الفاتيكان والإسلام (8)
د. محمد عمارة
هكذا تبلورت في الإسلام ـ الدين .. والحضارة .. والتاريخ ـ عقلانية مؤمنة متميزة عن غيرها من العقلانيات التي عرفتها شرائع أخرى .. وحضارات أخرى .
ـ فالإنسان كون عقلي .. سلطان وجود العقل ..
ـ والعقل هو جوهر الإنسان .. ومن أجل القوى الإنسانية .. بل هو قوة القوى الإنسانية وعمادها .
ـ ولقد تآخى العقل والدين في القرآن لأول مرة في تاريخ الشرائع السماوية .
ـ الله ـ في القرآن ـ لا يخاطب إلا الفكر والعقل والعلم ، بدون قيد ولا حد .
ـ والقرآن معجزة عقلية، عرضت على العقل، وعرفته القاضي فيها .
ـ والمسلم لا يكون مؤمنا حقا إلا إذا عقل دينه وعرفه بنفسه حتى اقتنع به .
ـ والعقل هو مشرق الإيمان الديني .
ـ والسعادة الإنسانية هي من نتائج العقل والبصيرة .
ـ وسعادة الأمم لا تتم إلا بصفاء العقول من كدرات الخرافات وصدأ الأوهام .
ـ والسببية .. والسنن والقوانين هي الحاكمة للكون والاجتماع .
ـ وأول واجب على الإنسان هو النظر .. والشك المنهجي هو الطريق إلى اليقين .
ـ والعقل هو ينبوع اليقين في الإيمان بالله .. والتصديق بالرسالة .. أما النقل فهو الينبوع فيما بعد ذلك من علم الغيب .. فالعقل من أشد أعوان الإسلام .. والنقل من أقوى أركان الإسلام .
***
ثم .. من أين جاء عظيم الفاتيكان ـ أستاذ الفلسفة ـ بهذه "البدعة " التي زعم فيها أن مسيحيته متفوقة في العقلانية على الإسلام ؟ ! .
ألم يقرأ مقارنة الإمام محمد عبده بين الدينين في هذا المقام ؟ .. وكيف أن (أحد أصول النصرانية ـ الذي لا يختلف فيه كاثوليك ولا أرثوذكس ولا بروتستانت ـ هو أن الإيمان منحة لا دخل للعقل فيها، وأن من الدين ما لا يقبله العقل ، بمعنى ما يناقض أحكام العقل ومنطقه، وهو مع ذلك مما يجب الإيمان به .. ولقد قال القديس "أنسيلم" [1033ـ 1109م ] : "يجب أن تعتقد أولا بما يعرض على قلبك بدون نظر .. فليس الإيمان في حاجة إلى نظر العقل، والكون وما فيه لا يهم المؤمن أن يجيل فيه نظره"!!.. بينما أول أماس وضع عليه الإسلام هو النظر العقلي، والنظر العقلي هو أساس الإيمان الصحيح..) .
فأين هي العقلانية المسيحية ـ وهذا كلام القديس "أنسيلم"؟! .. فضلاً عن أن تكون عقلانيتها متفوقة على العقلانية الإسلامية ـ التي قدمنا الشواهد من مقالاتها؟! .
لقد قرر الإسلام ـ وقرر فلاسفته ومفكروه ـ أن العقل هو الطريق إلى معرفة الله ـ سبحانه وتعالى ـ لأن العقل يتفكر ويتدبر ويتعقل في الخلق، فيدرك أنه لا بد من خالق متصف بكل صفات الجلال والكمال .. ولذلك كانت أول فريضة على الإنسان ـ إسلاميا ـ هي فريضة النظر! حتى قبل الإيمان بالكتب والنبوات والرسالات !! (قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ والأَرْضِ) [يونس: 101] ـ (قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الخَلْقَ) [ العنكبوت: 20]
وإذا جاز لبابا الفاتيكان أن يجهل هذا التراث الإسلامي القديم والحديث في العقلية الإسلامية ـ المتميزة .. والمتفوقة .. والمتفردة ـ .. وهذا غير جائزـ فكيف له أن يجهل ـ وهو أستاذ للفلسفة ـ ما كتبه المستشرق الإنجليزي "ألفريد جيوم " عن تفرد الفلسفة الإسلامية بتأسيسها على الدين الإسلامي .. وذلك عندما قال : "إن قوة الحركة الاعتزالية ـ التي أسست علم الكلام الإسلامي.. والفلسفة الإسلامية قبل عصر الترجمة عن الإغريق ـ مردها جهود أولئك الذين حاولوا أقصى ما في طوقهم إقامة علم الكلام الإسلامي على أسس ثابتة من الفلسفة، مصرين في الوقت نفسه على أن تكون تلك الأسس منطقية، ثم الانسجام بينها وبين الفلسفة التي يجب أن تدرس بوصفها من صميم العقيدة الدينية .. " .
