بسم الله الرحمن الرحيم
و به نستعين
ما تعريف القضاء والقدر؟
تعريف القدر لُغةً:
القَدَر في اللغة: مصدر قدِراً، والقاف والدَّال والرَّاء أصل يدلُّ على مبلغ الشَّيء وكنهه ونهايته، فالقَدر مبلغ كل شيء، وكذلك قدَّرت الشَّيء أُقدِّره وأقدره من التَّقدير، والقدر هو القضاء والحكم، وهو ما يقدِّره الله عزَّ وجلَّ من القضاء ويحكم به من الأمور، ويقال التَّقدير أيضاً التَّروية والتَّفكير في تسوية أمر من الأمور.
تعريف القدر اصطلاحاً:
وأمَّا في اصطلاح العلماء فالقدر: تقدير الله الكائنات حسبما سبق به علمه واقتضت حكمته، ويكمن نقول: القدر: ما سبق به العلم وجرى به القلم مما هو كائن إلى الأبد، قدَّر الله مقادير الخلائق وما يكون، وعَلِم عزَّ وجلَّ ما سيقع وعلى أي صفة، فالقدر هو قدر الله ما علمه وكتبه وشاءه وخلقه.
تعريف القضاء لغةً:
وأمَّا بالنُّسبة للقضاء فإن القضاء في اللغة: هو الحكم، والصنع، والحتم، والبيان, وأصله القطع والفصل، وقضاء الشَّيء وإحكامه وإمضاءه والفرغ منه، فيكون معنى الخلق أيضاً.
الفرق بين القضاء والقدر، والعلاقة بينهما:
فما العلاقة بين القضاء والقدر وما الفرق بينهما؟
قيل: المراد بالقدر: التَّقدير، وبالقضاء: الخلق، كقوله عز وجل: فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ [فصلت: 12]، وأمَّا القدر: التَّقدير، فهما أمران متلازمان لا ينفكُّ أحدهما عن الآخر؛ لأنَّ أحدهما بمثابة الأساس وهو القدر، والآخر بمثابة البناء وهو القضاء، فلا يمكن الفصل.
وقيل العكس فالقضاء: هو العلم السَّابق الذي حكم الله به، والقدر: هو وقوع الخلق وإيجاده وخلقه، وخلق هذه الأحداث الواقعة، وقيل إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا، وقيل هما بمعنى واحد، فمسألة الفرق بينهما يسيرة إن شاء الله.
ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر:
ما هي ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر، وما أثر ذلك على نفس المسلم؟
أولاً: القدر مما تعبدنا الله به استسلاماً له، فلابُدَّ أن نعرف حكم القضاء والقدر، وأنَّ الإيمان بالقضاء والقدر واجب لنتعبَّد اللهَ بالاستسلام لهذا القضاء والقدر.
ثانياً: إنَّ ذلك طريق للخلاص من الشِّرك، فالمجوس مثلاً ضلُّوا في باب القضاء والقدر، وكذلك أناس كُثر ضلُّوا، فلاجتناب الزَّيغ والبدعة والشِّرك في العملية هذه لابُدَّ أن نعرف ما هو المنهج السَّلفي الصَّحيح، وماهي عقيدة أهل السُّنَّة والجماعة المذهب الحق في القضاء والقدر؟ فقد ضلَّ في هذا من قديم الزَّمان المجوسُ حيث زعموا أنَّ هناك خالقين: خالقٌ للشَّرِّ، وخالقٌ للخير، وجعلوا النَّور خالقَ الخير، والظلام خالقَ الشَّر، وأثبتوا خالقين مع الله عزَّ وجلَّ وهذا شرك، ولذلك فإنَّ تبيان هذا الأمر ينقذ من هذه العقيدة الباطلة ومن غيرها.
