا ما تقرأ عليه ، ويأمرنا بتعليمها) [ابن سعد ، الطبقات 5/156 .].
وليست هذه المغازي التي رواها المغيرة عن أبان كتابًا بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة ؛ وإنما هي مجموعة من الأخبار المتعلقة بحياة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ويبدو أن أبان بن عثمان يمثل مرحلة انتقال بين دراسة الحديث ودراسة المغازي ، ويبدو أنه لم يبق شيء من آثار المغازي التي دونها أبان [ ينظر : حسين نصار ، نشأة التدوين التاريخي عند العرب ، مكتبة النهضة المصرية ،. ص 29 .والدوري ، د. عبد العزيز، نشأة علم التاريخ ، ص 21 .].
2ـ عروة بن الزبير : أحد كبار الفقهاء والمحدثين المدنيين ومن رواد مدرسة السيرة والتاريخ في المدينة .
ويُعَدُّ ابنه هشام وابن شهاب الزهري أشهرَ الرواة عنه في السيرة وأخبار الأيام الأولى من تاريخ الإسلام .
أما آثاره في السيرة ؛ فقد وصلت إلينا مقتبسات من رسائله المدونة في كتب التاريخ والسيرة ، كتاريخ الطبري ، وسيرة ابن إسحاق ، ومغازي الواقدي ، وكذلك عند المتأخرين من كُتَّاب السيرة ، كابن سيد الناس ، وابن كثير ، وغيرهم، وهذه المقتبسات هي أقدم ما وصلنا من تاريخ المغازي [ ابن سعد ، الطبقات الكبرى 5/132 . ابن قتيبة ، المعارف ، ص 98 . العجلي ، معرفة الثقات 2/133 . الذهبي ، العبر 1/110 . النووي ، تهذيب الأسماء 1/331 . ابن حجر ، تهذيب التهذيب 7/181 .].
وكذلك وردت عنه معلومات تتعلق بالسيرة في كتب الصحاح ، كحديثه عن الهجرة في صحيح البخاري [ أورد البخاري حديث الهجرة عن عروة في حوالي ست صفحات كبيرة ، الصحيح 5/73-78 .].
ومن الجدير بالذكر أن معظم المقتبسات هذه كانت على شكل رسائل متبادلة بين عروة والخليفة عبد الملك بن مروان - في الغالب - أو بينه وبين ابن أبي هنيدة ، الذي وُصِف بأنه صاحب الوليد بن عبد الملك . [ابن هشام ، السيرة 2/326 .].
وهذه المقتبسات تشمل جوانب مختلفة من حياة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ كبَدء الوحي ، وبعض الغزوات ، وبعض الشؤون الخاصة بالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وبعض الأخبار المتعلقة بالصدر الأول من الإسلام ، وأحوال المسلمين الأولى ....
فمن أمثلة ذلك : ما أورده الطبري من جواب عروة للخليفة عبد الملك عن خبر الهجرة إلى الحبشة ، وتأتي بإسناد جاء في آخره :
حدثنا أبان العطار قال : ثنا هشام بن عروة عن عروة ، أنه كتب إلى عبد الملك بن مروان : أما بعد ؛ فإنه ـ يعني رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لما دعا قومه ... وعصم الله منهم من شاء ... ، أمرهم أن يخرجوا إلى أرض الحبشة . [الطبري ، تاريخ 2/328 .].
ويَرِد إسناد آخر مماثل عن هجرة المسلمين إلى أرض ( يثرب) ، ولكن آخر الإسناد هو :
عن عروة أنه قال ... [الطبري ، تاريخ 2/366 .]، ولم يذكر أنه كتبه إلى عبد الملك أو غيره.
وكذلك يورد عروة بالإسناد نفسه جوابًا مكتوبًا للخليفة عبد الملك عن وقعة بدر الكبرى ، ضمَّنَه بعض الآيات القرآنية ، المتعلقة بغزوة بدر الكبرى ، ويشغل هذا النص قرابة أربع صفحات [الطبري ، تاريخ 2/421-424 .].
وثَمَّة رسائل أخرى دَوَّنَها الطبري في تاريخه ، يرويها هشام بن عروة ، عن أبيه ، منها ما يتعلق بخبر فتح مكة ، ومنها بخبرِ غزوةِ حنين ، وآخر عن غزوة الطائف وغيرها .
وكذلك أورد ابن هشام في السيرة ـ من رواية الزهري ـ : أن عروة كتب إلى ابن أبي هنيدة ، وكان يسأله عن آية المهاجرات بعد هدنة الحديبية ، وكان ابن أبي هنيدة صاحب الوليد بن عبد الملك .
وجاء السند كما يلي : ( قال ابن إسحاق : حدثني الزهري ، عن عروة بن الزبير ، قال : دخلت عليه وهو يكتب كتابًا إلى ابن أبي هنيدة ؛ صاحب الوليد ...). [ابن هشام ، السيرة 3/326 .].
ومن يُلْقِ نظرة على المقتبسات الواردة عند كُتَّاب السيرة والمؤرخين من مغازي عروة بن الزبير يلاحظ ما يأتي :
1 - أن عروة لم يكن يلتزم الإسناد - في الغالب - وذلك لأن النظرة إلى الإسناد في زمنه كانت لا تزال مرنة ، ولم تكن القواعد الدقيقة للإسناد قد ظهرت بعد. ، كالأمثلة التي وردت سابقًا [ ينظر : الدوري ، نشأة علم التاريخ ، ص 21 ، 74 .] .
2 - وهذا لا يعني أنه لم يذكر الإسناد في كل رواياته ، فقد ذكره في بعضها ، مثل ما ذكره عن حديث هجرة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فقد ذكر في وسط الخبر قوله :
( فأخبرتني عائشة : أنهم بينا هم ظهرًا في بيتهم ... ) [الطبري ، تاريخ 2/375 .].
وكذلك يورد الخبر نفسه برواية أخرى ؛ إذ ساقه الطبري عن : محمد بن إسحاق ، قال :
حدثني محمد بن عبد الرحمن ... قال : حدثني عروة بن الزبير، عن عائشة زوج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .فهذان الإسنادان عن السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها، وغيرهما كثير.
وكذلك أسند عروة عن عبد الله بن عباس ، فمثلاً ؛ فيما يتعلق بغزوة بدر ، جاء السند عند الطبري كما يلي : ( حدثني محمد بن مسلم الزهري ، وعاصم بن عمرو بن قتادة ، وعبد الله بن أبي بكر ، ويزيد بن رومان وغيرهم من علمائنا ، عن عروة عن عبد الله بن عباس ، كل قد حدثني بعض هذا الحديث ... ).. الطبري 2/427.
3 - وأحيانًا لا يذكر من يروي عنه ، ويكتفي ( أي عروة ) بقوله : ( فأُخبِرت ) ، مثال ما أورده الطبري عن فتح مكة ، فقد جاء في وسط الجواب الذي كتبه عروة إلى الخليفة عبد الملك عن هذه الحادثة قوله : ( فَأُخبِرت أنه - أي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال : من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ... الخ ) الطبري 3/55 ..
4 - وأحيانًا يورد آيات قرآنية يضمِّنها الخبر ؛ لاتصالها بالحديث الذي يرويه ، مثال ذلك ما ذكره عن أول من جهر بالقرآن بعد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمكة ، فقد جاء السند كالآتي : (... محمد بن إسحاق ، قال : حدثني يحيى بن عروة ، عن أبيه قال : كان أول من جهر بالقرآن ... عبد الله بن مسعود ... ) وغيرها الطبري 2/334-335 ..
5 - وكان في بعض الأحيان يورد الشعر ضمن الخبر التاريخي ؛ ذلك لأن عروة من رواة الشعر ومحبيه ولقد أورد الذهبي رواية عن ... أبي الزناد، قال : ( ما رأيت أروى للشعر من عروة ... ) ، كما يبرز دور الشعر في الحياة آنذاك. [ تراجم رجال ، ص 46 .].
