-
-
مقاصد الشريعة الإسلامية وحقوق الإنسان
يرتبط إحقاق حقوق الإنسان بالإصلاح الاجتماعي، فلا إحقاق للحقوق في ظِلِّ الفساد والإفساد القائم على الجور والظلم، ولذلك فإن الشريعة الإسلامية الغراء قد أقرَّت المقاصد الشرعية الإسلامية لتحقيق الإصلاح الاجتماعي القائم على إنصاف الإنسان وإعطائه كامل حقوقه في ظلِّ العدل والمساواة، وبناءً على ذلك تتطابق نتائج حِكْمَة الْحُكم وعلته، ويتجلى ذلك في المقصد الذي ترمي إليه الأحكام من خلال درء المفاسد، وجلب المصالح للمخلوقات.
وإن استقراء المقاصد الكلية للشريعة الإسلامية توضح أن الشريعة قد جاءت من أجل حماية الكون، وفي مقدمته إنصاف الإنسان، وتحريره من الظلم، وفرضت أحكام الحلال والحرام، وأباحت الرخص بشروطها المعقولة في حالات استثنائية من أجل حفظ المهجة، ورعاية المصالح العامة والخاصة، واعتماد تقييد العموم والخصوص، وإقرار فقه الحقوق الإنسانية العامة والخاصة عملا بقاعدة "لا ضرر ولا ضرار".
ومَن يستقرئ أصول الأحكام الشرعية وفروعها يجد توافقاً عقلياًّ وشرعياًّ على ضرورة توفر الشروط الخاصة بكل حُكم، والشرطُ العامّ هو توفر الأهلية باعتبارها مناط التكليف الشرعي القائم على الأمرِ بطاعةٍ، والنهي عن معصيةٍ، واشتراطُ الأهلية لوجوب التكليف هو الضمان الأساسي لحقوق الإنسان لأن انعدام الأهلية يُسقط التكليف لعدم وجود الاستطاعة.
وبمعنى آخر : إن طاعة الحاكم الشرعي، أو غير الشرعي لا تقتضي ظلم الرعية لأن ظلمها يتعارض مع مقاصد الشريعة الشرعية، ومع شرعة حقوق الإنسان الوضعية، والفارق كبير بين طاعة الخالق، وطاعة المخلوق، إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وإنما تجب طاعة المخلوق من أجل طاعة الخالق، وبناء على ذلك يتضح الواجب الشرعي القاضي بالإنصاف، والناهي عن الظلم، وميزان تقييم تأدية الواجب هو مدى التزام الحكام عامةً وخاصّةً بتطبيقِ العدل المأمور به شرعاً وعقلاً ونقلاً، وتَجَنُّبِ الْجَور المنهي عنه شرعاً وأخلاقياًّ وإنسانياًّ وفلسفياًّ.
إن رصد وقائع الأحداث في عالمنا المعاصر يوضِحُ وجود حراك وجدال ومناظرات في الميادين الفكرية والتشريعية والسياسية والفلسفية، وكل فريق يدعي أنه يمتلك الحل السحري للمعضلات البشرية، ويضمن حقوق الإنسان من العدوان، ويتمسك بالديمقراطية التي تخدمه، ولو ألغت الفريق المعارض له، وفي خضم الجدال نجد بعض المجادلين الناقمين على الإسلام يعادون أفكار الآخرين بسبب التعصب الذاتي، وبسبب جهلهم ما عند الآخر، والإنسان عدو ما يجهل بالغريزة، ومن هنا نجد من يعادي الشريعة الإسلامية ويعتبرها خطراً على حقوق الإنسان لأنه يجهل أحكام الشريعة وأسبابها وشروطها وعللها.
وهنالك مَن يدعي مسّ الشريعة الإسلامية بحقوق الإنسان، وسبب الادعاء هو أن ذلك الْمُدّعي لم يقرأ التراث الشرعي الإسلامي، ويهاجم بدوافع الحقد والكراهية، والأحكام المسبقة دون اعتبار للأدلة الواضحة للمنصفين، ولكن المنصف الذي درس التراث، واعتنى بتأصيل العلوم، ومعرفة سياقها التاريخي بشكل دقيق يعلم عدالتها، ويتأكد من شرعيتها بإسنادها إلى المصدر الأول في عهد النبوة، إذ أن العمل بما هو شرعي يقتضي النصَّ قولاً أو عملاً أو إقراراً، ولدى استقراء ما وصلنا من عهد النبوة والخلافة الراشدة، ثم الخلافة الأموية فالعباسية فالعثمانية نجد تسلسل انتقال العلوم من التأصيل إلى التفريع، ومن الإجمال إلى التفصيل، وفي استقراء وقائع الأحداث في جميع المراحل التاريخية منذ فجر الإسلام حتى الآن نجد أن حفظ حقوق الإنسان منوط بالتمسك بمقاصد الشريعة التي يُعبَّرُ عنها بالمصالح، وقد وصلتنا نصوص مخطوطة لعلماء أجلاء تدعم الروايات الشفوية المتواترة بالسماع الصحيح الذي أخذه الخلف عن السلف.
ومن العلماء المؤلفين الذين تركوا لنا نصوصا مضيئة حول المصالح الإنسانية الإمام العزّ بن عبد السلام المتوفى عام 660 ﻫ / 1262م، وضمّنها كتابه (قواعد الأحكام في مصالح الأنام) وبيَّن كيفية "جَلْبِ مَصَالِحِ الدَّارَيْنِ، وَدَرْءِ مَفَاسِدِهِمَا"، وقال: "لِلدارَيْنِ مَصَالِحُ إذَا فَاتَتْ فَسَدَ أَمْرُهُمَا، وَمَفَاسِدُ إذَا تَحَقَّقَتْ هَلَكَ أَهْلُهُمَا" وفي هذا الكلام إشارة إلى حفظ حقوق الإنسان في الدنيا والآخرة.
ومن كتب التراث الإسلامي الرائدة في إيضاح حقوق الإنسان كتاب الموافقات الذي ألفه الإمام الشاطبي المالكي، وضمَّنه مقاصد الشريعة الإسلامية التي تضمن حقوق الإنسان، وكانت وفاة الشاطبي سنة 790 ﻫ / 1388م في عهد السلطان العثماني مراد الأول الذي استشهد بعد الانتصار في معركة كوسوفو، ومصطلح المقاصد عند الأصوليين مُواز لمصطلح المصالح، وما فيه مقصد للشريعة فيه مصلحة للبشر، ومجيء المصالح بمعنى المقاصد وارد عند الإمام الزركشي الشافعي
( 745 - 794 ﻫ / 1344 - 1392م) حيث يستخدم مصطلح المصالح بدل مصطلح المقاصد، وهذا واضح في كتاب البحر المحيط في أصول الفقه حيث يقول:
"قَالَ أَصْحَابُنَا: الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الأَحْكَامَ كُلَّهَا شَرْعِيَّةٌ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ, إجْمَاعُ الأُمَّةِ عَلَى ذَلِكَ, إمَّا عَلَى جِهَةِ اللُّطْفِ وَالْفَضْلِ عَلَى أَصْلِنَا, أَوْ عَلَى جِهَةِ الْوُجُوبِ عَلَى أَصْلِ الْمُعْتَزِلَةِ, فَنَحْنُ نَقُولُ: هِيَ وَإِنْ كَانَتْ مُعْتَبَرَةً فِي الشَّرْعِ لَكِنَّهُ لَيْسَ بِطَرِيقِ الْوُجُوبِ, وَلا لأَنَّ خُلُوَّ الأَحْكَامِ مِنْ الْمَصَالِحِ يَمْتَنِعُ فِي الْعَقْلِ كَمَا يَقُولُ الْمُعْتَزِلَةُ, وَإِنَّمَا نَقُولُ: رِعَايَةُ هَذِهِ الْمَصْلَحَةِ أَمْرٌ وَاقِعٌ فِي الشَّرْعِ, وَكَانَ يَجُوزُ فِي الْعَقْلِ أَنْ لا يَقَعَ كَسَائِرِ الأُمُورِ الْعَادِيَّةِ".
ويستخدم الزركشي مصطلح الاستصلاح في قوله: "وَلَكِنَّ الَّذِي عَرَفْنَاهُ مِنْ الشَّرَائِعِ أَنَّهَا وُضِعَتْ عَلَى الاسْتِصْلَاحِ , ودَلَّتْ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ الأُمَّةِ عَلَى مُلاءَمَةِ الشَّرْعِ لِلْعِبَادَاتِ الْجِبِلِيَّةِ، وَالسِّيَاسَاتِ الْفَاضِلَةِ، وَأَنَّهَا لا تَنْفَكُّ عَنْ مَصْلَحَةٍ عَاجِلَةٍ وَآجِلَةٍ"، وتتعدد المصطلحات المرتبة بالمقاصد والمصالح عند الأصوليين المسلمين، وهذا واضح عند الزركشي في معرض البحث في موضوع "[ الْمَسْلَكُ ] الْخَامِسُ فِي إثْبَاتِ الْعِلِّيَّةِ [الْمُنَاسَبَةُ]" حيث يقول الزركشي:
"وَهِيَ مِنْ الطُّرُقِ الْمَعْقُولَةِ، وَيُعَبَّرُ عَنْهَا بِـ " الإِخَالَةِ " وَبِـ " الْمَصْلَحَةِ " وَبِـ " الاسْتِدْلالِ " وَبِـ "رِعَايَةِ الْمَقَاصِدِ". وَيُسَمَّى اسْتِخْرَاجُهَا " تَخْرِيجُ الْمَنَاطِ "لأَنَّهُ إبْدَاءُ مَنَاطِ الْحُكْمِ. وَهِيَ عُمْدَةُ كِتَابِ الْقِيَاسِ، وَغَمْرَتُهُ، وَمَحَلُّ غُمُوضِهِ وَوُضُوحِهِ. وَهُوَ تَعْيِينُ الْعِلَّةِ بِمُجَرَّدِ إبْدَاءِ الْمُنَاسَبَةِ، أَيْ: الْمُنَاسَبَةِ اللُّغَوِيَّةِ الَّتِي هِيَ الْمُلاءَمَةُ"
وفي هذا الكلام إيضاح عدد من المرادفات التي استعملها العلماء للتعبير عن مراعاة المقاصد الشرعية ورعاية المصالح الإنسانية، وهذا دليل على قِدَم الاهتمام بالمقاصد والمصالح رغم تنوع المصطلحات المعبرة عنها عبر القرون التي سبقت القرن الثامن الهجري/ الرابع عشر الميلادي، ومازالت معتبرة حتى العصر الحاضر.
