3. النبي المنتظر:
في كل العصور لأعمال السحر والعرافة وكل أنواع التنبُّؤ جاذبيَّتها الخاصة حتى يومنا هذا، وفي أكثر البلاد تقدُّمًا ومعرفة، لهذا كان لابد من تقديم عمل فائق يشبع احتياجات الإنسان ويكشف عن أسرار المستقبل. لهذا أعلن موسى النبي في خطابه الوداعي عن مجيء السيِّد المسيح الذي وحده يحمل النفس كما إلى السماء لترى الأبواب مفتوحة، وتجد لها موضعًا في حضن الآب. بهذا تستقر النفس وتستريح، وتنتظر في رجاء يوم الرب العظيم حيث يتمتَّع الإنسان بكليَّته بالشركة في المجد الأبدي. وكأنَّه يليق بالمؤمن في العهد القديم أن يكرِّسوا طاقاتهم لمعرفة المستقبل نحو رؤية مجيء المسيا مخلِّص العالم؛ وبمؤمني العهد الجديد بانتظار مجيئه ليحملهم إلى مجده.
جاء "كلمة الله" الذي هو "حكمة الله" لنقتنيه، فنرى المستقبل واضحًا، بل نذوق عربونه بروح الفرح والتهليل.
مع عظمة شخصيَّة موسى النبي الذي احتمل الشعب قرابة أربعين عامًا، ذاق فيها الكثير من غلاظة قلوبهم، حمل قلبًا كبيرًا يتَّسع لكل الشعب، وقد أعطاه الرب صنع الآيات والعجائب بصورة لم يكن ممكنًا ألاَّ يتوقَّع الشعب قيام نبي مثله. لقد وجَّه موسى النبي أنظار الشعب إلى مجيء السيِّد المسيح من وسطهم، وكان من الصعب أن يدرك كمال شخصيَّته، وإن أدركها يصعب أن يقدِّمها للشعب.
"يُقيم الرب إلهك نبيًا من وسطك من اخوتك مثلي، له تسمعون" [15].
هنا وعد بمجيء "النبي". كاد الشعب أن يعبد موسى النبي بعد موته، لذلك أخفى ميخائيل رئيس الملائكة جسده، وصارع مع إبليس الذي أراد إظهاره لينحرف الشعب عن عبادة الله إلى عبادة موسى. فلو قال موسى أن القادم أعظم منه لظنُّوا وجود إلهين، إذ لم يكن ممكنًا لهم إدراك الأقانيم الإلهيَّة، لهذا قال: "مثلي". بتجسُّده صار إنسانًا، فصار مثله.
أولاً: يقول "من وسطك"، أي من وسط إسرائيل وليس من أمة أخرى كما يحاول البعض ادعاء ذلك. أكَّد السيِّد المسيح ذلك بقوله للسامريَّة: "لأن الخلاص هو من اليهود" (يو 4: 22). ويقول القدِّيس يوحنا: "جاء إلى خاصته وخاصته لم تقبله" (يو 1: 11).
تحدَّث بطرس الرسول مع جمع اليهود بعد العنصرة عن شخص المسيح، قائلاُ:
"ويرسل يسوع المسيح المبشر به لكم قبل.
الذي ينبغي أيضًا أن السماء تقبله إلى أزمنة ردّ كل شيء التي تكلَّم عنها الله بفم جميع
أنبيائه القدِّيسين منذ الدهر.
فإن موسى قال للآباء إن نبيًا مثلي سيُقيم لكم الرب إلهكم من اخوتكم.
له تسمعون في كل ما يكلِّمكم به.
ويكون أن كل نفسٍ لا تسمع لذلك النبي تُباد من الشعب.
وجميع الأنبياء أيضًا من صموئيل فما بعده جميع الذين تكلَّموا سبقوا وأنبأوا بهذه الأيَّام"
(أع 3: 20-24).
وفي خطاب رئيس الشمامسة إسطفانوس الوداعي عن شخص المسيح قال: "هذا هو موسى الذي قال لبني إسرائيل نبيًا مثلي سيُقيم لكم الرب إلهكم من اخوتكم له تسمعون" (أع 7: 37). ويقول الإنجيلي يوحنا: "فلمَّا رأى الناس الآية التي صنعها يسوع (إشباع الجموع) قالوا إن هذا هو بالحقيقة النبي الآتي إلى العالم" (يو 6: 14).
ثانيًا: بقوله "نبيًا من وسطك" ميَّزه عن بقيَّة الأنبياء، إذ وُجد في كل العصور أنبياء كثيرون. هنا يقصد "النبي" الذي وحده يستطيع القول: "أنا هو نور العالم" (يو 8: 22)، الكلمة الذي به تكلَّم الآب معنا (يو 1: 1؛ عب 1: 2).
ثالثًا: يقول: "مثلي"، فإنَّه وإن كان رب الأنبياء لكنَّه صار مثل موسى.