6 - لم يقتصر اهتمام عروة على السيرة النبوية الشريفة في رواياته فحسب ، وإنما امتدت إلى تاريخ الخلفاء الراشدين ، فقد وردت مقتبسات كثيرة له - على سبيل المثال - عن عزم الخليفة أبي بكر رضي الله تعالى عنه على إنفاذ بعث أسامة ، على الرغم من حرج وضع المسلمين ، وخبر ردة بعض القبائل ، وما جرى بين خالد بن الوليد وأهل اليمامة ، وكذلك فيما يتعلق بقيادة الجيوش المتوجهة لفتح بلاد الشام، وخبر أجنادين ، ومرض الخليفة أبي بكر رضي الله تعالى عنه ووفاته ، وما يتعلق بواقعة القادسية ، وخبر ذهاب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه إلى (أيلة) في إحدى رحلاته إلى الشام، وخبر عن وقعة الجمل في خلافة علي رضي الله تعالى عنه ، وغيرها .[/SIZE]
التعديل الأخير تم بواسطة المهندس زهدي جمال الدين محمد ; 31-01-2008 الساعة 07:45 PM
-
دروس في أعلام السيرة النبوية الشريفة
الدرس الثاني
3ـ شرحبيل بن سعد (ت123ﻫ) : وهو أحد العلماء الذين لهم شأن في تاريخ سيرة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولد في أواخر عهد عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أو أوائل عهد عثمان رضي الله تعالى عنه ، ولقي جماعة كبيرة من الصحابة بالمدينة ، وأخذ عنهم الحديث خاصة، منهم : زيد بن ثابت، وأبو هريرة، وأبو سعيد الخدري، وغيرهم، وكان يكثر من التردد على زيد بن ثابت فيقيم عنده في الأسواف. [ابن سعد ، الطبقات 5/228 . ابن حجر ، تهذيب التهذيب 4/321].
وأشاد ابن سعد بمنزلته العلمية ، فقال : ( كان شيخًا قديمًا ... وله أحاديث ). [ابن سعد ، الطبقات 5/228].
أما عن أهميته في المغازي فيُروى عن سفيان ابن عيينة قوله في شرحبيل بأنه : ( لم يكن أحد أعلم بالمغازي والبدريين منه ).[ ابن حجر ، تهذيب التهذيب 4/321 .] .
غير أن بعض المؤرخين والمحدثين وقف منه موقف المتحفظ ؛ ذلك أن بعضهم قال عنه :
( يجعل لمن لا سابقة له ، له سابقة ). [ ابن حجر ، تهذيب التهذيب 10/361 .] .
لكن موسى بن عقبة دافع عنه أشد دفاع، ويذكر ابن حجر ذلك بقوله : فسمع بذلك موسى بن عقبة فقال : وإنَّ الناس قد اجترؤوا على هذا ؟!...[ ابن حجر، تهذيب التهذيب10/362 .].
وقد أخذ عنه ابن سعد خبرًا عن هجرة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، من قباء إلى المدينة ، دون أن يذكر لهذه الفقرة أيَّ إسناد.[ابن سعد ، الطبقات 1/160].
4ـ عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم (ت135 ﻫ) : أحد مشاهير الجيل الثاني من التابعين ، وهو أحد علماء الحديث ، وقد وجَّه عناية خاصة إلى المغازي ، وفي هذا دلالة واضحة على شدة ارتباط علم الحديث بالسيرة ( المغازي ) .
ولد عبد الله بن أبي بكر من أسرة مدنيَّة عريقة من الأنصار، ونشأ بالمدينة، وتعلم على كبار علمائها، منهم والده أبو بكر بن محمد، الذي كان من المحدثين، فشجَّع ابنه على دراسة الحديث، كما أخذ عن خالة أبيه ؛ عمرة بنت عبد الرحمن، وعن أنس، وسالم بن عبد الله بن عمر، ... وعروة بن الزبير، والزهري، وأبي الزناد وهم من أقرانه [ابن حجر ، تهذيب التهذيب 5/164-165 . السخاوي ، التحفة اللطيفة 2/302 .] . وروى عنه الزهري أيضًا ، وابن أخيه عبد الملك بن محمد ، وهشام بن عروة ، وفليح بن سليمان ، وابن إسحاق ، والسفيانان ، وابن لهيعة ، وابن علية ، وغيرهم [ابن حجر ، تهذيب التهذيب 5/164-165 . السخاوي ، التحفة اللطيفة 2/302 .].
كان عبد الله بن أبي بكر من مشاهير المحدثين في المدينة ، وقد وَثَّقَه كثير من العلماء والمحدثين ، فوصفه الإمام مالك بقوله : ( كان كثير الحديث ، وكان رجل صِدْق) [ابن حجر ، تهذيب التهذيب 5/165 .].
وقال ابن سعد : ( كان كثير الحديث عالمًا ... ) [الذهبي ، تراجم رجال ، ص 25 ].
وكذلك وثقه ابن معين ، وأبو حاتم ، والنسائي [ابن حجر ، تهذيب التهذيب 5/165 .]،.
توفي عبد الله في المدينة سنة 135 ﻫ ، ويقال سنة 130 ﻫ ، والأول أرجح . [الذهبي ، تراجم رجال ، ص 25 .]
ومن خلال المقتبسات الكثيرة - التي نقلت عن عبد الله بن أبي بكر - في كتب السيرة والتاريخ ، يمكن للباحث أن يتصور مدى الأثر الكبير الذي تركه عبد الله فيما يتعلق بالمغازي بخاصة ، وبتاريخ حياة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتاريخ صدر الإسلام عامة ، وكان من بين الروايات التي نقلت عنه : عند ابن إسحاق ، والواقدي ، وابن سعد ، والطبري .
إذ يرد في سيرة ابن هشام السند الآتي :( قال ابن إسحاق : حدثني عبد الله بن أبي بكر عن عمرة بنت عبد الرحمن بن سعد بن زرارة ، عن عائشة قالت : وذكر خبر الفيل ) [ابن هشام، السيرة ، 1/75 .].
ويتكرر السند نفسه عند الحديث عن خبر الإفك [الطبري ، تاريخ 2/611 .].
ويورد الطبري أيضًا خبر غزوات النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حديثًا مباشرًا ، نقله ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر وقد جاء كما يلي : ( ... عن محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر ، قال : كان جميع ما غزا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بنفسه ستًا وعشرين غزوة ، أول غزوة غزاها : ( ودان ) ، وهي غزوة الأبواء ، ثم غزوة ( بواط ) إلى ناحية ( رضوى) ، ثم غزوة العشيرة ، ثم أتى على ذكر الغزوات جميعًا .
ويورد خبر السرايا والبعوث كالآتي : ( ابن حميد قال : حدثنا سلمة قال : حدثني محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر قال : كانت سرايا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبعوثه - فيما بين أن قدم المدينة وبين أن قبضه الله - خمسًا وثلاثين سرية وبعثًا ... [الطبري ، تاريخ 3/154-156 . قارن : ابن هشام ، السيرة 2/609 ، ويذكر أنها (38) غزوة .].
وفي هذا دليل على مراعاة الترتيب الزمني في الحوادث ، ومنها الغزوات والسرايا والبعوث في عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ولم يقنع عبد الله بجمع الأخبار التي وصل إليها ، فحاول أيضًا في هذا الزمن المبكر أن يبتكر الترتيب السنوي للحوادث ، فجمع قائمة بغزوات النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرتبة ترتيبًا سنويًا ، استعاره ابن إسحاق لكتابه .
وإلى جانب اهتمامه بالرواية التاريخية فقد حفظ عبد الله بعض المدونات النبوية التاريخية ، مثل الوثيقة التي أعطاها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جدَّه الأكبر عمرو بن حزم ليأخذها معه حين بعثه إلى أهل ( نجران ) ليفقههم في الدين [ابن هشام ، السيرة 2/594].