لاشك أن العلوم قد تطورت، وتفرعت عن الأصول فروع كثيرة، ولم تتخلف الشريعة الإسلامية عن مواكبة العصر حسبما يراه بعض المتخلفين الذين لم يفهموا الشريعة، فللشريعة مقاصد حيوية مناسبة لكل عصر، والمقاصد تتعلق بالفرد وبالمجتمع، وهي بذلك تحفظ حقوق الإنسان الفرد الضرورية المتمثلة بحفظ النفس، وحفظ الدين، وحفظ العرض، وحفظ العقل، وحفظ المال، كما تحفظ الشريعة الإسلامية حقوق الجماعة الإنسانية التي تبدأ بالأسرة، وتتسع لتشمل الإنسانية عامة، وتبدأ بحفظ الحقوق الإنسانية ابتداءً بالعلاقات الأُسَريّة التي تشمل حفظ النوع البشري بتنظيم العلاقة بين الجنسين، وحفظ النسب، وتحقيق السكن والمودة والرحمة جراء التعاون علمياًّ وعملياًّ في كافة المناشط الإنسانية العاطفية والدينية والاقتصادية، وبالإضافة للعلاقات الأسرية أوجبت الشريعة في حلقة أوسع حقوق الأُمّة، وفرضت قيام مؤسسات الدولة لإقامة العدل بين الناس، ولحفظ الأمن والأمان، ورعاية مكارم الأخلاق، وإقرار التكافل الاجتماعي، ونشر العلوم، ومكافحة الجهل، والمحافظة على المال الخاص والعام، والتعاون مع الأمم الأخرى لتحقيق إعمار الأرض المأمور به شرعاً، ومكافحة التدمير والتخريب المنهي عنه شرعا، والأدلة الشرعية على ذلك ثابتة بنصوص القرآن الكريم، والسُّنّة النبوية المطهرة، وأدلة إجماع السلف الصالح، وما يتضمنه التراث الشرعي الإسلامي من المنقول والمعقول.
ولا تقتصر حقوق الإنسان في الشريعة الإسلامية على الضروريات، بل تتجاوزها إلى الحاجيات والتحسينيات والتكميليات.
فأما الحاجيّات فهي ما يُفْتَقَرُ إليه من حيث التَّوْسِعة على الناس، ورفع الضيق المؤدي في الغالب إلى الحرج والمشقة اللاحقة بفوت المطلوب، وتشمل ما يتعلق بالحاجات العامة، ولا يصل إلى مرتبة الضروريات.
وأما التحسينات فتشمل مكارم الأخلاق، ومُستحسَن العادات والتقاليد، وتستبعد ما يؤذي الذوق العام مما يأنفه العاقلون، واستقراء ما تضمنته الشريعة الإسلامية من مقاصد الشريعة وما انطوت عليه من الضروريات والحاجيات والتحسينيات والتكميليات يُوضح لنا أن الشريعة الإسلامية قد ضمنت حقوق الإنسان كأفضل ما يكون، وأن دعاوى النقاد المعادين ما هي إلا غمامة صيف لا مطر فيها ولا خير للإنسانية، بل هي دعاوى شاذة تقوم على الجهل والتجني.
وتضمنت الشريعة الإسلامية آلية لحفظ الحقوق الإنسانية، وذلك بفرض العقوبات على المخالفين لتردعهم عن إلحاق الأذى بغيرهم، وتناسبت الحدود الشرعية مع نوعية المخالفة وما تنتجه من ضرر خاص أو عام، فهنالك حَدُّ الردة لحفظ الدين، وحَدُّ القتل العمد العدوان قصاصاً لحفظ النفس، وحَدُّ الزنا لحفظ النسب أو النسل، وحَدُّ شرب الخمر لحفظ نعمة العقل، وحَدُّ قطع السارق لحفظ المال، وحَدُّ القذف لحفظ العِرْض والسُّمعة من افتراء المفترين، وتطبيق هذه الحدود هو من أجل ردع من تسول له نفسه تدمير القيم الإنسانية، وليست من أجل التنكيل بالمجرم.
إن المنقول والمعقول الشرعي الإسلامي قد نصَّ على حفظ حقوق الإنسان في الحياة، والدليل قوله تعالى: ﴿ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ ﴾ المائدة32
وحق الإنسان في الحرية التي أشار إليها الخليفة عمر ابن الخطاب رضي الله عنه بقوله لابن الأكرمين: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا" وحق المساواة بين الناس والحكم بالعدل، والدليل قوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴾ سورة النساء، الآية:58.
وحق الدفاع عن النفس والعرض والمال، وذلك بالرد على المعتدي، والدليل قوله تعالى:
﴿ الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ﴾ سورة البقرة، الآية: 194.
وهنالك حقوق كثيرة ضمنتها الشريعة لكي يحيا الإنسان حياة حرة كريمة دون أن يؤذى، أو يُلحق الأذى بالآخرين عملا بالقاعدة الشرعية التي تقول: “ درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة" ويكون ذلك بالحكمة، وليس اعتباطاً.
لقد أوضح الإمام ابن تيمية الطريقة القويمة والمنهاج الواضح في كيفية التعامل مع كافة القضايا حيث يقول: "والمؤمن ينبغي له أن يَعْرف الشرور الواقعة ومراتبها في الكتاب والسنة، كما يَعْرف الخيرات الواقعة، ومراتبها في الكتاب والسنة، فيُفَرِّق بين أحكام الأمور الواقعة الكائنة، والتي يُراد إيقاعها في الكتاب والسنة، ليقدِّم ما هو أكثر خيراً وأقل شراً على ما هو دونه، ويَدْفع أعظم الشرين باحتمال أدناهما، ويَجْتلب أعظم الخيرين بفوات أدناهما، فإنّ من لم يَعْرف الواقع في الخلق، والواجب في الدين: لم يَعْرف أحكام الله في عباده، وإذا لم يَعْرف ذلك كان قوله وعمله بجهل، ومَن عبدَ الله بغير علم كان ما يُفْسِد أكثر مما يُصْلِح" ومن هنا وجب على مَن يتصدى للحديث في شؤون الأمة بشكل عامّ ، وحقوق الإنسان بشكل خاص أن يعلم مضمون الشريعة، وكيفية تعاملها في الحقوق والواجبات كي يستطيع أن يكون مُنصفا، وليس مُتجنياًّ كما هو حال الكثيرين الذين يتشدقون بحقوق الإنسان، ويدعون أن الشريعة الإسلامية هي السبب، والراجح أن الذي يدفعهم إلى اتخاذ تلك المواقف هو سبب واحد من اثنين لا ثالث لهما: إما الحقد على الإسلام والمسلمين، وإما الجهل المطلق بمضمون الشريعة الإسلامية الصالحة لكل زمان ومكان.
لتحميل كتبي فضلاً الضغط على الصورة التالية - متجدد بإذن الله
-
شهادتي للتاريخ
قبل اغتيال الرئيس المصري محمد أنور السادات بعام وتحديداً عام 1980م جاءني الأستاذ إبراهيم خطاب عضو مجلس الشورى -رحمه الله -بنسخة من قوانين تقنين الشريعة الإسلامية في مصر وعليها خاتم مجلس الشعب، وكان ضمن الكلام الذي دار بيننا أن الرئيس السادات - رحمه الله - كان قد عهد للدكتور صوفي أبو طالب رئيس مجلس الشعب بمسئولية إعادة تقنين كافة القوانين المعمول بها في مصر طبقاً للشريعة الإسلامية ، ولقد تم بدأ العمل الفعلي للتقنين في عام 1978 وتمت الاستعانة بصفوة من العلماء المتخصصين من الأزهر والقضاة وأساتذة كليات الحقوق وبعض الخبراء من المسلمين والمسيحيين، وتم تقسيم العمل إلى لجان يرأس كل لجنة أحد أعضاء مجلس الشعب المتخصصين في المجال، إلى جانب هؤلاء الخبراء. وكانت الخطة تقوم على عدم التقيد بالراجح في مذهب معين، بل الأخذ بالرأي المناسب من أي مذهب من المذاهب الفقهية.
وشرعوا في التقنين على أبواب الفقه وتقسيماته، وما لم يجدوه في كتب الفقه يلجأون إلى مقاصد الشريعة في استنباط الأحكام، وفي حالة تعدد الآراء الفقهية للمسألة الواحدة كانوا يختارون واحداً منها مع ذكر الآراء الأخرى ومصادرها على هامش الصفحة ليرجع إليها من يشاء.
كانت هذه هي خطة العمل كما هو مدون في مقدمة ذلك العمل الجبار..
هذا هو السادات الذي اتهم بالردة والخيانة والكفر.. ومن ثم تم استباحة دمه..
لماذا؟ لأنه لا يطبق شرع الله.. وكأن شرع الله تعالي مجرد ورقة وقلم..
يقول الدكتور صوفي أبو طالب: "أستطيع أن أجزم أن الرئيس السادات كان جادا في مسألة تطبيق الشريعة، وكان سلوكه وكلامه يقطعان بذلك.. ولو قدرت له الحياة عاما أو عامين آخرين لرأينا تقنين الشريعة مطبقا على أرض الواقع. وكان الرئيس السادات في كل الاجتماعات يحثنا على الإسراع لإنجاز مشروع التقنين.. وكان يطالبنا بعدم الانتظار حتى يكتمل تقنين كل القوانين، واقترح مرة أن ندفع بما ننجزه أولا بأول إلى مجلس الشعب لأخذ الموافقة عليه تمهيدا لتطبيقه وسريانه في المنظومة القانونية).
وتحتفظ مكتبتي بنسخة أصلية من هذه القوانين وعليها خاتم مجلس الشعب، فهذه النسخة الوثيقة هي التي تبرأ ساحة الرئيس المصري محمد أنور السادات وكل من ساهم في إخراجها شهود عليها وكل أعضاء مجلسي الشعب والشورى الذين كانوا يعدون أنفسهم بالموافقة سواء من كان يرتضيها أو من يرفضها، كل هؤلاء شهود عليها.
هذه النسخة الوثيقة سوف يقابل بها السادات ربه باعتباره أول رئيس يقنن لمبادئ الشريعة الإسلامية بمصر وكأن دمه سال عليها من الخارجين عليه والذين أباحوا دمه.. مثل ما سال دم عثمان بن عفان على المصحف الذي كتبه وذلك من الخارجين عليه كذلك..
وهذه القوانين التي صاغها كبار رجال الفقه الجنائي والمدني والاقتصادي مطبوعة طباعة فاخرة في دول الخليج وعندي منها أيضاً نسخة في مكتبتي..
ولم يمت العمل في تقنين الشريعة بموت السادات رحمه الله ولكنه استمر حتى تم الانتهاء من كافة القوانين سواء الجنائية منها أو المدنية أو الاقتصادية..
يقول الدكتور صوفي:
(ومع حلول عام 1983 تم الانتهاء من جميع أعمال التقنين، وقمنا بطباعتها وعرضها على مجلس الشعب، وحظي بالموافقة عليه بالإجماع من أعضاء المجلس المسلمين والمسيحيين.. ومضابط المجلس مازالت موجودة وثابتة، وتشير إلى مدى تحمس المسيحيين لتطبيق الشريعة الإسلامية.). أ.ھ.
