الجواب عنهذه الشبهة:
أمَّا فاتحة الكتاب، فإن عدم كتابتها في مصحف ابن مسعود مشكوكٌ فيه، غير مسلم بصحته.
والخبر الذي تعلَّق به أصحاب هذه الشبهة ليس فيه إنكار قرآنية الفاتحة، وإنَّما قصارى ما فيه أن ابن مسعود رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَُ لم يكن يكتبها، وليس في ذلك جحدٌ بأنَّها من القرآن.
ولو صحَّ عن ابن مسعود هذا الخبر، فإنه لا يجوز لمسلمٍ أن يَظُن خفاء قرآنية الفاتحة على ابن مسعود، فضلاً عن أن يَظُنَّ به إنكار قرآنيتها، وكيف يُظَن به ذلك، وهو من أشد الصحابة عناية بالقرآن، وقد أوصى النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقراءة القرآن على قراءته.( انظر مناهل العرفان (1/276( (
فَعَنْ عَبْدِ اللهِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ بَشَّرَاهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ غَضًّا كَمَا أُنْزِلَ، فَلْيَقْرَأْهُ عَلَى قِرَاءةِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ.( رواه ابن ماجه في سننه كتاب المقدمة، باب فضل عبد الله بن مسعود (1/49) ح 138، وابن أبي داود في كتاب المصاحف، باب كتابة المصاحف حفظًا ص 152-153. (
كما أن ابن مسعود رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَُ من السابقين إلى الإسلام، ولم يزل يسمع النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ بالفاتحة في الصلاة، ويقول: لا صَلاَةَ إِلاَّ بِقِرَاءةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ.( رواه أبو داود في سننه، كتاب الصلاة، باب من ترك القراءة في صلاته بفاتحة الكتاب (1/216) ح 820. (
فلو صحَّ عنه هذا النقل، وجب أن يُحمل على أكمل أحواله?، وذلك بأن يُقال: إنه كان يرى أن القرآن كتب في المصاحف مخافة الشك والنسيان، أو الزيادة والنقصان، فلمَّا رأى ذلك مأمونًا في فاتحة الكتاب؛ لأنَّها تثنى في الصلاة، ولأنه لا يجوز لأحد من المسلمين ترك تعلمها ـ ترك كتابتها، وهو يعلم أنَّها من القرآن، وذلك لانتفاء علة الكتابة ـ وهي خوف النسيان ـ في شأنِها.
فكان سبب عدم كتابتها في مصحفه وضوح أنَّها من القرآن، وعدم الخوف عليها من الشك والنسيان، والزيادة والنقصان.( انظر تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة ص 47-49، ومناهل العرفان (1/276( (
قال أبو بكر الأنباري تعليقًا على قول ابن مسعود رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَُ: "لو كتبتها لكتبتها في أول كل سورة" قال: يعني أن كلَّ ركعةٍ سبيلُها أن تفتتح بأم القرآن، قبل السورة المتلوَّة بعدها، فقال: اختصرت بإسقاطها، ووثقت بحفظ المسلمين لَهَا، ولم أثبتها في موضعٍ فيلزمني أن أكتبها مع كل سورةٍ، إذ كانت تتقدمها في الصلاة.( انظر: الجامع لأحكام القرآن - أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي - ت 671 ه - دار الكتب العلمية - بيروت - الطبعة الأولى 1408 ه 1988م. (1/81)، و تفسير القرآن العظيم - أبو الفداء إسماعيل بن كثير الدمشقي ت 774 ه - مكتبة دار التراث القاهرة - بدون تاريخ (1/9( (
ويدل على ذلك أيضًا أنه قد صحَّ عن ابن مسعود رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَُ قراءة عاصم وغيره، وفيها الفاتحة، وهذا نقلٌ متواتر يوجب العلم.
وأما المعوذتان، فقد ثبت بِما لامجال للشك معه أنَّهما قرآنٌ منَزَّلٌ.
فقد ورد التصريح بقرآنيتهما عن النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
كما جاء عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أُنْزِلَتْ عَلَيَّ سُورَتَانِ، فَتَعَوَّذُوا بِهِنَّ فَإِنَّهُ لَمْ يُتَعَوَّذْ بِمِثْلِهِنَّ، يَعْنِي الْمُعَوِّذَتَيْنِ.( رواه أحمد في مسنده، مسند الشاميين (5/137) ح 16848. (
وعَنْه أيضًا أنه قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أُنْزِلَ أَوْ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ آيَاتٌ لَمْ يُرَ مِثْلُهُنَّ قَطُّ، الْمُعَوِّذَتَيْنِ.( رواه مسلم في صحيحه كتاب صلاة المسافرين باب فضل قراءة المعوذتين (6/96) ح 814. (
كما ورد أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صلى بِهما صلاة الصبح، وفي قراءتِهما في الصلاة دليلٌ صريح على كونِهما من القرآن العظيم.
عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: بَيْنَا أَقُودُ بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَقَبٍ مِنْ تِلْكَ النِّقَابِ، إِذْ قَالَ: أَلاَ تَرْكَبُ يَا عُقْبَةُ؟ فَأَجْلَلْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَرْكَبْ مَرْكَبَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ثُمَّ قَالَ: أَلاَ تَرْكَبُ يَا عُقْبَةُ؟ فَأَشْفَقْتُ أَنْ يَكُونَ مَعْصِيَةً، فَنَزَلَ وَرَكِبْتُ هُنَيْهَةً، وَنَزَلْتُ وَرَكِبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ثُمَّ قَالَ: أَلاَ أُعَلِّمُكَ سُورَتَيْنِ مِنْ خَيْرِ سُورَتَيْنِ قَرَأَ بِهِمَا النَّاسُ؟ فَأَقْرَأَنِي: ( قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ )، وَ( قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (، فَأُقِيمَتِ الصَّلاَةُ، فَتَقَدَّمَ فَقَرَأَ بِهِمَا، ثُمَّ مَرَّ بِي فَقَالَ: كَيْفَ رَأَيْتَ يَا عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ؟ اقْرَأْ بِهِمَا كُلَّمَا نِمْتَ وَقُمْتَ.( رواه النسائي في سننه، كتاب الاستعاذة، (8/253) ح 5437، وأبو داود في كتاب الصلاة، باب في المعوذتين (2/73) ح 1462. (
وقد أنكر كثيرٌ من أهل العلم صحة النقل عن ابن مسعود رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَُ في إنكاره قرآنية المعوذتين، وفي عدم إثباتِهما في مصحفه.
قال الباقلاني: وأما المعوذتان، فكل من ادَّعى أن عبد الله بن مسعودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَُ أنكر أن تكونا من القرآن، فقد جهل، وبعُد عن التحصيل.( نكت الانتصار لنقل القرآن - القاضي أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني ت 403 ه - تحقيق د. محمد زغلول سلام - منشأة المعارف - الإسكندرية - 1971م.ص 90. (
وقال ابن حزم: وكل ما روي عن ابن مسعود من أن المعوذتين وأم القرآن لم تكن في مصحفه فكذبٌ موضوع، لا يصح، وإنَّما صحَّت عنه قراءة عاصمٍ عن زِرِّ ابن حبيش عن ابن مسعود، وفيها أم القرآن والمعوذتان.( الْمُحَلَّى - أبو محمد علي بن حزم الظاهري ت 456 ه - دار الآفاق الجديدة - دار الجيل - بيروت - بدون تاريخ. (1/13().
وقال النووي: أجمع المسلمون على أن المعوذتين والفاتحة وسائر السور المكتوبة في المصحف قرآن، وأن من جحد شيئًا منه كفر، وما نُقِل عن ابن مسعودٍ في الفاتحة والمعوذتين باطلٌ، ليس بصحيح عنه.( المجموع شرح المهذب (3/363().
وقد فنَّد هؤلاء العلماء ما ورد عن ابن مسعود من الإنكار أو الْمَحْوِمن المصاحف، وتطلبوا لذلك وجوهًا كثيرةً في الردِّ، منها:
1 ـ أن سبيلَ نقل المعوذتين سبيلُ نقل القرآن، وهو ظاهرٌ مشهورٌ، وأن فيهما من الإعجاز الذي لا خفاء لذي فهمٍ عنه، فكيف يحمل على ابن مسعودٍ إنكار كونِهما قرآنًا، مع ما ذكر من النقل والإعجاز؟.
2 ـ أن ابن مسعودٍ لو أنكر أن المعوذتين من القرآن لأنكر عليه الصحابة، ولنقل إلينا نقلاً مستفيضًا، كما أنكروا عليه ما هو أقل من ذلك، وهو اعتراضه على اختيار زيد لجمع القرآن.
3 ـ أن ابن مسعود كان مشهورًا بإتقان القراءة، منتصبًا للإقراء، وقد صحَّ عنه قراءة عاصم وغيره، وفيها المعوذتان، ولو كان أقرأ تلاميذه القرآن دون المعوذتين لنُقل إلينا، فلمَّا لم يروَ عنه، ولا نُقل مع جريان العادة، دلَّ على بطلانه وفساده.( الْمُحَلَّى - أبو محمد علي بن حزم الظاهري ت 456 ه - دار الآفاق الجديدة - دار الجيل - بيروت - بدون تاريخ. (1/13)، ونكت الانتصار لنقل القرآن ص 90-91، والفصل في الملل والأهواء و النحل (2/212().
4 ـ أنه لو صحَّ أنه أسقط المعوذتين من مصحفه، فإن ذلك لا يدل على إنكاره كونَهما من القرآن، بل لعله أن يكون أسقطهما لعدم خوف النسيان عليهما، وظن من رأى ذلك مِمن لم يعرف ما دعاه إليه أنه أسقطهما لأنَّهما ليستا عنده بقرآن.( نكت الانتصار لنقل القرآن ص 91. (
5 ـ ويحتمل أن يكون سمع جواب النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأُبيٍّ لما سأله عنها، وأنه قال: قيل لي، فقلت، فلما سمع هذا أو أخبر به اعتقد أنَّهما من كلام الله ?، غير أنه لا يجب أن تسميا قرآنًا؛ لأنه ? لم يسمهما بذلك، أو أنه سمع جواب النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعقبة لما سأله: أقرآنٌ هما؟ فلم يجبه، وأصبح فصلَّى الصبح بِهما، فاعتقد أنَّهما كلام الله تعالى، ولم يسمهما قرآنًا لما لم يسمهما النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك.