وقد جاء عند ابن هشام والطبري ذكر إرسال ( عمرو بن حزم ) إليهم - كما أشرنا سابقًا - وأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( كتب له كتابًا ؛ عَهِدَ إليه فيه عَهْده ، وأمره فيه بأمره : بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا بيان من الله ورسوله{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ }المائدة1، عهد من محمد النبي رسول الله ( لعمرو بن حزم ) ، بعثه إلى اليمن ... ) [ ابن هشام ، السيرة 2/594-595 . الطبري ، تاريخ 3/128 . مع فرق بسيط في بعض الألفاظ .] ، والكتاب ( الرسالة ) التي كتبها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى ملوك حمير، وقد جاءت هي وكتاب ( عمرو بن حزم ) بالسند نفسه:( حدثني محمد بن إسحاق ، عن عبد الله بن أبي بكر قال : قدم على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتاب ملوك حمير مَقْدَمه من تبوك ... فكتب إليهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( من محمد رسول الله إلى الحارث بن عبد كلال ...) [الطبري ، تاريخ 3/120 .]. وعرف عنه أنه روى بعض الشعر ، لا سيما ما رواه عن حسان بن ثابت شاعر الرسول.
وخلاصة القول فإن عبد الله بن أبي بكر كان من السابقين إلى الاهتمام بالمغازي ، وقد راعى فيها - كما أشرنا - الترتيب الزمني ، وهذا ما يجعله من أوائل الذين وضعوا المنهج الحَولِيّ في التاريخ الإسلامي ، عند مطلع القرن الثاني قد عُنِي - فضلاً عن ذلك - بالأخبار ، إلى جانب الروايات الشفهية الكثيرة التي نقلت عنه ، وبحكم علاقته الجيدة بابن إسحاق ؛ فقد اعتمد عليه الأخير في نقل الأخبار وأكثر من الرواية عنه .[ ينظر : شاكر مصطفى ، التاريخ العربي والمؤرخين ... ، ط2 ، دار العلم للملايين ، بيروت 1979 ، ص 156 .].
5ـ عاصم بن عمر بن قتادة (ت120 ﻫ وقيل 129 ﻫ) : هو عاصم بن عمر بن قتادة بن النعمان بن زيد بن عامر ، من بني ظفر من الأوس ، أبو عمر المدني، من أسرة مدنية عريقة من الأنصار ، كانت من السابقين للإسلام ، وكان جده ممن شارك في معركة بدر إلى جانب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فهو من طلائع المسلمين في المدينة ، وكان والده عمرو بن قتادة من رواة الحديث ، ولم يتقلد منصبًا رسميًا ، ولم يكن من الموسرين [ابن هشام ، السيرة 1/687 .].
ولم نقف على سنة ولادة عاصم بن عمر ، الذي نشأ في المدينة وأخذ عن مشاهير علمائها من الصحابة مثل : جابر بن عبد الله ، ومحمود بن لبيد ، وجدته رُمَيثــَة ولها صحبة ، وأنس والحسن بن محمد بن الحنفية وعلي بن الحسن وغيرهم.
وروى عنه من مشاهير العلماء : زيد بن أسلم ، ومن كتاب السيرة والمؤرخين محمد بن إسحاق ، وأبو الأسود يتيم عروة ، ويعقوب بن أبي سلمة الماجشون وغيرهم، وقد وفد على الخليفة عمر بن عبد العزيز بدمشق، وكان قد احتاج إلى المال، فطلب منه أن يجلس في مسجد دمشق فيحدث الناس بالمغازي ومناقب الصحابة، ففعل. [ابن حجر ، تهذيب التهذيب 5/53-54 . الذهبي ، تراجم رجال ، ص 22 .] .
ويظهر أن سبب اختيار الخليفة عمر بن عبد العزيز عاصمًا لهذه المهمة ؛ هو كونه من أهل العلم بالمغازي ، فقد وصفه ابن سعد بذلك ، وقال : (كان راوية للعلم ، وله عِلم بالمغازي والسيرة ... ) [ابن حجر ، تهذيب التهذيب 5/54-55 . الذهبي ، تراجم رجال ، ص 22 .].
ولم يمكث عاصم في دمشق طويلاً ، فقد عاد إلى المدينة ؛ يحدث الناس ما يقرب من عشرين عامًا.
وثَّقَهُ كثير من العلماء ، قال ابن سعد : (كان ثقة كثير الحديث عالمًا ، وذكره ابن حبان البستي في الثقات ، وقال البزاز : ثقة مشهور ، ووثقه أبو زرعة وابن معين ... ) [ابن حجر ، تهذيب التهذيب 5/54 . الذهبي ، تراجم رجال ، ص 22 .].
روى ابن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة الكثير من الروايات المتعلقة بالسيرة النبوية ، فمن العهد المكي ؛ نذكر خبرًا عن إنذار يهود برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وقصة إسلام سلمان رضي الله تعالى عنه، وخبرًا عن عرض النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نفسَه على العرب في المواسم، وقصته مع سويد بن صامت، وإسلام الأنصار في العقبة الأولى، وخبرًا عن بيعة العقبة الثانية، وكلام العباس بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه فيها، وغير ذلك.
وتسلسل هذه الأخبار عند ابن هشام على النحو الآتي : السيرة 1/211 ، 214 ، 425 ، 428 ، 434 ، 507 ، 524-525 ، 584 ، 606 ، 625 ، 627 ، 643 . .
وكذلك نقل عنه ابن إسحاق روايات وأخبارًا تتعلق بالعهد النبوي من السيرة النبوية ، مثل : خبرٍ عن نقابة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لبني النجار، وأخبار تتعلق بأمر المنافقين في المدينة، وروايات تتعلق بمعركة بدر الكبرى، وخبر عن نقض بني قينقاع للعهد مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأخبار تتعلق بغزوة أحد ، وقائمة بمن استشهد فيها من المسلمين، ومقتل خبيب بن عدي، وأخبار عن غزوة الخندق، وعن غزوة بني قريظة ، وما يتعلق بغزوة بني لحيان ، وأخبار عن غزوة حنين ، ولقاء هوازن ، وعن غزوة تبوك ، وغير ذلك.
و تسلسل هذه الروايات عند ابن هشام على النحو الآتي : السيرة 1/507 ، 524-525 ، 584 ، 606 ، 625 ، 627 ، 643 ، 2/47 ، 60 ، 67 ، 82 ، 122 ، 172-173 ، 214 ، 223 ، 227 ، 240 ، 283 ، 292 ، 442 ، 443 ، 445 ، 498 ، 516 . .
وكذلك أخذ الواقدي عن عاصم بن عمر بن قتادة الكثيرَ من الأخبار المتعلقة بالمغازي النبوية.
[ينظر : الواقدي ، المغازي ، الصفحات على سبيل المقارنة : 49 ، 55 ، 59 ، 75 ، 125 ، 148 ، 158 ، 251 ، 447 ، 515 ، 541 ، 733 ، 1025 ، 1029 ، وغيرها .] .
ويُلاحظ على منهج عاصم في السيرة : أنه لا يهتم كثيرًا بالسند في رواياته ، مع أنه أَسْنَدَ عن جماعة ممن تأخرت وفاتهم من الصحابة ، وأن معظم مصادر رواته هم من الأنصار، أمثال : محمود بن لبيد، وأنس بن مالك، وعبد الله بن كعب بن مالك ، وعبد الرحمن بن جابر بن عبد الله ، وغيرهم. [ينظر لذلك ما أورده ابن هشام ، السيرة 1/214 ، 219 ، 2/87 ، 280 ، 281 ، 242 ، 498 ، 522 ، 526 ، وغيرها .].