لتحميل كتبي فضلاً الضغط على الصورة التالية - متجدد بإذن الله
-
تمهيد
ان القانون بصورة عامة يمثل ظاهرة اجتماعية متصلة بالمجتمعات الانسانية المنتظمة، بحيث يهدف الى تحقيق المصلحة العامة من خلال المحافظة على كيان المجتمع واستقراره وكذلك تحقيق المصلحة الخاصة من خلال المحافظة على حقوق الافراد وحرياتهم.
فاذا كان تحقيق المصلحة العامة والخاصة هو هدف القانون بصورة عامة، فإن ذلك هو هدف القانون الجنائي بصورة خاصة باعتباره أحد فروع القانون العام الداخلي، وان القانون الجنائي يتكون من قواعد القانون الموضوعي وقواعد القانون الاجرائي حيث يحدد القانون الموضوعي الافعال المخالفة للقانون وهي الجرائم وكذلك الجزاءات اللازمة لها، اما القانون الاجرائي فأنه يحدد الاجراءات التي يجب اتباعها منذ وقوع الجريمة وحتى صدور الحكم الجنائي فيها وتنفيذه.
والقانون الجنائي هو القانونُ الذي يساهمُ في فرضِ عقوبةٍ محددةٍ على المجرمِ بعد التأكدِ من ارتكابه للجريمة من خلال الاعتماد على الأدلة المتوفرة، وأيضاً يُعرفُ القانون الجنائي بِأنهُ مجموعةٌ من النصوصِ القانونيّة التي تساهمُ في وضعِ حدودٍ، وعقوباتٍ على الأفراد سواءً بصفتهم الشخصيّة، أو الصفة التي يمثّلونها وهكذا يساهمُ القانون الجنائي بالحدِ من أي سلوكياتٍ تؤدي إلى تهديدِ الأمن العام في الدول، ويعاقب الأشخاص الذين يتجاوزن ويُخالفون التشريعات القانونيّة.
العجيب أن سورة يوسف تتضمن بيان قواعد ومبادئ قانونية راقية يعتمدها المحققون في كل الأزمنة والأمكنة من أجل كشف الجناة في الجرائم الجنائية في كل العالم المسلمين وغير المسلمين؟؟ حتى نعرف روعة معاني القران الكريم وبداعته وشموله لكل نواحي الحياة التي يحتاجها الإنسان .
تزخر سورة يوسف عليه السلام بالعبر والأفكار التي تصطبغ بالطابع القانوني. فهي عرضت لأوضاع ذات صلةٍ وثيقة بالعديد من فروع القانون، فقد اشارت إلى أحكام قانونية تعامل معها المشّرع الوضعي، وكرست مبادئ استقر عليها العمل في الفكر القانوني، وكشفت النقاب عن "أوضاع قانونية" لم يُدركها الفكر القانوني إلا في مرحلة لاحقة.
وهذه الدراسة تُعنى بما ورد في هذه السورة من لمحات قانونية، ولذلك فإنها ستقتصرُ على عرض الآيات التي تضمنت ذلك دون الدخول في شرح الآيات إلا فيما يخدم هدف هذه الدراسة، وذلك لأن علماء أجلاء سبقوا في نيل هذا الفضل العظيم.
لتحميل كتبي فضلاً الضغط على الصورة التالية - متجدد بإذن الله
-
تحديد مصطلحات الدراسة والألفاظ ذات الصلة:
استعرضت الدراسة مفاهيم ومصطلحاتٍ قانونيةٍ متعددة، وقد جرى التعريف بتلك المفاهيم والمصطلحات حسب ورودها في متن الدراسة تسهيلا على القارئ الكريم بما يعينه على الفهم والإحاطة بما جاء فيها.
هيكلية الدراسة
لكي تؤدي الدراسة غرضها سنعرض للآيات التي انطوت على معالجةٍ قانونية، وسنحاول تصنيف تلك الآيات وفقاً لتعلقها بالقاعدة القانونية أو فرع القانون الذي تتصل به.
فالآيات التي تضمنت أفكاراً تخص قانون الأحوال الشخصية سيتم دراستها في مبحث، وتلك المتصلة بالقانون المدني في مبحث أخر، وتلك التي تتعلق بالقانون الجنائي في مبحث أخر وصولاً إلى عرض ومعالجة جميع الآيات التي تخدم غرض الدراسة.
المبحث الأول: الآيات المتصلة بالتنازع الدولي من حيثُ الاختصاص التشريعي
﴿ قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ.. قَالُوا جَزَاؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ ۚ كَذَٰلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ﴾ يوسف:74-75.
المطلب الأول: تنازع القوانين في القانون الدولي الخاص
المطلب الثاني: الروابط القانونية للمجتمعات المختلفة
المبحث الثاني: الآيات المتصلة بقانون الأحوال الشخصية والتي تشمل فقط الحديث عن:
العبودية والتبني والكفالة
﴿ وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لِامْرَأَتِهِ ﴾ الآية رقم 21 من سورة يوسف. (نظام التبني والعبودية)).
وردت في سورة يوسف إشارة إلى ما يسمى بنظام التبني للصغار، وهو سلوك مارسه البشر منذ القدم لكن هذا النظام ينطوي على تداخلات قانونية وشرعية هامة فقد قال تعالى في الآية 21 من سورة يوسف: ﴿ وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَىٰ أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا ۚ وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ۚ ﴾.
المطلب الأول: التبني والعبودية والكفالة
الفرع الأول: حكم الرقيق
الفرع الثاني: القضاء على الرق
الفرع الثالث: منهج الإسلام في تحرير الرقيق
الفرع الرابع: إعادة تنظيم المجتمع المسلم على أساس التصور الإسلامي في تحرير الرقيق
المطلب الثاني: القضاء على التبني
الفرع الأول: التبني والآثار الشرعية المترتبة عليه
الفرع الثاني: التبني في ظل الشرائع السماوية
المطلب الثالث: الكفالة
الفرع الأول: مفهوم الكفالة
الفرع ثاني: إجراءات انعقادها
المبحث الثالث: الآيات المتصلة بالقانون المدني
﴿ وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ ﴾ الآية رقم 20 (البيع بثمن بخس).
﴿ وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ ۚ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ ﴾ الآية رقم 59 من سورة يوسف. (الشرط الواقف).
﴿ قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ ﴾ الآية رقم72 (الوعد بجائزة أو الجعالة).
﴿ قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِّنَ اللّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ﴾. الآية رقم 66 من سورة يوسف (القوة القاهرة وأثرها على الالتزام).
المطلب الأول: البيع بثمن بخس
المطلب الثاني: الشرط الواقف
المطلب الثالث: الوعد بجائزة _ الجعالة
المطلب الرابع: القوة القاهرة وأثرها على الالتزام
المبحث الرابع: الآيات المتصلة بقانون أصول المحاكمات وقانون الإثبات
﴿ وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ ۚ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾. الآية رقم 25 من سورة يوسف (الدعوى).
﴿ قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي ۚ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ﴾: الآية رقم 26 من سورة يوسف. (اللائحة الجوابية: الإقرار أو الإنكار).
﴿ قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي ۚ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ.. وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴾. الآيات 26و 27 من سورة يوسف (الخبرة والقرائن).
﴿ فَلَمَّا رَأَىٰ قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ ۖ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ﴾.. الآية رقم 28 من سورة يوسف (المعاينة والخبرة).
﴿ قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّنَ الصَّاغِرِينَ (32)﴾ يوسف: ٣٢ (الإقرار غير القضائي).
﴿ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ﴾. الآية رقم 51 من سورة يوسف. (الإقرار القضائي).
﴿ وَجَاءُوا عَلَىٰ قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ ۚ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا ۖ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ۖ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ ﴾ الآية رقم 18 من سورة يوسف. (اصطناع الدليل).
﴿ وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ ۖ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَىٰ رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ۚ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ ﴾.. الآية رقم 50 من سورة يوسف. (إعادة المحاكمة).
المطلب الأول:
الفرع الأول: الدعوى
الفرع الثاني: الخصومة
المطلب الثاني :اللائحة الجوابية
الفرع الأول:الإقرار أو الإنكار
الفرع الثاني: دعوى ثبوت الزنا على المغيرة بن شعبة
المطلب الثالث: البينات- الخبرة والقرائن
الفرع الأول: القضاء الشرعي في مصر
الفرع الثاني: القرينة المادية
الفرع الثالث: مبــدأ قانــونيٌّ (شخصيَّة العقـــــوبة)
الفرع الرابع: حق المتهم في الدفاع عن نفسه
المطلب الرابع: قضيتي الثبوت والتحاكم
الفرع الأول: امرأة العزير مع يوسف عليه السلام
الفرع الثاني: إثبات البراءة في مرحلة الثبوت لا يلزم منه الإقرار بمرحلة الحكم إذا لم تكن طالبا لها
الفرع الثالث: القرائن
الفرع الرابع: الطعن في الحكم القضائي
المطلب الخامس: الحيل الفقهية
الفرع الأول: الحيل التي اتَّبعها يوسف مع اخوته
الفرع الثاني: معنى الاحتيال.. وشروط الأخذ بها
المطب السادس: علاقة يوسف بقميصه علاقة تستحق التأمل
المطلب السابع: امرأة العزيز بين المعصية والتوبة
الفرع الأول: المعصية
الفرع الثاني: أدلة براءة يوسف عليه السلام
المطلب الثامن: هل حظي يوسف بمحاكمة عادلة
المطلب التاسع: إعادة المحاكمة
المطلب العاشر: عدم جواز اصطناع الدليل
المبحث الخامس: الآيات المتصلة بقانون العقوبات
﴿ اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ ﴾ الآية رقم 9 من سورة يوسف. (جريمة المؤامرة وسبق الإصرار).
﴿ وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ﴾. الآية رقم 23 من سورة يوسف (جريمة عرض فعل منافي للحياء).
﴿ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ ۖ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَن رَّأَىٰ بُرْهَانَ رَبِّهِ ۚ كَذَٰلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ ۚ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ﴾ الآية رقم 24 من سورة يوسف. (الشروع في الجريمة).
﴿ وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ ۚ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾.. الآية رقم 25 من سورة يوسف (الجرم المشهود).
﴿ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ ۖ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ ... ﴿ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلَّا مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ إِنَّا إِذًا لَّظَالِمُونَ ﴾ الآيات 78 و79 من سورة يوسف (شخصية العقوبة).
﴿ فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا ۖ إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ ﴾. الآية رقم 88 من سورة يوسف. (العفو العام والخاص).
﴿ فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاءِ أَخِيهِ ۚ كَذَٰلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ ۖ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ ۚ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ ۗ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ﴾. الآية رقم 76 من سورة يوسف. (مبدأ إقليمية القانون والقانون الواجب التطبيق).
المطلب الأول: بعض الأنماط الجرمية التي عرضت لها سورة يوسف
الفرع الأول: المؤامرة والاتفاق الجنائي
الفرع الثاني: جريمة عرض فعل منافي للحياء
الفرع الثالث: الشروع في الجريمة
الفرع الرابع: الجرم المشهود
المطلب الثاني: العفو العام والعفو الخاص
المطلب الثالث: أمورٌ إنسانيَّة متكررة يمارسها الناس عند وقوعهم تحت طائلة القانون
الباب الثاني: مصادر التشريع الإسلامي في القانون المصري.