* ثم .. أين هي العقلانية ـ يا عظيم الفاتيكان ـ في الدين الذي ينتهك قوانين السببية، ويقررـ في كتابه ـ أن الإيمان وحده كاف في أن يكون للمؤمن أن يقول للجبل تحول عن مكانك فيتحول الجبل ! وأن الصلاة وحدها كافية في إقدار المصلى على تغيير سير الكواكب، وقلب نظام العالم وتركيبه العنصري؟! .
* بل أين هي حتى ظلال العقلانية في الدين الذي لا يزال أهله ـ حتى القرن الحادي والعشرين ـ يعتقدون أن " تمتمات" ببعض الكلمات اللاتينية، تحول الخبز والخمر إلى لحم معبودهم ودمه ! .. ثم "يتناولونه" ـ يتناولون معبودهم ويأكلونه ـ ليذهبوا بعد ذلك بفضلات هذا المعبود إلى حيث يعرف الجميع !! .
* أين هي العقلانية التي تتحدث عنها وتباهى بها يا عظيم الفاتيكان، وها هو القديس "أوغسطين " [ 354ـ 430م ] يقول : "أؤمن بهذا لأنه محال أو غير معقول !! .. كما يقول القس وهيب الله عطا: " إن التجسيد قضية فيها تناقض مع العقل والمنطق والحس والمادة والمصطلحات الفلسفية ، ولكننا نصدق ونؤمن أن هذا ممكن حتى ولو لم يكن معقولاً" !! .
* أين هي العقلانية عند الذين يقول كتابهم : "اعتقد وأنت أعمي" !!.. "أغمض عينيك ثم اتبعني" !! .
* وإذا كنت ـ يا عظيم الفاتيكان ـ لم تقرأ ما جاء في القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف والفلسفة الإسلامية والفكر الإسلامي عن مقام العقل في الإسلام .. فهل يليق بمثلك أن تجهل ما كتبه علماء الغرب عن هذه العقلانية الإسلامية، ودورها في انتشار الإسلام ؟ ! .. وما كتبوه عن لا عقلانية مسيحيتك الرومانية، التي غبشتها وأفسدتها الثقافة الهلينية، وملأتها بالأسرار والألغاز .. ودور هذه اللاعقلانية في هزيمة مسيحيتك أمام عقلانية الإسلام ؟ ! .
كيف جهلت ـ يا عظيم الفاتيكان ـ ما كتبه العلماء الأعلام الغربيون الذين جمعوا بين فقه الإسلام وفقه النصرانية .. ومنهم العلامة سير توماس أرنولد [ 1864- 1930م] عملاق الثقافة الإنجليزية .. الذي أورد في كتابه الفذ [الدعوة إلى الإسلام] شهادات العلماء والفلاسفة واللاهوتيين والمستشرقين الغربيين على عقلانية الإسلام .. وعلى امتلاء المسيحية بالأسرار والألغاز التي يستحيل فهمها حتى على أهل الاختصاص .
لقد قال العلامة سير توماس أرنولد : (ولا يستطيع أي فرد أن يوضح الطابع العقلي للعقيدة الإسلامية، وما جنته من هذا الطابع من الفائدة في نشر الدعوة، توضيحا يبعث على الإعجاب، بأكثر مما وضحه البروفسور "إدوارد مونتيه" [ 1856 – 1927م] في العبارات التالية : " الإسلام في جوهره دين عقلي بأوسع معاني هذه الكلمة من الوجهتين الاشتقاقية والتاريخية، فإن تعريف الأسلوب العقلي Rationalism بأنه طريقة تقييم العقائد الدينية على أسس من المبادئ المستمدة من العقل والمنطق، ينطبق على الإسلام تمام الانطباق .. إن لدين محمد كل العلامات التي تدل على أنه مجموعة من العقائد قامت على أساس المنطق والعقل .. إن الإيمان باالله والآخرة ـ في الإسلام ـ يستقران في نفس المتدين على أساس ثابت من العقل والمنطق، ويلخصان كل تعاليم العقيدة التي جاء بها القرآن. وإن بساطة هذه التعاليم ووضوحها لهى على وجه التحقيق من أظهر القوى الفعالة في الدين وفي نشاط الدعوة إلى الإسلام .
لقد حفظ القرآن منزلته من غير أن يطرأ عليه تغيير أو تبديل، باعتباره النقطة الأساسية التي بدأت منها تعاليم هذه العقيدة، وقد جهر القرآن دائما بمبدأ الوحدانية في عظمة وجلال وصفاء لا يعتريه التحول . ومن العسير أن نجد في غير الإسلام ما يفوق تلك المزايا .. وفي هذا تكمن الأسباب الكثيرة التي تفسر لنا نجاح جهود الدعاة المسلمين.
وكان من المتوقع لعقيدة محددة كل التحديد خالية كل الخلو من جميع التعقيدات الفلسفية ـ ثم هي تبعا لذلك في متناول إدراك الشخص العادي- أن تمتلك ـ وإنها لتمتلك فعلا ـ قوة عجيبة لاكتساب طريقها إلى ضمائر الناس") .