وأنه يورد في بعض الأحيان أشعارًا يُضمِّنها رواياته.[عن هذه المقاطع الشعرية ينظر : ابن هشام ، السيرة 2/280 ، 503 ، 514 .].
ويُلاحظ - أيضًا - أن جلَّ اهتمام عاصم بن عمر بأخبار الأنصار؛ محاولاً إبراز موقفهم المشرف، والأعمال البطولية التي قدموها للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المعارك، واستشارته لهم ، وحبَّ الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للأنصار، والتوصيةَ بهم خيرًا في آخر خطبة له قبل مماته ، فهو إذًا يهتم بتاريخ الجماعات ، لا الأفراد.
-
الدرس الثالث
6ـ ابن شهاب الزهري :
يُعَدُّ الإمام الزهري من أبرز المؤرخين المسلمين ؛ الذين أرَّخوا لسيرة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل البعثة وبعدها، وأشدُّ عناية الزهري كانت في المغازي؛ إذ توسع فيها ، وعني بها عناية كبيرة، وقد وردت إشارة لدى البيهقي إلى تأليف الزهري في المغازي بقوله :( ... حدثنا محمد بن فليح عن موسى بن عقبة عن ابن شهاب قال : هذه مغازي رسول الله ، فذكر الحديث ... ) [ البيهقي ، السنن الكبرى 6/55 .].
وعند الوقوف على المقتبسات التي وردت عن الزهري ، في مجال السيرة النبوية بخاصة، وتاريخ صدر الإسلام بعامة ، يلاحظ ما يلي :
أنَّ دراسات الزهري التي تناولت حياة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سواء منها ما قبل البعثة أو بعدها - قد أعطت أول إطار واضح للسيرة ، وأنه رسم خطوطها بجلاء ، فترك لمن بعده أن يكمل هذا الإطار في التفاصيل فقط .
أَنَّه راعى التسلسل الزمني للحوادث في تاريخ عصر النبوة ، فقد أورد روايات تتعلق بحياة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، من الولادة إلى الوفاة ، منها رواية تتعلق بحمل آمنة بنت وهب به ، ووفاة والده عبد الله عند أخواله في ( يثرب ) ، وأخرى عن نسب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ثم ما يتعلق بحوادث لها أهميتها في حياة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل البعثة ؛ كحلف الفضول ، وبناء الكعبة ، وزواجه من خديجة رضي الله عنها ، ونزول الوحي ... إلى غير ذلك . [ابن هشام السيرة 1/72 . الطبري ، تاريخ 2/239 وما بعدها .].
ثم يلي ذلك روايات تتعلق بحالة الدعوة الإسلامية في العهد المكي : مثل أول من أسلم ، ومعاملة قريش للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمسلمين الأوائل ، ومحاولة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نشر الدعوة بين قبائل أخرى ، والهجرة إلى الحبشة ، وقصة الإسراء والمعراج ، والمقاطعة ، وبيعة العقبة وبداية انتشار الإسلام في المدينة. [الطبري ، تاريخ 2/348-350 . قارن : ابن هشام ، السيرة 1/424 وما بعدها .].
ثم تأتي الروايات المتعلقة بالفترة المدنية، بَدءًا بحديث الهجرة ، وبناء المسجد، وحالة المهاجرين في المدينة ..وهناك تركيز على المغازي وتفصيل لسرية عبد الله بن جحش ، وعدد المشاركين فيها ، ومعلومات عن العلاقة مع اليهود ، وغزوة بدر وتفاصيلها. ، ثم بقية الغزوات ... إلى أن ينتهي بحجة الوداع ، ثم مرض النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ووفاته ودفنه وغير ذلك .[ ينظر على سبيل المثال : الواقدي ، المغازي 181 ، 250 ، 519 ، 795 ، 890 ، 1076 . ابن هشام ، السيرة 2/214 ، 297 ، 390 ، 585 وغيرها .].
كما أَنَّه راعى الإسناد في تحقيق الأحاديث والروايات المتعلقة بالسيرة وتاريخ صدر الإسلام ، لذا كان موقفه من الإسناد يُعَدُّ متينًا في عصره ...
وقد شهد له بذلك الإمام مالك بن أنس فقال :( أول من أسند الحديث ابن شهاب). [ابن أبي حاتم ، تقدمة الجرح والتعديل، ص 20 .].
ونُقل عن الزهري أنه كان يعتب على عدم إسناد الناس للحديث.[ ينظر : السباعي ، مصطفى حسني ، السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي ، القاهرة ، 1961 ، ص 293 .] .
وطريقة الإسناد عنده تختلف من موضع لآخر ؛ فهو أحيانًا يكتفي برواية أحد التابعين ، وفي أحيان أخرى يسمح بحرية أكثر ، فلا يركز على الإسناد ، لا سيما في الأحاديث التاريخية [مثال الأماكن التي أهمل فيها الإسناد : الواقدي ، المغازي 2/741 ، 752 ، 464 ، وغيرها . الطبري ، تاريخ 2/554 .]، وأحيانًا يطيل الإسناد بينه وبين الحدث الذي يرويه. [مثال طول السند ، الواقدي ، المغازي 2/725 .].
غير أن الخطوة المهمة والكبيرة هي اعتماده طريقة الإسناد الجمعي ،( وذلك بجمع عدة روايات في قصة سهلة متسلسلة يتقدمها رجال الإسناد، وهو بهذا خطا خطوة مهمة ، نحو الأخبار التاريخية المتصلة .. ، مثال ذلك روايته عن أربعة من كبار التابعين في رواية واحدة ، كلهم عن صحابي واحد ، جاء في ذلك : (عن محمد بن إسحاق عن الزهري عن علقمة بن أبي وقاص الليثي ، وعن سعيد بن المسيب ، وعن عروة بن الزبير ، وعن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، قال الزهري : كُلٌّ قد حدثني بعض هذا الحديث ، وبعض القوم كان أوعى له من بعض ... ).[ الواقدي ، المغازي 2/631-633 ، 3/889 . الطبري ، تاريخ 2/611 ، 2/621-624 .] .
كما أنَّ الزهري كان يكثر من إيراد الآيات القرآنية التي تتصل بالخبر التاريخي ، فأحيانًا تكاد الرواية التاريخية تكون تفسيرًا للآية ، مثال ذلك ما روي عنه قال : ( دخلت على عروة بن الزبير وهو يكتب إلى هنيدة صاحب الوليد بن عبد الملك ، وكان يسأله عن قول الله عز وجل :[ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُم مَّا أَنفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ{10}] الممتحنة:10. فكتب إليه : أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صالح قريشًا يوم الحديبية على أن يرد إليهم من جاء بغير إذن وليه ... فلما هاجر النساء أبى الله ذلك ... [الواقدي ، المغازي 2/631-633 .].
ثم يذكر بقية الرواية وهو يفسر مقاطع هذه الآية القرآنية إلى آخرها ، وما ترتب عليها بعد ذلك ، ثم نحو ذلك في روايته عن سعيد بن المسيب خبر بيعة الرضوان ( بيعة الشجرة ) وما نزل فيها ، وربطه بين الآية القرآنية وهذا الحدث .
ويمكن القول : إن هذه الروايات التي ذكرها الواقدي وغيره عن الزهري تظهر بجلاء أن دراسة القرآن - وهو حافل بالإشارات إلى شؤون المسلمين في المدينة - كانت عاملاً آخر في ظهور الدراسات التاريخية . [ينظر : الدوري ، نشأة علم التاريخ ، ص 94 .].
كما سربت مواد أخرى إلى روايات الزهري التاريخية ، فهناك شيء قليل من (القصص الشعبي) ، يلاحظ أثره في أماكن مختلفة ، مثال ذلك ما أورده الطبري في مواضع عدة ، منها خبر عن الزهري عن كاهن أسلم وقدم المدينة في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ، وخبر عن موقف ( هرقل ) من كتاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي قدم دِحْيَة الكلبي يدعوه فيه الرسول إلى الإسلام وغيرها[الطبري ، تاريخ 2/296] .