ثالثاً: إنَّ الإيمان بالقضاء والقدر في الحقيقة يورث الشَّجاعة والإقدام، فالذي يؤمن بالقضاء والقدر يعلم أنَّه لن يموت قبل وقته، وأنَّه لن يناله إلَّا ما كتب الله عزَّ وجلَّ عليه، ولذلك يُقدِم في المعركة غير هيَّابٍ ولا وجلٍ، وليس بالضَّرورة أنَّ الواحد إذا خرج في معركةٍ أنَّه سيموت فيها، بل كثير من المعارك الذين يرجعون وينجون أكثر من الذين يهلكون، وهذا معروف حتى معارك النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم كبدر وأحد والخندق ومكة وغيرها، فالذين رجعوا منها أكثر من الذين ماتوا فيها بأضعاف مضاعفة، فإذاً فما دام أنَّه يعلم أنَّ القدر الذي قُدِّر عليه مكتوبٌ، فقد يكون بحادث سيارة، أو في معركة، أو بسكتة ونحوه، إذاً لماذا لا يُقدِم في سبيل الله؟ فإن جاءت الشَّهادة جاءت، وإن ما جاءت فهو على خير، ولذلك كان سبب الاندفاع عند كثير من الشُّجعان من المسلمين عقيدتهم القوية بهذه القضية، فالقضاء والقدر يُرزَق العبد بسبب الإيمان به قوةٌ في إيمانه لا يتزعزع ولا يتضعضع، ثم كذلك يصبر ويحتسب ويواجه الأخطار والصِّعاب، إنَّنا نرى -أيها الإخوة- أنَّ هؤلاء الكفرة والغربيين ومن تأثَّر بهم: بعضهم انتحروا، وبعضهم أصابهم الجنون، وبعضهم أصابتهم الوسوسة، وبعضهم لجأ للمخدرات فراراً من الواقع، وبعضهم قتل نفسه، كما حدث في البلاد المتقدِّمة كأمريكا والسُّويد والنَّرويج وغير ذلك، أكبر بلدان العالم هي بسبب الانتحار، وعندهم مستشفيات خاصة للانتحار، وبعضهم بسببٍ تافهٍ: فهذا تركته عشيقته أو خطيبته، وهذا رسب في الامتحان، وهذا بسبب وفاة مطرب ونحو ذلك، وأحياناً ما يكون من انتحار جماعي، كما حدث لعدد من هؤلاء الكُفَّار، أو رُبَّما يأمرهم به كاهن من الكهنة ويقول موعد القيامة، وإذا ما جت القيامة نموت، هم يذهبون إليها، والغريب أنَّ الانتحار يقع في تلك البلاد عند بعض الأطباء النَّفسانيين، الذين من المفترض أن يعالجوا قضية الانتحار، ولذلك أحدهم لما عمل أبحاثاً كثيرةً طويلةً وهو طبيب نفسي على قضايا الانتحار والأسباب ونحوه، ودرس دراسةً ميدانيةً، وجمع الشَّواهد وقابل الأشخاص وعالج أشياء، والنَّتيجة النِّهائية التي وصل إليها أنَّه هو نفسه انتحر، وأمَّا بالنُّسبة للهداية فإنَّ الله سبحانه وتعالى قد قال: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ [التغابن: 11].
وقد قال علقمة رحمه الله كلمةً مؤثرةً في هذه الآية، قال: "هو الرَّجل تصيبه المصيبة فيعلم أنَّها من عند الله فيرضى ويُسلِّم"[تفسير الطبري23/ 421].
فإذاً وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ ، فواضح أنَّ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ [التغابن: 11].
إذاً لو آمنت بأنَّ الله هو الذي قدَّر وكتب يفتح لك باب هداية، بسبب الإيمان بالقضاء والقدر، وليس فقط الصَّبر على المصيبة، وكذلك الإنفاق، فالإنسان يتصدَّق بما عنده من المال متوكلاً على الله بأنَّ ما كُتِب له من الرِّزق سيأتيه، ويدفع أيضاً إلى الكرم من جهة أخرى فيُرزق العبد بسببه استسلاماً واعتماداً قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا [التوبة: 51]. يرزَقون به إخلاصاً، فإنَّ النَّاس لا ينفعوك إلَّا بشيءٍ قد كتبه الله لك، وهو القضاء والقدر، فالعبد يستمرُّ إذاً على الإخلاص غير مبالي بمدح النَّاس ولا بذمهم.
الإيمان القضاء والقدر يورث حُسن الظَّنِّ بالله:
أيضاً الإيمان بهذه العقيدة المهمة يُرزَق العبد به إحسان الظَّنِّ بالله، وقوة الرجاء:
ما مسَّني قدرٌ بكرهٍ أو رضى *** إلَّا اهتديت به إليك طريقا
فالمؤمن حسَنَ الظَّنِّ بالله يرجوا الله في كل أحواله، كذلك الإيمان بالقضاء والقدر يُرزَق به الإنسان خوف من الله، وخوف من سوء الخاتمة، حيث يعلم أنَّ الله يقدِّر سوء خاتمة على أُناس فيخافها.
كذلك فإنَّ الإيمان بالقدر يقضي على كثير من الأمراض مثل الحسد، فلماذا الناس يحسدون؟ أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النساء: 54]، نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الزخرف: 32]، فإذا آمن بالقدر أنَّ الله كتب لهذا ولهذا كذا، وأنا مكتوب لي كذا: فلماذا أحسُد فلاناً على أنَّه فوقي، أو عنده أكثر منِّي، وهذه كُلُّها أشياء مكتوبة، وكُلُّها في اللوح المحفوظ، والله قسَّم الأرزاق بين العباد وهذا من شأنه عزَّ وجلَّ، فأنا أرضى وأقنع بما عندي، ولا أحسد غيري، ولا أتمنى أن تزول عنه النِّعمة.