* وغير شهادة هذا العالم الفرنسي "مونتيه " ـ الخبير بالقرآن والإسلام والخبير بالكاثوليكية ـ يورد العلامة سير توماس أرنولد شهادة اللاهوتي الإيطالي "الأب مراتشى" [ 1612 – 1700 م] ، وهو الذي نشر القرآن متنا وترجمه بالإيطالية .. كما أسهم في ترجمة العهدين القديم والجديد .. . يورد "أرنولد" شهادة "مراتشي " على عقلانية الإسلام، والتى يقول فيها : "لو قارن إنسان بين أسرار الحالة الطبيعية البسيطة التي فاقت طاقة الذكاء البشري، أو التي هي على الأقل من الصعوبة بمكان، إن لم تكن مستحيلة [ العقيدة المسيحية] وبين عقيدة القرآن، لانصرف عن الأولي في الحال، وأسرع إلى الثانية في ترحيب وقبول..".
* وغير هاتين الشهادتين الغربيتين على تميز الإسلام وامتيازه في العقلانية ـ بل وتفرده بها ، وخاصة إذا ما قورن بالنصرانية ـ يورد العلامة سير توماس أرنولد شهادات غربية على أن هذه العقلانية هي السر في هذا الانتشار الذي شهدته هذه العقيدة الإسلامية.. يورد شهادة الأمير والمستشرق الإيطالي "كايتاني ـ ليون" Caetani [ 1869ـ 1926م ] ـ وهو الخبير في الإسلام والدراسات الإسلامية .. وصاحب الإنجازات المتميزة في تحقيق التراث الإسلامي ـ التي يقول فيها : " إن انتشار الإسلام بين نصارى الكنائس الشرقية إنما كان نتيجة شعور باستياء من السفسطة المذهبية التي جلبتها الروح الهلينية إلى اللاهوت المسيحي.
أما الشرق الذي عرف بحبه للأفكار الواضحة البسيطة، فقد كانت الثقافة الهلينية وبالاَ عليه من الوجهة الدينية؛ لأنها أحالت تعاليم المسيح البسيطة السامية إلى عقيدة محفوفة بمذاهب عويصة، مليئة بالشكوك والشبهات، فأدي ذلك إلى خلق شعور من اليأس، بل زعزع أصول العقيدة الدينية ذاتها.
فلما أهلّت آخر الأمر أنباء الوحي الجديد فجأة من الصحراء، لم تعد المسيحية الشرقية التي اختلطت بالغش والزيف، وغرقت بفعل الانقسامات الداخلية، وتزعزعت قواعدها الأساسية، واستولي على رجالها اليأس والقنوط من مثل هذه الريب، لم تعد المسيحية بعد ذلك قادرة على مقاومة وإغراء هذا الدين الجديد الذي بدد بضربة من ضرباته كل الشكوك التافهة، وقدم مزايا مادية جليلة إلى جانب مبادئه الواضحة البسيطة التي لا تقبل الجدل.. وحينئذ ترك الشرق المسيح وارتمي في أحضان نبي بلاد العرب".
* وغير هذه "الشهادة ـ الوثيقة" لكايتاني على أن عقلانية الإسلام هي السر في انتشاره السريع، وانتصاره على اللاعقلانية المسيحية ، قدم "أرنولد" شهادة الفيلسوف الأمريكي "جون تايلور" [ 1753 ـ 1824 م] .. والتي يقول فيها: " إنه من اليسير أن ندرك لماذا انتشر هذا الدين الجديد بهذه السرعة في إفريقيا وآسيا. كان أئمة اللاهوت في إفريقيا والشام قد استبدلوا بديانة المسيح عقائد ميتافيزيقية عويصة، وذلك أنهم حاولوا أن يحاربوا ما ساد هذا العصر من فساد بتوضيح فضل العزوبية في السماء، وسمو البكورية إلى مرتبة الملائكة، فكان اعتزال العالم هو الطريق إلى القداسة، والقذارة صفة لطهارة الرهبنة، وكان الناس في الواقع مشركين يعبدون زمرة من الشهداء والقديسين والملائكة، كما كانت الطبقات العليا مخنثة يشيع فيها الفساد ، والطبقات الوسطي مرهقة بالضرائب، ولم يكن للعبيد أمل في حاضرهم ولا مستقبلهم، فأزال الإسلام ـ بعون من الله ـ هذه المجموعة من الفساد والخرافات.
لقد كان ثورة على المجادلة الجوفاء في العقيدة، وحجة قوية ضد تمجيد الرهبانية باعتبارها رأس التقوى . ولقد بين أصول الدين التي تقول بوحدانية الله وعظمته، كما بين أن الله رحيم عادل يدعو الناس إلى الامتثال لأمره والإيمان به وتفويض الأمر إليه ، وأعلن أن المرء مسئول، وأن هناك حياة آخرة ويوما للحساب، وأعد للأشرار عقاباً أليما، وفرض الصلاة والزكاة والصوم وفعل الخير، ونبذ الفصائل الكاذبة والدجل الديني والترهات والنزعات الأخلاقية الضالة وسفسطة المنازعين في الدين، وأحل الشجاعة محل الرهبنة، ومنح العبيد رجاء، والإنسانية إخاء، ووهب الناس إدراكا للحقائق الأساسية، التي تقوم عليها الطبيعة البشرية"
المفضلات