-
بسم الله الرحمن الرحيم
القاعدة الثالثة: صفات الله تعالى تنقسم إلى قسمين: ثبوتية. وسلبية.
فالثبوتية: ما أثبت الله تعالى لنفسه في كتابه أو على لسان رسوله صلى ... الله عليه وسلم، وكلها صفات كمال لا نقص فيها بوجه من الوجوه، كالحياة، والعلم، والقدرة، والاستواء على العرش، والنزول إلى السماء الدنيا، والوجه، واليدين، ونحو ذلك.
فيجب إثباتها لله تعالى حقيقة على الوجه اللائق به، بدليل السمع والعقل.
أما السمع: فمنه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيداً} فالإيمان بالله يتضمن: الإيمان بصفاته، والإيمان بالكتاب الذي نزل على رسوله صلى الله عليه وسلم يتضمن: الإيمان بكل ما جاء فيه من صفات الله، وكون محمد صلى الله عليه وسلم رسوله يتضمن: الإيمان بكل ما أخبر به عن مرسله، وهو الله عز وجل.
وأما العقل: فلأن الله تعالى أخبر بها عن نفسه، وهو أعلم بها من غيره، وأصدق قيلاً، وأحسن حديثا من غيره، فوجب إثباتها له كما أخبر بها من غير تردد، فإن التردد في الخبر إنما يتأتى حين يكون الخبر صادرًا ممن يجوز عليه الجهل أو الكذب أو العيّ، بحيث لا يفصح بما يريد، وكل هذه العيوب الثلاثة ممتنعة في حق الله عز وجل، فوجب قبول خبره على ما أخبر به.
وهكذا نقول فيما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أعلم الناس بربه، وأصدقهم خبرًا، وأنصحهم إرادة، وأفصحهم بيانا، فوجب قبول ما أخبر به على ما هو عليه ...
والصفات السلبية: ما نفاها الله سبحانه عن نفسه في كتابه، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وكلها صفات نقص في حقه، كالموت، والنوم، والجهل، والنسيان، والعجز، والتعب. فيجب نفيها عن الله تعالى لما سبق مع إثبات ضدها على الوجه الأكمل، وذلك لأن ما نفاه الله تعالى عن نفسه فالمراد به بيان انتفائه لثبوت كمال ضده لا لمجرد نفيه، لأن النفي ليس بكمال إلا أن يتضمن ما يدل على الكمال، وذلك لأن النفي عدم، والعدم ليس بشيء فضلاً عن أن يكون كمالاً، ولأن النفي قد يكون لعدم قابلية المحل له فلا يكون كمالاً، كما لو قلت: الجدار لا يظلم. وقد يكون للعجز عن القيام به فيكون نقصا، كما في قول الشاعر:
قُبَيِّلَةٌ لا يغدرون بذمّة ... ولا يظلمون الناس حبة خردل
وقول الآخر:
لكن قومي وإن كانوا ذوي حسب ... ليسوا من الشر في شيء وإن هانا
مثال ذلك: قوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ}، فنفي الموت عنه يتضمن كمال حياته.
مثال آخر قوله تعالى: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} نفي الظلم عنه يتضمن كمال عدله. ... مثال ثالث: قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْض} فنفي العجز عنه يتضمن كمال علمه وقدرته، ولهذا قال بعده: {إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً}، لأن العجز سببه: إما الجهل بأسباب الإيجاد، وإما قصور القدرة عنه، فلكمال علم الله تعالى وقدرته لم يكن ليعجزه شيء في السماوات ولا في الأرض.
وبهذا المثال علمنا أن الصفة السلبية قد تتضمن أكثر من كمال.
سَلامٌ مِنْ صَبا بَرَدى أَرَقُّ ....ودمعٌ لا يُكَفْكَفُ يا دمشقُ
ومَعْذِرَةَ اليراعةِ والقوافي .... جلاءُ الرِّزءِ عَنْ وَصْفٍ يُدَّقُ
وذكرى عن خواطرِها لقلبي .... إليكِ تلفّتٌ أَبداً وخَفْقُ
-
بسم الله الرحمن الرحيم
القاعدة الرابعة: الصفات الثبوتية صفات مدح وكمال فكلما كثرت وتنوعت دلالاتها ظهر من كمال الموصوف بها ما هو أكثر، ولهذا كانت الصفات الثبوتية التي أخبر الله بها عن نفسه أكثر بكثير من الصفات السلبية كما هو معلوم.
أما الصفات السلبية فلم تذكر غالبا إلا في الأحوال التالية:
الأولى: بيان عموم كماله، كما في قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ}.
الثانية: نفي ما ادعاه في حقه الكاذبون، كما في قوله: {أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً}.
الثالثة: دفع توهم نقص من كماله فيما يتعلق بهذا الأمر المعيّن، كما في قوله: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ}، وقوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ}.
سَلامٌ مِنْ صَبا بَرَدى أَرَقُّ ....ودمعٌ لا يُكَفْكَفُ يا دمشقُ
ومَعْذِرَةَ اليراعةِ والقوافي .... جلاءُ الرِّزءِ عَنْ وَصْفٍ يُدَّقُ
وذكرى عن خواطرِها لقلبي .... إليكِ تلفّتٌ أَبداً وخَفْقُ
-
بسم الله الرحمن الرحيم
... القاعدة الخامسة: الصفات الثبوتية تنقسم إلى قسمين: ذاتية. وفعلية.
فالذاتية: هي التي لم يزل ولا يزال متصفا بها، كالعلم والقدرة والسمع والبصر والعزة والحكمة والعلو والعظمة. ومنها الصفات الخبرية: كالوجه واليدين والعينين.