6 ـ ويحتمل أن يكون لم ير النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ بِهما في الصلاة قطُّ، فظن به لأجل ذلك أنه يعتقد أنَّهما ليستا من القرآن.( انظر نكت الانتصار لنقل القرآن - القاضي أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني ت 403 ه - تحقيق د. محمد زغلول سلام - منشأة المعارف - الإسكندرية - 1971م.ص 92، وتأويل مشكل القرآن لابن قتيبة ص 43).
7 ـ وأنه يُمكن أن يكون سئل عن عوذة من العوذ رواها عن النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وظن السائل عنها أنَّها من القرآن، فقال عبد الله: إن تلك العوذة ليست من القرآن، وظن سامع ذلك أو راويه أنه أراد المعوذتين، ويُمكن أن يحمل على ذلك أيضًا جوابه لِمن قال له في المعوذتين: أهي من القرآن؟ فقال بأنها ليست من القرآن، فإنه يحتمل أن يكون سأله عن معوذتين أخريين غير سورة الفلق وسورة الناس.( نكت الانتصار لنقل القرآن - القاضي أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني ت 403 ه - تحقيق د. محمد زغلول سلام - منشأة المعارف - الإسكندرية - 1971م.- القاضي أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني ت 403 ه - تحقيق د. محمد زغلول سلام - منشأة المعارف - الإسكندرية - 1971م.ص 92-93)
8 ـ وأما ما روي من حكِّه إياهما من المصحف فذلك بعيدٌ، لأنه لا يَخلو أن يكون حكَّهما من مصحفه، أو من مصاحف أصحابه الذين أخذوا عنه، أو من مصحف عثمان، وما كُتِب منه.
فمحالٌ أن يكون حكَّهما من مصحفه؛ لأنَّهما لم يكونا فيه، لأنه لم يكتبهما.
وكذلك مصاحف من أخذ عنه من أصحابه، فهي بالضرورة موافقة لمصحفه، فلا يُتَصَوَّرُ أن يكون فيها المعوذتان.
وإن كان من مصحف عثمان ?، فذلك بعيدٌ، لأنه شقُّ العصا، وخلافٌ شديدٌ يطول فيه الخطب بينهما، ولو حصل ذلك لنقل إلينا، وفي عدم العلم بذلك دليلٌ على بطلانه.
9 ـ وأما قول الراوي: إنه كان يَحكهما، ويقول: لا تخلطوا به ما ليس منه. يعني المعوذتين، فهذا تفسير من الراوي، ويحتمل أنه كان يَحكُّ الفواتح والفواصل.( نكت الانتصار لنقل القرآن - القاضي أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني ت 403 ه - تحقيق د. محمد زغلول سلام - منشأة المعارف - الإسكندرية - 1971م.لنقل القرآن ص 93.).
ويدل على ذلك ما رواه ابن أبي داود عن أبي جمرة قال: أتيت إبراهيم بمصحفٍ لي مكتوبٍ فيه: سورة كذا، وكذا آية، قال إبراهيم: امحُ هذا، فإن ابن مسعودٍ كان يكره هذا، ويقول: لا تخلطوا بكتاب الله ما ليس منه.( رواه ابن أبي داود في كتاب المصاحف، باب كتابة الفواتح والعدد في المصاحف ص 154.).
10 ـ ولو ثبت عنه بنصٍّ لا يحتمل الرد أنه حكَّهما، فإن ذلك يَحتمل وجوهًا من التأويل، منها:
أ ـ أن يكون رآها مكتوبةً في غير موضعها الذي يجب أن تكتب فيه، وأراد بقوله: لا تخلطوا به ما ليس منه: التأليف الفاسد.
ب ـ أو أنه رآها كتبت مغيَّرةً بضرْبٍ من التغيير، فحكَّها، وقال: لا تخلطوا به ما ليس منه. يعني فساد النظم.( نكت الانتصار لنقل القرآن - القاضي أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني ت 403 ه - تحقيق د. محمد زغلول سلام - منشأة المعارف - الإسكندرية - 1971م.
ص 93-94.)
وهذه التأويلات التي ذكروها حسنةٌ، ولكن الرواية بإنكار ابن مسعودٍ قرآنية المعوذتين ومحوهما من المصاحف صحيحة، فلا ينبغي أن تُرَدَّ بغير مستندٍ، ولا محظور حينئذٍ، فتأويل فعل ابن مسعود مُمكن مع صحة هذه الروايات عنه.