ثم إنَّ الإيمان بهذه العقيدة أيضاً يُحارب الخُرافات؛ لأنَّ النَّاس يلجئون للدَّجَّالين والمشعوذين في أي شيء، وللكهان والمنجمين والعرافين في علم الغيب، فالإنسان يعلم أنَّ هذا الأشياء المكتوبة لا يُغيِّرها هؤلاء الكُهَّان والمنجِّمين والعرَّافين، وكذلك فلا يمكن أن يطلِّعوا على الغيب
لعمرك ما تدري الضَّوارب بالحصى *** ولا زاجرات الطَّير ما الله صانع
سلوهنَّ إن كذبتموني متى الفتى *** يذوق المنايا أو متى الغيث واقع
لا أحد يعرف، هذا شيءٌ قاله لبيد بن ربيعة رضي الله تعالى عنه، ولذلك فالمنحرفون كالصُّوفية نعوذ بالله من شرِّهم يقول أحدهم: ذهب شخص إلى شيخ صوفي، فقال: يا شيخ أريد أن أُسافر، فانظر هذا في مصلحتي أم لا؟ فقال: يا ولدي أرجع لي غداً، فرجع له في اليوم التالي، قال: ها أنا غدت يا شيخ، قال الشيخ : لا تسافر، لماذا؟ قال: ستُقتَل ويؤخذ مالك في الطريق، قال: إن السَّفر ضروري، قال: هذا الذي رأيته لك، فقال: إذاً الحلُّ؟ قال: إذا أنت مُصرٌّ فاذهب إلى عبد القادر الجيلاني -وعبد القادر الجيلاني بريءٌ منهم ومن عملهم كُلُّه، الصُّوفية المنحرفون- فذهب إليه، وقال: سألت شيخي فلاناً، فقال: السَّفر ليس في مصلحتك، وأنا مُصِرٌّ على السَّفر، فحولني عليك، فقال: هو كما قال لك شيخك، أنَّ هذا سفر غير جيد، قال: فما الحل يا شيخ أنا لابد أسافر؟ قال: أأنت مُصرٌّ؟ قال: نعم، قال: نعم، قال: إذاً سافر، فسافر هذا الرجل ورجع ولم يصب بشيء، ذهب إلى الشَّيخ وقال: يا شيخ أنا سافرت ورجعت ولم يصير لي شيء، قال: بلا شكٌّ، قال: أنت قلت لي أنه سيصيبني كذا، قال: نعم، أنا قلت لك، لكن حولتك على عبد القادر، فغير مجريات الأمر، لما تدخل ومسح المصائب التي في الطَّريق، أنا أعرف الغيب وهذاك يغير في الغيب، فهذا عمل الصُّوفية، ولذلك من يوقن بعقيدة القضاء والقدر لا يمكن تنطلي عليه مثل هذه الخزعبلات، ويمشي في مثل هذه الطَّريق السَّخيفة.
وكذلك فإن القضاء والقدر يُرزق به العبد تواضعاً، فإذا رزقه الله مالاً أو جاهاً أو علماً تواضع لله؛ لأنَّه علم أنَّ هذا من الله، شيءٌ مقدَّرٌ ومكتوب له أن يُصبح غنياً، أو يُصبح مشهوراً، أو أن يُصبح ذا منصب فلماذا يتكبر.
الإيمان بالقضاء والقدر يورث التَّسليم لحكم الله:
وكذلك يكون بالقضاء والقدر إيماناً به يسلم العبد من الاعتراض على أحكام الله الشَّرعية، ولا يعترض بكلمة ولا يفعل، مثل النِّياحة فلماذا تحصل النِّياحة؟ لما تُقطِّع شعرها، وتشقُّ ثوبها، وتضرب وجهها، تخمش خدها؟ لو أنَّ هناك إيمان قوي بعقيدة القضاء والقدر فإذا مات ولدها تقول: إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، أمَّا التَّقطيع والضَّرب واللطم والكلام الكفري الذي يقع منهم الكلام الكفري فيناقض ذلك.
ثُمَّ أنَّ بالإيمان بالقضاء والقدر يَجدُّ الإنسان فيه ويعزم في أموره، ويأخذ بالنافع ويحصِّل الأسباب المفيدة؛ لأنَّه يعلم أنَّ نبيه عليه الصلاة والسلام قال: احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجزك، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا لكان وكذا ولكن قل قدر الله وما شاء فعل [رواه مسلم: 6945]. رواه مسلم.
ولذلك فإنَّ العبد يشكر ربَّه على ما أنعم به عليه من اندفاع نقمة أو حصول نعمة وأنَّ هذا قضاء من الله تعالى، فيرضى به العبد وتمتلأ نفسه بالرِّضا عن ربِّه والرِّضا باب الله الأعظم، وجنَّة الدُّنيا ومستراح العابدين، بل إنَّه يفرح بالقدر قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس: 58].
عندما يكون هذا القدر إيمان بالله وهداية، فإذا قدَّر الله لك الهداية تفرح به، وكذلك تحصل الاستقامة على المنهج في السَّرَّاء والضَّرَّاء، وعدم اليأس من انتصار الحق، مثل هذا الزَّمان الذي نحن فيه الآن من كثرة الأعداء وقوتهم وتسلُّطهم وضعف المسلمين وتأخُّرهم، هناك مَن يقول: لا فائدة فقد ضاقت ولا مخرجٌ ولا نصرٌ، فإذا آمنَّا بقضاء الله وقدره وأنَّ الله على كلِّ شيءٍ قدير، وكما أنَّه جعل الدولة لهم يقلبها عليهم ويجعلها للمسلمين، عدم اليأس من انتصار الحق، وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران: 140].