والفعلية: هي التي تتعلق بمشيئته، إن شاء فعلها وإن شاء لم يفعلها، كالاستواء على العرش، والنزول إلى السماء الدنيا.
وقد تكون الصفة ذاتية فعلية باعتبارين كالكلام، فإنه باعتبار أصله صفة ذاتية، لأن الله تعالى لم يزل ولا يزال متكلما، وباعتبار آحاد الكلام صفة فعلية، لأن الكلام يتعلق بمشيئته، يتكلم متى شاء بما شاء، كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}. وكل صفة تعلقت بمشيئته تعالى فإنها تابعة لحكمته.
وقد تكون الحكمة معلومة لنا، وقد نعجز عن إدراكها، ولكننا نعلم علم اليقين أنه سبحانه لا يشاء شيئا إلا وهو موافق للحكمة، كما يشير إليه قوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً}.
سَلامٌ مِنْ صَبا بَرَدى أَرَقُّ ....ودمعٌ لا يُكَفْكَفُ يا دمشقُ
ومَعْذِرَةَ اليراعةِ والقوافي .... جلاءُ الرِّزءِ عَنْ وَصْفٍ يُدَّقُ
وذكرى عن خواطرِها لقلبي .... إليكِ تلفّتٌ أَبداً وخَفْقُ
-
بسم الله الرحمن الرحيم
القاعدة السادسة: يلزم في إثبات الصفات التخلي عن محذورين عظيمين:
أحدهما: التمثيل
والثاني: التكييف.
... فأما التمثيل: فهو اعتقاد المثبت أن ما أثبته من صفات الله تعالى مماثل لصفات المخلوقين. وهذا اعتقاد باطل بدليل السمع والعقل.
أما السمع: فمنه قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}، وقوله: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ}، وقوله: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً}، وقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ}.
وأما العقل فمن وجوه:
الأول: أنه قد علم بالضرورة أن بين الخالق والمخلوق تباينا في الذات، وهذا يستلزم أن يكون بينهما تباين في الصفات، لأن صفة كل موصوف تليق به، كما هو ظاهر في صفات المخلوقات المتباينة في الذوات، فقوة البعير مثلاً غير قوة الذرّة، فإذا ظهر التباين بين المخلوقات مع اشتراكها في الإمكان والحدوث فظهور التباين بينها وبين الخالق أجلى وأقوى
الثاني: أن يقال: كيف يكون الرب الخالق الكامل من جميع الوجوه مشابها في صفاته للمخلوق المربوب الناقص المفتقر إلى من يُكَمِّله؟، وهل اعتقاد ذلك إلا تنقص لحق الخالق، فإن تشبيه الكامل بالناقص يجعله ناقصا.
الثالث: أننا نشاهد في المخلوقات ما يتفق في الأسماء ويختلف في الحقيقة والكيفية، فنشاهد أن للإنسان يدًا ليست كيد الفيل، وله قوة ليست كقوة الجمل، مع الاتفاق في الاسم. فهذه يد وهذه يد، وهذه قوة وهذه قوة، ... وبينهما تباين في الكيفية والوصف، فعلم بذلك أن الاتفاق في الاسم لا يلزم منه الاتفاق في الحقيقة.
والتشبيه كالتمثيل، وقد يفرق بينهما بأن التمثيل التسوية في كل الصفات، والتشبيه التسوية في أكثر الصفات، لكن التعبير بنفي التمثيل أولى لموافقة القرآن: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}.
وأما التكييف: فهو أن يعتقد المثبت أن كيفية صفات الله تعالى كذا وكذا، من غير أن يقيدها بمماثل. وهذا اعتقاد باطل بدليل السمع والعقل.
أما السمع: فمنه قوله تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً}، وقوله: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً}، ومن المعلوم أنه لا علم لنا بكيفية صفات ربنا، لأنه تعالى أخبرنا عنها ولم يخبرنا عن كيفيتها، فيكون تكييفنا قفوًا لما ليس لنا به علم، وقولاً بما لا يمكننا الإحاطة به.
وأما العقل: فلأن الشيء لا تعرف كيفية صفاته إلا بعد العلم بكيفية ذاته، أو العلم بنظيره المساوي له، أو بالخبر الصادق عنه. وكل هذه الطرق منتفية في كيفية صفات الله عز وجل، فوجب بطلان تكييفها.
وأيضا فإننا نقول: أيُّ كيفية تقدرها لصفات الله تعالى؟.
إن أيَّ كيفية تقدرها في ذهنك فالله أعظم وأجل من ذلك.
وأيَّ كيفية تقدرها لصفات الله تعالى فإنك ستكون كاذبا فيها، لأنه لا علم لك بذلك. ... وحينئذ يجب الكف عن التكييف تقديرًا بالجنان، أو تقريرًا باللسان وتحريرًا بالبنان.
ولهذا لما سئل مالك رحمه الله تعالى عن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} كيف استوى؟، أطرق رحمه الله برأسه حتى علاه الرحضاء (العرق) ثم قال: (الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعه)، ورُوِيَ عن شيخه ربيعة أيضا: (الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول). وقد مشى أهل العلم بعدهما على هذا الميزان. وإذا كان الكيف غير معقول ولم يرد به الشرع، فقد انتفى عنه الدليلان العقلي والشرعي، فوجب الكف عنه.