والله ولي التوفيق.
وكان الفراغ منه في الأول من يوليو 2020.
لتحميل كتبي فضلاً الضغط على الصورة التالية - متجدد بإذن الله
-
المبحث الأول
الآيات المتصلة بالتنازع الدولي من حيثُ الاختصاص التشريعي
﴿ قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ.. قَالُوا جَزَاؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ ۚ كَذَٰلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ﴾ يوسف:74-75.
المطلب الأول
تنازع القوانين في القانون الدولي الخاص
مبدأ إقليمية قانون العقوبات
يقصد بمبدأ إقليمية قانون العقوبات الوطني هو القانون الواجب تطبيقه على جميع الجرائم التي تقع على إقليم الدولة بصرف النظر عن جنسية مرتكبيها أو جنسية ضحاياها.
أما المستفاد من الآية الكريمة سالفة الذكر، فهو أن الجريمة التي اقترنت من قبل إخوة سيدنا يوسف، تمت على الأراضي المصرية، وهي واقعة ينطبق عليها الوصف الجرمي لجريمة السرقة. ولقد درجت الشرائع الوضيعة على معاقبة مرتكب الجريمة وفقا لقانون الدولة التي ارتكبت الجريمة على إقليميها
وهو ما يعرف -حاضرا- بمبدأ الصلاحية الإقليمية أو مبدأ إقليمية قانون العقوبات. ولما كان القانون السائد في مصر آنذاك لا يخول سيدنا يوسف إبقاء أخيه عنده جزاء ما نسب إليه من سرقة، فقد عمد إلى حيلة قانونية مفادها الاحتكام إلى قانون إخوته -أبناء يعقوب-أي تطبيق القانون الشخصي للمتهم الأجنبي، وفي ذلك عدالة تحقق له مراده في استبقاء أخيه لعلمه أن عقوبة السارق في شريعة يعقوب -"وهي العبودية" على ما أفصحت الآية الكريمة- تتيح له ذلك بخلاف الشريعة المطبقة في مصر ﴿ قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ ﴾ يوسف:74.
﴿ قَالُوا جَزَاؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ ۚ كَذَٰلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ﴾ يوسف:75.
ولقد سبقت الإشارة إلى ما يعرف بالقانون الدولي الخاص والذي يعرف بأنه:
مجموعة القواعد القانونية التي تحدد القانون الواجب تطبيقه أو المحكمة المختصة في نزاع مشوب بعنصر أجنبي.
ويندرج تحت هذا الفرع من القانون موضوعات هي:
تنازع الاختصاص التشريعي.
تنازع الاختصاص القضائي.
الأحكام المتعلقة بتنفيذ الأحكام القضائية الأجنبية.
الأحكام المتعلقة بالجنسية والموطن والمركز القانوني للأجانب.
وتتميز قواعد تنازع الاختصاصين التشريعي والقضائي بأنها ليست أكثر من قواعد إسناد، وليست قواعد موضوعية لحل النزاع، فهي تشير إلى القانون الذي استنادا لأحكامه سيتم حل النزاع أو المحكمة التي ستتولى النظر في هذا النزاع.
ولقد تطورت أحكام القانون الدولي الخاص مع تطور الفكر القانوني، وشيوع الوقائع والعلاقات المختلطة بين الوطنيين والأجانب، والحاجة لتحديد أكثر القوانين ملائمة لحل النزاع الناشئ عن علاقات أو وقائع مختلطة.
ورغم أن أبرز موضوعات القانون الدولي الخاص تتعلق بالقانون الواجب التطبيق والمحكمة المختصة في النزعات " الخاصة " المشوبة بعنصر أجنبي إلا أن بعض الموضوعات الأخرى لا تتعلق بنزعات " خاصة " بين الأفراد، وذلك عندما تكون الدولة بوصفها سلطة ذات سيادة طرفا في العلاقة كما هو الحال في المسائل المتعلقة بالجنسية والمركز القانوني للأجانب وكذلك القانون الواجب تطبيقه والمحكمة المختصة في النظر بالجرائم المرتبطة على إقليمها.
المعنى القانوني للأجنبي:
يقصد بالمركز القانوني للأجانب هو مجموعة القواعد القانونية التي تنظم الحقوق التي يتمتع بها الأجانب والالتزامات التي تترتب عليهم في أثناء وجودهم على أرض دولة ما خارج بلادهم.
والأجنبي في دولة معينة هو كل شخص لا يتمتع بجنسيتها، سواء أكان يحمل جنسية دولة أخرى أم كان لا يحمل جنسية دولة ما، أي عديم الجنسية، وسواء أكان مقيماً على إقليمها أم لا.
ومن الناحية التاريخية لم تكن المجتمعات القديمة تعترف بأية حقوق للأجانب في أقاليمها، بل كان الأجنبي بمنزلة عدو لها مهدد دائماً بالعبودية ومجرد من أية حماية قانونية، فكان في حكم الأشياء محلاً للحق لا طرفاً فيه، يباع ويشترى من دون أن يكون أهلاً للتمتع بالحق.
وظل الأجنبي زمناً طويلاً محروماً من الشخصية القانونية في نظر هذه المجتمعات. ومن أبسط الحقوق الملازمة لوجوده ولإنسانيته كحق الزواج والإرث والتصرف والتملك.
ولم يتحسن وضع الأجنبي إلا مع تطور علاقات الأفراد والمجتمعات البشرية وتطور حاجاتها وأفكارها ومشاعرها، مما أدى إلى إيلاء وجود الأجنبي بعض الاهتمام. فكان نظام الضيافة، الذي عرف في الحقوق اليونانية، ثم في الحقوق الرومانية، أول تعبير قانوني عن تقدم وضع الأجنبي. أنظر الموسوعة العربية ـ العلوم القانونية والإدارية- المجلد الأول - المركز القانوني للأجانب ـ تاريخ 2014/08/29.
وعندما تطورت علاقات الرومان بالأجانب من شعوب البلاد التي خضعت لحكمهم، وضع الرومان قانوناً خاصاً بالأجانب، هو ما يُعرف باسم «قانون الشعوب»، يحدد حقوقهم وينظم علاقاتهم فيما بينهم من جهة، وعلاقاتهم مع الرومان من جهة أخرى.
وهكذا بدأ وضع الأجانب بوجه عام بالتحسن تدريجياً، ولكن هذا التحسن لم يصل إلى حد انتزاع شعور الكراهية من النفس البشرية تجاه الأجنبي والحذر منه ولاسيما في أوربا.
ففي عهد الإقطاع مثلاً، الذي ساد في العصور الوسطى، ساء وضع الأجنبي ولم تعد له حرمة في شخصه أو ماله.
ويدل لفظ (أجنبي) بذاته في اللغة الجارية الحديثة على مصدره وتحديده القانوني خاصة عندما ينصرف معناه الرائج بكونه اللفظ المقابل للوطني.
هذا المعنى يقود الى (قانون الجنسية) الذي تتكفل أحكامه اما صراحة أو ضمنا بتحديد المقصود بالأجنبي.
إذن في علم القانون (الأجنبي) هو الشخص الذي لا يتمتع بحق حال في جنسية الدولة التي يقيم فيها.
بصرف النظر عما إذا كان وجوده فيها بقصد عبورها والمرور فيها فقط أو بقصد التوطن والإقامة وسواء دخل فيها بحريته أو كان لاجئا.
فقانون الجنسية هو الذي يحدد من هو الوطني ومن هو الأجنبي، حيث يتم هذا التحديد غالبا عن طريق الاستنتاج وأحيانا عن طريق التصريح.
وبهذا فالأجنبي الذي يقيم في دولة معينة لا يعد من مواطنيها مالم يكتسب جنسيتها سواء أكان الأجنبي عديم الجنسية أم متمتعا بجنسية دولة أجنبية وسواء أكان وجوده في تلك الدولة بصورة دائمة أم مؤقته أم كان مضطرا للدخول أو دخل بإرادته ونفس الحال بالنسبة للأجنبي الذي يحمل عدة جنسيات ولم تكن احداها جنسية الدولة التي يقيم فيها.
وقد أقر القانون الدولي الخاص، مبدأ حرية الدول في تعيين رعاياها، بمقتضى تشريعاتها الداخلية التي تضعها لتحقيق هذه الغاية.
وأن هذا الاصطلاح قصده هذا القانون باعتبار الأجنبي هو كل من لا ينتمي الى جنسية الدولة سواء كان الشخص منتميا الى جنسية دولة أخرى أو أن يكون متجردا منها.
حيث تضع كل دولة تشريعا خاصا في هذا الشأن، يعرف بقانون الجنسية، تبين فيه الشروط والصفات التي تتطلبها لاعتبار الشخص متمتعا بجنسيتها وغير ذلك من القواعد التي بواسطتها يتم التمييز بين الوطني والأجنبي.
وأما المشرع المصري فقد عرف الأجنبي في القانون رقم 89 لسنة 1960م الخاص بإقامة الأجانب في مصر وتعديلاته بالقـــــــانون 88 لســنة 2005م في الباب الاول موضوع القواعد العامة على أنه :
( يعتبر أجنبيا في حكم هذا القانون كل من لا يتمتع بجنسية جمهورية مصر العربية ) المادة (1) مستبدلة بالقانون رقم 88 لسنة 2005 .
كما يعد الشخص أجنبيا عن الدولة حتى ولو رتب وجوده على إقليمها التزاما على عاتقها بتوفير الحماية الداخلية والدبلوماسية له كاللاجئ السياسي والعسكري.
لذا يمكن أن نعرف الأجنبي بأنه:
(كل فرد لا يتمتع بحق حال في جنسية الدولة الموجود فيها لغرض المرور أو الإقامة باختياره أو دونها أو كان متجردا منها). انظر الدكتور محمد جلال الأطروش – مجلة جامعة تكريت للعلوم القانونية والإدارية – الأجنبي والتزاماته في إقليم الدولة - العدد 1 – ص 324- 325.
وبناء على التعريف السابق فلقد كان يعقوب وابنائه أجانب في مصر.. ونخلص مما سبق أنه حينما توجه أبناء يعقوب إلى مصر وتم توجيه تهمة السرقة إلى أحدهم هنا ظهر النزاع عند فرض العقوبة على السارق والتي تمت طبقا لقواعد تم تأسيسها فيما يعرف بالقانون الدولي.
ومثلما توجد قواعد حلول تنازع القوانين توجد قواعد لحلول التنازع بين المحاكم، كما أن تلك القواعد تمارس من خلالها المحكمة صلاحيتها في تسوية النزاع، مما يثر ذلك التساؤل عن أنواع الاختصاص القضائي الدولي، وطبيعة القواعد والإجراءات المتبعة في كل منهم، ولأجل الإحاطة بالموضوع سنبحث ذلك من خلال مبحثين:
فالأول: يتعلق ببيان المحاكم المختصَّة، بالنظر في القضايا التي تخصُّ المواطنين والأجانب، والحالات التي تُعتبر فيها المحاكم الوطنيَّة هي المعنيَّة بالنظر فيها، ولو كان حدوثها خارج البلد.
