الدليل علي أن العورة واحدة
ونسوق فيما يأتي الدليل علي أن العورة واحدة , وذلك من كلام أئمة أعلام متقدمين من جميع المذاهب , وقد سبق ذكر تواريخ وفيات أولئك الأعلام ومنها نتبين مدي تقدمهم.فإنه ما تحدث الفقهاء المتقدمون عن ستر العورة في الصلاة , وهو أحد شروط صحة الصلاة أو أحد واجباتها , إلا وكان حديثهم يدور دائماً حول عورة النظر, وكانت الأدلة التي يسوقونها علي تحديد العورة التي تستر في الصلاة هي ذاتها أدلة عورة النظر من قرآن وسنة ، وهذه نماذج من أقوالهم , وقد سبق ذكر بعضها:
• قال ابن هبيرة الحنبلي في الإفصاح: ( كتاب الصلاة...باب ذكر حد العورة... وقال أحمد في إحدي روايتيه: كلها عورة إلا وجهها وكفيها والرواية الأخري: كلها عورة إلا وجهها).
( كتاب النكاح... اتفقوا علي أن من أراد تزويج إمرأة فله أن ينظر منها ما ليس بعورة... وقد سبق بياننا لحد العورة في كتاب الصلاة).
انظر كيف يقرر ابن هبيرة أن حد العورة في النظر هو حدها الذي بينه في الصلاة.
• قال ابن قدامة الحنبلي في المغني: ( ستر العورة عن النظر بما لا يصف البشرة واجب وشرط لصحة الصلاة).
الكلام هنا علي أمرين , أولهما: ستر العورة عن النظر- وهي العورة المعهودة- وأنه واجب في عامة الأحوال , وثانيهما: أن سترها شرط لصحة الصلاة).
• قال النووي الشافعي في روضة الطالبين وعمدة المفتين: ( الشرط الخامس: ستر العورة , ويجب في غير الصلاة في غير الخلوة , وفي الخلوة أيضا علي الأصح).
هنا موضوع البحث ستر العورة باعتبارها شرطا من شروط صحة الصلاة ومع ذلك يقرر النووي أن هذا الستر واجب في غير الصلاة.. إذن هي عورة واحدة تستر في الصلاة وفي غير الصلاة).
• قال النووي في المجموع: ( أما حكم المسألة فستر العورة عن العيون واجب بالإجماع.. فإن احتاج إلي الكشف جاز أن يكشف قدر الحاجة فقط).
وهكذا بدأ النووي البحث في باب(ستر العورة) بحكم سترها في عامة الأحوال أي عورة النظر, ثم أخذ في بحث ستر العورة في حال الصلاة.
فقال النووي: ( وأما حكم المسألة فستر العورة شرط لصحة الصلاة , فإن انكشف شئ من عورة المصلي لم تصح صلاته.... وسواء في هذا الرجل والمرأة, وسواء المصلي في حضرة الناس والمصلي في الخلوة).
• وقال الشيرازي الشافعي في المهذب : ولو كان الوجه والكف عورة لما حرم سترهما , ولأن الحاجة تدعو إلي إبراز الوجه للبيع والشراء و إلي إبراز الكف للأخذ والعطاء فلم يجعل ذلك عورة.
ومثل هذا التعليل ذكر في كثير من الكتب الفقهية , فهل هذه الأقوال تحمل علي الصلاة في غير حضرة الرجال؟!!!
• وقال ابن عبد البر المالكي في "الكافي" : ( أقل ما يجزي المرأة الحرة في الصلاة ما يواريها كلها إلا وجهها وكفيها,وإحرامها في ذلك في حجها وعمرتها وما سوي ذلك فهو عورة ).
هنا ربط ابن عبد البر بين ستر العورة في الصلاة وسترها في الإحرام وأكد أنها عورة واحدة وهي عورة النظر , لأن الستر في الإحرام ستر لعورة النظر.
• وقال ابن عبد البر: ( والمرأة عدا وجهها وكفيها عورة بدليل أنها لا يجوز لها كشفه في الصلاة, وقال أيضا: وتؤمر بكشف الوجه والكفين في الصلاة فدل علي أنهما غير عورة منها).