قال الحافظ: وأما قول النووي: أجمع المسلمون… ففيه نظر، وقد سبقه لنحو ذلك أبو محمد بن حزم… ثم قال: والطعن في الروايات الصحيحة بغير مستندٍ لا يقبل، بل الرواية صحيحة، والتأويل مُحتملٌ، والإجماع الذي نقله إن أراد شموله لكل عصر، فهو مخدوش، وإن أراد استقراره، فهو مقبول.( فتح الباري (8/615( (.
وقال ابن كثير: وهذا مشهور عند كثير من القراء والفقهاء أن ابن مسعود كان لا يكتب المعوذتين في مصحفه، فلعله لم يسمعهما من النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ولم يتواتر عنده، ثم قد رجع عن قوله ذلك إلى قول الجماعة، فإن الصحابة ? أثبتوهما في المصاحف الأئمة، ونفذوها إلى سائر الآفاق كذلك، ولله الحمد والمنَّة.( تفسير القرآن العظيم - أبو الفداء إسماعيل بن كثير الدمشقي ت 774 ه - مكتبة دار التراث القاهرة - بدون تاريخ. (4/571( (.
وعلى صحة هذا النقل يكون الجواب عن هذه الشبهة بوجوه، منها -إضافةً إلى ما سبق:
1 ـ أن ترك كتابة ابن مسعودٍ المعوذتين في مصحفه ليس بالضرورة إنكارًا لقرآنيتهما، إذ ليس يجب على الإنسان أن يكتب جميع القرآن، فلو أنه كتب بعضًا وترك بعضًا، فليس عليه عيب ولا إثم.( انظر تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة ص 49.).
2 ـ أنه يحتمل أن يكون ابن مسعودٍ ? لم يسمع المعوذتين من النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ولم تتواترا عنده، فتوقف في أمرهما.
فإن قيل: ولِمَ لَمْ ينكر عليه الصحابة، يجاب بأنَّهم لم ينكروا عليه لأنه كان بصدد البحث والتثبت في هذا الأمر.( انظر مناهل العرفان (1/276)، و تفسير القرآن العظيم - أبو الفداء إسماعيل بن كثير الدمشقي ت 774 ه - مكتبة دار التراث القاهرة - بدون تاريخ. (4/571
3 ـ أنه يَحتمل أنه كان يسمعهما من النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وكان يراه ? يعوِّذ الحسن والحسين بِهما، فظن أنَّهما ليستا من القرآن، وأقام على ظنه ومخالفة الصحابة جميعًا، ثم لَمَّا تيقن قرآنيتهما رجع إلى قول الجماعة.( تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة ص 43. (
عَنْ سُفْيَانَ قَالَ: … وَلَيْسَا فِي مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ،( يعني المعوذتين.) كَانَ يَرَى رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَوِّذُ بِهِمَا الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ، وَلَمْ يَسْمَعْهُ يَقْرَؤُهُمَا فِي شَيْءٍ مِنْ صَلاَتِهِ، فَظَنَّ أَنَّهُمَا عُوذَتَانِ، وَأَصَرَّ عَلَى ظَنِّهِ، وَتَحَقَّقَ الْبَاقُونَ كَوْنَهُمَا مِنَ الْقُرْآنِ فَأَوْدَعُوهُمَا إِيَّاهُ.( رواه أحمد في مسنده، مسند الأنصار (6/154) ح 20684. (
ومِمَّا يؤيد أنه رجع إلى قول الجماعة، ما ذكرناه آنفًا من صحة قراءة عاصم وغيره عنه، وأن فيها المعوذتين.
4 ـ أنه على فرض استمرار عبد الله بن مسعودٍ على إنكار قرآنية المعوذتين، ومَحوهما من المصاحف، يُجاب بأنه ? انفرد بِهذا الإنكار، ولم يتابعه عليه أحدٌ من الصحابة ولا غيرهم، وانفراده على فرض استمراره عليه لا يطعن في تواتر القرآن، فإنه ليس من شرط التواتر ألاَّ يُخالف فيه مخالفٌ، وإلا لأمكن هدم كل تواتر، وإبطال كل علم قام عليه بمجرد أن يُخالف فيه مخالفٌ.
فلو أنه ثبت أن ابن مسعود ? أنكر المعوذتين، بل أنكر القرآن كله، واستمر على ذلك، فإن إنكاره لا يقدح في تواتر القرآن.
قال البزار: لم يتابع عبدَ الله أحدٌ من الصحابة.( مجمع الزوائد - نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي ت 807 ه - دار الكتاب العربي - بيروت - الطبعة الثالثة 1402 ه - 1982م. (7/152)، وفتح الباري (8/615( (
ولا شكَّ أن إجماع الصحابة على قرآنيتهما كافٍ في الردِّ على هذا الطعن، ولا يضرُّ ذلك الإجماع مخالفة ابن مسعود، فإنه لا يُعقل تصويب رأي ابن مسعودٍ وتخطئة الصحابة كلهم، بل الأمة كلها.( منا مناهل العرفان في علوم القرآن - محمد عبد العظيم الزرقاني - دار الفكر - بيروت - 1408 ه 1988م (1/276-277).).