فتكون الدَّولة للكفَّار مرَّة وللمسلمين مرَّة وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران: 140]. ثم يحصل أيضاً للعبد في هذا الجانب رضا، بمعنى أنَّه لا يتمنَّى أن يحدث غير الذي حدث إذا كان مؤمناً بالقضاء والقدر، ويعلم أنَّ كلَّ قضاء الله له خير، ولا يتأسفنَّ على شيء فات وانتهى، فليس مقدَّراً لك، بل ربَّما الإنسان يكتشف أحياناً أنَّ ما فاته كان خيراً له، فمثلا: رجل ذهب ليحجز للسر فوجد الطائرة ممتلئة، وحاول أن يجد واسطات ألحَّ عليهم ولكن لا فائدة، فأقلعت الطائرة فانفجرت واحترقت، فعرف وسُرَّ بأنَّه قُدِّر عليه أنَّه لا يُقلع فيها.
تجري الأمور على حكم القضاء *** وفي طَيِّ الحوادث محبوب ومكروه
ورُبَّما سرَّني ما كنت أحذره *** ورُبَّما ما ساءني ما كنت أرجوه
فيكتشف الإنسان أحياناً قصر نظره، أنَّه كان يسعى في أشياء وليست من مصلحته، وتارك أشياء هي من مصلحته، وكذلك يكتسب عِزَّة النَّفس والقناعة والتَّحرر من رقِّ المخلوقين في مثل قضية الرِّزق، وأنَّ الرِّزق عند الله ولن يموت حتى يستوفي رزقه، وأنَّ الله هو حسبه وهو الرَّزاق ولو قدَّر له شيئاً من الرِّزق فلابد أن يَصِله، ولا يستطيع إنسان أن يقطع زرق فلان، ولا يقول بعض النَّاس لا تقطع رزق فلان فليس بصحيح، لكن لا تكن سبباً في قطع شيء معين، لكن ممكن يأتيه غيره، فيفصله من العمل ويُرزق ذاك بعمل آخر في شركة أخرى، فالرِّزق سيأتي، وما يفعله بعض النَّاس هو أن يكون سبب في قطع شيء أو حصول شيء وذلك مجرد سبب، وإلَّا فالله هو الذي سخَّر هذا ليجد له عملاً، وقدَّر على هذا وجرت الأحداث بأن يفصله من عمله، ولذلك الإنسان إذا رُزق القناعة لم يكن ليلتفت.
رأيت القناعة كنزَ الغني *** فصرت بأذيالها ممتسك
فلا ذا يراني على بابه *** ولا ذا يراني به منهمك
وصرت غنياً بلا درهم *** أمرُّ على الناس شبه الملك
كما ذكر الشَّافعي رحمه الله تعالى.
فإذاً الفوائد كثيرة، والنَّعيم الذي حصل لعدد من النَّاس بسبب الإيمان بهذه العقيدة والسُّرور كبير، بحيث يتأمل الإنسان فيها، ويريد أن يأخذ من هذه العقيدة ما يُنعش به نفسه، ويُسرُّ به في حياته، حتى قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: "أصبحت وما لي سرور إلا في مواضع القضاء والقدر" [جامع العلوم والحكم: 195].
وهذا يدخل في كلام شيخ الإسلام رحمه الله: "إنَّ في الدُّنيا جنَّة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة" [ المستدرك على مجموع فتاوى1/153].
وبعض الكفار لما خالطوا بعض المسلمين، بل بعض البادية والأعراب صار عندهم نوع من الدهشة لاستقرار هذا العقيدة في نفوس المسلمين، كما قال هذا الكاتب إنسيبود لي مؤلف كتاب رياح على الصحراء وكتاب الرَّسول، وألَّف أربعة عشر كتاباً آخر في مقالة بعنوان: عشت في جنَّة الله، قال: إنَّه في عام 1918م، وليت ظهر العالم الذي عرفته طيلة حياتي وهي مند شطرا أفريقيا الشِّمالية الغربية، عشت بين الأعراب في الصَّحراء قضيت سبعة أعوام أتقنت لغة البدو وارتديت زيَّهم وأكلت من طعامهم، واتخذت مظاهرهم في الحياة، وغدوت مثلهم أمتلك أغناماً، أنام كما ينامون في الخيام، وتعمقت في فهم الإسلام حتى أني ألَّفت كتاباً عن محمد صلى الله عليه وسلم، وكانت تلك الأعوام السبعة التي قضيتها مع هؤلاء البدو الرُّحل المسلمين من أمتع سنين حياتي وأحفلها بالسلام والاطمئنان والرضا بالحياة، وقد تعلَّمت من عرب الصَّحراء كيف أتغلَّب على القلق فهم بوصفهم مسلمين يؤمنون بالقضاء والقدر -لاحظ العبارة هذه التي قالها الشَّخص هذا الذي كان كافر- يقول: فهم بوصفهم مسلمين الأعراب يؤمنون بالقضاء والقدر، وقد ساعدهم هذا على العيش بأمان، وأخذ الحياة مأخذاً ليناً سهلاً، لا