فالحذر الحذر من التكييف أو محاولته، فإنك إن فعلت وقعت في مفاوز لا تستطيع الخلاص منها، وإن ألقاه الشيطان في قلبك فاعلم أنه من نزغاته، فالجأ إلى ربك فإنه معاذك، وافعل ما أمرك به فإنه طبيبك، قال الله تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.
سَلامٌ مِنْ صَبا بَرَدى أَرَقُّ ....ودمعٌ لا يُكَفْكَفُ يا دمشقُ
ومَعْذِرَةَ اليراعةِ والقوافي .... جلاءُ الرِّزءِ عَنْ وَصْفٍ يُدَّقُ
وذكرى عن خواطرِها لقلبي .... إليكِ تلفّتٌ أَبداً وخَفْقُ
-
بسم الله الرحمن الرحيم
القاعدة السابعة: صفات الله تعالى توقيفية لا مجال للعقل فيها فلا نثبت لله تعالى من الصفات إلا ما دل الكتاب والسنة على ثبوته، قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: (لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، لا يتجاوز القرآن والحديث). انظر: القاعدة الخامسة في الأسماء.
ولدلالة الكتاب والسنة على ثبوت الصفة ثلاثة أوجه:
... الأول: التصريح بالصفة، كالعزة والقوة والرحمة والبطش والوجه واليدين، ونحوها.
الثاني: تضمن الاسم لها، مثل: الغفور متضمن للمغفرة، والسميع متضمن للسمع، ونحو ذلك. انظر: القاعدة الثالثة في الأسماء.
الثالث: التصريح بفعل أو وصف دال عليها، كالاستواء على العرش، والنزول إلى السماء الدنيا، والمجيء للفصل بين العباد يوم القيامة، والانتقام من المجرمين، الدال عليها على الترتيب قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ينزل ربنا إلى السماء الدنيا" الحديث.
وقول الله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً}، وقوله: {إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ}.
سَلامٌ مِنْ صَبا بَرَدى أَرَقُّ ....ودمعٌ لا يُكَفْكَفُ يا دمشقُ
ومَعْذِرَةَ اليراعةِ والقوافي .... جلاءُ الرِّزءِ عَنْ وَصْفٍ يُدَّقُ
وذكرى عن خواطرِها لقلبي .... إليكِ تلفّتٌ أَبداً وخَفْقُ
-
بسم الله الرحمن الرحيم
قواعد في أدلة الأسماء والصفات
القاعدة الأولى: الأدلة التي تثبت بها أسماء الله تعالى وصفاته هي كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فلا تثبت أسماء الله وصفاته بغيرهما.
وعلى هذا: فما ورد إثباته لله تعالى من ذلك في الكتاب والسنة وجب إثباته.
... وما ورد نفيه فيهما وجب نفيه مع إثبات كمال ضده.
وما لم يرد إثباته ولا نفيه فيهما وجب التوقف في لفظه، فلا يثبت ولا ينفى، لعدم ورود الإثبات والنفي فيه.
وأما معناه: فيفصل فيه؛ فإن أريد به حقٌ يليق بالله تعالى فهو مقبول، وإن أريد به معنىً لا يليق بالله عز وجل وجب ردّه.
فمما ورد إثباته لله تعالى: كل صفة دل عليها اسم من أسماء الله تعالى دلالة مطابقة أو تضمن أو التزام.
ومنه كل صفة دل عليها فعل من أفعاله، كالاستواء على العرش، والنزول إلى السماء الدنيا، والمجيء للفصل بين عباده يوم القيامة، ونحو ذلك من أفعاله التي لا تحصى أنواعها، فضلاً عن أفرادها {وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ}.
ومنه: الوجه والعينان واليدان ونحوها.
ومنه: الكلام والمشيئة والإرادة بقسميها الكوني والشرعي.
فالكونية: بمعنى المشيئة. والشرعية: بمعنى المحبة.
ومنه: الرضا والمحبة والغضب والكراهة ونحوها1
ومما ورد نفيه عن الله سبحانه لانتفائه وثبوت كمال ضده:
... الموت والنوم والسنة والعجز والإعياء والظلم والغفلة عن أعمال العباد، وأن يكون له مثيل أوكفؤٌ، أو نحو ذلك1 .
ومما لم يرد إثباته ولا نفيه لفظ: (الجهة)، فلو سأل سائل: هل نثبت لله تعالى جهة؟، قلنا له: لفظ الجهة لم يرد في الكتاب والسنة إثباتا ولا نفيا، ويُغني عنه ما ثبت فيهما من أن الله تعالى في السماء. وأما معناه فإما أن يراد به جهة سفل أو جهة علو تحيط بالله، أو جهة علو لا تحيط به.
فالأول باطل، لمنافاته لعلو الله تعالى الثابت بالكتاب والسنة والعقل والفطرة والإجماع.
والثاني باطل أيضا، لأن الله تعالى أعظم من أن يحيط به شئ من مخلوقاته.
والثالث حق، لأن الله تعالى العلي فوق خلقه ولا يحيط به شئ من مخلوقاته.
ودليل هذه القاعدة السمع والعقل.
فأما السمع: فمنه قوله تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}، وقوله: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}، وقوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ
... وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}، وقوله: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً}، وقوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}، وقوله: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ}
إلى غير ذلك من النصوص الدالة على وجوب الإيمان بما جاء في القرآن والسنة.
وكل نص يدل على وجوب الإيمان بما جاء في القرآن فهو دال على وجوب الإيمان بما جاء في السنة، لأن مما جاء في القرآن الأمر باتباع النبي صلى الله عليه وسلم والرد إليه عند التنازع. والرد إليه يكون إليه نفسه في حياته والى سنته بعد وفاته.