• وقال ابن عبد البر في التمهيد بعد أن ذكر تفسير ابن عباس وابن عمر لآية: {إلا ما ظهر منها} بالوجه والكفين:
" وعلى قول ابن عباس وابن عمر الفقهاء في هذا الباب. قال (هذا ما جاء في المرأة وحكمها في الاستتار في صلاتها وغير صلاتها".
تأمل قوله:" وغير صلاتها"!
• وقال ابن رشد في بداية المجتهد: (... حد العورة في المرأة: أكثر العلماء علي أن بدنها كله عورة ما خلا الوجه والكفين ... ومن رأي المقصود من ذلك (أي من قوله تعالي {ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها} ما جرت به العادة بأنه لا يستر وهو الوجه والكفان و ذهب إلي أنهما ليسا بعورة.واحتج لذلك بأن المرأة ليست تستر وجهها في الحج)
الكلام هنا علي ستر العورة في الصلاة وحد هذه العورة , والأدلة تتعلق بعورة النظر سواء الآية الكريمة {ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها} أو تأويلها بقوله : (ما جرت العادة بأنه لا يستر) والعادة هنا تفيد عامة أحوال المرأة لا حال الصلاة خاصة.كما أن الاحتجاج بأن المرأة ليست تستر وجهها في الحج يشير إلي عورة النظر , لأن الستر في الإحرام ستر لعورة النظر.
• وقال المرغيناني الحنفي في "الهداية" : (...بدن الحرة كله عورة إلا وجهها وكفيها لقوله عليه الصلاة والسلام (المرأة عورة مستورة) واستثناء العضوين للإبتلاء بإبدائهما ).
الكلام هنا علي ستر العورة في الصلاة والدليل في الاستثناء هو الابتلاء بالإبداء.وهذا الابتلاء يكون في حياة المرأة حين تلقي الرجال في عامة الأحوال لا في الصلاة , أي الدليل يتعلق بعورة النظر.
• قال الخازن (ت سنة 725هـ): ( وإنما رخص في هذا القدر أن تبديه من بدنها لأنه ليس بعورة وتؤمر بكشفه في الصلاة).
• قال الجصاص ( ت سنة370هـ): ( ويدل علي أن الوجه والكفين ليسا بعورة أيضا أنها تصلي مكشوفة الوجه واليدين ، فلو كانا عورة لكان عليها سترهما كما عليها ستر ما هو عورة).
• قال الطبري (ت سنة370هـ):{وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ} يقول تعالـى ذكره:{وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ}التـي هي غير ظاهرة بل الـخفية منها, وذلك الـخَـلـخال والقُرط والدُّمْلُـج، وما أُمرت بتغطيته بخمارها من فوق الـجيب، وما وراء ما أبـيح لها كشفه وإبرازه فـي الصلاة وللأجنبـيـين من الناس، والذراعين إلـى فوق ذلك، إلاّ لبعولتهنّ.
تأمل قوله:"في الصلاة وللأجنبيين"
///
يقول ابن تيمية: ( فليست العورة في الصلاة مرتبطة بعورة النظر لا طرداً ولا عكساً.. فقد يستر المصلي في الصلاة ما يجوز إبداؤة في غير الصلاة، وقد يبدي في الصلاة ما يستره عن الرجال, فالأول: مثل المنكبين فإن النبي صلي الله عليه وسلم نهي أن يصلي الرجل في الثوب الواحد ليس علي عاتقه منه شئ, فهذا لحق الصلاة ، ويجوز به كشف منكبيه للرجال خارج الصلاة.
وعكس ذلك: الوجه واليدان والقدمان بالنسبة للمرأة ليس لها أن تبدي ذلك للأجانب علي أصح القولين.. بل لاتبدي إلا الثياب وأما ستر ذلك في الصلاة فلا يجب باتفاق المسلمين بل يجوز لها إبداؤهما في الصلاة عند جمهور الفقهاء).