كما يورد الزهري أحيانًا بعض الأبيات الشعرية في رواياته ، وهذا طبيعي إذا تذكرنا أن الناس عامة كانوا يميلون للشعر ، وأنه كان عنصرًا أساسيًا في الثقافة من ذلك ما أورده من شعر في قصة مسير خالد إلى بني جذيمة بن مالك بعد فتح مكة ، سنة 8 هجرية.[الطبري ، تاريخ 3/68-89 . ابن كثير ، البداية والنهاية 9/343 .] .
ولم يقتصر الزهري في رواياته التاريخية على عهد النبوة ، بل امتد ليشمل عهد الخلافة الراشدة ، فقد تناول أحداث هذه الفترة بالتفصيل ؛ بَدءًا بانتخاب الخليفة أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه ، وبيعة السقيفة ، وخطبة الخليفة الصديق، ومرورًا بالأحداث المهمة في عهد الخلفاء الثلاثة : عمر بن الخطاب ، وعثمان بن عفان ، وعلي بن أبي طالب ، وينتهي برواياته التي غَطَّت هذه الفترة إلى عام الجماعة الذي شهد مفاوضات الحسن بن علي ، ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنه ، واتفاقهما على خلافة الأخير.[الطبري ، تاريخ 5/158 ، 5/62-164 . وينظر : الدوري ، نشأة علم التاريخ ص 96-97 .] .
أما ما يتعلق بالعهد الأموي ؛ فإنه وإن لم يعالج الأحداث التاريخية في هذا العهد ، إلا أنه أسهم ببعض الروايات التي تتعلق بأعمار الخلفاء الأمويين ، ومدة حكم بعضهم ، فيروى عن هشام بن الوليد المخزومي : أن الزهري كتب لجده أسنان الخلفاء ، فكان فيما كتب من ذلك : ومات يزيد بن معاوية وهو ابن تسع وثلاثين ، وكانت ولايته ثلاث سنين وستة أشهر في قول بعضهم ، ويقال ثمانية أشهر.
وآخر ما يذكره الطبري عن الزهري في أخبار العهد الأموي ، هو مدة خلافة الوليد فيقول : قال الزهري : ملك الوليد عشر سنين إلا شهرًا .[ المصدر السابق 6/495 .] .
وخلاصة القول : فإن الزهري يُعَدُّ من أوائل مُدَوِّني السيرة النبوية ، وقد شملت كتاباته - فضلاً عن المغازي - تاريخ صدر الإسلام ، والأنساب - التي عرف عنه سعة اطلاعه عليها وتأليفه بها - وجانبًا من التاريخ العربي الإسلامي في العهد الأموي .
وقد تابع جهودَ الزهري في السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي تلاميذه ، وأبرزهم في المدينة :
7ـ موسى بن عقبة (ت141ﻫ) :
هو موسى بن عقبة بن أبي عياش مولى بني الزبير بن العوام ، ولد بين عام 55-60ﻫ [ابن حجر ، تهذيب التهذيب 10/360 .] ، ونشأ في أسرة عرفت بالعلم في المدينة ، فقد كان لإبراهيم وموسى ومحمد بني عقبة حلقة في مسجد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وكانوا كلهم فقهاء ومحدثين ، وكان موسى يفتي .
كان ابن عقبة أحد أعلام التابعين ، أدرك ابن عمر ، وأنس بن مالك ، وسهل بن سعد ، وسمع من أم خالد بنت خالد الصحابية ، وأخذ عن جماعة من التابعين ، منهم : عروة بن الزبير ، ومحمد بن المنكدر ، وسالم بن عبد الله بن عمر ، والزهري ، ومحمد بن يحيى بن حبان , وغيرهم . [النووي تهذيب الأسماء 2/118. ابن حجر، تهذيب التهذيب 10/360-361 .].
وممن أخذ عنه يحيى بن سعيد الأنصاري ، وابن جريج ، ومالك ، والسفيانان ، وشعبة ، وابن أبي الزناد ، والدراوردي ، وابن المبارك ، وخلائق غيرهم. [النووي ، تهذيب الأسماء 2/118 . ابن حجر ، تهذيب التهذيب 10/360-361 .].
وكان يقال عن موسى : إنه إمام في المغازي، ونقل عن الإمام مالك بن أنس أنه أشاد بمغازيه، فقال : عليكم بمغازي الشيخ الصالح موسى بن عقبة ، فإنها أصح المغازي عندنا. [الرازي ، تقدمة الجرح والتعديل ، ص 22 . النووي ، تهذيب الأسماء 2/118 . ابن حجر ، تهذيب التهذيب 10/361 .].
ويُعَدُّ موسى بن عقبة من أوائل من ألف بالمغازي، وقد حَدَّثَ بمغازيه ابن أخيه إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة ، المتوفى عام 158 ﻫ .[ابن سعد ، الطبقات 5/310 .].
عُمِّرَ موسى بن عقبة حتى توفي في خلافة المنصور سنة 141 ﻫ . [خليفة، الطبقات ، 267 . النووي ، تهذيب الأسماء 2/118 . ابن حجر، تهذيب التهذيب 10/362 .].
إنَّ كثرة النقولات والمقتبسات عن مغازي ابن عقبة لدى المؤرخين تدل دلالة واضحة على أهمية هذا الكتاب ، فقد نقل عنه ابن سعد الكثير من الأخبار، وذلك عن طريق استخدامه لكتاب موسى بن عقبة ، من رواية ابن أخيه إسماعيل، ويستنتج منه : أن كتاب موسى كان يحتوي على أسماء المهاجرين إلى الحبشة ، ومن حضر بيعتي العقبة ، وأهم من ذلك كله من شهدوا بدرًا، وقد وثقت قوائم موسى بن عقبة عن البدريين أكثر من غيرهم ، فيروى أن الإمام مالك بن أنس قال عنها : من كان في كتاب موسى قد شهد بدرًا فقد شهدها ، ومن لم يكن فيه فلم يشهدها ... [ابن حجر ، تهذيب التهذيب 10/361 .].
كذلك أخذ عنه الطبري بعض أخبار السيرة ، وبعض أخبار الخلفاء الراشدين والأمويين ، مثال ذلك خبر إرسال حملة أسامة سنة 11 ﻫ ، ورواية أخرى عن العطاء في خلافة عمر رضي الله تعالى عنه ، وخبر عن الفتنة في عهد عثمان رضي الله تعالى عنه ، وآخر ما يُروى عنه خبر عن عمرة جده لأمه ( أبو حبيبة ) في سنة 91 ﻫ ، وكان قد وَلَّى على مكة خالد بن عبد الله القسري، من قِبَل الخليفة الوليد.[الطبري ، تاريخ ( على التوالي ) : 3/227 ، 4/213 ، 366 ، 464-465 .].
كذلك نقل عنه صاحب كتاب الأغاني خبرًا عن زيد بن عمرو، الذي عُرف أنه كان من الموحدين في الجاهلية .[الأصفهاني ، الأغاني 3/16 .].
ويمكن أن نشير إلى الملاحظات الآتية ، عن منهج موسى بن عقبة في تدوين السيرة النبوية :
إنه وضع قوائم بأسماء الصحابة المهاجرين إلى الحبشة ، والمشاركين في بيعة العقبة ، والذين شهدوا بدرًا ... وغيرهم ، وهذا يعد من السوابق التاريخية .[ ابن حجر ، تهذيب 10/361 . وينظر : نصار ، نشأة التدوين ، ص 54 . شاكر ، التاريخ والمؤرخون ، ص 159 .].
كما أن نظام الإسناد عنده كان قاعدة ، وأكثر من أسند عنه هو جده لأمه ( أبو حبيبة ) ، فقد روى عنه حوادث متأخرة وقعت عام 91 ﻫ .[الطبري ، تاريخ 6/464 .] .