يتعجلون أمراً ولا يلقون بأنفسهم في القلق، إنهم يؤمنون بأن ما قُدِّر يكون، وأنَّ الفرد منهم لن يصيبه إلا ما كتب الله له، وليس معنى هذا أنَّهم يتواكلون أو يقفون في وجه الكارثة مكتوفي الأيدي، ودعني أضرب لك مثلاً مما أعنيه: هبت ذات يوم عاصفة عاتية حملت رمال الصحراء، وعبرت بها البحر الأبيض المتوسط ورمت بها في وادي الرَّون في فرنسا، وكانت العاصفة حارة شديدة الحرارة حتى أحسست، كأن شعر رأسي يتزعزع من منابته لفرط وطأة الحر، وأحسست من فرط القيض كأنَّني مدفوع إلى الجنون، ولكن العرب بهذه العاصفة العاتية الغبار لم يشكو إطلاقاً فقد هزُّوا أكتافهم وقالوا كلمتهم المأثورة: قضاء مكتوب، لكنهم ما أن مرَّت العاصفة حتى اندفعوا إلى العمل بنشاط كبير فذبحوا صغار الخراف قبل أن يود القيض بحياتها، ثم ساقوا الماشية إلى الجنوب نحو الماء، فعلوا هذا كله في صمت وهدوء دون أن تبدوا منهم شكوى، فقال رئيس القبيلة وهو الشيخ: لم نفقد الشَّيء الكثير فقد كنا خليقين بأن نفقد كل شيء، ولكن حمداً لله وشكراً فإنَّ لدينا نحواً من أربعين في المائة من ماشيتنا وفي استطاعتنا أن نبدأ بها عملنا من جديد، وقال هذا الكاتب أيضاً: وثمة حادثة أخرى فقد كنا نقطع الصَّحراء بالسَّيارة يوماً فانفجر أحد الإطارات وكان السَّائق قد نسي استحضار إطار احتياطي يتولاني الغضب وانتابني القلق والهم وسألت صحبي من الأعراب ماذا عسى أن نفعل، فذكروني بأن الاندفاع في الغضب لن يُجدي فتيلاً بل هو خليق أن يدفع الإنسان إلى الطَّيش والحُمق، ركبنا السَّيارة وتجري على ثلاث إطارات ليس إلا ثم كفت على السَّير بنفاذ البنزين فلم تثر ثائرة أحد منهم، ولا فارقهم هدوؤهم، بل مضوا يذرعون الطَّريق سيراً على أقدامهم، قال في نهاية تجربته: قد أقنعتني الأعوام السَّبعة التي قضيتها في الصَّحراء بين الأعراب الرُّحل أنَّ المُلتاثين ومرضى النَّفوس والسَّكيرين الذين تحفل بهم أمريكا وأوروبا ما هم إلا ضحايا المدنية التي تتخذ السَّرعة أساساً لها، إنني لم أُعاني شيئاً من القلق قط وأنا أعيش في الصَّحراء، بل هنالك في جنَّة الله وجدت السَّكينة والقناعة والرِّضا، ختم كلامه بقوله: وخلاصة القول إنني بعد انقضاء سبعة عشر عاماً على مغادرتي الصَّحراء ما زلت اتخذ مواقف العرب المسلمين الأعراب حيال قضاء الله، فأقابل الحوادث التي لا حيلة لي فيها بالهدوء والامتثال والسَّكينة، وأفلحت هذه الطِّباع التي اكتسبتها من أولئك البدو في تهدئة أعصابي أكثر مما تُفلح آلاف المسكنات والعقاقير، فاليوم يصرف أطباء النَّفس المسكنات والعقاقير، ولو يوجد أطباء قلوب يصرفون أشياء تؤدي بهؤلاء إلى الإيمان بعقيدة القضاء والقدر إذاً اكتفينا العقاقير والمسكنات، وكان العلاج أجدى وأنفع وأحسن، وبدون آثار جانبية مُضرَّة بل هي التي تضع الإنسان على الصِّراط المستقيم.
الأدلة على أنَّ القضاء والقدر حق:
القران الكريم:
لقد دلَّ القرآن الكريم والسُّنَّة النَّبوية والإجماع والفطرة والعقل والحس على أن القضاء والقدر حق، أمَّا من القرآن الكريم فقد قال الله تعالى: وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا [الأحزاب: 38]، وقال عز وجل: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر: 49].
وقال سبحانه: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ [الحجر: 21]، وقال عز وجل: ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى [طه:40].
وقال سبحانه وتعالى: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا [الفرقان: 2]. وقال: وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى [الأعلى:3]، وقال: وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا [الأنفال: 42].