وقد استشكل الفخر الرازي على فرض صحة النقل عن ابن مسعودٍ في إنكاره قرآنية المعوذتين أنه إن قيل إن قرآنية المعوذتين كانت متواترةً في عصر ابن مسعودٍ، لزم تكفير من أنكرهما، وإن قيل إن قرآنيتهما لم تكن متواترةً في عصره، لزم أن بعض القرآن لم يتواتر في بعض الزمان، قال: وهذه عقدة صعبة.( فتح الباري بشرح صحيح البخاري - أحمد بن علي بن حجر العسقلاني ت 852 ه - المكتبة السلفية بالقاهرة - الطبعة الثالثة - 1407 ه. (8/616( (.
ويجاب عن هذا الاستشكال بأن تواتر قرآنية المعوذتين في عصر ابن مسعودٍ لا شكَّ فيه، ولا يلزم من ذلك تكفيره ?، إذ إن التواتر ـ وإن كان يفيد العلم الضروري ـ فإنه نفسه ليس علمًا ضروريًّا -أي أنه قد يخفى على بعض الناس، فليس من الضروري أن يعلم كلُّ واحدٍ من أهل العصر بتواتر الشيء، فإن خفي عليه هذا التواتر كان معذورًا، فلا يُكَفَّر.
قال ابن حجر: وأجيب باحتمال أنه كان متواترًا في عصر ابن مسعودٍ، لكن لم يتواتر عند ابن مسعود، فانحلَّت العقدة بعون الله تعالى.( فتح الباري بشرح صحيح البخاري - أحمد بن علي بن حجر العسقلاني ت 852 ه - المكتبة السلفية بالقاهرة - الطبعة الثالثة - 1407 ه. (8/616( (.
الشبهة الثالثة: سورتا الخلع والحفد عند أُبَيِّ بنِ كعبٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَُ
وردت بعض الآثار التي توحي بأن أُبَيَّ بنَ كعبٍ كان يقرأ دعاء القنوت المعروف بسورتي أُبَيِّ بن كعبٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَُ على أنه من القرآن:
فعن الأعمش أنه قال: في قراءة أُبَيِّ بن كعبٍ: اللهم إنا نستعينك ونستغفرك. ونثني عليك ولا نكفرك. ونخلع ونترك من يفجرك.( قال ابن الأثير: أي: يعصيكَ ويُخالِفكَ. النهاية في غريب الحديث والأثر - مجد الدين بن الأثير الجزري ت 606 ه - المكتبة العلمية بيروت -بدون تاريخ. (3/414).) اللهم إياك نعبد. ولك نصلي ونسجد. وإليك نسعى ونحفد. نرجو رحمتك ونخشى عذابك. إن عذابك بالكفار ملحِق.( رواه ابن أبي شيبة في المصنف، باب ما يدعو به في قنوت الفجر (2/106) ح 7030. (
كما ورد أنه كان يكتبهما في مصحفه:
فعن ابن سيرين قال: كتب أُبَيُّ بن كعبٍ في مصحفه فاتحة الكتاب والمعوذتين، واللهم إنا نستعينك، واللهم إياك نعبد، وتركهن ابن مسعودٍ، وكتب عثمان منهن فاتحة الكتاب والمعوذتين.( رواه أبو عبيد، انظر الإتقان في علوم القرآن - جلال الدين السيوطي - المكتبة العصرية بيروت - 1408 ه 1988م (1/184).).
وعن أُبَيِّ بن كعبٍ أنه كان يقنت بالسورتين، فذكرهما، وأنه كان يكتبهما في مصحفه.( أخرجه محمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة، انظر الإتقان في علوم القرآن - جلال الدين السيوطي - المكتبة العصرية بيروت - 1408 ه 1988م (1/185). (
وعن عبد الرحمن بن أبزى أنه قال: في مصحف ابن عباس قراءةُ أُبَيِّ بن كعبٍ وأبي موسى: بسم الله الرحمن الرحيم. اللهم إنا نستعينك ونستغفرك. ونثني عليك الخير ولا نكفرك. ونخلع ونترك من يفجرك. وفيه: اللهم إياك نعبد. ولك نصلي ونسجد. وإليك نسعى ونحفِد. نخشى عذابك ونرجو رحمتك. إن عذابك بالكفار ملحِق.( رواه ابن الضريس، انظر الإتقان في علوم القرآن - جلال الدين السيوطي - المكتبة العصرية بيروت - 1408 ه 1988م (1/185).).
كما ورد أن بعض الصحابة كان يقنت بِهاتينالسورتين:
فعن عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَُ أنه قنت بعد الركوع، فقال: بسم الله الرحمن الرحيم. اللهم إنا نستعينك ونستغفرك. ونثني عليك ولا نكفرك. ونخلع ونترك من يفجرك. بسم الله الرحمن الرحيم. اللهم إياك نعبد. ولك نصلي ونسجد. وإليك نسعى ونحفد. نرجو رحمتك ونخشى عذابك. إن عذابك الجد بالكافرين ملحِق.( أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، باب دعاء القنوت (2/211)، وابن أبي شيبة في المصنف باب ما يدعو به في قنوت الفجر (2/106) ح 7031، وفيه أيضًا عن عبد الملك بن سويد الكاهلي أن عليًّا ? قنت في الفجر بِهاتين السورتين، فذكرهما، ح 7029.).