كما أنه قد أكثر من الرواية عن الزهري ، حتى قيل : كتاب موسى بن عقبة عن الزهري من أصح هذه الكتب . [ ابن حجر ، تهذيب التهذيب 10/361 .] .
كما كان في بعض الأحيان يستعين بمدونات موجودة عنده ، بمثابة وثائق أصلية يحتفظ بها ، وقد قال موسى بن عقبة في ذلك : ( وضع عندنا كريب ( مولى ابن عباس ) حمل بعير، أو عدل بعير من كتب ابن عباس ، قال : فكان علي بن عبد الله بن عباس إذا أراد الكتاب كتب إليه : ابعث إليَّ بصحيفة كذا وكذا ، قال : فينسخها فيبعث إليه بإحداهما ... كما كان لديه نصوص أخرى - قد تكون أصلية - كالرسالة التي وجهها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المنذر بن ساوى .
وضع مادته التاريخية وفق تسلسل زمني حولي ، مثل الذي فعله عبد الله بن أبي بكر بن حزم ، وبذلك يكون قدم لمدرسة المدينة خدمة جليلة في تطور التدوين التاريخي.[ قارن : شاكر : التاريخ والمؤرخون ، ص 159 . نصار ، نشأة التدوين التاريخي ، ص 55 .] .
لم يكن يستشهد بالشعر إلا نادرًا في مروياته ، أو مدوناته التاريخية.[ ابن سعد ، الطبقات (3/241 . ] .
-
الدرس الرابع
8ـ محمد بن إسحاق (ت151 ﻫ) : محمد بن إسحاق بن يسار المُطَّلِبِيّ ، المدني ، أبو بكر ، وقيل : أبو عبد الله ، المحدث ، صاحب السيرة ، يعد أبرز علماء عصره في السيرة والتاريخ ، وهو عمود المدرسة المدنية ، وقد غطت شهرته كل المصنفين في المغازي ، سواء من سبقه أو عاصره , ولا يوجد دليل قاطع على تاريخ ولادته ، ويرجح أنها حوالي سنة 85 ﻫ ، وكان جده يسار من أهل ( عين التمر ) في العراق ، ولما حرر المسلمون هذه المدينة أُخذ أسيرًا ، وساقته الأقدار ليصبح مولى لقيس بن مخرمة بن المطلب بن عبد مناف ، لذا فقد نسب ابن إسحاق إلى هذه الأسرة ، فقيل : المُطَّلِبيّ ، مولاهم .[ ابن سعد ، الطبقات 6/275 . خليفة ، الطبقات ، ص 270 ، 326 . الخطيب ، تاريخ بغداد 1/214 .].
مكث محمد بن إسحاق في المدينة ما يقرب من ثلاثين عامًا ، يتلقى العلوم المختلفة على شيوخها ، فقد أدرك كثيرًا من التابعين وأخذ عنهم ، منهم : أستاذه ابن شهاب الزهري ، وعبد الله بن أبي بكر بن حزم ، والقاسم بن محمد ، وأبان بن عثمان ، ومحمد بن علي بن الحسين ، وأبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف ، وعبد الرحمن بن هرمز ، ونافع مولى عبد الله بن عمر ، ويزيد بن رومان الأسدي ، ويحيى بن سعيد الأنصاري ، وهشام بن عروة ، وعاصم بن عمر بن قتادة ، وصالح بن كيسان المدني ، وغيرهم كثير [الخطيب ، تاريخ بغداد 1/214 . ابن حجر ، تهذيب التهذيب 9/38-39 .].
وروى عنه جماعة منهم : يحيى بن سعيد الأنصاري ، ويزيد بن أبي حبيب ، وهما من شيوخه ، وجرير بن حازم ، وإبراهيم بن سعد ، وابن عون ، وشعبة ، والسفيانان ، وابن إدريس ، وزياد البكائي ، وسلمة بن الفضل ، ويونس بن بكير ، والثلاثة الأخيرون هم أشهر رواة السيرة عنه .
برز محمد بن إسحاق في علوم عدة ، منها : علم الحديث ؛ الذي يبدو أنه أول العلوم التي اهتم بها ، ولا سيما أن والده كان محدثًا ، أما هو فقد ذكر عن إبراهيم بن حمزة قال : كان عند إبراهيم بن سعد عن ابن إسحاق نحو من سبعة عشر ألف حديث [ابن حجر، تهذيب التهذيب 9/41 .] .
شهد له العلماء بالأولية في الحديث ، يقول علي بن المديني : مدار حديث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ستة ، فذكرهم ، ثم قال : فصار علم الستة عند اثني عشر ، أحدهم ابن إسحاق ...[الخطيب ، تاريخ بغداد 1/219 . ابن سيد الناس ، عيون الأثر 1/8 .].
وقد أشاد بعلمه شيخه الزهري ، يقول أبو بكر الهذلي : سمعت الزهري يقول : لا يزال بالمدينة عِلْمٌ جَمٌّ ما كان فيهم ابن إسحاق. [الخطيب ، تاريخ بغداد ، 1/219 .].
غير أن أهم علم تميز به هو : علم المغازي والسير ، ولقد أثنى عليه العلماء لما برز به في هذا العلم واشتهر ، يقول الإمام الشافعي : من أراد أن يتبحَّر في المغازي ، فهو عيال على محمد بن إسحاق [المصدر السابق 1/219 . السيوطي ، طبقات الحفاظ ، ص 82 .] .
وروي عن علي بن المديني قال : سمعت سفيان يقول : قال ابن شهاب - وسئل عن مغازيه - فقال : هذا أعلم الناس بها ، ويعني ابن إسحاق.[ الخطيب ، تاريخ بغداد 1/219 . ابن سيد الناس ، عيون الأثر 1/8-9 . وقد --- دفاعه عن ابن إسحاق في المصدر نفسه 1/10-17 .] ، وقد وصفه ابن النديم بأنه ( صاحب السيرة ). [ابن النديم ، الفهرست ، ص 105 .].
والحق ما قاله هؤلاء عن هذا العالم في المغازي والسيرة ، فقد وصلت إلينا عنه أقدم سيرة تكاد تكون محفوظة بكاملها .
وقد أطلق على هذه السيرة المتكاملة عدة أسماء ، فقد سمى ابن سعد كتابه ذلك باسم : ( كتاب المغازي ) ، بينما سماه ابن النديم : ( كتاب السيرة والمبتدأ والمغازي ).[ابن النديم ، الفهرست ، ص 105 .]، وهو عند المقدسي : ( كتاب المبتدأ أو المغازي ).[ المقدسي ، البدء والتاريخ 1/84 .].
وأما ما ذكره الخطيب البغدادي، فإنه يدل على أن ما ألفه ابن إسحاق هو كتاب واحد، وذلك بطلب الخليفة المنصور، قال : ( صنف محمد بن إسحاق هذا الكتاب في القراطيس).[الخطيب ، تاريخ بغداد 1/221 .].
والراجح أنه ألف كتابين منفصلين ، أحدهما : المبتدأ ، والآخر : السيرة.[ ينظر : الدوري ... ، دراسة في سيرة النبي ومؤلفها ابن إسحاق ، مطبعة العاني ، بغداد ، 1965 ، ص 13 .] .
ويمكن أن نَعُدَّ كتابه في السيرة قسمين ، الأول : المبعث ، والثاني : المغازي . وهذا التقسيم أسلم ؛ لأن كتابه الأول الخاص بالمبتدأ يكاد يكون مستقلاً عن الثاني ، الذي ينصب على دراسة السيرة النبوية ؛ ( حياة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل الهجرة وبعدها )، وسيأتي توضيح دلالات هذا التقسيم بعد قليل .