السُّنَّة النَّبوية:
وأما من السُّنَّة فقد جاءت أحاديث النَّبي صلَّى الله عليه وسلم مطابقة وموافقة للقرآن الكريم، وشارحة له كما قال عليه الصلاة والسلام كما جاء في حديث جبريل: وتؤمن بالقدر خيره وشره [رواه مسلم: 102]. وقال طاووس رحمه الله: "أدركت ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: كل شيء بقدر، وسمعت عبد الله بن عمر يقول: "كلُّ شيء بقدر حتى العجز والكيس أو الكيس والعجز" [رواه مسلم: 6922].
والنَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام كما مرَّ معنا قال في الحديث: وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا لكان كذا فالماضي انتهى ولا يمكن تغيير الماضي ولكن قل قدر الله وما شاء فعل [رواه مسلم: 6945].
فالذي ليس لك فيه حيلة وحصل لك، ماذا تفعل؟ الاستسلام والصَّبر، فقد تخفِّف آثار مصيبة صارت، وتصحِّح أو تحاول تغيير نتائج سلبية في نفسك أو نفوس الآخرين مثلاً بتصبيرهم، إنَّما أنَّك تمنع الموت أو المرض أو الجرح أو الفصل أو الطَّرد الذي صار في الماضي فهذا غير ممكن، ولذلك لو قال شخص: بعض الأفلام العلمية الحديثة القائمة على الخيالات، كالأفلام التي يسمونها أفلام الخيال العلمي، فيها أنَّ البشر تقدَّموا حتى اخترعوا آلة الزَّمن، آلة تُرجع الواحد إلى الوراء أو تُقدِّمه إلى الأمام، ويدخلوها في أفلام سوبر مان وغيرها، هذا العقيدة التي يراها بعض شباب المسلمين في الأفلام الغربية وبعض الأطفال تُعاكس وتُضادُّ عقيدة القضاء والقدر معاكسةً تامةً، بل نحن نوقن أنَّه لا يمكن للبشر مهما اخترعوا أن يخترعوا آلة زمن، إذا دخل الواحد فيها ترجعه للوراء ويغير التَّصرفات ثم يجعل الحاضر، أو يذهب للمستقبل ويعرف ماذا سيحدث ثم يرجع إلى الحاضر ويغير الأشياء، فبعض المجلات التي يقرأها الأطفال كمجلات سوبر مان والكلام الغير مفيد مبني على معاكسة عقيدة القضاء والقدر، وهذه موجودة يقرؤونها بكل أريحيَّة وهي تُخرِّب عقائدهم، نحن نقول هذا ترفيه، ونحن نعطيهم أشياء تُخرب عقيدتهم، لا يمكن الواحد يرجع للماضي ولا يذهب للمستقبل، عايش في الحيز هذا سيمضي فيه كما قدر الله، فلا أمام ولا وراء، يتوب على ما حصل، ويسأل الله الخير في المستقبل، أما أنَّه يرجع لوراء، ويذهب إلى المستقبل فغير ممكن.
الإجماع:
وأمَّا من جهة الإجماع فقد أجمع المسلمون على وجوب الإيمان بالقدر خيره وشره قال النووي رحمه الله: "وقد تظاهرت الأدلة القطعية من الكتاب والسنة وإجماع الصَّحابة وأهل الحل والعقد من السلف والخلف على إثبات قدر الله تعالى". [شرح النَّووي على صحيح مسلم: 1/155]. قال ابن حجر: "ومذهب السلف قاطبة أن الأمور كلها بتقدير الله تعالى" [فتح الباري: 11/478].
دلالة الفطرة:
وأمَّا الفطرة فإنَّ الإيمان بالقدر مركوز في فطر البشر، لا ينكره إلا شواذ المشركين ولم يقع الخطأ في نفي القدر وإنكاره في الجملة وإنَّما وقع في فهمه على الوجه الصَّحيح، ولذلك الكفَّار ما قالوا: إنَّ الله ما شاء ولا قدَّر، لكن قالوا: في كفرهم وشركهم في تعليله لو شاء الله ما أشركنا، فإذاً لا نفوا القدر لكن احتجوا به واستعملوه غلط، وفهموه على غير الوجه الحقِّ، فهم أثبتوا المشيئة ولكنَّهم احتجوا بها على الشِّرك، يريد أن يعذر نفسه على الشِّرك قال: الله قدَّر وشاء، وسنأتي إلى هذا بمشيئة الله تعالى، بل إن العرب حتى في الجاهلية كانوا يعلمون أنَّ المنايا مكتوبة، حتى العرب الكُفَّار الذين كانوا في الجاهلية مبثوث في أشعارهم هذه العقيدة:
يا عبلُ أين من المنية مهرب *** إن كان ربي في السَّماء قضاها
قالها عنترة، يا عبلُ ترخيم يا عبلة.
يا عبلُ أين من المنية مهرب *** إن كان ربي في السماء قضاها.
وقول طرفة بن العبد:
فلو شاء ربي كنت قيس بن خالد *** ولو شاء ربي كنت عمرو بن مرثد
وقال لبيد:
صادفنا منها غرة فأصبنها *** إن المنايا لا تطيش سهامها
المنايا: الموت، لا تطيش سمامها.