قال ابن جريج: حكمة البسملة أنَّهما سورتان في مصحف بعض الصحابة.( انظر الإتقان في علوم القرآن - جلال الدين السيوطي - المكتبة العصرية بيروت - 1408 ه 1988م (1/185(.).
فزعم بعض الطاعنين أن ما روي من إثبات أُبَيٍّ القنوت في مصحفه يطعن على جمع الصحابة للقرآن، ويدل على أنَّهم نقصوا منه، وزعموا أن اشتباه القنوت بالقرآن عند أُبَيٍّ دليلٌ على عدم اشتهار أمر القرآن وعدم انتشاره، وإمكانية التباسه بغيره من الكلام، إذ قد التبس على أُبَيِّ بن كعبٍ، مع كونه من أعلم الناس به، وأحفظهم له.( انظر نكت الانتصار لنقل القرآن - القاضي أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني ت 403 ه - تحقيق د. محمد زغلول سلام - منشأة المعارف - الإسكندرية - 1971م.ص 79، و مناهل العرفان في علوم القرآن - محمد عبد العظيم الزرقاني - دار الفكر - بيروت - 1408 ه 1988م (1/264(.).
ويجاب عن هذه الشبهة بوجوه:
الأول: أن الروايات التي وردت عن أُبَيٍّ في أمر القنوت غير مسلَّم بصحتها، وهي معارَضة بِما عُرِف من فضل أُبَيٍّ، وعقله، وحسن هديه، وكثرة علمه، ومعرفته بنظم القرآن.( انظر: نكت الانتصار لنقل القرآن - القاضي أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني ت 403 ه - تحقيق د. محمد زغلول سلام - منشأة المعارف - الإسكندرية - 1971م.ص 80.).
الثاني: أن القنوت ليس من القرآن، لأنه لو كان منه لأثبته الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأظهره. ولأن نظمه قاصر عن نظم القرآن، يعلم ذلك أهل البلاغة والفصاحة، فلعل أبيًّا إن كان قال ذلك أو كتبه في مصحفه، إنَّما قاله أو كتبه سهوًا، ثم استدرك وأثبت أنه ليس من القرآن.
وقد يعترض على هذا بأن يقال كيف يُشْكِل على أُبَيٍّ أمر هذا الدعاء، وبأنه يلزم من ذلك أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يكن على معرفةٍ بوزن القرآن من غيره من الكلام.
ويجاب عن ذلك بأنه قد يكون قد ظنَّ أن القنوت -وإن قصر عن رتبة باقي السور في الجزالة والفصاحة، إلا أنه يجوز أن يكون قرآنًا، وأنه يبعد أن يُؤتى بمثله، وإن كان غيره من القرآن أبلغ منه، كما قيل: قد يكون بعض القرآن أفصح من بعضٍ.( تأويل مشكل القرآن ص 47، ونكت الانتصار لنقل القرآن ص 79-81، و مناهل العرفان في علوم القرآن - محمد عبد العظيم الزرقاني - دار الفكر - بيروت - 1408 ه 1988م (1/271).)
الثالث: أنه مِمَّا يدل على ضعف هذا الخبر عن أُبَيٍّ ما عُلِم من أن عثمان رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَُ ? تشدد في قبض المصاحف المخالفة لمصحفه، وتحريقها، والعادة توجب أن مصحف أُبَيٍّ كان من أول ما يُقبض، وأن تكون سرعة عثمان رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَُ إلى مطالبته به أشدَّ من سرعته إلى مطالبة غيره بِمصحفه؛لأنه كان مِمَّن شارك في ذلك الجمع.( نكت الانتصار لنقل القرآن - القاضي أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني ت 403 ه - تحقيق د. محمد زغلول سلام - منشأة المعارف - الإسكندرية - 1971م.ص 80. (
وقد صحت الرواية بِما يدل على أن عثمان قد قبض مصحف أُبَيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَُ.
فعن محمد بن أُبَيٍّ أن ناسًا من أهل العراق قدموا إليه، فقالوا: إنَّما تحمَّلْنا إليك من العراق، فأخْرِجْ لنا مصحفَ أُبَيٍّ. قال محمدٌ: قد قبضَه عثمان. قالوا: سبحان الله! أخْرِجْه لنا. قال: قد قبضَه عثمان.( رواه ابن أبي داود في كتاب المصاحف باب جمع عثمان المصاحف ص 32-33. (
الرابع: أن ما روي عن أُبَيٍّ ليس فيه أن دعاء القنوت قرآنٌ منَزَّل، وإنَّما غاية ما فيه أنه أثبته في مصحفه.