فأين الإيمان بالقرآن لمن استكبر عن اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم المأمور به في القرآن؟.
وأين الإيمان بالقرآن لمن لم يرد النزاع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد أمر الله به في القرآن؟.
وأين الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم الذي أمر به القرآن لمن لم يقبل ما جاء في سنته؟.
ولقد قال الله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ}، ومن المعلوم أن كثيرًا من أمور الشريعة العلمية والعملية جاء بيانها بالسنة فيكون بيانها بالسنة من تبيان القرآن.
... وأما العقل فنقول: إن تفصيل القول فيما يجب أو يمتنع أو يجوز في حق الله تعالى من أمور الغيب التي لا يمكن إدراكها بالعقل، فوجب الرجوع فيه إلى ما جاء في الكتاب والسنة
سَلامٌ مِنْ صَبا بَرَدى أَرَقُّ ....ودمعٌ لا يُكَفْكَفُ يا دمشقُ
ومَعْذِرَةَ اليراعةِ والقوافي .... جلاءُ الرِّزءِ عَنْ وَصْفٍ يُدَّقُ
وذكرى عن خواطرِها لقلبي .... إليكِ تلفّتٌ أَبداً وخَفْقُ
-
بسم الله الرحمن الرحيم
القاعدة الثانية: الواجب في نصوص القرآن والسنة إجراؤها على ظاهرها دون تحريف، لا سيما نصوص الصفات، حيث لا مجال للرأي فيها.
ودليل ذلك: السمع والعقل.
أما السمع: فقوله تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}، وقوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}، وقوله: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}، وهذا يدل على وجوب فهمه على ما يقتضيه ظاهره باللسان العربي إلا أن يمنع منه دليل شرعي.
وقد ذم الله تعالى اليهود على تحريفهم، وبين أنهم بتحريفهم من أبعد الناس عن الإيمان، فقال: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} وقال تعالى: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} الآية.
وأما العقل فلأن المتكلم بهذه النصوص أعلم بمراده من غيره، وقد خاطبنا باللسان العربي المبين، فوجب قبوله على ظاهره، وإلا لاختلفت الآراء وتفرقت الأمة.
سَلامٌ مِنْ صَبا بَرَدى أَرَقُّ ....ودمعٌ لا يُكَفْكَفُ يا دمشقُ
ومَعْذِرَةَ اليراعةِ والقوافي .... جلاءُ الرِّزءِ عَنْ وَصْفٍ يُدَّقُ
وذكرى عن خواطرِها لقلبي .... إليكِ تلفّتٌ أَبداً وخَفْقُ
-
بسم الله الرحمن الرحيم
... القاعدة الثالثة: ظواهر نصوص الصفات معلومة لنا باعتبار ومجهولة لنا باعتبار آخر، فباعتبار المعنى هي معلومة. وباعتبار الكيفية التي هي عليها مجهولة.
وقد دل على ذلك السمع والعقل.
أما السمع: فمنه قوله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ}، وقوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}، وقوله جل ذكره: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}. والتدبر لا يكون إلا فيما يمكن الوصول إلى فهمه ليتذكر الإنسان بما فهمه منه.
وكون القرآن عربيا ليعقله من يفهم العربية، يدل على أن معناه معلوم، وإلا لما كان فرق بين أن يكون باللغة العربية أو غيرها.
وبيان النبي صلى الله عليه وسلم القرآن للناس شامل لبيان لفظه وبيان معناه.
وأما العقل: فلأن من المحال أن يُنَزِّل الله تعالى كتابا، أو يتكلم رسوله صلى الله عليه وسلم بكلام (يقصد بهذا الكتاب وهذا الكلام أن يكون هداية للخلق)، ويبقى في أعظم الأمور وأشدها ضرورة مجهول المعني، بمنزلة الحروف الهجائية التي لا يفهم منها شيء، لأن ذلك من السفه الذي تأباه ... حكمة الله تعالى، وقد قال الله تعالى عن كتابه: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ}.
هذه دلالة السمع والعقل على علمنا بمعاني نصوص الصفات.
وأما دلالتهما على جهلنا لها باعتبار الكيفية فقد سبقت في القاعدة السادسة من قواعد الصفات.
وبهذا علم بطلان مذهب المفوضة الذين يفوضون علم معاني نصوص الصفات، ويَدَّعون أن هذا مذهب السلف. والسلف بريئون من هذا المذهب، وقد تواترت الأقوال عنهم بإثبات المعاني لهذه النصوص إجمالاً أحيانا، وتفصيلا أحيانا، وتفويضهم الكيفية إلى علم الله عز وجل.