والثاني: يتعلق ببيان القانون الواجب التنفيذ، في حالة النظر في قضيَّةٍ لها علاقةٌ بأجنبيٍّ، أو وقعت في بلدٍ أجنبيٍّ، ولكن تمَّ النظر فيها في محكمة وطنيَّة.
وبناء عليه هناك نظريتان [ولهما تفصيلات] خلاصتهما:
1- إنَّ الأغلب هو الأخذ [بإقليمية القوانين]، أي تطبيق قانون الإقليم الذي وقعت فيه الجريمة، وإن كان الفاعلون من الأجانب. مثل إخوة يوسف عليه السلام. قال تعالى في شأن يوسف عليه السلام عزيز مصر: ﴿ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ ﴾.
﴿ دِينِ الْمَلِكِ ﴾ أي شرع الملك وقانون الدولة.. فما كان له ولا مما تبيحه أمانته لملك مصر أن يخالف شرعه الذي فوض له الحكم به وهو لا يبيح استرقاق السارق، فما كان بالميسور له أخذ أخيه من إخوته ومنعه من الرحيل معهم إلا بحكمهم على أنفسهم بشريعة يعقوب التي تبيح ذلك.
ولما كانت هذه الوسيلة إلى تلك الغاية الشريفة منكرة بحسب الظاهر، لأنها تهمة باطلة، وكان من شأن يوسف أن يتباعد عنها ويتحاماها إلا بوحي من الله - بين أنه فعل ذلك بإذن الله ومشيئته فقال:
﴿ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ ﴾ أي إنه فعل ذلك بإذن الله ووحيه، لا أنه هو الذي اخترع هذه المكيدة.
2- والبعض يأخذ [بشخصية القوانين] … وخاصة في الدول التي للغير فيها امتيازات مفروضة، أو ما كانت فيها امتيازات لأعضاء الهيئات الدبلوماسية والقنصلية مثل أخو يوسف عليه السلام.
فيطبق عليهم قانون بلدهم الذي يلاحقهم أينما ذهبوا. فإنَّ الناس تسعى دوماً الى أن تبقى تحت حكم قانونها الشخصي.
﴿ قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ ﴾ أي جزاؤه أخذ من وجد في رحله وظهر أنه هو السارق له وجعله عبدا لصاحبه، وقوله: ﴿ فَهُوَ جَزاؤُهُ ﴾ تقرير للحكم السابق وتأكيد له بإعادته، كما تقول حق الضيف أن يكرم، فهو حقه، والقصد من الأول إفادة الحكم، ومن الثاني إفادة أن ذلك هو الحق الواجب في مثل هذا، وقد كان الحكم في شرع يعقوب أن يسترقّ السارق سنة.
﴿ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ﴾ أي مثل هذا الجزاء الأوفى نجزى الظالمين للناس بسرقة أمتعتهم وأموالهم في شريعتنا، فنحن أشد الناس عقابا للسراق.
وهذا تأكيد منهم بعد تأكيد لثقتهم ببراءة أنفسهم.
﴿ فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ﴾ أي فبدأ يوسف بتفتيش أوعيتهم التي تشتمل عليها رحالهم ابتعادا عن الشبهة وظن التهمة بطريق الحيلة.
﴿ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ ﴾ أي ثم إنه بعد أن فرغ من تفتيش أوعيتهم فتش وعاء أخيه فأخرج السقاية منه.
﴿ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ﴾ أي مثل هذا الكيد والتدبير الخفي كدنا ليوسف، وألهمناه إياه، وأوحينا إليه أن يفعله.
3- الجمع بينهما
إنَّ سيَّدنا يُوسُف أدخل إخوتَه في الفخ، فارتضوا قانونهم الذي يُطبِّقونه في بلادهم، ألا وهو شريعـــة [يعقوب] .. حتى أنّهم:﴿ قالوا من وُجِد في رحله فهو جزاؤه كذلك نَجزي الظالمين ﴾.
فَأَخَذَ إقرارهم على رؤوس الأشْهاد، في أنَّ ( العبودِيَّة ) هي جزاء السارق في شريعتهم، وأنَّهم راضون بما تفرضه شريعَتُهم، بل أنَّ [يوسف] وأتباعه يُعدُوُن متفضلين، إذ سحبوا شريعة يعقوب، وهي: [قانونهم الشخصي]، إلى إقليم دولة [الملك] !!..
لتحميل كتبي فضلاً الضغط على الصورة التالية - متجدد بإذن الله
-
المطلب الثاني
الروابط القانونية للمجتمعات المختلفة
ويقوم القانون بتنظيم العلاقات أو الروابط القانونية للمجتمعات المختلفة، وتتكون هذه العلاقات أو الروابط القانونية من ثلاثة عناصر:
أشخاص العلاقة القانونية، موضوع العلاقة القانونية، نسبة موضوع العلاقة القانونية إلى أشخاصها.
فإذا كانت عناصر العلاقة أو الرابطة القانونية وطنية ضمن نطاق دولة واحدة فلا نكون بصدد تنازع القوانين، وبمعنى آخر لا تثور مشكلة تنازع القوانين لأن العلاقة القانونية بجميع عناصرها يحكمها قانون دولة واحدة.
ولكن قد تتصل علاقة قانونية خاصة بعنصر أو أكثر من عناصرها بأكثر من قانون واحد كقانون الجنسية وقانون الموطن وقانون محل انعقاد العقد، وينتج عن هذا تعدد القوانين التي هذا تتزاحم وتتنازع فيما بينها لحكم العلاقة القانونية، التي لا بد وأن تكون خاضعة لأحد القوانين ويدعى ذلك بتنازع القوانين، قد يرتبط الأجانب في دولة ما فيما بينهم أو فيما بينهم وبين أبناء الدولة التي وجدوا فيها بعلاقات قانونية.
ولذلك تعقدت العلاقات القانونية بين الناس وتنوعت القواعد القانونية التي تحكمها، وأصبحت معرفة تلك القواعد ليست بالأمر اليسير في كل حين، لأن لكل مجتمع من هذه المجتمعات نظامه القانوني الخاص به وله سلطته الخاصة التي تسهر على إدارة شؤونه، ويظهر بشكل واضح إذا تعلق الأمر بأكثر من مجتمع بالنظر لاختلاف الدول في درجة تطورها وظروفها وبالتالي في أنظمتها. هذا الاختلاف بين قوانين الدول وأنظمتها سيثير بدون شك نزاعا فيما بينها كلما اتصلت علاقة قانونية أو مركز قانوني بدولة أو أكثر.
إن حل مشكلة تنازع القوانين يتم عادة بواسطة إعمال قواعد معينة تسمى قواعد تنازع القوانين أو قواعد الإسناد ويمكن القول إن قواعد الإسناد هي القواعد القانونية التي ترشد القاضي إلى القانون الواجب التطبيق على العلاقات القانونية ذات العنصر الأجنبي.
وقواعد الإسناد على هذا النحو هي قواعد وضعها المشرع الوطني لاختيار أكثر القوانين المتزاحمة ملاءمة لحكم العلاقة الخاصة المتضمنة عنصرا أجنبيا وأكثرها إيفاء بمقتضيات العدالة من وجهة نظره، فقواعد الإسناد تهدف إذن إلى وضع أكثر الحلول المناسبة من وجهة نظر المشرع لحكم العلاقات الدولية الخاصة، ويكون حل النزاع بترجيح أحد القوانين المتنازعة وتفضيله سواء أكان وطنيا أو أجنبيا ويتم ذلك بالرجوع إلى قواعد تنازع القوانين من حيث المكان (قواعد الإسناد) التي يضعها المشرع الوطني وعلى مصادر القانون الدولي الخاص الأخرى عند افتقاد النص لتعيين القانون الواجب التطبيق ويفض النزاع بإسناد العلاقة القانونية إليه ليحكمها، وذلك بما يعرف بالقانون الدولي الخاص والذي هو مجموعة القواعد القانونية التي تحدد القانون الواجب تطبيقه أو المحكمة المختصة في نزاع مشوب بعنصر أجنبي ويندرج تحت هذا الفرع من القانون موضوعات هي تنازع الاختصاص التشريعي، تنازع الاختصاص القضائي، الأحكام المتعلقة بتنفيذ الأحكام القضائية الأجنبية، الأحكام المتعلقة بالجنسية والموطن والمركز القانوني للأجانب.
وتتميز قواعد تنازع الاختصاصين التشريعي والقضائي بأنها ليست أكثر من قواعد إسناد، وليست قواعد موضوعية لحل النزاع، فهي تشير إلى القانون الذي سيتم حل النزاع استنادا لأحكامه سيتم حل النزاع أو المحكمة التي ستتولى النظر في هذا النزاع.
ولقد تطورت أحكام القانون الدولي الخاص مع تطور الفكر القانوني، وشيوع الوقائع والعلاقات المختلطة بين الوطنيين والأجانب، والحاجة لتحديد أكثر القوانين ملائمة لحل النزاع الناشئ عن علاقات أو وقائع مختلطة.
هناك جدل بين المفسرين حول العصر الذي حدثت فيه قصة سيدنا يوسف ففي حين يري بعض المفسرين أن القانون السائد في مصر آنذاك هو قانون فرعون، يري البعض أن ذلك مغالطة تاريخية، لأن الحقبة الزمنية التي جرت فيها أحداث قصة سيدنا يوسف كانت في عصر آخر غير عصر الفراعنة كما هو محقق في دراستي المعنونة (النبي يوسف عيه السلام- الإعجاز اللغوي والقصصي والتاريخي، تحت عنوان إعجاز تاريخي في سورة يوسف عليه السلام).
ورغم أن أبرز موضوعات القانون الدولي الخاص تتعلق بالقانون الواجب التطبيق والمحكمة المختصة في النزاعات " الخاصة " المشوبة بعنصر أجنبي إلا أن بعض الموضوعات الأخرى لا تتعلق بنزاعات " خاصة " بين الأفراد، وذلك عندما تكون الدولة بوصفها سلطة ذات سيادة طرفا في العلاقة كما هو الحال في المسائل المتعلقة بالجنسية والمركز القانوني للأجانب وكذلك القانون الواجب تطبيقه والمحكمة المختصة في النظر بالجرائم المرتبطة على إقليمها.
في الثاني من أكتوبر 2018، أعلنت تركيا أن جمال خاشقجي، الصحفي السعودي والمقيم في واشنطن والكاتب في صحيفة الواشنطن بوست والمعارض للنظام السعودي، قد قتل بعد دخوله مبنى القنصلية السعودية في إسطنبول، وأنه تم فصل رأسه عن جسده وتقطيع جثمانه في مكتب القنصل العام، وأن الذي قام بهذا العمل فريق أمني محترف ورسمي أعد العدة خصيصا لارتكاب هذه الجريمة، وجاء إلى إسطنبول في طائرتين من القاهرة ودبي، وكان مع الفريق منشار ومواد كيماوية مذيبة للجسد.
