النقاب بين الجاهلية والإسلام
قالت أم عمرو بنت وقدان:
إن أنتم لم تطلبوا بأخيكم......فذروا السلاح ووحشوا بالأبرق
وخذوا المكاحل والمجاسد والبسوا......نقب النساء فبئس رهط المرهق
وقال الحطيئة:
طافت أمامه بالركبان آونة......ياحسنه من قوام ما منتقبا
وقال النابغة الجعدي يصف غزالا:
وخدا كبرقوع الفتاة ملمعا......وروقين لما يعدوا أن تقشرا
وقال توبة الخفاجي:
وكنت إذا ما زرت ليلي تبرقعت......فقد رابني منها الغداة سفورها
وقد رابني منها صدود رأيته......وإعراضها عن حاجتي وبسورها
قيل لليلي: ما الذي رابه من سفورك؟ قالت: كان يلم بي كثيرا فأرسل إلي يوما أني آتيك. وفطن الحي فأرصدوا له ، فلما أتاني سفرت عن وجهي فعلم أن ذلك لشر ، فلم يزد علي التسليم والرجوع.
ليلي تحرص علي لبس النقاب في ساعات الصفاء والبهجة لأن فيه ترفها وتجملا. ثم نراها في ساعة الخطر والحرج تخلع النقاب لأن الموقف لايحتمل ترفها ولا تجملا، هذا فضلا عن حاجتها إلي تحذير صاحبها من خطر محدق.
هذه الأبيات من الشعر الجاهلي تؤكد أن النقاب كان معروفا عند بعض العرب قبل الإسلام ، وأنه كان طرازا من لباس المرأة وزينتها ولما جاء الإسلام لم يأمر به ولم ينه عنه وتركه لأعراف الناس.
كذلك كان الجلباب والخمار من لباس الجاهلية وهذه بعض الأمثلة:
قالت جنوب أخت عمر ذي الكلب ترثيه:
تمشي النسور إليه وهي لاهية......مشي العذاري عليهن الجلابيب
وقال قيس بن الخطيم:
كأن القرنفل والزنجبيـل......وذاكـي العبـير بجلبـابها
وقال بشر بن أبي خازم يصف بياض غرة فرسه:
يظل يعارض الركبان يهفـو......كأن بياض غرتـه خمـار
وقالت الخنساء:
يطعن الطعنـة لا يرقئهـا......رقية الراقي ولا عصب الخمر
فرضت شريعة الإسلام لبس كل من الخمار والجلباب في نصوص صريحة من الكتاب الكريم والسنة المطهرة ، بينما ذكر النقاب لم يرد علي لسان رسول الله غير مرة واحدة وفي مناسبة حظره علي المرأة المحرمة , قال: ( لا تنتقب المحرمة).
حظر النقاب في الإحرام ودلالته:
• عن عبد الله بن عمر قال : يارسول الله ماذا تأمرنا أن نلبس من ثياب في الإحرام؟ فقال النبي صلي الله عليه وسلم : لاتلبس القمص ولا السراويلات ولا العمائم ولا البرانس إلا أن يكون أحد ليست له نعلان فليلبس الخفين وليقطع أسفل الكعبين ولاتلبسوا شيئا مسه زعفران ولا ورس ولا تنتقب المحرمة ولا تلبس القفازين.( رواه البخاري).
الحديث يفيد أن محظورات الإحرام سواء علي الرجل أو علي المرأة كلها نهي عن الترفه والتجمل واستدعاء للتشعث, وفي ذلك يقول الباجي صاحب المنتقي شرح الموطأ: ( المحرم ممنوع من الترفه... وأمر بالتشعث). وهذا يعني أن النقاب كان نوعا من التجمل والترفه ألفه بعض النساء شأنه في ذلك شأن العمامة والبرنس والسراويل والخف بالنسبة للرجال، وقد وردت جميع هذه الطُرز في سياق واحد في الحديث.
تشعث : من شعث الشعر تغير وتلبد وشعث فلان رأسه وبدنه : اتسخ
وتشير أقوال وردت لبعض الفقهاء من أعلام المذهب الحنبلي أن النقاب كان لباس تجمل , نورد بعضها فيما يأتي:
قال أبو القاسم الخرقي ( ت سنة 344هـ): ( وتجتنب الحادة النقاب لأن المحرمة تمنع منه فأشبه الطيب ).
وقال القاضي أبو يعلي: ( كره أحمد النقاب للمتوفي عنها زوجها )
وقال ابن قدامة: ( مما تجتنبه الحادة النقاب وما في معناه مثل البرقع ونحوه ، لأن المعتدة مشبهة بالمحرمة تمنع من ذلك).
ونخلص من ذلك أن النقاب كان طراز في الزي اختاره بعض النساء منذ الجاهلية ، وتعارف الناس عليه وربما اعتبروه من سمات المرأة المصونة أو كمال الهيئة, لكنه لم يكن عرفا عاماً صالحاً عند جميع العرب الذين بعث فيهم رسول الله , إذ لو كان عرفاً عاماً صالحاً وخاصة لذوات الصون والعفاف لكان البيت النبوي أولي بهذا العرف الصالح منذ الأيام الأولي من البعثة وحتي نزول آية الحجاب ، ولكان ذلك من القرائن الدالة علي أن التنقب مندوب.