قال شيخ الإسلام ابن تيميه في كتابه المعروف ب"العقل والنقل" (ص 116، ج 1) المطبوع على هامش "منهاج السنة": "وأما التفويض فمن المعلوم أن الله أمرنا بتدبر القرآن، وحضنا على عقله وفهمه، فكيف يجوز مع ذلك أن يراد منا الإعراض عن فهمه ومعرفته وعقله) إلى أن قال (ص 118): (وحينئذ فيكون ما وصف الله به نفسه في القرآن، أو كثير مما وصف الله به نفسه لا يعلم الأنبياء معناه، بل يقولون كلاما لا يعقلون معناه" قال: "ومعلوم أن هذا قدح في القرآن والأنبياء، إذ كان الله أنزل القرآن وأخبر أنه جعله هدى وبيانا للناس، وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبلغ البلاغ المبين، وأن يبين للناس ما نُزِّل إليهم، وأمر بتدبر القرآن وعقله، ومع هذا فأشرف ما فيه وهو ما أخبر به الرب عن صفاته.. لا يعلم أحد معناه، فلا يعقل، ولا يتدبر، ولا يكون ... الرسول بَيَّنَ للناس ما نُزِّل إليهم، ولا بَلَّغ البلاغ المبين، وعلى هذا التقدير فيقول كل ملحد ومبتدع: الحق في نفس الأمر ما علمته برأيي وعقلي، وليس في النصوص ما يناقض ذلك، لأن تلك النصوص مشكلة متشابهة، ولا يعلم أحد معناها، وما لا يعلم أحد معناه لا يجوز أن يُسْتَدَل به، فيبقى هذا الكلام سدًا لباب الهدى والبيان من جهة الأنبياء، وفتحا لباب من يعارضهم، ويقول: إن الهدى والبيان في طريقنا لا في طريق الأنبياء، لأننا نحن نعلم ما نقول ونبينه بالأدلة العقلية، والأنبياء لم يعلموا ما يقولون فضلاً عن أن يبينوا مرادهم.
فتبين أن قول أهل التفويض الذين يزعمون أنهم متبعون للسنة والسلف من شر أقوال أهل البدع والإلحاد" اه كلام الشيخ، وهو كلام سديد من ذي رأي رشيد، وما عليه مزيد، رحمه الله تعالى رحمة واسعة، وجمعنا به في جنات النعيم.
سَلامٌ مِنْ صَبا بَرَدى أَرَقُّ ....ودمعٌ لا يُكَفْكَفُ يا دمشقُ
ومَعْذِرَةَ اليراعةِ والقوافي .... جلاءُ الرِّزءِ عَنْ وَصْفٍ يُدَّقُ
وذكرى عن خواطرِها لقلبي .... إليكِ تلفّتٌ أَبداً وخَفْقُ
-
بسم الله الرحمن الرحيم
القاعدة الرابعة: ظاهر النصوص ما يتبادر منها إلى الذهن من المعاني وهو يختلف بحسب السياق، وما يضاف إليه الكلام، فالكلمة الواحدة يكون لها معنى في سياق ومعنى آخر في سياق، وتركيب الكلام يفيد معنى على وجه ومعنى آخر على وجه.
فلفظ (القرية) مثلاً يراد به القوم تارة، ومساكن القوم تارة أخرى.
فمن الأول قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَاباً شَدِيداً}.
... ومن الثاني: قوله تعالى عن الملائكة ضيف إبراهيم: {إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ}.
وتقول: صنعت هذا بيدي، فلا تكون اليد كاليد في قوله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ}، لأن اليد في المثال أضيفت إلى المخلوق فتكون مناسبة له، وفي الآية أضيفت إلى الخالق فتكون لائقة به، فلا أحد سليم الفطرة صريح العقل يعتقد أن يد الخالق كيد المخلوق، أو بالعكس.
وتقول: ما عندك إلا زيد، وما زيد إلا عندك. فتفيد الجملة الثانية معنى غير ما تفيده الأولى، مع اتحاد الكلمات، لكن اختلف التركيب فتغير المعنى به.
إذا تقرر هذا فظاهر نصوص الصفات ما يتبادر منها إلى الذهن من المعاني.
وقد انقسم الناس فيه إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: من جعلوا الظاهر المتبادر منها معنى حقا يليق بالله عز وجل، وأبقوا دلالتها على ذلك، وهؤلاء هم السلف الذين اجتمعوا على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والذين لا يَصْدُقُ لقب أهل السنة والجماعة إلا عليهم.
وقد أجمعوا على ذلك، كما نقله ابن عبد البر فقال: "أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة، والإيمان بها، وحملها على ... الحقيقة لا على المجاز، إلا أنهم لا يكيفون شيئا من ذلك، ولا يحدون فيه صفة محصورة" اهـ.
وقال القاضي أبو يعلى في كتاب "إبطال التأويل": "لا يجوز رد هذه الأخبار، ولا التشاغل بتأويلها، والواجب حملها على ظاهرها، وأنها صفات الله لا تشبه صفات سائر الموصوفين بها من الخلق، ولا يعتقد التشبيه فيها، لكن على ما رُوِيَ عن الإمام أحمد وسائر الأئمة) اه نقل ذلك عن ابن عبد البر والقاضي شيخ الإسلام ابن تيميه في "الفتوى الحموية" (ص 87 89، ج 5" من "مجموع الفتاوى" لابن القاسم.
وهذا هو المذهب الصحيح والطريق القويم الحكيم، وذلك لوجهين:
الأول: أنه تطبيق تام لما دل عليه الكتاب والسنة من وجوب الأخذ بما جاء فيهما من أسماء الله وصفاته، كما يعلم ذلك من تتبعه بعلم وإنصاف.
الثاني: أن يقال: إن الحق إما أن يكون فيما قاله السلف، أو فيما قاله غيرهم. والثاني باطل، لأنه يلزم منه أن يكون السلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان تكلموا بالباطل تصريحا أو ظاهرًا، ولم يتكلموا مرة واحدة لا تصريحا ولا ظاهرًا بالحق الذي يجب اعتقاده. وهذا يستلزم أن يكونوا إما جاهلين بالحق، وإما عالمين به لكن كتموه، وكلاهما باطل، وبطلان اللازم يدل على بطلان الملزوم، فتعين أن يكون الحق فيما قاله السلف دون غيرهم.