· كان موسى يتحدَّث مع الله بطريقة فائقة، إذ قيل عنه: "إن كان منكم نبي للرب فبالرؤيا استعلن له، في الحلم أكلِّمه، أمَّا عبدي موسى فليس هكذا، بل هو أمين في كل بيتي. فمًا إلى فم وعيانًا أتكلَّم معه لا بالألغاز، وشبه الرب يعاين" (عد 12: 6-8). "ولم يقم بعد نبي في إسرائيل مثل موسى الذي عرفه الرب وجهًا لوجه" (تث 34: 10). أمَّا بالنسبة ليسوع المسيح، ابن الله وكلمته، فإنَّه في الآب والآب فيه (يو 14: 10). إدراكه لإرادة الآب كاملة (يو 5: 20-21).
· موسى مقدِّم الشريعة لإسرائيل ومخلِّصهم من عبوديَّة فرعون، والمسيح هو معلِّم البشريَّة ومخلِّص العالم من عبوديَّة إبليس.
· موسى مؤسِّس التدبير الجديد للشعب بآيات وعجائب فائقة، والمسيح جاء إلى العالم ليُقيم العهد الجديد بقوَّته الإلهيَّة الفائقة.
· كان موسى أمينًا لكن كعبدٍ (عد 12: 7)، وأمَّا المسيح فهو الابن الوحيد الجنس. "موسى كان أمينًا في كل بيته كخادم شهادة للعتيد أن يتكلَّم به، وأمَّا المسيح فكابن على بيته، وبيته نحن إن تمسُّكنا بثقة الرجاء وأفكاره ثابتة إلى النهاية" (عب 3: 5-6).
· قام موسى وسيطًا بين الله وشعبه كما رأينا في (تث 5: 5)، أمَّا السيِّد المسيح فهو الوسيط الذي وهو واحد مع الآب في ذات الجوهر حملنا أعضاء في جسده، وصالحنا مع أبيه. "لأنَّه يوجد إله واحد، ووسيط واحد بين الله والناس الإنسان يسوع المسيح، الذي بذل نفسه فدية لأجل الجميع" (1 تي 2: 6-7). لكن شتَّان ما ين الوساطتين، الأول وسيط لنوال العهد الإلهي خلال خدمة الظلال وشبه السمويَّات، أمَّا الثاني فدخل بنا إلى السماء عينها. وكما يقول الرسول بولس: "الذين يخدمون شبه السمويَّات وظلِّها، كما أوحى إلى موسى وهو مزمع أن يصنع المسكن، لأنَّه قال اُنظر أن تصنع كل شيء حسب المثال الذي أُظهر لك في الجبل، ولكنَّه الآن قد حصل على خدمة أفضل بمقدار ما هو وسيط أيضًا لعهدٍ أعظم فقد تثبَّت على مواعيدٍ أفضل" (عب 8: 5-6).
· امتاز موسى النبي عن بقيَّة الأنبياء إنَّه تحدَّث مع الله فمًا لفمٍ (عد 12: 6-8)، أمَّا المسيح فهو في حضن الآب نزل إلى السماء يخبرنا عن الآب (يو 1: 18؛ 3: 13).
· موسى النبي صنع آيات وعجائب فائقة باسم الرب، أمَّا المسيح فصنع آيات كثيرة بأمرٍ منه، يشهد القدِّيس يوحنا عن العجز عن حصر أعمال المسيح خاتمًا إنجيله بالقول: "وأشياء أخر كثيرة صنعها يسوع إن كتبت واحدة واحدة فلست أظن أن العالم نفسه يسع الكتب المكتوبة" (يو 21: 25).
· قام موسى النبي بدور الملك والقائد، وجاء المسيح ملك الملوك ورب الأرباب (رؤ 19: 16؛ 1 تي 6: 16).
· لم يوجد في تاريخ البشريَّة كلَّها من قدَّم الشريعة الإلهيَّة سوى موسى النبي والسيِّد المسيح. تسلَّم موسى الشريعة حينما اضطرب الشعب وخافوا بسبب النار والجبل الذي يُدخِّن، أمَّا السيِّد المسيح فجاء يهب نعمة فوق نعمة، مقدِّمًا الحق والنعمة معًا (يو 1: 14).
رابعًا: يقول: "واجعل كلامي في فمه، فيكلِّمكم بكل ما أوصيه به" [18]. مع أن السيِّد المسيح هو بعينه كلمة الله، لكنَّه إذ تجسَّد خضع بالطاعة ليتمِّم إرادة أبيه عنَّا، التي هي واحدة مع إرادته. لهذا لا نعجب إنَّه إذ قالوا: "كيف هذا يعرف الكتب وهو لم يتعلَّم؟ أجابهم يسوع وقال: تعليمي ليس لي بل للذي أرسلني. إن شاء أحد أن يعمل مشيئته يعرف التعليم هل هو من الله أم أتكلَّم أنا من نفسي؟ من يتكلَّم من نفسه يطلب مجد نفسه، وأمَّا من يطلب مجد الذي أرسله فهو صادق وليس فيه ظلم" (يو 7: 15-18). إذن قد تحقَّق هذا الوعد العظيم وجاء "النبي"، يسوع المسيح العظيم مخلِّص العالم!