وأنَّا سوف تدركنا المنايا *** مقدرة لنا ومُقدرينا
هذا قاله عمرو بن كلثوم الشَّاعر الجاهلي، وهانئ بن مسعود الشيباني في خطة ذي قار لما خطب بقومه، قال لهم العبارة المشهورة: أن الحذر لا ينجي من قدر، تجري المقادير على غرز الإبر، ما تنفذ الإبرة بقدر.
وامرئ القيس قال: إن الشَّقاء على الأشقين مكتوب.
ولما دخل بعض هؤلاء في الإسلام صارت أشعارهم طبعاً منطلقة من هذا الدين.
إن تقوى ربنا خير نفل *** وبإذن الله ريثي والعجل
أحمد الله فلا ند له *** بيديه الخير ما شاء فعل
من هداه سُبل الخير اهتدى *** ناعم الباري ومن شاء أضل
كما قال لبيد.
دلالة العقل:
ودلالة العقل بطبيعة الحال تدل على ارتباط الأسباب بالمسببات والمقدمات والنتائج، وأنَّ الأمور التي تجري في هذا الكون لابُدَّ أن تكون تجري على سنن وعلى قدر وعلى شيء مُحكم، وليس الأمور فوضى أو عشوائية، والحسُّ كذلك يدل عليه، فالتَّوحيد هو نظام الحياة، والقضاء والقدر من التَّوحيد الذي يجري عليه البشر، وقد قال الصحابة رضوان الله تعالى عليهم والسَّلف كلمات مضيئة في هذه القضية، كما قال الوليد بن عبادة بن الصامت وهو داخل على أبيه: "دخلت على عبادة وهو مريض، أتخايل فيه الموت، فقلت: يا أبتاه أوصني، واجتهد لي، فقال: أجلسوني، فلما أجلسوه قال: يا بني، إنَّك لن تجد طعم الإيمان، ولن تبلغ حقيقة العلم بالله تبارك وتعالى حتى تؤمن بالقدر خيره وشره، قلت: يا أبتاه، وكيف لي أن أعلم ما خير القدر وما شرُّه؟ قال: تعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وأن ما أصابك لم يكن ليخطئك، يا بني، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن أول ما خلق الله تعالى القلم، ثم قال: اكتب، فجرى بتلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة ، يا بُني، إن مت ولست على ذلك دخلت النَّار" [رواه أحمد: 22757، وقال الألباني في ظلال الجنة: صحيح لغيره: 103]. الحديث رواه الإمام أحمد، وقال الألباني رحمه الله بعد تتبع طرقه إسناده صحيح، أو الحديث صحيح بلا ريب، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنه: "كل شيء بقدر حتى وضعك يدك على خدك" [القدر للفريابِي: 268].
وقال عكرمة: سُئل ابن عباس: "كيف تفقَّد سليمان الهدهد من بين الطَّير؟ قال: إنَّ سليمان صلوات الله عليه نزل منزلاً فلم يدري ما بُعد الماء، وما عمقه في الأرض، وكان الهدهد مهندساً -هذه كلمة عربية مهندساً- فالهدهد فيه خاصية أنَّه يعرف عمق الماء، عنده خاصية ركَّبها الله فيه يعرف عمق الماء، فأراد أن يسأل عن الماء ففقد الهدهد، قلت يقول عكرمة: "وكيف يكون مهندساً والصَّبي ينصب له الحبالة فيصيبه، يعني: كيف هذا الهدهد المهندس والولد الصغير يضع له شرَكاً وفخاً ويصيده، فقال ابن عباس رضي الله عنه: إذا جاء القدر حال دون البصر، أو يقولون: إذا جاء القدر عمي البصر"[تفسير القرطبي13/ 177- 178]. عندما تقول لشخص كيف لم تر السَّيارة أمامك؟ فإذا جاء القدر عمي البصر، أو الآدمي هذا بكبره وما رأيتَه أمامك؟ وعمود نور طوله ثلاثة متر، أحياناً ما تجد لها تفسيراً إلا إذا جاء القدر عمي البصر، الله مُقدِّرٌ يحصل هذا الشَّيء سيحصل، سقط شخصٌ من على سطح مبنى كذا دور، صادف مرور سيارة رمل "قلاب رمل" فوقع على الرَّمل من على كذا كذا متر، فَسَلِم، اجتمع العمال واحتفوا به، فقال لازم أكرمهم بشرابٍ على هذه النَّعمة، نعمة السلامة، ذهب ليحضر لهم الشَّراب فجاءت سيارة فصدمته فمات، فهو مُقدَّر، يعني أنَّه بقي خمس دقائق لم يحن الأجل هو هذا، فإذاً الإنسان إذا فكَّر في بعض الحوادث ما له إلا أن يستسلم، بل إنَّه أحياناً يُذهَل، شخص على دباب يمشي بسرعة عالية في قرب الطَّائف، والدَّبَّاب صدم فقفز الرَّجل من الدَّبَّاب ووقع في البئر، لكنَّه سلِم، اجتمع النَّاس وأخرجوه، ورجع وركب الدَّبَّاب وجلس والنَّاس حوله، فقالوا: اشرح لنا كيف وقعت، قال: وأنا ماشي وجئت إلى هنا وعملت هذه الحركة، فقفز من الدَّبَّاب ومات في المرَّة الثَّانية مع الشَّرح، إذاً جاءت المنية فلا مهرب، لذلك فإنَّ الإنسان:
لو كنت أعجب من شيء لأعجبني *** سعي الفتى وهو مخبوء له القدر
يسعى الفتى لأمور ليس يدركها *** والنَّفس واحدة والهمُّ منتشر
والمرؤ معاشه ممدود له أمل *** لا تنتهي العين حتى ينتهي الأثر
قال الحسن رحمه الله: "إنَّ الله خلق خلقاً فخلقهم بقدر، وقسَّم الآجال بقدر، وقسَّم أرزاقهم بقدر، والبلاء والعافية بقدر"[القدر للفريابِي: 260].
