،بسم الله، والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد :
شملت رعاية التشريع الإسلامي كل من يعيش في ظلاله ، وجعل العلاقة بين المسلمين وغيرهم من أصحاب الديانات الأخرى مثالية وخاصة أهل الكتاب ، حيث أمر المسلمين بالعدل والبر بهم ، وأباح الزواج منهم ، وحرم الظلم ، وأمر بالإنفاق على من أصبح شيخا منهم ، وبالنسبة لما يثار حول الجزية فهي مبلغ بسيط جدا لا يقارن بالزكاة المفروضة على المسلمين ، ولها سببها وهو حماية أهل الذمة من الاعتداء وتوفير الأمن لهم ، فإذا لم يستطع المسلمون توفير هذه الحماية ردوا لهم أموالهم ، والتاريخ يشهد بذلك .
يقول فضيلة الأستاذ الدكتور أحمد الشرباصي الأستاذ بجامعة الأزهر رحمه الله :
حجة من لايريدون تطبيق الشرع .. ظلم أهل الذمة :
لعل أكرم الصَّيَحات التي تردّدت في جنبات بلادنا خلال الأيام الأخيرة هي الدعوة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية الغرّاء؛ لأنها شريعة الحق، شريعة العدل، شريعة الله، والله ـ تبارك وتعالى ـ هو الأعلم بمصالح عباده، والأعلم بما يسعدهم في الأولى والآخرة: (صِبْغَةَ اللهِ ومَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً ونحن له عابدون) (البقرة: 138).
ولعل أبرز عقبة يتعلَّل بها الجهلة أو المغرضون هو اصطناع التساؤل المتكرر الظّنين عن مصير أهل الذمة الذين لا يدينون بالإسلام أمام هذا التطبيق. ولو علم هؤلاء وجهَ الحقِّ لأدركوا أن تطبيق الشريعة الغراء سيكون خيرًا لأهل الذِّمّة من حياة يسودُها الإعْراض عن شريعة الله والإلحاد في آياته، فالإسلام أرأَف بأهل الذِّمّة من أي نظام آخر؛ لأنّه دِين العَدالة والسماحة والإنصاف، وقد جاء بمُثل عُليا ومبادئ سامية في هذا المجال.
الأخوة الإنسانية .. مبدأ إسلامي :
إن الإسلام يقرر أوّلاً أن الناس كلهم بينهم وشيجة من وحدة الأصل البشري والأجهزة والأخوّة الإنسانيّة، والقرآن الكريم يقول في مطلع سورة النساء: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَها وبَثَّ مِنْهُمَا رِجالاً كَثِيرًا ونِساءً واتَّقُوا اللهَ الذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) (الآية:1) وهو يقرِّر حريّة الاعتقاد دون إكراه أو اعتساف فيقول: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ) (البقرة: 256). ويقول مستنكرًا: (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنينَ) (يونس: 99). ويقول أيضًا: (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤمِنْ ومَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) (الكهف: 29).
أهل الذمة يعيشون بحرية تامة كالمسلمين :
وأهل الذِّمّة هم أهل الكِتاب الذين قبِلوا أن يعيشوا بين المسلمين مسالمين، من يهود أو نصارى، وأن يؤدُّوا ما عليهم من جزية لحمايتهم والدفاع عنهم، مع بقائهم على دينهم ومُمارستهم لشعائرهم.
وقد وضع الإسلام قاعدتَه الذهبيّة المثاليّة في معاملة أهل الذِّمّة ـ والذِّمّة هي العهد والضمان والأمان ـ فقال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم: "لَهُم مَا لَنا وعليهم ما علينا". وتوسع الإسلام في عدله وفضله، فشرع أكثر من رابطة لحسن العلاقة بين المسلمين وأهل الذّمّة من أهل الكتاب فقال الله تعالى: (اليَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وطَعَامُ الذِينَ أُوتُوا الكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ والمُحْصَناتُ مِنَ المُؤمِناتِ والمُحْصَناتُ مِنَ الذِينَ أُوتُوا الكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجورَهُنَّ مُحْصِنينَ غَيْرَ مُسَافِحينَ ولاَ مُتَّخِذِي أَخْدانٍ ومَنْ يَكْفُرْ بِالإِيْمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وهُوَ فِي الآَخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ) (المائدة: 5).