فإن صحَّ أنه أثبته في مصحفه، فلعله أثبته لأنه دعاءٌ لا استغناء عنه، وهو سنة مؤكدة يجب المواظبة عليه، وأثبته في آخر مصحفه أو تضاعيفه لأجل ذلك، لا على أنه قرآن منَزل قامت به الحجة، وقد كان الصحابة يثبتون في مصاحفهم ما ليس بقرآن من التأويل والمعاني والأدعية، اعتمادًا على أنه لا يُشكل عليهم أنَّها ليست بقرآن.( نكت الانتصار لنقل القرآن - القاضي أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني ت 403 ه - تحقيق د. محمد زغلول سلام - منشأة المعارف - الإسكندرية - 1971م.ص 80، مناهل العرفان (1/271)، وتأويل مشكل القرآن ص 47، و البرهان في علوم القرآن - بدر الدين محمد بن عبد اله الزركشي - دار المعرفة للطباعة والنشر - بيروت - بدون تاريخ (1/251(. (
الخامس: أنه يحتمل أن يكون بعض هذا الدعاء كان قرآنًا منَزلاً، ثم نُسخ، وأُبيح الدعاء به، وخُلط به ما ليس بقرآنٍ، فكان إثبات أُبَيٍّ هذا الدعاء أولاً فنُقِل عنه.( مناهل العرفان في علوم القرآن - محمد عبد العظيم الزرقاني - دار الفكر - بيروت - 1408 ه 1988م (1/271)، ومعجم القراءات القرآنية (1/25). (.
السادس: أنه على فرض التسليم بأن أُبَيًّا كان يرى أن القنوت من القرآن، وأنه استمر على ذلك الرأي، فليس ذلك بِمطعنٍ في صحة نقل القرآن، فإنه على هذا الفرض كان منفردًا بذلك الرأي، ويدل على ذلك عدم إثباته في صحف أبي بكر رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَُ ، ولا في مصاحف عثمان رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَُ ، إذ كانت كتابة القرآن في عهد أبي بكر في غاية الدقة والالتزام، بحيث لم تقبل قراءة إلا بشاهدين، فلما كانت قراءته ? فردية لم تقبلْ، كما رُدَّت قراءة عمر في آية الرجم.( انظر الإتقان في علوم القرآن (1/167-168)، ومعجم القراءات القرآنية (1/25)..
فلو سلَّمنا أن أُبَيًّا ظنَّ دعاء القنوت قرآنًا، فأثبته في مصحفه، فإن ذلك لا يطعن في تواتر القرآن، لأنه انفرد به، وقد حصل الإجماع على ما بين الدفتين وتواتره، فلا يضر بعد ذلك مخالفة من خالف.
السابع: أننا لو سلَّمنا أن أُبَيًّا كان يعتقد أن القنوت من القرآن، فقد ثبت أنه رجع إلى حرف الجماعة، واتفق معهم، والدليل على ذلك قراءته التي رواها نافع وابن كثير وأبو عمرو، وغيرهم، وليس فيها سورتا الحفد والخلع -كما هو معلوم، كما أن مصحفه كان موافقًا لمصحف الجماعة.
قال أبو الحسن الأشعري: قد رأيت أنا مصحف أنسٍ بالبصرة، عند قومٍ من ولدِه، فوجدتُه مساويًا لمصحف الجماعة، وكان ولد أنسٍ يروي أنه خطُّ أنسٍ وإملاء أُبَيٍّ.( نكت الانتصار لنقل القرآن - القاضي أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني ت 403 ه - تحقيق د. محمد زغلول سلام - منشأة المعارف - الإسكندرية - 1971م.ص 81. (
الشبهة الرابعة: دعوى تصرف مروان فيقراءة الفاتحة (هذه الشبهة، وإن لم تكن متعلقة مباشرة بجمع القرآن، إلا أنَّها تتعلق بنقل القرآن، وهو مقصود الجمع، فرأيت أنه من الحسن إثباتها هنا؛ لأن في الرد عليها ردًّا على من زعم أن القرآن لم ينقل إلينا على الوجه الذي جمع الصحابة، وقرأ به النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من قبلهم.
جاء في بعض الآثار أن مروان بن الحكم(هو مروان بن الحكم بن أبي العاص، مرت ترجمته في (حرق المصاحف المخالفة(..
كان أول من قرأ قوله تعالى: ( مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) بدون ألف.( اختلف القراء في هذا اللفظ، فقرأه نافع وأبو جعفر وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وحمزة(ملك) بدون ألف، وقرأه عاصم والكسائي ويعقوب وخلف في اختياره (مالك) بالألف. انظر النشر في القراءات العشر - أبو الخير محمد بن محمد بن الجزري الدمشقي ت 833 ه - راجعه الشيخ علي محمد الضباع- دار الكتاب العربي - بدون تاريخ. (1/271( (.
فعَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ يَقْرَؤُونَ: } مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ { وَأَوَّلُ مَنْ قَرَأَهَا: } مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ { مَرْوَانُ.( رواه أبو داود في سننه، كتاب الحروف والقراءات (4/37) ح 4000، ورواه ابن أبي داود في كتاب المصاحف باب ما روي عن رَسُول اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من القرآن فهو كمصحفه ص 103، وانظر الدر المنثور في التفسير المأثور (1/35-36). (.