القسم الثاني: من جعلوا الظاهر المتبادر من نصوص الصفات معنى باطلاً لا يليق بالله، وهو التشبيه، وأبقوا دلالتها على ذلك. وهؤلاء هم المشبهة، ومذهبهم باطل، محرم من عدة أوجه:
... الأول: أنه جناية على النصوص، وتعطيل لها عن المراد بها، فكيف يكون المراد بها التشبيه وقد قال الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}.
الثاني: أن العقل دل على مباينة الخالق للمخلوق في الذات والصفات، فكيف يحكم بدلالة النصوص على التشابه بينهما؟.
الثالث: أن هذا المفهوم الذي فهمه المشبه من النصوص مخالف لما فهمه السلف منها، فيكون باطلاً.
فإن قال المشبِّه: أنا لا أعقل من نزول الله ويده إلا مثل ما للمخلوق من ذلك، والله تعالى لم يخاطبنا إلا بما نعرفه ونعقله.
فجوابه من ثلاثة أوجه:
أحدها: أن الذي خاطبنا بذلك هو الذي قال عن نفسه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}، ونهى عباده أن يضربوا له الأمثال، أو يجعلوا له أندادًا فقال: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} وقال: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}. وكلامه تعالى كله حق، يصدق بعضه بعضا ولا يتناقض.
ثانيها: أن يقال له: ألست تعقل لله ذاتا لا تشبه الذوات؟، فسيقول: بلى. فيقال له: فلتعقل له صفات لا تشبه الصفات، فإن القول في الصفات كالقول في الذات، ومن فرق بينهما فقد تناقض.
ثالثها: أن يقال: ألست تشاهد في المخلوقات ما يتفق في الأسماء ويختلف في الحقيقة والكيفية؟. فسيقول: بلى. فيقال له: إذا عقلت التباين بين المخلوقات ... في هذا، فلماذا لا تعقله بين الخالق والمخلوق، مع أن التباين بين الخالق والمخلوق أظهر وأعظم، بل التماثل مستحيل بين الخالق والمخلوق، كما سبق في القاعدة السادسة من قواعد الصفات.
القسم الثالث: من جعلوا المعنى المتبادر من نصوص الصفات معنى باطلاً لا يليق بالله، وهو التشبيه، ثم إنهم من أجل ذلك أنكروا ما دلت عليه من المعنى اللائق بالله. وهم أهل التعطيل، سواء كان تعطيلهم عاما في الأسماء والصفات، أم خاصا فيهما، أو في أحدهما. فهؤلاء صرفوا النصوص عن ظاهرها إلى معاني عينوها بعقولهم، واضطربوا في تعيينها اضطرابا كثيرًا، وسموا ذلك تأويلاً وهو في الحقيقة تحريف.
ومذهبهم باطل من وجوه:
أحدها: أنه جناية على النصوص، حيث جعلوها دالة على معنى باطل غير لائق بالله ولا مراد له.
الثاني: أنه صرف لكلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم عن ظاهره. والله تعالى خاطب الناس بلسان عربيٍ مبين ليعقلوا الكلام ويفهموه على ما يقتضيه هذا اللسان العربي، والنبي صلى الله عليه وسلم خاطبهم بأفصح لسان البشر، فوجب حمل كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم على ظاهره المفهوم بذلك اللسان العربي، غير أنه يجب أن يصان عن التكييف والتمثيل في حق الله عز وجل.
الثالث: أن صرف كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم عن ظاهره إلى معنى يخالفه قول على الله بلا علم، وهو محرم لقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ... ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ}، ولقوله سبحانه: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً}.
فالصارف لكلام الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم عن ظاهره إلى معنى يخالفه قد قفا ما ليس له به علم، وقال على الله ما لا يعلم من وجهين:
الأول: أنه زعم أنه ليس المراد بكلام الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم كذا، مع أنه ظاهر الكلام.
الثاني: أنه زعم أن المراد به كذا لمعنى آخر لا يدل عليه ظاهر الكلام. وإذا كان من المعلوم أن تعيين أحد المعنيين المتساويين في الاحتمال قولٌ بلا علم، فما ظنك بتعيين المعنى المرجوح المخالف لظاهر الكلام؟.
مثال ذلك: قوله تعالى لإبليس: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ} فإذا صرف الكلام عن ظاهره وقال: لم يرد باليدين اليدين الحقيقيتين، وإنما أراد كذا وكذا. قلنا له: ما دليلك على ما نفيت؟، وما دليلك على ما أثبت؟. فإن أتى بدليل وأنّى له ذلك، وإلا كان قائلاً على الله بلا علم في نفيه وإثباته.
الوجه الرابع في إبطال مذهب أهل التعطيل:
أن صرف نصوص الصفات عن ظاهرها مخالف لما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وسلف الأمة وأئمتها، فيكون باطلاً، لأن الحق بلا ريب فيما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وسلف الأمة وأئمتها.
... الوجه الخامس: أن يقال للمعطل: هل أنت أعلم بالله من نفسه؟. فسيقول: لا.
ثم يقال له: هل ما أخبر الله عز وجل به عن نفسه صدق وحق؟. فسيقول: نعم.
ثم يقال له: هل تعلم كلاما أفصح وأبين من كلام الله تعالى؟. فسيقول: لا.
ثم يقال له: هل تظن أن الله سبحانه وتعالى أراد أن يعمي الحق على الخلق في هذه النصوص ليستخرجوه بعقولهم؟. فسيقول: لا.
هذا ما يقال له باعتبار ما جاء في القرآن.
أما باعتبار ما جاء في السنة:
فيقال له: هل أنت أعلم بالله من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟. فيقول: لا.
