للرفع.........................................ز
للرفع.........................................ز
<img src="
..........................
للرفع...................
ggvt>>>>>>>>>>>>>.
للرفع................
وإليك بعضَ النماذج التي تبين مدى دقة التعبير، وبلاغة التركيب، وبراعة النَّظم، في اختيار المفردات في القرآن الكريم.
انظر إلى قوله - تعالى - حكاية عن إخوة يوسف - عليه السلام -: {قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ} [يوسف: 17].
فاستعمل (أكله) الشائع الاستعمال، دون (افترسه) الفصيح المختار، والذي هو مِن فعل السَّبُع ونحوه، وما ذلك إلا أنَّ الافتراس لا يؤدي تمام المعنى؛ لأن معناه القتل فحسب، والقوم إنما أرادوا أن الذئب أتى عليه كله، ولم يترك منه شيئًا، لا لحمًا، ولا عظمًا، ولو قالوا: (افترسه الذئب)، لطالبهم أبوهم ببقية منه، تشهد بصحة دعواهم؛ ولهذا لم يصلح في هذا الموضع إلا أن يعبِّروا عنه بلفظ (الأكل)، وهو شائع الاستعمال في الذئب وغيره من السباع.
كذلك نرى قوله - عز وجل - حكاية عن إحدى المرأتين اللتين سَقى لهما سيدُنا موسى - عليه السلام -: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} [القصص: 25]، فاستخدم القرآن (تمشي) دون (تسعى) التي هي أفصح وأخص؛ وذلك أن القرآن العظيم إنما أراد أن يبيِّن ما ينبغي أن تكون عليه المرأة من وقار وسكينة في مشيتها، دون عجل يثير الغرائز، ويوقظ الفتن، ولفظة (تمشي) هي الأقرب لهذا المعنى؛ لأنها تدل على أنها أتتْ على العادة المعهودة للمرأة من السكينة وحسن الأدب، بخلاف (تسعى) التي تدل على السرعة والعجلة، فإنك تقول: مشيت إلى فلان، إذا لم تكن على عجلة من أمرك، بخلاف سعيت إليه.
وانظر كذلك إلى قوله - تعالى - حكاية عن موسى - عليه السلام - لما أراد الخروج من المدينة، بعد افتضاح أمره، بقتل رجل من آل فرعون؛ قال - سبحانه وتعالى -: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} [القصص: 21]، فاستعمل الاسم مع الخوف، والفعل مع الترقب، ولم يقل: يخاف يترقب، أو خائفًا مترقبًا؛ وذلك لأن المعنى لا يستقيم مع حال سيدنا موسى، إلا بما ورد في القرآن الكريم؛ لأن التعبير بالاسم (خائفًا) يدل على الدوام والثبوت، والخوف إنما كان ملازمًا لموسى لا ينفك عنه، أما الترقب (يترقب)، فإنه يقع مرة بعد مرة، كلما مشى في طريقه؛ ولذلك عبَّر بالفعل المضارع (يترقب)، الذي يدل على التجدُّد والحدوث.
وانظر إلى قوله - تعالى -: {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ} [ص: 6]، فقد زعموا أن المشي في هذا ليس بأبلغ الكلام، ولو قيل بدل ذلك: أن امضوا، أو انطلقوا، لكان أبلغ وأحسن، ولو تأملنا حال القوم، وسياق الآية، لوجدنا الأمر على خلاف ما زعموا؛ بل المشي في هذا المحل أولى، وأشبه بالمعنى؛ وذلك لأنه إنما قصد به الاستمرار على العادة الجارية، ولزوم السجية المعهودة، من غير انزعاج منهم والانتقال عن الأمر الأول[3].
والمشي هو الملائم لهذا المعنى، وكأنهم قالوا: امشوا على هيئتكم المعهودة، ولا تبالوا بهذا الأمر، ولا تعيروه اهتمامًا منكم، وفي قوله: امضوا وانطلقوا زيادة انزعاج، ليس في قوله: امشوا.
وتأمل اختيار لفظ (آنست) على (أبصرت) في حديث القرآن عن سيدنا موسى - عليه السلام - يقول – سبحانه -: {فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا} [طه: 10]، وقد تظن أن الموقف يستدعي أو يطلب (أبصرت) دون (آنست)، وليس الأمر على ما ترى؛ لأن حال سيدنا موسى من الخوف، والفزع، والمجهول الذي يلاقيه أثناء سفره - أدعى إلى الإيناس والطمأنينة، وهو ما يقوم به لفظ (آنست)؛ فإنه ليس مجرد الإبصار فحسب؛ ولكن يزيد عليه بالطمأنينة المؤنسة، (وآنست) تدل على الاطمئنان والأنس معًا.
وتأمل منهج القرآن الكريم في استخدام الفعلين (فعل - عمل)، مع أنهما شديدا التقارب، إلا أن القرآن يستخدم كلاًّ في موضعه استخدامًا عجيبًا، ويستعملهما استعمالاً بديعًا.
فـ(عمل) في القرآن تأتي لما يمتد زمانه، كما أنها لم تُسند إلى الله - تعالى - أو إلى اسم من أسمائه؛ وذلك لأنها تحتاج إلى تفكُّر وتعمل، ومقارنة بين الفعل والترك، وتقلب النظر في الصورة، واختيار ما يهدي إليه النظر فيها، وسبحانه وتعالى لا يخفى عليه شيء، ولا يلتبس عليه أمر من الأمور[4].
ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر: قوله - تعالى -: {مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا} [غافر: 40]، وقوله - سبحانه -: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا} [آل عمران: 30]، وقوله - عز وجل -: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا} [الكهف: 49].
أما مادة (فَعَل)، فإنها تكون لما يقع دفعة واحدة، ولا يحتاج إلى إعمال فكر؛ ولهذا أسندت إلى الله - عز وجل - في كثير من استعمالاتها في القرآن، خذ مثلاً قوله – تعالى -: {وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ} [إبراهيم: 45]، {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة: 253]، {قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [آل عمران: 40].
وانظر إلى استعماله لفظي (الجهاد والقتال)، تجد ما يملؤك روعة وبيانًا؛ فـ(الجهاد والقتال) وإن ترادفا في المعنى، إلا أن القرآن يفرِّق بينهما؛ فالجهاد أوسع دائرة من القتال، وهو يصدق على نشاطات الدعوة كلها، كما يشمل كل عمل يؤدِّيه المؤمن، من شأنه إعلاء دين الله، فيجاهد نفسه وأهله؛ لينأى بهم عن النار.
أما القتال، فهو أخص من الجهاد، ولا يستعمل إلا في إعلاء كلمة الله، ومع الذين يقاتلوننا، ونجده مشروطًا بعدم الاعتداء والتجاوز.
خذ من آيات الجهاد قوله – سبحانه -: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التحريم: 9]، {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} [المائدة: 54]، {فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان: 52].
فسمَّى الدعوة إلى الله جهادًا؛ لما فيها من تحمُّل الجهد والمشقة.
واقرأ من آيات القتال قوله – تعالى -: {يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} [التوبة: 111]، {وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ} [النساء: 74]، {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا} [البقرة: 190].
ثم انظر - رحمك الله - إلى حديث القرآن عن (المطر والغيث)، تجد تحديدًا دقيقًا لاستعمال الألفاظ، لا يوجد في غير القرآن.
فقد فرَّق القرآن في الاستعمال بينهما؛ فـ لفظ (الغيث) لا يذكر في القرآن إلا في مواطن الرحمة والنعمة، ويأتي مقرونًا بالخير الوفير، خذ قوله – تعالى -: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} [لقمان: 34]، {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ} [الشورى: 28]، {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ} [يوسف: 49].
على حين لا يذكر لفظ (المطر) ومشتقاته في القرآن العظيم، إلا في مقام العذاب والعقاب؛ قال - سبحانه -: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} [الأعراف: 84]، وقال - تعالى -: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ} [هود: 82]، وقوله - عز اسمه -: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ} [الشعراء: 173].
كذلك فرَّق القرآن العظيم بين (الريح والرياح)؛ فالريح في الغالب تأتي في مواطن العذاب والعقاب، بينما (الرياح) على العكس من ذلك، فإنها تأتي في مواطن الخير والنماء؛ وذلك أن الريح تأتي من جهة واحدة؛ فتكون مدمرة، أما الرياح فتأتي من جهات عدة؛ مما يُحدِث التوازن والاستقرار.
خذ مثلاً قوله - تعالى -: {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} [الذاريات: 41]، {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} [الحاقة: 6].
وفي الرياح قال - سبحانه -: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} [الأعراف: 57]، {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} [الحجر: 22].
كذلك فرق القرآن بين الفعلين (أفوض - وأتوكل)، فنجد الفعل أفوض يأتي حيث لا تنفع الأسباب، ولا تُجدي الحيلة؛ قال - تعالى -: {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ} [غافر: 44]، بينما الفعل (أتوكل) يأتي مع وجود الأسباب ورجاء نفعها؛ قال - سبحانه -: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 23]، {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران: 159]، {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [النساء: 81].
كذلك فرق القرآن في الاستعمال بين الجسد والجسم؛ فالأول يكون للميت، والثاني للحي، وفرق بين (السَّنة والعام)؛ فالأول للسنة الشمسية، والثاني للسنة القمرية، وبين (القَسَم والحلف)؛ فالقسم يكون لمطلق اليمين، بينما الحلف يكون للحنث في اليمين، وبين (جاء وأتى)؛ فالمجيء يكون من مكان أو زمان قريب، بينما الإتيان يكون في حال المكان والزمان البعيد.
كما استعمل بعض الكلمات مفردة، وإذا جمعها جاء لها بجمع من غير جنسها؛ كالصراط مفرد، وإذا جمع قيل: سُبل، والنهار مفرد، وإذا جُمع قيل: أيام، واستعمل النور مفردًا في القرآن كله؛ لأنه واحد لا تعدد فيه؛ إذ المراد به الهدى، بينما استعمل الظلمات جمع؛ لأنها متعددة؛ إذ المراد بها الضلال، وطرق الضلال شتى.
وهكذا نجد استعمالاً فريدًا للمفردات في القرآن، وتحديدًا دقيقًا، ولا عجب؛ فهو "لب كلام العرب وزبدته، وواسطته وكرائمه، وعليها اعتماد الفقهاء والحكماء في أحكامهم وحكمهم، وإليه مفزع حذاق الشعراء والبلغاء في نَظمهم ونَثرهم"[5]، وتعالى الله العظيم عما يقولون علوًّا كبيرًا.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه وسلم.
للرفع........................
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 6 (0 من الأعضاء و 6 زائر)
المفضلات