وَعَنِ الزُّهْرِيِّ أيضًا أنه بلغه أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ ومعاوية وابنه يزيد كانوا يَقْرَؤُونَ: ( مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) قال الزُّهْرِيُّ: وَأَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَ: ( مَلِكِ ) مَرْوَانُ.( رواه ابن أبي داود في كتاب المصاحف باب ما روي عن رَسُول اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من القرآن فهو كمصحفه ص 104، وانظر الدر المنثور في التفسير المأثور لعبد الرحمن بن أبي بكر بن محمد السيوطي وجلال الدين السيوطي (1/36). (.
فزعم بعض الطاعنين على نقل القرآن أن مروان قد فعل ذلك من تلقاء نفسه، وأنه حذف الألف دون أن يَرِدَ ذلك عن النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فضلاً عن أن يتواتر عنه.
ويجاب عن هذه الشبهة بوجوه:
الأول : أن هذا كذب فاضح، لا حجة عليه، فإن الآثار الواردة في هذا ليس فيها أن مروان قد فعل من تلقاء نفسه دون ورود القراءة به عن النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وإنما غاية ما فيها أنه كان يقرأ دون ألفٍ.
الثاني: أن قول الزهري إن مروان كان أول من قرأ ( مَلِكِ )، لا يعدو أن يكون خبرًا شخصيًّا لم يسنده إلى من قبله من الصحابة رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَُم ، وعدم علم الزهري بِهذه القراءة -على فرض التسليم به- لا يجعلها غير متواترة.
قال ابن كثير: مروان عنده علم بصحة ما قرأه، لم يطلع عليه ابن شهاب، والله أعلم.( تفسير القرآن العظيم - أبو الفداء إسماعيل بن كثير الدمشقي ت 774 ه - مكتبة دار التراث القاهرة - بدون تاريخ. (1/24.. (
الثالث: أنه قد انعقد الإجماع على صحة نقل القرآن، وتم له التواتر، ومنه هذه القراءة، حيث قد قرأ بِها أبو الدرداء، وابن عباس، وابن عمر، وهؤلاء قرؤوا ونقلت عنهم تلك القراءة(وقد قرأ بِها جمهور القراء، كما مر، انظر النشر في القراءات العشر - أبو الخير محمد بن محمد بن الجزري الدمشقي ت 833 ه - راجعه الشيخ علي محمد الضباع- دار الكتاب العربي - بدون تاريخ. (1/271(.
) قبل أن يقرأ مروان، وإخبار الزهري أن مروان أول من قرأ بِها لا يُردُّ به الثابت القطعي من القرآن الكريم.( مناهل العرفان في علوم القرآن - محمد عبد العظيم الزرقاني - دار الفكر - بيروت - 1408 ه 1988م(1/396).).
الرابع: أن المراد أن مروان كان أول من قرأ بِهذه القراءة من الأمراء في الصلاة بجماعة، وليس في ذلك أن الزهري لم يعلم قراءة: } ملك يوم الدين { قبل مروان مطلقًا، فمن البعيد عن الزهري مع جلالته أن تخفى عنه تلك القراءة المتواترة.( بذل المجهود في حل أبي داود - خليل أحمد السهارنفوري ت 1346 ه - دار الكتب العلمية بيروت - بدون تاريخ. (16/328().
الخامس: أنه قد وردت الروايات أيضًا عند من أخرج خبر الزهري بأن النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقرأ: ( مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) بدون ألف: فَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا ذَكَرَتْ قِرَاءةَ رَسُولِ اللهِ: ( بِسْم اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ! الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ! الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ! مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) ، يُقَطِّعُ قِرَاءتَهُ آيَةً آيَةً.( رواه أبو داود في سننه، سنن أبي داود - أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني ت 275 ه - تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد - المكتبة العصرية - بيروت - بدون تاريخ كتاب الحروف والقراءات (4/37) ح 4001، ورواه ابن أبي داود في كتاب المصاحف - أبو بكر عبد الله بن أبي داود السجستاني - دار الكتب العلمية - بيروت - الطبعة الأولى 1405 ه 1985م باب ما روي عن رَسُول اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من القرآن فهو كمصحفه ص 105.).
وعَنْها أيضًا أنَّها قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَطِّعُ قِرَاءتَهُ، يَقُولُ: } الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {، ثُمَّ يَقِفُ، } الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {، ثُمَّ يَقِفُ، وَكَانَ يَقْرَؤُهَا: ( مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ ).
( جامع الترمذي - أبو عيسى محمد بن عيسى ابن سورة الترمذي - ت 297 ه - دار إحياء التراث العربي - بيروت - بدون تاريخ ، كتاب القراءات باب في فاتحة الكتاب (5/185) ح 2927.).
السادس: أن المصاحف العثمانية اتفقت جميعها على رسم (ملك) هكذا دون ألف، وهذا الرسم محتمل للقراءتين بالمد والقصر جميعًا.( انظر: كتاب المصاحف لابن أبي داود باب ما اجتمع عليه كُتَّاب المصاحف، ص 117-118، و مناهل العرفان في علوم القرآن - محمد عبد العظيم الزرقاني - دار الفكر - بيروت - 1408 ه 1988م (1/396).).
المفضلات