منهجيته في تأليف السيرة : عُرف عن محمد بن إسحاق : أنه جمع بين أسلوبين في الكتابة التاريخية ، هما : أسلوب المحدِّثين ، وأسلوب الإخباريين ( القصاص ) ، وهذا بحد ذاته يعد خروجًا عن منهج مدرسة المدينة التاريخية ، الذي كان يعتمد أسلوب المحدِّثين فقط .
ومن إلقاء نظرة سريعة على تآليفه نتبين الملاحظات الآتية :
في كتاب المبتدأ :
أ ـ الذي بدأ فيه منذ الخليقة حتى نزول الوحي على النبي محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يأخذ مقتبسات كثيرة فيه عن وهب بن منبه ، وروايات تنسب إلى ابن عباس ، وعلى مصادر يهودية ومسيحية ، ونص الكتاب المقدس نفسه ، فضلاً عن رجوعه إلى آيات القرآن الكريم .
ب ـ ويتميز هذا الكتاب بالأسلوب القصصي، فقد ركَّز فيه على القصص التاريخي ، كقصص الأنبياء مثلاً ، وقصة أصحاب الأخدود ، وقصة أصحاب الفيل ... ، وقد حفظ لنا الطبري بعض هذه القصص من المبتدأ في تاريخه وتفسيره ، وبخاصة ما يتعلق بقصص الأنبياء.[الطبري ، تاريخ 1/140 ، 145 ، 148 ، 254 ، 274 ، 209 ، 322 ، 366 ، 385 ، 433 ، 443 ، 464 ، 536 ، 2/24 ، 32 ، 148 ، وغيرها . وينظر : ما أورده ابن هشام عن أجداد الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وديانة أهل مكة : السيرة 1/76 وما بعدها] .
ج ـ إن هذا الكتاب يغطي فترة طويلة ، تبدأ من آدم ( قصة الخليقة ) ، وتنتهي إلى الفترة القريبة من البعثة ؛ حيث الكلام فيها عن ديانة أهل مكة ، وأجداد الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [الطبري ، تاريخ 1/140 ، 145 ، 148 ، 254 ، 274 ، 209 ، 322 ، 366 ، 385 ، 433 ، 443 ، 464 ، 536 ، 2/24 ، 32 ، 148 ، وغيرها . وينظر : ما أورده ابن هشام عن أجداد الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وديانة أهل مكة : السيرة 1/76 وما بعدها] .
د ـ كما يُنظر إليه أنه ينقسم إلى فصول : الأول : من أحداث الخليقة إلى عيسى ، أو إسماعيل عليه السلام ، والثاني : تاريخ اليمن في العصور القديمة ، ويحتوي على قصة أصحاب الأخدود ، وقصة أصحاب الفيل ... وغير ذلك ) ، والثالث : يتناول الحديث عن القبائل العربية ، وعبادة الأصنام ، أما الرابع : فقد خصَّصه لأجداد الرسول صلى الله علي وسلم ، والديانة في مكة [ينظر : ابن هشام ، السيرة 1/76 ، 91 ، 110 . نصار ، نشأة التدوين ، ص 66 .].
ويُسجل على كتاب المبتدأ : عدم وجود الإسناد إلا نادرًا ، لا سيما ما يتعلق بأحداث الخليقة ، وقصص الأنبياء .
ﻫ ـ وأخيرًا فإن كتاب المبتدأ حُفظ في بطون الكتب التاريخية ، فقد أورد الطبري أجزاء منه في التاريخ والتفسير - كما سبقت الإشارة - ، وأورد المقدسي قطعة منه في كتابه ( البَدء والتاريخ ) ، تتعلق بخلق آدم ، واختتم القطعة بقوله : ( هذا كله من قول محمد بن إسحاق صاحب المبتدأ والمغازي).[المقدسي ، البدء والتاريخ 2/83-84 .].
وكذلك حفظ الأزرقي في تاريخ مكة أخبارًا تتعلق بإبراهيم الخليل ، وولده إسماعيل وأبناء إسماعيل ، وأخبار خزاعة ، وقصي - الجد الأعلى للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، ومسألة نصب الأصنام في الكعبة ، وحديث الفيل ، ... وغير ذلك.[ الأزرقي ، تاريخ مكة ، مثال ذلك : 1/22 ، 39 ، 64 ، 67 ، 73 ، 82 ، 96 ، وغيرها .].
أما كتاب المغازي :
الذي يتضمَّن أحداث عهد النبوة في المرحلتين المكية والمدنية، فيلاحظ عليه ما يأتي :
أ ـ إن في هذا القسم زيادة الاهتمام بالأسانيد ، ففي مرحلة المبعث يبدو الاهتمام أقلَّ ، ثم يزداد كثيرًا في أحداث العهد المكي ، وعند الحديث عن الغزوات ، مثال ذلك : في أخبار المبعث ؛ أورد ابن إسحاق سندًا كاملاً عند حديثه عن ابتداء نزول جبريل عليه السلام على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، في حين تجاهل إيراد السند عند حديثه عن فترة الوحي، وعند حديثه عن عدوان المشركين على المستضعفين ممن أسلم، وفي أحيان أخرى يكتفي بقوله : ( حُدِّثتُ عن فلان ( كابن عباس ) مثلاً - ) ، وفي مواضع يقف في سنده عند التابعي ، دون أن يرفعه إلى الصحابي ، فمثلاً عند حديثه عن قصة استماع قريش إلى قراءة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قوله : ( وحدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري أنه حُدِّث : أن أبا سفيان ، وأبا جهل ..).
ويزداد اهتمامه بالسند في أحداث الغزوات - كما أسلفنا - فمثلاً عند حديثه عن غزوة بدر الكبرى ، يرتفع عدد السند إلى أربع طرق؛ من صغار التابعين، عن أحد كبار التابعين، عن الصحابي ... فهو يقول :
( حدثني محمد بن مسلم الزهري، وعاصم بن عمر بن قتادة، وعبد الله بن أبي بكر، ويزيد بن رومان( كلهم )عن عروة بن الزبير... عن ابن عباس... كلٌّ قد حدثني بعض هذا الحديث فاجتمع حديثهم ... ). [ابن هشام ، السيرة 1/235 وما بعدها .].
ب ـ كان ابن إسحاق في بعض الأحيان لا ينسب الخبر إلى أحد، أي يبقي مصدر الخبر مجهولاً، فترد عنه عبارات مثل : ( حدَّثني من لا أتَّهم، أو : حدثني بعض من يروي الحديث، أو: فزعم بعض أهل الرواية، أو : وحُدِّثت ، أو : فزعموا [هذه النصوص - على سبيل المثال - هي على التوالي : ابن هشام ، السيرة 1/156 ، 157 ، 195 ، 197 ، 209 .] . وكان ذلك مجالاً لنقد الناقدين لابن إسحاق، لا سيما من المحدِّثين؛ الذين يهمهم ذكر مصدر الخبر أو الحديث [ينظر : الخطيب ، تاريخ بغداد 1/220 . أيضًا : الدوري ، دراسة في سيرة النبي ، ص 19 .] .
ج ـ إن الذين روى عنهم ابن إسحاق جُلُّهم مدنيون ، وأهمهم : الزهري ، وعاصم بن عمر بن قتادة ، وعبد الله بن أبي بكر بن محمد ، وهؤلاء الثلاثة هم عماد رواياته في السيرة ، حتى قيل : ( إن قلب مغازي ابن إسحاق يتألف من أحاديث الزهري ، وعروة ، وعاصم بن عمر بن قتادة ، وعبد الله بن أبي بكر). [ الدوري ، دراسة في سيرة النبي ، ص 17 .] .
وأكثر من رَوى عنه من بين هؤلاء هو الزهري، فهو يكثر من عبارة : ( حدثني الزهري ... ) أو : ( حدثني محمد بن مسلم الزهري ).. أو : ( سألت ابن شهاب الزهري ...)..