البر والإحسان بأهل الذمة :
وقرَّر القُرآن في مُحكم آياتِه أنَّ عَلاقة المودّة هي الأساس بين المسلمين والمخالفين لهم في الدين، إذا لم يكن هناك عدوان ولا طغيان، بل حثَّ الإسلامُ أتباعه على أن يعاملوا المخالفين في الدين المسالمين بالبر والقسط فقال القرآن: (لاَ يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ ولَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ. إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وظَاهَرُوا عَلَى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ ومَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (الممتحنة: 8 ـ9).
ويأتي حديث سيدنا رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ ليقول:" من ظلم معاهدًا أو كلفه فوق طاقته فأنا حَجِيجُه" أي محاججه ومغالبه بإظهار الحجّة عليه. ولقد كرّم الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ العَلاقة بين مجتمع الإسلام الذي يوجهه وقبط مصر، فتزوّج من مارية القبطية المصرية، وأوصى بالقبط خيرًا وأخبر أن "لهم نَسبًا وصهرًا".
ووجه الإسلام أتباعه إلى حسن الحوار وأدب الجدال مع أهل الكتاب وهم أهل الذمة ـ فقال القرآن: (وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتابِ إِلاّ بِالتِي هِيَ أَحْسَنُ) (العنكبوت: 46).
حقيقة الجزية وأساس فرضها :
وإذا كان الإسلام قد فرض جزءًا قليلاً من المال على أهل الكتاب يؤخذ باسم الجزية، فإنه قد فرض على المسلمين تبعاتٍ أكثرَ وأوسعَ، ومع ذلك أعفى من أداء هذا الجزء النِّساءَ والصبيانَ والمساكينَ والرُّهبان وذوي العاهات، فلا تُجبى الجِزية من امرأة ولا فَتاة، ولا صبي، ولا فقير، ولا شيخ، ولا أعمى، ولا أعرج، ولا راهب، ولا مختل في عقله. بل زاد الإسلام في فضله فتكفل بالإنفاق على من شاخ وعجز من أهل الذِّمة.
وهذا هو خامس الراشدين عمر بن عبد العزيز يكتب إلى عدي بن أرطاة عامله على البصرة: "أما بعد، فإنَّ الله ـ سبحانَه ـ إنّما أمر أن تؤخَذَ الجزيةُ ممّن رغِب عن الإسلام، واختار الكفر عِتيًّا وخُسرانًا مبينًا، فَضَعِ الجزيةَ على من أطاق حملَها، وخَلِّ بينهم وبين عمارة الأرض، فإنَّ في ذلك صَلاحًا لمعاش المسلمين، وقوة على عدوهم. وانظر من قِبلكَ من أهل الذّمة، مَن قد كَبُرَتْ سنُّه وضعفت قوتُه، وولَّت عنه المكاسب، فأجرِ عليه من بيت مال المسلمين ما يصلحه. فلو أن رجلاً من المسلمين كان له مملوك كبُرت سنُّه، وضعفت قوته، وولَّت عنه المكاسب، كان من الحق عليه أن يَقُوته حتى يفرق بينهما موت أو عِتق، وذلك أنه بلغني أن أمير المؤمنين عمر - يقصد عمر بن الخطاب ـ مرَّ بشيخ من أهل الذِّمّة، يسأل على أبواب الناس، فقال: "ما أنصفناك، إن كنا أخذنا منك الجزية في شَبابك، ثم ضيَّعْناك في كِبَرِك". ثم أجرى عليه من بيت المال ما يُصلحه".
ولم تكن الجزية عقابًا من المسلمين لعدم دخول الذمي في الإسلام، ويشهد بذلك باحث مستشرق إنجليزي هو السير توماس أرنولد صاحب كتاب "الدعوة إلى الإسلام" الذي يقول فيه ما نصه: "لم يكن الغرض من فرض هذه الضريبة ـ يعني الجزية ـ على المسيحيِّين، كما يريدنا بعض الباحثين على الظنّ، لونًا من ألوان العقاب لامتناعهم عن قبول الإسلام، وإنما كانوا يؤدُّونها مع سائر أهل الذمة وهم غير المسلمين من رعايا الدولة الذين كانت تحول ديانتهم بينهم وبين الخدمة في الجيش في مقابل الحماية التي كفلتها لهم سيوف المسلمين ".
ولما قدّم أهل الحيرة المال المتفق عليه، ذكروا صراحة أنهم إنما دفعوا هذه الجزية على شريطة " أن يمنعونا وأميرهم البغي من المسلمين وغيرهم "، وكذلك حدث أن سجل خالد في المعاهدة التي أبرمها مع بعض أهالي المدن المجاورة للحيرة قوله: " فإن منعناكم فلنا الجزية وإلا فلا ".