ولما كان شأن النقاب كذلك أردنا أن نعرض بعض صور التطبيق التاريخي , أي نوعا من الدراسة الاجتماعية لهذا الطراز في اللباس نتبين منها أهم معالم استعماله: من كان يلبس النقاب؟ كثرة أم قلة؟ لماذا كان يلبس؟ متي كان يلبس ومتي كان يخلع؟ لهذا أقدمنا علي عرض مجموعة من النصوص – رغم ضعف سندها أو جهالته - بصفتها مجرد شواهد تاريخية نأتنس بدلالاتها المختلفة في تحديد أهم خصائص النقاب والعادات المرتبطه به.
• عن عبد الله بن عمر قال: لما اجتلي النبي صلي الله عليه وسلم صفية رأي عائشة متنقبة وسط النساء فعرفها.(رواه ابن سعد في الطبقات)
• عن صفية بنت شيبة قالت:رأيت عائشة طافت بالبيت وهي منتقبة.(رواه ابن سعد في الطبقات)
نساء النبي صلي الله عليه وسلم بعد فرض الحجاب كن إذا خرجن غطين وجوههن وهذا أمر ثابت بغير هذه النصوص.
أورد البخاري الخبر الآتي معلقا :
أجاز سمرة بن جُنْدَب شهادة امرأة متنقبة.
هذا الخبر يذكر واقعة عين كانت المرأة فيها متنقبة وهذا يشير إلي أن الستر بنقاب كان معروفا في ذلك الزمن ولكن علي سبيل القلة أو الندرة , ولذلك ذكره الراوي وصرح به , ولو كان الستر هو السائد لما كان هناك داع ليذكره الراوي.
• عن قيس بن شماس قال:جاءت امرأة إلي النبي صلي الله عليه وسلم يقال لها أم خلاد وهي منتقبة تسأل عن ابنها وهو مقتول , فقال لها بعض أصحاب النبي صلي الله عليه وسلم : جئت تسألين عن ابنك وأنت منتقبة! فقالت:إن أرزأ ابني فلن أرزأ حيائي.فقال رسول الله: ابنك له أجر شهيدين.قالت: ولم ذاك يا رسول الله؟ قال: لأنه قتله أهل الكتاب.(رواه أبو داود)
هذا الحديث يفيد أن الانتقاب كان مجرد طراز في اللباس اعتاده البعض وليس سترا واجبا بأمر الشارع.ويؤكد هذا المعني أنه كان من المتعارف عليه خلعه في بعض الأحوال التي تقتضي اجتناب الترفه,كحال الحزن لوفاة عزيز كما هو واضح في هذا الحديث. فقد تعجب الصحابة من حضور المرأة منتقبة وهي ثكلي. وظل هذا العرف ماضيا في مجتمع المسلمين حتي قال بعض أئمة الحنابلة كما مر بنا باجتناب المرأة الحادة النقاب طول مدة الإحداد.
أما قول المرأة: ( إن أرزأ ابني فلن أرزأ حيائي) فليس دليلا علي غياب الحياء عن النسوة اللاتي لا ينتقبن, إنما تعبر عن شعور من ألفت النقاب, فمثلها تستحيي عادة إذا خلعته, كما يستحيي الرجل الذي ألف تغطية رأسه إذا كشفه, إلا إذا غلبها أو غلبه الحزن أو غيره من المشاعر الغامرة.ولو كان الأمر مندوبا لبين رسول الله للصحابة خطأهم وأنكر عليهم إنكارهم علي المرأة فعل الأفضل.
الحديث لا نستنبط منه حكما شرعيا لأنه ضعيف الإسناد كما ذكر الألباني في كتابه جلباب المرأة المسلمة,لكن نعتبره شاهدا تاريخيا علي عادة من عادات بعض نساء العرب قبل الإسلام وبعده.
• عن عبد الله بن الزبير قال:لما كان يوم الفتح أسلمت هند بنت عتبة ونساء معها وأتين رسول الله وهو بالأبطح فبايعنه.فتكلمت هند فقالت: يا رسول الله , الحمد لله الذي أظهر الدين الذي اختاره لنفسه , لتنفعني رحمك.يا محمد ,إني امرأة مؤمنة بالله مصدقة برسوله.ثم كشفت عن نقابها وقالت:أنا هند بنت عتبة.فقال رسول الله:مرحبا بك. (رواه ابن سعد في الطبقات)
هذا الحديث يعتبر شاهدا تاريخيا علي أنه كان من المعروف خلع النقاب دون حرج إذا شاءت المرأة أن تعرف بنفسها.وهذا يؤكد أن الانتقاب كان طراز من اللباس يحقق قدرا من إخفاء شخصية المرأة , فضلا عما فيه من الترفه والتجمل , كما يؤكد أن الانتقاب ليس سترا واجبا بأمر الشارع ولو كان سترا واجبا لأنكر رسول الله علي هند بنت عتبة خلعها النقاب.
ملاحظة :
لم نقف علي نص واحد صحيح , فيما تيسر لنا الاطلاع عليه من كتب السنة يشير إلي أن امرأة صحابية سترت وجهها لأمر ما بعد أن كان مكشوفا.كذلك لم نقف علي نص واحد صحيح إلي أن امرأة كشفت وجهها لأمر ما بعد أن كان مستورا.وكذلك لم نقف علي نص واحد صحيح يشير إلي أن رجلا رأي امرأة ما وذكر أنه لم يعرفها بسبب ستر وجهها.
المفضلات