الجواب عن هذا:
• قال ابن قدامة: ( ويجب أن يضع المصلي علي عاتقه شيئا من اللباس إن كان قادراً علي ذلك وهو قول ابن المنذر ...وقال أكثر الفقهاء: لا يجب ذلك ولايشترط لصحة الصلاة, وبه قال مالك والشافعي وأصحاب الرأي لأنهما ليسا بعورة فأشبها بقية البدن. ولنا ما روي أبو هريرة عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال: ( لايصلي الرجل في الثوب الواحد ليس علي عاتقه منه شئ), ووجه اشتراط ذلك: أنه منهي عن الصلاة مع كشف المنكبين، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه، ولأنها سترة واجبة في الصلاة فالإخلال بها يفسدها كستر العورة... فإن لم يجد إلا ما يستر عورته أو منكبيه ستر عورته... لأن الستر للعورة واجب متفق علي وجوبه متأكد، وستر المنكبين فيه من الخلاف والتخفيف ما فيه فلا يجوز تقديمه).
• وقال الكلوذاني: ( ومن لم يجد ما يستر عورته أو منكبيه ستر عورته).
• وقال مجد الدين ابن تيمية: ( ولا يجزئ الرجل ستر عورته إذا جرد عاتقيه من اللباس في الفرض , وفي النفل روايتين).
• قال شمس الدين ابن قدامة الحنبلي في الشرح الكبير (ت سنة682هـ) : ( إذا لم يجد المصلي إلا ما يستر عورته فحسب بدأ بها وترك منكبيه، لأن ستر العورة متفق علي وجوبه وستر المنكبين مختلف فيه، ولأن ستر العورة واجب في غير الصلاة ففيها أولي).
هنا يقرر موفق الدين ابن قدامة والكلوذاني ومجد الدين ابن تيمية وشمس الدين ابن قدامة أن ستر المنكبين في الصلاة هو أمر يضاف إلي ستر العورة وليس هو من العورة من قريب أو بعيد , فالعورة هي المعروفة المعهودة ، وسترها واجب علي الدوام في الصلاة وخارجها وفي الفريضة والنافلة.
وفي كلام أولئك الفقهاء علي ستر المنكبين في الصلاة وتقريرهم أنه أمر يضاف إلي ستر العورة ما يكفي لتفنيد حجة تقي الدين ابن تيمية التي يسوقها للتدليل علي التمييز بين عورة الصلاة وعورة النظر.
ومما يؤكد ضعف استدلال ابن تيمية علي التفرقة بين عورة الصلاة وعورة النظر :
• قول ابن دقيق العيد (سنة702 هـ) في شرح عمدة الأحكام :.. هذا النهي معلل بأمرين، أحدهما: أن في ذلك تعري أعالي البدن ومخالفة الزينة المسنونة في الصلاة. والثاني: أن الذي يفعل ذلك إما أن يشغل يده بامساك الثوب أو لا ، فإن لم يشغل خيف سقوط الثوب وانكشاف العورة , وإن شغل كان فيه مفسدتان...والأشهر عند الفقهاء خلاف هذا المذهب، وجواز الصلاة بما يستر العورة).
• وقول الشوكاني في نيل الأوطار : ... المراد أنه لا يتزر في وسطه ويشد طرفي الثوب في حقويه، بل يتوشح بهما علي عاتقيه فيحصل الستر من أعالي البدن وإن كان ليس بعورة ، أو لكون ذلك أمكن في ستر العورة).
والخلاصة أن ستر العاتقين ليس بواجب وهو مذهب الجمهور وبدليل قوله صلي الله عليه وسلم لجابر بن عبد الله : (فإن كان واسعا فالتحف به , وإن كان ضيقا فأتزر به) , وكون أن يكون علي العاتقين شيء من الثوب ليس من أجل أن العاتقين عورة , بل من أجل تمام اللباس وشد الإزار علي العاتقين حتي لا يسقط فتنكشف العورة , فيكون ستر العاتقين هنا مرادا لغيره لا مرادا لذاته.
المفضلات