ثم بعد ذلك مزق القرآن حجاب المستقبل .. كان لا بد أن يكون الحديث عن المستقبل على عدة مراحل ..
المرحلة المعاصرة .. لكي يعرف أصحاب الرسالة والمؤمنون أنه الحق
مرحلة المستقبل البعيد .. لكي يعرف كل عصر من العصور التي ستأتي بعد نزول القرآن أن هذا هو كتاب الله الحق .. ومن هنا كان التحدي .. بالنسبة للمعاصرين عن أحداث قريبة .. وبالنسبة للعالم عن حقائق الكون كله ..
وهنا أحب أن أنبه إلى شيء هام جداً هو استخدام حرف السين في القرآن
فحرف السين كما نعرف في اللغة العربية لا يستخدم إلا بالنسبة لأحداث مستقبلة ... والقرآن محفوظ ومتعبد به وبتلاوته .. وسيظل محفوظاً حتى يوم الساعة ... ومعنى ذلك أنه لا يمكن تبديله أو تغييره أو إنكاره من أحد من المتعبدين به ... بل إنه سيظل يُتلى هكذا كما أنزل ..
إذن فإنباء القرآن بأحداث مستقبلة يسجل هذه الأحداث على قضية الإيمان نفسها .. ويطعن الدين في صميمه .. خصوصاً إذا تبين أن ما تنبأ به القرآن غير صحيح .. ومن هنا فلا بد أن يكون قائل القرآن متأكد من أن هذا سيحدث في المستقبل ..
مَنْ مِنْ البشر يستطيع أن يتأكد ماذا سيحدث له بعد ساعة واحدة ؟ فما بالك بعد أيام ... وسنوات ؟! ...
الجواب ... لا أحد ...
ذلك أن قدرة البشر في صنع الأحداث محدودة .. فقد حُجب عنهم الزمن ... وحجب عنهم المكان ... فلو قلت مثلاً إنني سأبني عمارة في هذه البقعة بعد عام .. أنا لا أضمن أنني سأعيش حتى الساعة القادمة .. وبذلك لا أستطيع أن أحكم إذا كنت سأكون موجوداً هناك أم لا ... هذه واحدة ..
ثانياً : قد تأتي الحكومة مثلاً وتبني مستشفى في هذا المكان .. أو قد يقام في هذا المكان سوق أو شارع فأنا لا أستطيع أن أجزم في شيء مادي سيحدث بعد فترة زمنية محدودة ..
ولكن الذي يستطيع أن يقول هذا يقيناً هو الذي يملك القدرة .. ومن هنا فإنه يستطيع أن يقول يقيناً : إن هذا سيحدث بعد فترة من الزمن .. والذي يملك ذلك هو الله سبحانه وتعالى ..
فإذا كان الحديث عما سيحدث بعد آلاف السنين فإن ذلك فوق طاقة البشر جميعاً ... لقد أنبأ القرآن بما سيحدث بعد أعوام قليلة ... وبما سيحدث بعد آلاف السنين .. فالذي قال هذا هو القادر العالم بأن ذلك سيحدث يقيناً وهو الله سبحانه وتعالى ... أنظر قول الله
القَمَر آية رقم : 45 قرآن كريم
سَيُهْزَمُ الجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ
لقد نزلت سورة القمر هذه في مكة والمسلمون قلة .. وأذلة ... حتى أن عمر بن الخطاب قال : أي جمع هذا الذي سيهزم ونحن لا نستطيع أن نحمي أنفسنا ؟
وهكذا يتنبأ القرآن بأن الإسلام سينتصر في مكة .. وأن هؤلاء الجمع الذين تجمعوا لمحاربة الإسلام في مكة سيهزمون ويولون الأدبار ...
ويتنبأ بها متى ؟
والمسلمون قلة .... وأذلة ... لا يستطيعون حماية أنفسهم ... ويطلقها قضية .. وهو على يقين من أن الله الذي قالها سيحققها ...
وبعد ذلك نجد عجباً ... الوليد بن المغيرة العدو الألد للإسلام .. والمشهور بكبريائه ومكابرته وعناده .. يأتي القرآن ويقول هذا الإنسان المكابر العنيد ....
القَلَمُ آية رقم : 16 قرآن كريم
سَنَسِمُهُ عَلَى الخُرْطُومِ
(( نسميه : نعلمه .. الخرطوم : الأنف ))
أي أنه سيقتل بضربة على أنفه .. ويحدد موقع الضربة ... وبعد ذلك يأتي في بدر ... فتراه قد وسم موقع الضربة ومكانها .. من الذي يستطيع أن يجزم .. ماذا سيحدث بعد ساعة واحدة ؟
ونأتي بعد ذلك إلى آية أخرى ... الرسول صلى الله عليه وسلم يأتي فيقرأ قول الله سبحانه وتعالى
المَسَدُ آية رقم : 1 قرآن كريم
تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ، مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ ، سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ ، وَامْرَأَتُهُ حمَّالَةَ الحَطَبِ ، في جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدِ
هذا قرآن .. وفيمن .. ؟ في عم رسول الله .. وفيمن؟ . في عدو الإسلام ..
ألم يكن أبو لهب يستطيع أن يحارب الإسلام بهذه السورة ؟
ألم يكن يستطيع أن يستخدمها كسلاح ضد القرآن ؟ ضد هذا الدين ..