ثم يقال له: هل ما أخبر به رسول الله عن الله صدق وحق؟. فسيقول: نعم.
ثم يقال له: هل تعلم أن أحدًا من الناس أفصح كلاما وأبين من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟. فسيقول: لا.
ثم يقال له: هل تعلم أن أحدًا من الناس أنصح لعباد الله من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟. فسيقول: لا.
فيقال له: إذا كنت تقر بذلك، فلماذا لا يكون عندك الإقدام والشجاعة في إثبات ما أثبته الله تعالى لنفسه، وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم على ... حقيقته وظاهره اللائق بالله؟، وكيف يكون عندك الإقدام والشجاعة في نفي حقيقته تلك وصرفه إلى معنى يخالف ظاهره بغير علم؟، وماذا يضيرك إذا أثبت لله تعالى ما أثبته لنفسه في كتابه أو سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، على الوجه اللائق به فأخذت بما جاء في الكتاب والسنة إثباتا ونفيا؟، أفليس هذا أسلم لك وأقوم لجوابك إذا سئلت يوم القيامة: {مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ}؟، أو ليس صرفك لهذه النصوص عن ظاهرها وتعيين معنى آخر مخاطرة منك، فلعل المراد يكون على تقدير جواز صرفها غير ما صرفتها إليه.
الوجه السادس في إبطال مذهب أهل التعطيل:
أنه يلزم عليه لوازم باطلة، وبطلان اللازم يدل على بطلان الملزوم.
فمن هذه اللوازم:
أولاً: أن أهل التعطيل لم يصرفوا نصوص الصفات عن ظاهرها إلا حيث اعتقدوا أنه مستلزم أو موهم لتشبيه الله تعالى بخلقه، وتشبيه الله تعالى بخلقه كفر، لأنه تكذيب لقوله تعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}. قال نعيم ابن حماد الخزاعي أحد مشايخ البخاري رحمهما الله: (من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس ما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيها) اه.
ومن المعلوم: أن من أبطل الباطل أن يجعل ظاهر كلام الله تعالى وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم تشبيها وكفرًا أو موهما لذلك.
... ثانيا: أن كتاب الله تعالى الذي أنزله تبيانا لكل شيء، وهدى للناس، وشفاء لما في الصدور، ونورًا مبينا، وفرقانا بين الحق والباطل، لم يبين الله تعالى فيه ما يجب على العباد اعتقاده في أسمائه وصفاته، وإنما جعل ذلك موكولاً إلى عقولهم، يثبتون لله ما يشاؤن، وينكرون ما لا يريدون. وهذا ظاهر البطلان.
ثالثا: أن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاءه الراشدين وأصحابه وسلف الأمة وأئمتها كانوا قاصرين أو مقصرين في معرفة وتبيين ما يجب لله تعالى من الصفات، أو يمتنع عليه، أو يجوز. إذ لم يرد عنهم حرف واحد فيما ذهب إليه أهل التعطيل في صفات الله تعالى وسمّوه تأويلاً.
وحينئذ إما أن يكون النبيصلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون وسلف الأمة وأئمتها قاصرين لجهلهم بذلك، وعجزهم عن معرفته، أو مقصرين لعدم بيانهم للأمة. وكلا الأمرين باطل.
رابعا: أن كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ليس مرجعا للناس فيما يعتقدونه في ربهم وإلههم، الذي معرفتهم به من أهم ما جاءت به الشرائع، بل هو زبدة الرسالات. وإنما المرجع تلك العقول المضطربة المتناقضة، وما خالفها فسبيله التكذيب إن وجدوا إلى ذلك سبيلاً، أو التحريف الذي يسمونه تأويلاً إن لم يتمكنوا من تكذيبه.
خامسا: أنه يلزم منه جواز نفي ما أثبته الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فيقال في قوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ}: إنه لا يجيء. وفي قوله صلى الله عليه وسلم: "ينزل ربنا ... إلى السماء الدنيا": إنه لا ينزل. لأن إسناد المجيء والنزول إلى الله مجاز عندهم. وأظهر علامات المجاز عند القائلين به صحة نفيه ونفي ما أثبته الله ورسوله صلى الله عليه وسلم من أبطل الباطل، ولا يمكن الانفكاك عنه بتأويله إلى أمره، لأنه ليس في السياق ما يدل عليه.
ثم إن من أهل التعطيل من طرد قاعدته في جميع الصفات، أو تعدى إلى الأسماء أيضا. ومنهم من تناقض فأثبت بعض الصفات دون بعض، كالأشعرية والماتريدية، أثبتوا ما أثبتوه بحجة أن العقل يدل عليه، ونفوا ما نفوه بحجة أن العقل ينفيه أو لا يدل عليه.
فنقول لهم: نفيكم لما نفيتموه بحجة أن العقل لا يدل عليه، يمكن إثباته بالطريق العقلي الذي أثبتم به ما أثبتموه، كما هو ثابت بالدليل السمعي.
مثال ذلك: أنهم أثبتوا صفة الإرادة، ونفوا صفة الرحمة.
أثبتوا صفة الإرادة لدلالة السمع والعقل عليها.
أما السمع: فمنه قوله تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}.
وأما العقل: فإن اختلاف المخلوقات وتخصيص بعضها بما يختص به من ذات أو وصف دليل على الإرادة.
ونفوا الرحمة قالوا: لأنها تستلزم لين الراحم، ورقته للمرحوم، وهذا محال في حق الله تعالى.
وأولوا الأدلة السمعية المثبتة للرحمة إلى الفعل، أو إرادة الفعل، ففسروا الرحيم بالمنعم، أو مريد الإنعام.