أو : ( وذكر ابن شهاب الزهري ... ) [ أمثلة ذلك : ابن هشام ، السيرة 1/372 ، 434 ، 683 ، 712 ، 2/3 ، 8 ، 207 ، وغيرها .].
وكذلك أخذ عن نافع مولى عبد الله بن عمر، وعن الزبيريين ، مثل هشام ويحيى ابني عروة بن الزبير، وعمر بن عبد الله ، ويحيى بن عباد ، ومحمد بن جعفر ، وهم جميعًا أبناء إخوة عروة بن الزبير، وأخذ كثيرًا عن مولى آل الزبير، مثل يزيد بن رومان مولى عروة ، ووهب بن كيسان مولى الزبيريين أيضًا [الخطيب ، تاريخ بغداد 1/214-215 . ابن حجر ، تهذيب التهذيب 11/325 .] .
د ـ اتبع محمد بن إسحاق في عرضه للغزوات المنهج التفصيلي ، فهو يذكر أسباب الغزوة ، مع ملخص للمحتويات في المقدمة ، ثم يتبعه خبرًا جماعيًا ، مؤلفًا من أقوال أوثق شيوخه، ويورد أخبارًا فردية حدثت في الغزوة تتعلق ببعض الأفراد المشتركين بها، ويضمنها آيات قرآنية ، وأشعارًا، وغير ذلك .
ﻫ ـ يورد قائمة بأسماء المشاركين في الغزوات حسب عشائرهم وبطونهم ، مع شيء من التفصيل في المعارك الأولى ، وقائمة أخرى لمن استشهد منهم ، ومن أُسِر في معركة بدر ، وأخرى لمن شارك فيها من المسلمين ، ومن استشهد منهم فيها ، فضلاً عن جداول بأسماء المشاركين فيها من المشركين ، ومن أسر منهم فيها .
ثم جداول أخرى ؛ منها جداول بشهداء أحد من المسلمين ، وأخرى بقتلى المشركين ، وشهداء المسلمين بالخندق ، وقتلى المشركين، وأخرى بمن استشهد من المسلمين بخيبر ، وأخرى بالمهاجرين الذين رجعوا من الحبشة بعد فتح خيبر .
و ـ كان يروي الشعر ضمن الأخبار التي يوردها في كتابيه : ( المبتدأ ) و ( المغازي ) ، وإذا سلمنا ببعض ما ورد من شعر في مرحلة المغازي ؛ فإن ما ورد من شعر في أخبار المبتدأ يكاد يكون بعيدًا عن الصحة ، ولذلك فإن بعض القدامى انتقدوا ابن إسحاق على ذلك، ومنهم محمد بن سلام الجمحي الذي يقول عن ابن إسحاق : ( كان من علماء الناس بالسير، فنقل الناس عنه الأشعار، وكان يعتذر منها ويقول : لا عِلْم لي بالشعر، إنما أُوتَى به فأحمله ، ولم يكن ذلك له عذرًا ، فكتب في السير من أشعار الرجال الذين لم يقولوا شعرًا قط ، وأشعار النساء ... ثم جاوز ذلك إلى عاد وثمود ، أفلا يرجع إلى نفسه فيقول : مَن حَمَل هذا الشعر ومن أداه منذ ألوف السنين ؟ ) [ابن سلام ، طبقات الشعراء ، ص 4 .]، والله تعالى يقول :
[ وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الْأُولَى{50} وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى{51}] النجم:50ـ 51 .
وذهب لمثل هذا ابن النديم إذ يقول : ( ويقال : كان يُعمل له الأشعار ، ويُؤتَى بها ، ويُسألُ أن يدخلها في كتابه في السيرة فيفعل ، فضَمَّن كتابه من الأشعار ما صار به فضيحة عند رواة الشعر ...) [ابن النديم ، الفهرست ، ص 105 .].
وقد حفظ الطبري بعض القصائد التي ذكرها ابن إسحاق من عهد عاد وثمود في كتاب المبتدأ [الطبري ، تاريخ 1/220-221 ، 223-224 ، وغيرها .].
ز ـ أما ابن هشام فقد حذف الكثير من هذا الشعر في تهذيبه لسيرة ابن إسحاق.[ينظر : الدوري ، دراسة في سيرة النبي ، ص 21-22 .] ، وذكر بعضًا منها وبيَّن رأيه فيها ، فهو عندما يورد الشعر الذي رُثِيَ به عبد المطلب عندما حضرته الوفاة من قبل بناته قال ـ أي ابن هشام ـ : ( ولم أرَ أحدًا من أهل العلم بالشعر يعرف هذا الشعر ...).[ابن هشام ، السيرة 1/169 .]، ويؤخذ على ابن إسحاق أيضًا : نقله عن أهل الكتاب ، ويسميهم في كتابه : ( أهل العلم الأول ) [ ابن النديم ، الفهرست ، ص 105 .] .
والواقع فإنه رغم الملاحظات التي ذُكرت عن سيرة ابن إسحاق إلا أنها ـ قياسًا على ما كتب في السيرة النبوية ـ أتمُّ هذه الأعمال وأشملُها وأفضلُها ؛ لتوثيقه لها بإسناد الروايات ، وحسن العرض والتنظيم، وما تضمنت من القوائم الكثيرة، وما حوت من الوثائق والأشعار، وقد قيل في عمله هذا : إن جمع هذه المادة وحدها وترتيبها جهد كبير، وإن كان سبقه في ذلك أُناس، ولكنه ربما لا يكون أول من عرض جميع فترات النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ باتساع في كتابه فحسب ؛ بل وسَّع أيضًا تلك الترجمة ؛ بجعلها تاريخًا للرسالة عامة ، وأدخل فيها حياة الأنبياء المتقدمين أيضًا .
وقد وصلت إلينا كتب ابن إسحاق في السيرة : ( المبتدأ ) و ( المغازي ) ، عن طريق رواة عديدين، بعضهم ضاعت رواياتهم ؛ كإبراهيم بن سعد المدني الزهري ، ومحمد بن عبد الله بن نمير النفيلي، المتوفى سنة 234 ﻫ بحران[ابن النديم ، الفهرست ، ص 105] ، ومن الروايات ما بقي، فأشهر النسخ المروية عن تلاميذه هي نسخة زياد بن عبد الله البكائي (ت183 ﻫ) فقد اعتمد ابن هشام على هذا المؤلف، فهذَّبه ونقَّحه بحيث صار المعول عليه.[السخاوي ، الإعلان ، ص 526 ( ضمن علم التاريخ) .] .
واعتمدها كل من الطبري واليعقوبي من المتقدمين ، والسهيلي في الروض الأنف ، وغيره من المتأخرين، كما اعتمد الطبري على راو آخر لسيرة ابن إسحاق، هو : سلمة بن الفضل (ت191 ﻫ) ، وثَمَّة راوية ثالث منهم، هو : يونس بن بكير الشيباني (ت199ﻫ) وروايته هي التي اعتمدها الحاكم النيسابوري في المستدرك، وابن الأثير في ( أُسد الغابة ), وابن حجر العسقلاني في( الإصابة ) .
معلومات الموضوع
الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
المواضيع المتشابهه
-
بواسطة المهتدي بالله في المنتدى فى ظل أية وحديث
مشاركات: 45
آخر مشاركة: 16-12-2010, 05:43 AM
-
بواسطة طه محمود السيد في المنتدى منتدى الكتب
مشاركات: 5
آخر مشاركة: 10-08-2008, 08:10 PM
-
بواسطة المهندس زهدي جمال الدين محمد في المنتدى شبهات حول السيرة والأحاديث والسنة
مشاركات: 1
آخر مشاركة: 11-11-2006, 10:26 PM
-
بواسطة المهتدي بالله في المنتدى المنتدى الإسلامي
مشاركات: 28
آخر مشاركة: 01-01-1970, 03:00 AM
الكلمات الدلالية لهذا الموضوع
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى
المفضلات