هذه الوقائع تطرح العديد من المسائل القانونية، حتى قبل أن تعلن تركيا التفاصيل النهائية لحادث الاغتيال.
في هذه النقطة يفترق القانون عن الشريعة الإسلامية؛ فالقانون الذي وضعه البشر يسمح بإفلات من يشاء، ولكنه وفقا للشريعة فهو يريد أن يفتدي بمن أمرهم بالقتل، فلا يتوفر الأساس الشرعي لقتلهم، ويصبح قتلهم جريمة جديدة تضاف إلى جرائم الجانب السعودي. فعدم حسم القضية بصدق يصيب أبرياء كثرا.
على أن معاقبة المنفذ لا تغني عن معاقبة الآمر؛ لأن بداية الخيط في الجريمة هو الأمر بالقتل، ولا يمكن فك الارتباط بين الآمر والمنفذ عندما يكون المنفذ رسميا ومن الموظفين العموميين الذين يفترض أنهم يلتزمون بتعليمات الآمر، حتى ولو كان قتل الخصوم. وهذا قد يجوز في القانون السعودي، ولكنه ليس جائزا في الشريعة؛ لأنه في الشريعة لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ولا يمكن تفسير سلطة ولي الأمر في الإسلام بأنها تشمل القتل والتمثيل والتوحش الإجرامي، فقد كان يكفي أن يتم إخراج الضحية من الحياة إلى الموت دون تعذيبه أو التمثيل بجثته؛ لأن حرمة الموت تأبى هذه التصرفات المشينة.
وعلى الجانب الآخر، قد ترى السعودية أن القاتل سعودي والمبنى سعودي، وأن القضاء والقانون السعودي يسودان ويمنعان القانون القضائي التركي. وهذا زعم - إن صح - يخرج تماما عن إطار القانون الدولي في أي عصر.
حيث القضية بدأت دولية ولا تملك السعودية حصرها في إطار سعودي؛ لأنها ببساطة تمت على أرض أجنبية، حيث تنادى غير المتخصصين بأن البعثة سعودية في مبنى تملكه السعودية، وتمتد إليه السيادة السعودية، وهذا خطأ فادح، فالمبنى ملك للسعودية والأرض للسيادة التركية، فلا تملك السعودية سوى التصرف في المبنى بيعا أو ترتيبا، أما ما يقع فيه من جرائم فيختص به القاضي التركي.
ومعنى ذلك، أنه ليس هناك تنازع في الاختصاص القضائي، إنما هناك القضاء التركي الوحيد المختص.
لتحميل كتبي فضلاً الضغط على الصورة التالية - متجدد بإذن الله
-
-
الفرع الثاني
القضاء على الرق
منهج الإسلام في تحرير الرقيق
وهكذا وجدنا أن الرق من الأمور التي كانت منتشرة قبل الإسلام وبعده، ولما جاء الإسلام لم يكن طرفا أوحد فيها، ولكنه جفف منابعها.
يقول فضيلة الشيخ الغزالي – رحمه الله -:
في مطالع البعثة المحمدية كان الرقيق واقعًا غير مُؤلِم ولا مستغرَب ولا منكور، وكانت جماهير الأرقَّاء تَزحَم المشارق والمغارب، لا يَأْبَهُ لهم أحدٌ ولا يفكر في إنقاذهم مُصْلِح.
في أرجاء الدولة الرومانية النصرانية كان العبيد يَخدمون في صمت، وربما قُدِّم بعضهم طعامًا للوحوش في بعض المناسبات، وكان اليهود - وَفْقَ تعاليم التوراة - يُنظمون أساليب الاسترقاق للعِبرانيين وغير العبرانيين.
ولم الأسَى على الرقيق وحدهم؟ إن المَنبوذين في القارة الهندية كانوا أنجاسًا لا تُعرَف لهم حُرمة، ولقد وقع ابنٌ لامرأةٍ بِرَهْمِيّةٍ في بئر، وكان أحد المنبوذين يستطيع إنقاذه لو أذنت أُمه، لكن الأم فضَّلت أن يموت ولَدُها ولا يعيش بعد ما لَمَسه مَنْبوذ!.
الإسلام أول من تكلم في تحرير الرقيق في عصره:
في هذا الجو القابِض الظَّلُوم كانت الإنسانية تعيش، ما أنصَفَتها فلسفة اليونان التي تُقرُّ الاسترقاق بعقلها المُفكر! ولا أنصَفَتها مَواريثُ التديُّن التي احتضنها الكهنة وأظلَمَت بها الأرض، حتى تكلَّم محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأصاخ الناس إلى ما جاء به، فإذا هم يسمعون أن البشر كلهم إخوة بينهم نسَبٌ واحدٌ، وتَسري في أوصالهم نفخة مِن روح الله، وأنهم سواسيةٌ في الحقوق والواجبات، وأنهم خُلقوا ليَتعارفوا ويَتحابُّوا ﴿ يا أيُّها الناسُ إنَّا خلَقْناكُمْ مِن ذَكَرٍ وأُنثَى وجَعلناكم شُعوبًا وقَبائلَ لِتَعارَفُوا إنَّ أكْرَمَكُمْ عندَ اللهِ أتْقَاكُمْ ﴾ (الحجرات: 13)
وسمع الناس للمرة الأولى في تاريخهم أن المُسترَقِّينَ يجب أن تُفَكَّ قيودُهم وتُعتقَ رِقابُهم، وأن العانِينَ ينبغي أن يُحرَّروا من الذُّلِّ والجُوع والهوان، وأن العقبات دون هذا كله لابد مِن اقتحامها لمَن يريد رضوان الله ﴿ فلا اقْتَحَمَ العَقبةَ. ومَا أدْرَاكَ مَا العَقَبَةُ. فَكُّ رَقَبَةٍ. أو إِطْعَامٌ في يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ. يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ. أوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ ﴾ (البلد: 11ـ16) وعلى المؤمنين أن يَتجرَّدوا لأداء هذا الواجب، فلا يُحرِّروا الأسرى ليَجعلوهم أتباعًا أو عبيدَ إحسانٍ بعد ما كانوا عبيدَ سطوةٍ، كلاّ، إنهم كما قال تعالى: ﴿ ويُطْعِمُونَ الطعامَ علَى حُبِّهِ مِسْكِينًا ويَتِيمًا وأَسِيرًا. إنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُريدُ مِنكم جَزاءً ولا شُكورًا ﴾ (الإنسان: 8 ـ 9).
إلغاء الإسلام لمصادر الرق:
ولمَّا جاء دور التشريع لنقل هذه المبادئ إلى قوانينَ مُلزِمةٍ نظَر الإسلام إلى مصادر الرِّقِّ فألغاها كلها على النحو الآتي:
الرق للعجز عن سداد الدين:
كان الرُّومانيون ومِن قبلِهم العبرانيون يَحكمون بالعُبودية على مُقْترفِي بعض الجرائم، ومِن هذه الجرائم عند الرومان عجْزُ المُعْسِر عن الوفاء بالدَّيْنِ، وقد رفض الإسلام هذه النظرة رفضًا حاسِمًا، ولم يَسترِقَّ في أية مُخالَفة، بل رصَد من الزكاة المفروضة سهْمًا لازمًا لسداد دُيون المُعسرين، قال تعالى: ﴿ وإن كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلَى مَيْسَرَةٍ وأن تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لكمْ إن كُنتم تَعلَمُونَ ﴾ (البقرة: 280).
خطف الأحرار:
وكان الخطف إلى القرن الماضي مَصدرًا هائلًا للاستعباد، وقد ظلَّ الأوربيون يَصطادون البشر بِضْعةَ قرون مِن غرب أفريقية، في ظروف تكتنفها الوحشية المُطلقة، وتمَّ خطفُ عشرات الملايين وهلاكُ مِثْلهم في أثناء الغَارات التي كان يقوم بها قَراصِنتُهم، وأبَى الإسلام إباءً شديدًا خطْفَ الأحرار، وهدَم كل ما انبنَى على هذا الخطف من آثار، وجاء في الحديث القُدسيّ عن ربِّ العزة: قال الله تعالى: " ثلاثة أنا خَصْمُهم يوم القيامة، ومَن كنتُ خَصْمَه خصَمْتُهُ "غلَبْتُهُ" رجلٌ أعطَى بي ثم غدَر، ورجلٌ باعَ حُرًّا فأكَلَ ثمنه، ورجلٌ استأجر أجيرًا فاستوفَى منه ولم يُعطِهِ الأجْرَ".
أسرى الحروب:
والمصدر الثالث للاسترقاق - وهو مصدر خطير - أسْرَى الحروب، إن أولئك المنكودِين الخزايا كانوا يُواجهون مُستقبلًا غامِضًا، وقد يكون الاسترقاق أهوَنَ ما يتوقعون.
وفي الحرب العالمية الثانية لم تُعرَف مصائر الألوف المُؤلَّفة من أسرَى الروس لدَى الألمان أو أسرى الألمان لدَى الفرنسيين، فإن كان ذلك ما وقع أيام التحضُّر والارتقاء فما ظنُّك بما كان يقع قديمًا؟ .
على أيةِ حالٍ فإن الإسلام في أول حرب خاضها خرج على الدنيا بمبادئَ أزكَى وأرَقَّ في معاملة الأسرى، فنزل على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الأسرى بعد معركة بدر:
﴿ يا أيُّها النبيُّ قُل لِمَن في أيْدِيكُمْ مِنَ الأسْرَى إن يَعْلَمِ اللهُ في قُلوبِكمْ خَيْرًا يُؤتِكُمْ خَيْرًا ممَّا أُخِذَ مِنكم ويَغفرْ لكم واللهُ غفورٌ رحيمٌ. وإن يُريدُوا خِيانَتَكَ فقد خَانُوا اللهَ مِن قبلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُم ﴾ (الأنفال: 70،71) والخيانة التي تُشير إليها الآية موقفُ المشركين مِن قضية الحريات الدينية والإنسانية كلها، فقد كان مَوقفًا غبيًّا مُتعنتًا مَليئًا بالكبرياء والقسوة، أكان هذا موقف عَبَدَةِ الأوثان وحدهم؟..
كلَّا، فإن أهل الكتاب كانوا أخَسَّ وأظلَمَ، يقول الله تعالى: ﴿ ولَئِنْ أَتَيْتَ الذِينَ أُوتُوا الكِتابَ بكُلِّ آيةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ ﴾ (البقرة: 145).
لِيَكُنْ، فليس لأحدٍ أن يُرغِمَهم على اتِّباع. لكنهم لم يَكتفوا بهذا، بل لجأوا إلى صَدِّ الأتباع وفِتنةِ الضعفاء وقيلَ لهم: ﴿ قُل يا أهلَ الكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عن سَبِيلِ اللهِ مَن آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وأنتم شُهدَاءُ ومَا اللهُ بِغَافِلٍ عمَّا تَعْملُونَ ﴾ (آل عمران: 99).