لا يمكن أن تنطبق العبارات التي نطق بها العظيم في الأنبياء إلاَّ على شخص السيِّد المسيح، إذ قيل عنه إنَّه مثله، وقد قيل عن موسى: "ولم يقم بعد نبي في إسرائيل مثل موسى الذي عرفه الرب وجهًا لوجه، في جميع الآيات والعجائب التي أرسله الرب ليعملها في أرض مصر بفرعون وبجميع عبيده وكل أرضه، وفي كل اليد الشديدة وكل المخاوف العظيمة التي صنعها موسى أمام أعين جميع إسرائيل" (تث 34: 10-12). فإن كان لم يقم نبي مثل موسى ولا يقوم فكيف يقيم الله نبيًا مثله، إلاَّ بمجيء ذاك الذي هو ربُّه وصار مثله؟!
يقدِّم تحذيرًا من الأنبياء الكذبة، فبعد مجيء المسيح أيضًا يأتي أنبياء كذبة، ويطالبنا بعدم الخوف من النبي الكذَّاب [20-22].
v يتحدَّث موسى النبي عن المسيح قائلاُ: "يقيم لك الرب إلهك نبيًا من وسطك من اخوتك مثلي، له تسمعون" [15]. لهذا فمن لا يطيعه يعصى الناموس[220].
القدِّيس يوحنا الذهبي الفم
v توقَّعوا إنَّه سيأتي نبي خاص إذ يقول موسى هذا هو المسيح، لذلك لم يقولوا (ليوحنا): "أأنت نبي؟" قاصدين بهذا إنَّه واحد من بين الأنبياء العاديِّين بل جاء التعبير: "ألنبيْ أنت؟!" (يو 1: 21). بإضافة أداة التعريف، قاصدين بذلك: "هل أنت هو النبي الذي سبق فأخبرنا عنه موسى؟" لهذا لم ينكر إنَّه نبي إنَّما رفض أن يدعى "ذاك النبي!" [221].
القدِّيس يوحنا الذهبي الفم
v إنَّه يشبهه، بمعنى من جهة الجسد، وليس من جهة سموّ العظمة. لذلك دعي الرب يسوع "النبي"[222].
القدِّيس أغسطينوس
"حسب كل ما طلبت من الرب إلهك في حوريب يوم الاجتماع قائلاً:
لا أعود اسمع صوت الرب إلهي، ولا أرى هذه النار العظيمة أيضًا لئلاَّ أموت.
قال لي الرب: قد احسنوا فيما تكلَّموا.
أقيم لهم نبيًّا من وسط اخوتهم مثلك،
واجعل كلامي في فمه فيكلِّمهم بكل ما أوصيه به.
ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلَّم به باسمي أنا أطالبه.
وأمَّا النبي الذي يطغي فيتكلَّم باسمي كلامًا لم أوصه أن يتكلَّم به أو الذي يتكلَّ باسم آلهة
أخرى فيموت ذلك النبي.
وإن قلت في قلبك كيف نعرف الكلام الذي لم يتكلَّم به الرب.
فما تكلَّم به النبي باسم الرب ولم يحدث ولم يصر فهو الكلام الذي لم يتكلَّم به الرب بل
بطغيان تكلَّم به النبي فلا تخف منه" [16-22].
يريد الله أن يلتقي مع كل إنسان شخصيًا ويتحدَّث معه وجهًا لوجه، لكن الإنسان عاجز عن هذا اللقاء، إذ لا يقدر أحد أن يتطلَّع إلى بهاء مجد الله ويعيش. لقد صرخ: "لا أعود اسمع صوت الرب إلهي ولا أرى هذه النار العظيمة أيضًا لئلاَّ أموت"، لهذا كان لابد أن يتحقَّق الإعلان الإلهي للبشر خلال إنسان. لهذا تحدَّث الله مع موسى النبي على جبل سيناء وسط النار من أجل كل الشعب.
هكذا أرسل الله من جيل إلى جيل نبيًا أو أكثر يتحدَّث الله إليه لحساب شعبه حتى يتجسَّد كلمة الله نفسه الذي يظهر كنبيٍ على مثال موسى، وهو رب الأنبياء. عندئذ يستطيع الإنسان أن يلتقي مع الله، ويتحدَّث معه.
كان العالم في حاجة إلى الإعلان الإلهي ليس خلال المسيح فحسب، بل وفيه، لقد تحدَّث مع الجماهير كواحدٍ منهم، ولم يُعلن مجده إلاَّ لقلَّة "بطرس ويعقوب ويوحنا" على جبل تابور في تجلِّيه، وأحضر موسى وإيليا ليشهدا له كممثِّلين للناموس والأنبياء.
المصدر
http://st-takla.org/pub_Bible-Interp...hapter-18.html
المفضلات