قالت له الآية : يا أبا لهب أنت ستموت كافراً ، ستموت مشركاً ، وستعذب في النار .. وكان يكفي أن يذهب أبو لهب إلى أي جماعة من المسلمين .. ويقول : أشهد أن لا إله إلا الله .. وأن محمداً رسول الله .. يقولها نفاقاً .. يقولها رياءً .. يقولها ليهدم بها الإسلام .. لا ليدخل في الإسلام ..
يقولها ثم يقف وسط القوم يقول : إن محمداً قد أنبأكم أنني سأموت كافراً .. وقال إن هذا كلام مبلغ له من الله .. وأنا أعلن إسلامي لأثبت لكم أن محمداً كاذب .. لو كان أبو لهب يملك ذرة واحدة من الذكاء لفعل هذا ..
ولكن حتى هذا التفكير لم يجرؤ عقل أبي لهب على الوصول إليه ... بل بقى كافرا مشركاً ، ومات وهو كافر .. ولم يكن التنبؤ بأن أبا لهب سيموت كافراً أمراً ممكناً ... لأن كثيراً من المشركين اهتدوا إلى الإسلام كخالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعمر بن الخطاب .. وغيرهم ... كانوا مشركين وأسلموا ... فكيف أمكن التنبؤ بأن أبا لهب بالذات لن يسلم ولو نفاقاً .. وسيموت وهو كافر ؟! ...
المعجزة هنا أن القرآن قد أخبر بما سيقع من عدو .... وتحداه في أمر اختياري .. كان من الممكن أن يقوله ومع ذلك هناك يقين أن ذلك لن يحدث .. لماذا ؟ لأن الذي قال هذا القرآن .. يعلم أنه لن يأتي إلى عقل أبي لهب تفكير يكذَّب به القرآن ...
فهل هناك إعجاز أكثر من هذا ؟
ونأتي للنقطة الثانية
وهي إعجاز قرآني عجيب ... فقد كان هناك أمتان كبيرتان إمبراطوريتان بجانب الجزيرة العربية .. هما الروم والفرس ... والمعروف أن الروم كانوا أهل كتاب ...علماً بأنهم لا يصدقون برسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم .. والفرس كانوا أهل كفر وإلحاد في ذلك الوقت .. إذن فأيهما أقرب إلى قلب المؤمنين ؟ بالطبع الروم .. وأيهما أقرب لقلب الكفار والمشركين ؟ بالطبع الفرس
وقد قامت الحرب بين الدولتين .. فأنتصر الفرس وهزمت الروم .. وهنا فرح المشركون ، لأن الكفر قد أنتصر .. وحزن وقتها المؤمنون ... وهنا تدخل الله سبحانه وتعالى وأنزل من الآيات ما يزيل حزن المؤمنين .. فيقول
الرُّوم
بسم الله الرحمن الرحيم
الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّه يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ العَزِيزُ الرَّحِيم
ثم مضى القرآن ليمعن في التحدي ..
الروم آية رقم : 6 قرآن كريم
وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُون
ما هذا ؟
أيستطيع سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أن يتنبأ بنتيجة معركة بين الفرس والروم بعد بضع سنين ؟
هل يستطيع قائد عسكري مهماً بلغت قوته وعبقريته ونبوغته أن يتنبأ بمصير معركة عسكرية بعد ساعة واحدة من قيامها ؟
فما بالك أن ذلك يأتي ويقول إنه بعد بضع سنين ستحدث معركة بين الفرس والروم وينتصر فيها الروم ..
هل أمن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم على نفسه أن يعيش بضع سنين ليشهد هذه المعركة .. لقد وصل الأمر بأبي بكر رضى الله عنه .. أنه راهن على صحة ما جاء به القرآن ..
إذن فقد أصبحت قضية إيمانية كبرى ..
هذا هو القرآن .. كلام الله ,,, وأساس الإيمان كله ..
يأتي ويخبر بحقيقة أرضية قريبة ستحدث لغير العرب .
ويقول الكفار : إن القرآن كاذب ..
فيقول المؤمنون : إن هذا صدق ..
ويحدث رهان بين الاثنين ..
ماذا كان يمكن أن يحدث لو أنه لم تحدث معركة بين الروم والفرس ؟
أو لو أنه حدثت معركة وهُزم فيها الروم ؟
أكان بعد ذلك يصدق أي إنسان القرآن ؟
أو يؤمن بالدين الجديد ؟
ثم إذا كان القرآن من عند سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فما الذي يجعله يدخل في قضية غيبية كهذه لم يطلب منه الدخول فيها ؟
أيضيع الدين من أجل مخاطرة لم يطلبها أحد ؟
ولم يتحده فيها إنسان ؟
ولكن القائل هو الله ..
والفاعل هو الله ..
ومن هنا كان هذا الأمر الذي نزل في القرآن يقيناً سيحدث .. لأن قائله ليس عنده حجاب الزمان .. وحجاب المكان .. ولا أي حجاب وهو الذي يقول ما يفعل ... ومن هنا حدثت الحرب ... وأنتصر الروم على الفرس فعلاً .. كما تنبأ القرآن ..
وهكذا تحدى القرآن الكفار وغير المسلمين في وقت نزوله .. أي أنه لم يتحدى العرب وحدهم .. بل تحدى المؤمنين والكفار من غير العرب .. بأن أنبأهم بما سيحدث لهم قبل أن يحدث بسبع أو ثماني سنوات .. وتحداهم بهذا عللهم يؤمنون .
ولكن التحدي سيستمر إلى يوم القيامة
.
المفضلات