ولو أن الكُرْهَ للإسلامِ كان عواطفَ فَرْدٍ أحمقَ أو سلوكَ نَفَرٍ مُتَعَصِّبِينَ لَهَانَ الخطْبُ، لقد تحوَّل إلى حرب ساخنة يَصْلاَها دِينٌ عَدَّهُ خُصومُه خارجًا على القانون ولم يَرَوا الاعترافَ به أبدًا.
ولْننظُرْ إلى صدرِ تاريخنا القديم ولْنَتساءلْ:
متى اعترفت الأديان الأخرى بحقِّ الحياة للإسلام وحقِّ أتباعه في إقامة مُجتمع له؟.
لا مَجوسُ فارس، ولا يهودُ المستعمرات المُقاومة في جزيرة العرب، ولا الرومانُ الذين اعتنقوا النصرانية ليَجعلوا منها ذريعةَ استعمارٍ أسودَ أكَلَ الشامَ ومصرَ وغيرَهما طول خمسة قرون.
ومع ما أَحَسَّهُ سلفُنا مِن وحشيةٍ ونكير فقد خاضوا ضدَّ أعدائهم حربًا عادلة، وأمَروا بكَسْرِ شوكتهم ومَحْق كِبْرِهم، حتى إذا قلَّموا أظفارهم وأذلُّوا طُغيانهم قيل لهم: لكم أن تَمُنُّوا على الأسرى والمُنهزمين ﴿ فإذا لَقِيتُمُ الذينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حتَّى إذَا أثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بعدُ وإمَّا فِداءً حتَّى تَضَعَ الحَرْبُ أوْزَارَها ﴾ (محمد:4).
وقد يَفزع البعض لكلمة ﴿ ضَرْبَ الرِّقَابِ ﴾ بيد أن فزَعه هذا يذهب عندما يَعلم أن عربيًّا من أذناب الروم ومِن وُلاتهم شمال الجزيرة قبَض على المسلم الذي جاء برسالة من لدَى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعو فيها إلى الإسلام وقال له: أنت حامِلُ رسالةِ محمد؟ قال: نعم. فأمر بضَرْبِ عُنِقِهِ!.
كأن حمْلُ كتابٍ رقيق العبارة مَقبولِ العرض جريمةً تُعالَج بالقتل السريع !..
بِمَ يُعامَل هؤلاء الأذناب من سماسرة الاستعمار الرومانيّ المُتعصِّب!..
إنها الحرب ولا شيءَ غيرها.
ثم قيل بعد ذلك للمُقاتلين المسلمين: ﴿ فإذا أثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وإمَّا فِدَاءً حتَّى تَضَعَ الحَرْبُ أَوْزَارَها ﴾ المَنُّ أو الفداء! ليس هناك تصريحٌ في الآية باسترقاق أحدٍ، لم يَعُدِ الأسرُ مَنْبَعًا دائمًا لأسواق الرقيق كما كان ذلك مَعهودًا في القرون الأولى.
وهنا نبحث: كيف يتمُّ تنفيذ هذا المبدأ؟..
هل يُطلِق المسلمون سراح الأسرى دون قيدٍ أو شرط ليَعودوا إلى مُقاتلتهم مرة أخرى؟..
هل يتمُّ هذا التحرير في الوقت الذي يُباع أبناؤهم فيه هنا وهناك؟..
دعوة الإسلام لتحريم الرق في العالم:
إن مُعاملة الأسرى ليست تشريعًا مَحَلِّيًّا يصدر مِن جانبٍ واحد، إنه تشريع تلتزم به أطراف مُتشابكةُ المصالح، مُتعاونةٌ على احترام قيَمٍ مُعينة.
هل يجد المسلمون هذه المعانيَ عند خُصومهم؟..
كلَّا، فإن هؤلاء الخُصوم مِن عَبَدَةِ الأصنام أو مِن أتباع الكتب الأولى لا يُقِرُّون للمسلمين بحقِّ الوُجود، فكيف يَسمحون لهم بحقِّ البقاء وحرية التديُّن!..
وعندما يُوجد تفهُّمٌ دوليٌّ على "المَنِّ أو الفداء" فنحن أولُ مَن يُهرَع إلى الإسهام فيه وإنفاذ عهوده، إن مبدأ المعاملة بالمِثْل له أثره العميق في العلاقات والمعاملات الدولية، وقد قلنا: إن الأمريكيين لو عَرفوا أن اليابان تَملِك رادعًا نوويًّا ما فجَّروا قنابلهم الذرية فوق "هُيروشيما وناجازاكي"!.
وإلى أن يتمَّ تفاهُمٌ عالميّ على أسلوب إنسانيّ في مُعاملة الأسرى انفرد الإسلام بتعاليم تحْنُو على أولئك المَنكوبين، وتُذَكِّرُ بالأُخُوَّةِ الإنسانية، وتُوصي بالرحمة، وتُعاقب على الغِلْظة، أو بعبارة مُوجزة: جفَّف منابع الرِّقِّ جَهْدَ الطاقة، ونوَّع أسباب التحرُّر والانطلاق! فليس هناك أمرٌ باسترقاقٍ، وإنما هناك أوامرُ بالإعتاق، وقد بسطنا ذلك كله في مَوطن آخر (حقوق الإنسان بين تعاليم الإسلام وإعلان الأمم المتحدة).
موقف الإسلام من إنهاء الرق في العصر الحديث:
قال لي شخصٌ مِن المُتأثرين بالاستعمار الثقافيّ: إن الحضارة الحديثة هي التي حرَّرت النساء والأرقَّاء، ولا ريب أنها انساقت إلى ذلك مِن مَواريثها الدينية!..
قلت له: إن الحضارة الحديثة مكَّنت ناسًا لهم فِطرة سليمة مِن خدمة البشرية، مثل "أبراهام لنكولن" الذي قاد حربًا شديدة لتحرير العبيد، وقد لَقِيَ الرجل مصرعه بعد هذا البلاء، كما لَقِيَ غاندي مصرعه على يدِ هنديٍّ مُتعصب لدِينه!..
وأصحاب الفطرة السليمة الذين جاهَدوا في سبيل هذه الغايات النبيلة كانوا يَستوحُون ضَمائرهم وحدها، أين تجد المَواريث الدينية في تحرير النساء عندما تقرأ رسالة "بولس الأول" إلى أهل "كورنثوسي" الإصحاح الرابع عشر فقرة 24 وما بعدها:
"لِتَصْمُتْ نِساؤُكم في الكنائس؛ لأنه ليس مأذونًا لهنَّ أن يَتكلَّمْنَ، بل يَخْضَعْنَ! كما يقول الناموس أيضًا، ولكن إن كُنَّ يُرِدْنَ أن يتعلَّمْنَ شيئًا فيَسألْنَ رجالهُنَّ في البيت؛ لأنه قبيح بالنساء أن يتكلَّمنَ في كنيسة"؟
وأين تجِد المواريث الدينية في تحرير الأرِقَّاء عندما تقرأ رسالة بولس إلى أهل "أفسس":
"أيها العبيد، أطِيعُوا سادتَكم حَسَبَ الجسد بخَوْفٍ ورِعْدة! في بساطة قُلوبكم كما للمَسيح، ولا بخدمة العين كما يَرضَى الناس، بل كعبيد المسيح... الخ"؟ (على هذا النصِّ وغيره استقرَّ الرِّقُّ في الغرب، وقتَل أحدُ المتدينين المُتعصبين له "لنكولن" مُحرر العبيد).
إن رجالًا مِن أصحاب القلوب الكبيرة هم الذين جاهَدوا بشرف لتكسير القيود التي أنشأها التظالُم البشريّ على مرِّ العصور، والحقيقة أنه لا دِينَ إذا طُمسَت الفطرة وطَغَتِ الأثَرَة!.
وللإسلام علامة مُميِّزة يُعرف بها ويَلفت كلَّ امرئ إليها، تبدو في قوله تعالى: ﴿ فأَقِمْ وَجْهَكَ للدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ التِي فَطَرَ الناسَ علَيْهَا لا تَبْدِيلَ لخَلْقِ اللهِ ذلكَ الدِّينُ القَيِّمُ ولكنَّ أكْثَرَ الناسِ لا يَعْلَمُونَ ﴾ (الروم: 30) ومِن هنا حكمنا بأن التقاليد التي يتعارف الناس عليها يجب نَبْذُها إذا خالَفَت الفطرة! ويستحيل أن تكون هذه التقاليد دِينًا وإن استَمسَك بها بعض الكُهّان!.
إلى هنا انتهى كلام فضيلة الشيخ وهو جزء من خطبة جمعة..
لتحميل كتبي فضلاً الضغط على الصورة التالية - متجدد بإذن الله
-
الفرع الثالث
إعادة تنظيم المجتمع المسلم على أساس التصور الإسلامي في تحرير الرقيق
مما سبق يتبين لنا أن منهج الإسلام في تحرير الرقيق إنما كان يعتمد في الأصل على تحرير العبد من الداخل أولاً فيشعره بكرامته وبإنسانيته فيتعامل مع الجوهر الكامن فيه من حيث هو إنسان.. وهذا هو أصعب شيء.. الحرية الداخلية.. لقد عاد الأحرار الذين كانوا في الأصل عبيدا بقرا ر لنكولن، عادوا مرة أخرى إلى أسيادهم يرجونهم للعيش معهم كعبيد.. فالمجتمع الأمريكي مازال حتى الآن يفرق في المعاملة بين السود والبيض..
لماذا لأنه لم يتم تحريره من الداخل وذلك بعكس الإسلام..
نعم.. إن منهج الإسلام في تحرير الرقيق منهج فريد ومتميز لذلك لم تنزل آيات قاطعة جازمة في تحريره كآيات الربا والخمر لأن ذلك كان يتطلب عمراً أكثر من عمر الدعوة، فلقد جاء الإسلام ونظام الرقيق سلعة اقتصادية عالمية ليس من السهل القضاء عليها بجرة قلم ولكنه قبل أن يتبع منهج تجفيف المنابع (أي التحرير من الخارج) وهذا كان أمره سهلا، إلا أنه وكما قلنا اتبع الأمر الأصعب ألا وهو تحرير الذات من الداخل قبل أن يحررها من الخارج..
والآن مع الآيات الكريمة، يقول سبحانه وتعالى: ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً (36) ﴾ الأحزاب 36.
هذه الآية شوط جديد في إعادة تنظيم المجتمع المسلم على أساس التصور الإسلامي.
وهو يختص ابتداء بإبطال نظام الرق والذي كان متبعاً في الجاهلية وقد شاء الله أن ينتدب لإبطال هذا التقليد من الناحية العملية رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد كانت العرب تحرم مطلقة الابن بالتبني حرمة مطلقة الابن من النسب ; وما كانت تطيق أن تحل مطلقات الأدعياء عملا، إلا أن توجد سابقة تقرر هذه القاعدة الجديدة.