... فنقول لهم: الرحمة ثابتة لله تعالى بالأدلة السمعية، وأدلة ثبوتها أكثر عددًا وتنوعا من أدلة الإرادة. فقد وردت بالاسم مثل: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} والصفة مثل: {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ}، والفعل مثل: {وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ}.
ويمكن إثباتها بالعقل، فإن النعم التي تترى على العباد من كل وجه، والنقم التي تدفع عنهم في كل حين؛ دالة على ثبوت الرحمة لله عز وجل، ودلالتها على ذلك أبين وأجلى من دلالة التخصيص على الإرادة، لظهور ذلك للخاصة والعامة، بخلاف دلالة التخصيص على الإرادة، فإنه لا يظهر إلا لأفراد من الناس.
وأما نفيها بحجة أنها تستلزم اللين والرقة. فجوابه: أن هذه الحجة لو كانت مستقيمة لأمكن نفي الإرادة بمثلها، فيقال: الإرادة ميل المريد إلى ما يرجو به حصول منفعة أو دفع مضرة. وهذا يستلزم الحاجة، والله تعالى منزه عن ذلك.
فإن أجيب: بأن هذه إرادة المخلوق. أمكن الجواب بمثله في الرحمة، بأن الرحمة المستلزمة للنقص هي رحمة المخلوق.
وبهذا تبين بطلان مذهب أهل التعطيل، سواء كان تعطيلاً عاما أم خاصا.
وبه علم أن طريق الأشاعرة والماتريدية في أسماء الله وصفاته وما احتجوا به لذلك لا تندفع به شبه المعتزلة والجهمية، وذلك من وجهين:
... أحدهما: أنه طريق مبتدع لم يكن عليه النبي صلى الله عليه وسلم ولا سلف الأمة وأئمتها، والبدعة لا تدفع بالبدعة، وإنما تدفع بالسنة.
الثاني: أن المعتزلة والجهمية يمكنهم أن يحتجوا لما نفوه على الأشاعرة والماتريدية بمثل ما احتج به الأشاعرة والماتريدية لما نفوه على أهل السنة، فيقولون: لقد أبحتم لأنفسكم نفي ما نفيتم من الصفات بما زعمتموه دليلاً عقليا، وأولتم دليله السمعي، فلماذا تحرمون علينا نفي ما نفيناه بما نراه دليلاً عقليا، ونؤول دليله السمعي؟، فلنا عقول كما أن لكم عقولاً، فإن كانت عقولنا خاطئة فكيف كانت عقولكم صائبة؟، وإن كانت عقولكم صائبة فكيف كانت عقولنا خاطئة؟، وليس لكم حجة في الإنكار علينا سوى مجرد التحكم واتباع الهوى.
وهذه حجة دامغة، وإلزام صحيح من الجهمية والمعتزلة للأشعرية والماتريدية، ولا مدفع لذلك ولا محيص عنه، إلا بالرجوع لمذهب السلف الذين يطردون هذا الباب، ويثبون لله تعالى من الأسماء والصفات ما أثبته لنفسه في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم إثباتا لا تمثيل فيه ولا تكييف، وتنزيها لا تعطيل فيه ولا تحريف، ومن لم يجعل الله له نورًا فما له من نور.
سَلامٌ مِنْ صَبا بَرَدى أَرَقُّ ....ودمعٌ لا يُكَفْكَفُ يا دمشقُ
ومَعْذِرَةَ اليراعةِ والقوافي .... جلاءُ الرِّزءِ عَنْ وَصْفٍ يُدَّقُ
وذكرى عن خواطرِها لقلبي .... إليكِ تلفّتٌ أَبداً وخَفْقُ
-
بسم الله الرحمن الرحيم
انتهى النقل بحمد الله تعالى من كتاب ( القواعد المثلى في صفات الله تعالى واسمائه الحسنى) للعلامة ابن عثيمين رحمه الله تعالى واسكنه فسيح جنانه ...
وقد بقيت بعض التنبيهات نشير اليها فيما بعد ان اقتضى الامر باذن الله تعالى
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات
سَلامٌ مِنْ صَبا بَرَدى أَرَقُّ ....ودمعٌ لا يُكَفْكَفُ يا دمشقُ
ومَعْذِرَةَ اليراعةِ والقوافي .... جلاءُ الرِّزءِ عَنْ وَصْفٍ يُدَّقُ
وذكرى عن خواطرِها لقلبي .... إليكِ تلفّتٌ أَبداً وخَفْقُ
معلومات الموضوع
الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
المواضيع المتشابهه
-
بواسطة ابو ياسمين دمياطى في المنتدى منتدى الصوتيات والمرئيات
مشاركات: 0
آخر مشاركة: 21-07-2010, 07:35 AM
-
بواسطة ahmedali في المنتدى المنتدى الإسلامي
مشاركات: 4
آخر مشاركة: 14-03-2010, 03:24 PM
-
بواسطة نبعة الريحانة في المنتدى المنتدى الإسلامي
مشاركات: 0
آخر مشاركة: 10-06-2008, 03:27 PM
-
بواسطة داع الى الله في المنتدى المنتدى الإسلامي
مشاركات: 1
آخر مشاركة: 04-01-2006, 11:39 PM
-
بواسطة هادم الأباطيل في المنتدى حقائق حول عيسى عليه السلام
مشاركات: 11
آخر مشاركة: 14-10-2005, 04:18 AM
الكلمات الدلالية لهذا الموضوع
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى
المفضلات