رد الجزية عند عدم تحقيق الأمن .. وموقف فريد :
ويمكن الحكم على مدى اعتراف المسلمين الصريح بهذا الشرط من تلك الحادثة التي وقعت في حكم الخليفة عمر. لما حشد الإمبراطور هرقل جيشًا ضخمًا لصد قوات المسلمين المحتلة، كان لزامًا على المسلمين نتيجة لما حدث، أن يركِّزوا كل نشاطَهم في المعركة التي أحدقت بهم. فلمّا علم بذلك أبو عبيدة قائد العرب، كتب إلى عمّال المدن المفتوحة في الشام يأمرهم بأن يردُّوا عليهم ما جُبِيَ من الجزية من هذه المدن، وكتب إلى الناس يقول: "إِنَّما رددنا عليكم أموالَكم؛ لأنه بلغَنا ما جُمع لنا من الجموع وإنكم قد اشترطتم علينا أن نمنعكم وإنا لا نقدر على
ذلك، وقد رددنا عليكم ما أخذنا منكم ونحن لكم على الشرط، وما كتبنا بيننا وبينكم إن نصرنا الله عليكم".
وبذلك رُدت مبالغ طائلة من مال الدولة، فدعا المسيحيون بالبركة لرؤساء المسلمين، وقالوا: "ردكم الله علينا ونصركم عليهم (أي على الروم)، فلو كانوا هم لم يردوا علينا شيئًا وأخذوا كل شيء بقي لنا".
مقدار الجزية :
ويقول الإمام أبو يوسف في كتابه: "الخراج" عن مقدار الجزية: "وإنما تجب الجزية على الرجال منهم دون النساء والصبيان. وعلى الموسِر ثمانية وأربعون درهمًا، وعلى الوسط أربعة وعشرون وعلى المحتاج الحراث العامل بيده اثنا عشر دِرهمًا، يؤخذ ذلك منهم في كل سنة، وإن جاؤوا بعَرَض قُبل منهم، مثل الدوابّ والمتاع وغير ذلك، ويؤخذ ذلك منهم بالقيمة،
ولا يؤخذ منهم في الجزية ميتة ولا خنزير ولا خمر".
ومعنى ذلك أن الإسلام يطالب بالجزية على حسب الطاقة، ويسمح بدفعها نقدًا أو عينًا، وهذا هو عمر بن الخطاب يقول: "مَن لم يطق الجزية خففوا عنه، ومن عجز فأعينوه، فإنا لا نريدهم لعام أو لعامين".
وكانت الدولة الإسلامية كثيرًا ما تؤخر موعد تحصيل الجزية حتى تنضج المحصولات الزراعية فيستطيع أهل الذمة تأديتها دون أن يرهقهم ذلك، ويعلل أبو عبيدة حكمة التأجيل بقوله: "وإنما وجه التأخير إلى الغلّة (المحصول) للرِّفق بهم".
بل إن الخليفة عمر بن الخطاب قد قبل من نصارى "تغلب" أن يدفعوا المستحق عليهم دون أن يسمِّيها جزية، بل قبل منهم تسميتهم لهم صدقات ولذلك روى المؤرِّخون قولهم: كان عمر يجعل صدقات بني تغلب ـ وهي قبيلة عربية مسيحيّة ـ في فُقرائهم دون ضمِّها إلى بيت المال. ولقد تحدث التاريخ فقال: إن النعمان تكلم مع عمر فقال له: يا أمير المؤمنين، إن بني تغلب قوم عرب، يأنَفون عن الجزية، وليست لهم أموال، إنَّما هم أصحاب حرْث ومواشٍ، ولهم نكاية في العدو فلا تُعِن عدوَّك عليكم بهم، فصالَحهم عمر بن الخطاب على أن ضاعَف عليهم الصدقة، ومن الممكن أن يقال إن أوضاع مجتمعنا الآن قد تغير الكثير منها، فأصبح أبناء الوطن كلهم يشتركون في الدفاع عنه، وفي أداء الضرائب، وفي ضوء هذا التغير يمكن علاج كثير من جوانب هذا الموضوع.
وخلاصة القول أن تطبيق الشريعة الإسلامية الغراء ضمان أي ضمان لأهل الذّمّة، حيث تتوافر لهم في ظلاله العدالة والسماحة والبر والإنصاف.
والله أعلم .
--------------------------------
المصدر:موقع إسلام أون لاين
المفضلات