فانتدب الله رسوله ليحمل هذا العبء فيما يحمل من أعباء الرسالة، وسنرى من موقف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من هذه التجربة أنه ما كان سواه قادرا على احتمال هذا العبء الجسيم، ومواجهة المجتمع بمثل هذه الخارقة لمألوفه العميق! وسنرى كذلك أن التعقيب على الحادث كان تعقيبا طويلا لربط النفوس بالله ولبيان علاقة المسلمين بالله وعلاقتهم بنبيهم، ووظيفة النبي بينهم.. كل ذلك لتيسير الأمر على النفوس، وتطييب القلوب لتقبل أمر الله في هذا التنظيم بالرضى والتسليم.
ولقد سبق الحديث عن الحادث تقرير قاعدة أن الأمر لله ورسوله، وأنه:
﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً (36) ﴾ الأحزاب 36.
مما يوحي كذلك بصعوبة هذا الأمر الشاق المخالف لمألوف العرب وتقاليدهم العنيفة.
روي أن هذه الآية نزلت في السيدة زينب بنت جحش ـ رضي الله عنها ـ حينما أراد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأمر من الله عز وجل أن يحطم الفوارق الطبقية الموروثة في المجتمع المسلم ; فيرد الناس سواسية كأسنان المشط ، لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى، وكان الموالي - وهم الرقيق المحرر - طبقة أدنى من طبقة السادة، ومن هؤلاء كان زيد بن حارثة مولى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي تبناه، فأراد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يحقق المساواة الكاملة بتزويجه من شريفة من بني هاشم , قريبته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زينب بنت جحش; ليسقط تلك الفوارق الطبقية بنفسه, في أسرته وما فعله عن أمر منه وما كان ليقدر لولا أن أمره الله عز وجل بذلك ، وكانت هذه الفوارق من العمق والعنف بحيث لا يحطمها إلا فعل واقعي من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تتخذ منه الأمة المسلمة أسوة, وتسير البشرية كلها على هداه في هذا الطريق .
روى ابن كثير في التفسير قال: قال العوفي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قوله تعالى:
﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً (36) ﴾، وذلك أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انطلق ليخطب على فتاه زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنه فدخل على زينب بنت جحش الأسدية - رضي الله عنها – فخطبها.
فقالت: لست بناكحته! فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" بلى فانكحيه ".
قالت: يا رسول الله... أؤمر في نفسي ؟..
فبينما هما يتحدثان أنزل الله هذه الآية على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً (36) ﴾.
قالت: قد رضيته لي يا رسول الله منكحا؟ قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" نعم “! قالت: إذن لا أعصي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أنكحته نفسي.
وقال ابن لهيعة عن أبي عمرة عن عكرمة عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: خطب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زينب بنت جحش لزيد بن حارثة رضي الله تعالى عنه فاستنكفت منه، وقالت: أنا خير منه حسبا - وكانت امرأة فيها حدة - فأنزل الله تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً (36) ﴾.
والمدقق في قول ابن عباس عن السيدة زينب " فاستنكفت منه، وقالت: أنا خير منه حسبا " يدرك طبيعة المجتمع الذي يعيش على الأنساب ولا يتصور أحداً أن هذا الأمر يعد بسيطاً.
ففي رواية لأحمد مسند البصريين حديث رقم 18948:
[حَدَّثَنَا عَفَّانُ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ كِنَانَةَ بْنِ نُعَيْمٍ الْعَدَوِيِّ عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ أَنَّ جُلَيْبِيبًا كَانَ امْرَأً يَدْخُلُ عَلَى النِّسَاءِ يَمُرُّ بِهِنَّ وَيُلَاعِبُهُنَّ فَقُلْتُ لِامْرَأَتِي لَا يَدْخُلَنَّ عَلَيْكُمْ جُلَيْبِيبٌ فَإِنَّهُ إِنْ دَخَلَ عَلَيْكُمْ لَأَفْعَلَنَّ وَلَأَفْعَلَنَّ
قَالَ وَكَانَتْ الْأَنْصَارُ إِذَا كَانَ لِأَحَدِهِمْ أَيِّمٌ لَمْ يُزَوِّجْهَا حَتَّى يَعْلَمَ هَلْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا حَاجَةٌ أَمْ لَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِرَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ زَوِّجْنِي ابْنَتَكَ فَقَالَ نِعِمَّ وَكَرَامَةٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَنُعْمَ عَيْنِي.
فَقَالَ إِنِّي لَسْتُ أُرِيدُهَا لِنَفْسِي.
قَالَ فَلِمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ لِجُلَيْبِيبٍ.
قَالَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أُشَاوِرُ أُمَّهَا فَأَتَى أُمَّهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ ابْنَتَكِ فَقَالَتْ نِعِمَّ وَنُعْمَةُ عَيْنِي فَقَالَ إِنَّهُ لَيْسَ يَخْطُبُهَا لِنَفْسِهِ إِنَّمَا يَخْطُبُهَا لِجُلَيْبِيبٍ.
فَقَالَتْ أَجُلَيْبِيبٌ ابْنَهْ أَجُلَيْبِيبٌ ابْنَهْ أَجُلَيْبِيبٌ ابْنَهْ لَا لَعَمْرُ اللَّهِ لَا تُزَوَّجُهُ فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَقُومَ لِيَأْتِيَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُخْبِرَهُ بِمَا قَالَتْ أُمُّهَا قَالَتْ الْجَارِيَةُ مَنْ خَطَبَنِي إِلَيْكُمْ فَأَخْبَرَتْهَا أُمُّهَا فَقَالَتْ أَتَرُدُّونَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرَهُ ادْفَعُونِي فَإِنَّهُ لَمْ يُضَيِّعْنِي.
فَانْطَلَقَ أَبُوهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ قَالَ شَأْنَكَ بِهَا فَزَوَّجَهَا جُلَيْبِيبًا.
قَالَ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةٍ لَهُ قَالَ فَلَمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِ قَالَ لِأَصْحَابِهِ هَلْ تَفْقِدُونَ مِنْ أَحَدٍ قَالُوا نَفْقِدُ فُلَانًا وَنَفْقِدُ فُلَانًا قَالَ انْظُرُوا هَلْ تَفْقِدُونَ مِنْ أَحَدٍ قَالُوا لَا قَالَ لَكِنِّي أَفْقِدُ جُلَيْبِيبًا.
قَالَ فَاطْلُبُوهُ فِي الْقَتْلَى قَالَ فَطَلَبُوهُ فَوَجَدُوهُ إِلَى جَنْبِ سَبْعَةٍ قَدْ قَتَلَهُمْ ثُمَّ قَتَلُوهُ.
فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ هَا هُوَ ذَا إِلَى جَنْبِ سَبْعَةٍ قَدْ قَتَلَهُمْ ثُمَّ قَتَلُوهُ فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَامَ عَلَيْهِ فَقَالَ قَتَلَ سَبْعَةً وَقَتَلُوهُ هَذَا مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ هَذَا مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا ثُمَّ وَضَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى سَاعِدَيْهِ وَحُفِرَ لَهُ مَا لَهُ سَرِيرٌ إِلَّا سَاعِدَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ وَضَعَهُ فِي قَبْرِهِ وَلَمْ يُذْكَرْ أَنَّهُ غَسَّلَهُ قَالَ ثَابِتٌ فَمَا كَانَ فِي الْأَنْصَارِ أَيِّمٌ أَنْفَقَ مِنْهَا وَحَدَّثَ إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ ثَابِتًا قَالَ هَلْ تَعْلَمْ مَا دَعَا لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ اللَّهُمَّ صُبَّ عَلَيْهَا الْخَيْرَ صَبًّا وَلَا تَجْعَلْ عَيْشَهَا كَدًّا كَدًّا قَالَ فَمَا كَانَ فِي الْأَنْصَارِ أَيِّمٌ أَنْفَقَ مِنْهَا قَالَ أَبُو عَبْد الرَّحْمَنِ مَا حَدَّثَ بِهِ فِي الدُّنْيَا أَحَدٌ إِلَّا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ مَا أَحْسَنَهُ مِنْ حَدِيثٍ.].
وقد أثبتنا الرواية الخاصة بجليبيب لأنها تدل على منطق البيئة الذي توكل الإسلام بتحطيمه، وتولى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تغييره بفعله وسنته. وهو جزء من إعادة تنظيم المجتمع المسلم على أساس منطق الإسلام الجديد، وتصوره للقيم في هذه الأرض، وانطلاق النزعة التحررية القائمة على منهج الإسلام، المستمدة من روحه العظيم.
ولكن نص الآية أعم من أي حادث خاص. وقد تكون له علاقة كذلك بإبطال آثار التبني، وإحلال مطلقات الأدعياء، وحادث زواج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من زينب - رضي الله عنها - بعد طلاقها من زيد، الأمر الذي كانت له ضجة عظيمة في حينه، والذي ما يزال يتخذه بعض أعداء الإسلام تكأة للطعن على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى اليوم، ويلفقون حوله الأساطير! .
فهذا المقوم من مقومات العقيدة هو الذي استقر في قلوب تلك الجماعة الأولى من المسلمين استقرارا حقيقيا ; واستيقنته أنفسهم، وتكيفت به مشاعرهم..
لقد كانت السيدة زينب تفتخر بزواجها من الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتقول يا رسول الله إني والله ما أنا كإحدى نسائِكَ، ليست امرأة من نسائِك إلا زوّجها أبوها أو أخوها أو أهلها، غيري زوّجِنيك الله من السماء وقد كانت -رضي الله عنها- تفتخر على نساء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فتقول زوّجكُنّ أهاليكنّ، وزوّجني الله تعالى من فوق سبع سموات فلمّا سمعتها السيدة عائشة ـ رضي الله عنهاـ قالت أنا التي نزل عذري من السماء فاعترفت لها زينب رضي الله عنها.
لتحميل كتبي فضلاً الضغط على الصورة التالية - متجدد بإذن الله
معلومات الموضوع
الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
المواضيع المتشابهه
-
بواسطة السيف البتار في المنتدى شبهات حول القران الكريم
مشاركات: 1
آخر مشاركة: 07-01-2006, 01:10 AM
-
بواسطة السيف البتار في المنتدى شبهات حول القران الكريم
مشاركات: 1
آخر مشاركة: 07-01-2006, 01:00 AM
-
بواسطة السيف البتار في المنتدى شبهات حول القران الكريم
مشاركات: 1
آخر مشاركة: 07-01-2006, 12:50 AM
-
بواسطة السيف البتار في المنتدى شبهات حول القران الكريم
مشاركات: 1
آخر مشاركة: 07-01-2006, 12:41 AM
-
بواسطة السيف البتار في المنتدى شبهات حول القران الكريم
مشاركات: 1
آخر مشاركة: 05-01-2006, 10:03 PM
الكلمات الدلالية لهذا الموضوع
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى
المفضلات