وقال الحسن في مرضه الذي مات فيه: "إن الله قدَّر أجلاً وقدَّر معه مرضاً وقدَّر معه معافاةً، فمن كذَّب بالقدر فقد كذَّب بالقرآن ومن كذَّب بالقرآن فقد كذَّب بالحقِّ"[ الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية: 195].
والشافعي رحمه الله قال أبياتاً جميلة في القدر[اعتقاد أهل السنة - اللالكائي :1304]:
وما شئت كان وإن أشأ *** وما شئتُ إن لم تشأ لم يكن
خلقت العباد على ما علمت *** وفي العلم يجري الفتى والمسن
على ذا ممنت وهذا خذت *** وهذا أعنت وذا لم تُعن
فمنهم شقي ومنهم سعيد *** ومنهم قبيح ومنهم حسن
فما شاء الله كان ولو نحن ما شئنا، وما شئنا نحن لا يكون إذا الله ما شاء، ولذلك ليس إلَّا الرِّضا بهذه العقيدة، وأن نسير على منوالها، وأن نعتقد أنَّ كلَّ شيء مكتوب، وهذا الذي يحمي الإنسان من الصَّدمات النَّفسية والانهيارات العصبية، وهذا هو الاعتقاد بقضاء الله وقدره، والذين انهاروا نفسياً والذين انتحروا كُلُّهم عندهم شرخ ونقص في هذه العقيدة في أنفسهم.
مُجمل اعتقاد أهل السُّنَّة والجماعة في القضاء والقدر:
ما هو مُجمل اعتقاد أهل السُّنَّة والجماعة في القضاء والقدر؟
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في إجابته: "مذهب أهل السُّنَّة والجماعة في هذا الباب وغيره، ما دلَّ عليه الكتاب والسُّنَّة، وكان عليه السَّابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، وهو أنَّ الله تعالى خالق كُلِّ شيءٍ وربُّه ومليكه وقد دخل في ذلك جميع الأعيان القائمة بأنفسها وصفاتها القائمة بها من أفعال العباد وغير أفعال العباد، وأنَّه سبحانه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فلا يكون في الوجود شيءٌ إلا بمشيئته وقدرته، لا يمتنع عليه شيء شاءه بل هو قادر على كل شيء ولا يشاء شيئاً إلا وهو قادر عليه، وأنَّه سبحانه يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون، وقد دخل في يذلك أفعال العباد وغيرها، وقد قدَّر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلقهم، قدَّر آجالهم وأرزاقهم وأعمالهم وكتب ذلك، وكتب ما يصيرون إليه من سعادة وشقاوة فهم يؤمنون بخلقه لكل شيء وقدرته لكل شيء ومشيئته لكل ما كان، وعلمه بالأشياء قبل أن تكون وتقديره لها، وكتابته إياها قبل أن تكون" إلى أن قال: "وسلف الأمَّة وأئمتها متفقون أيضاً على أن العباد مأمورون بما أمرهم الله به منهيون عن ما نهاهم عنه، ومتفقون على الإيمان بوعده ووعيده الذي نطق به الكتاب والسُّنَّة، ومتفقون على أنَّه لا حجة لأحد على الله في واجب تركه، ولا محرَّم فعله بل لله الحُجَّة البالغة على خلقه" [مجموع الفتاوى: 8/450- 452]. لماذا؟ لأنَّه أنزل عليهم الكتب وأرسل لهم رسلاً وبيَّن لهم الحقَّ، وليس لأحد حُجَّة على الله، بل لله الحُجَّة على النَّاس، "ومما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها مع إيمانهم بالقضاء والقدر وأنَّ الله خالق كل شيء وأنَّه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وأنه يُضل من يشاء ويهدي من يشاء أنَّ العباد لهم مشيئة وقدرة يفعلون بمشيئتهم وقدرتهم ما أقدرهم الله عليه، لا حول ولا قوة إلا بالله، يفعلون بقدرتهم ما أقدرهم الله عليه لا حول ولا قوة إلا بالله، كما قال تعالى: كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ * فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ * وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ [المدثر: 54-56]. [مجموع الفتاوى: 8/459].
تقوم عقيدة أهل السُّنَّة والجماعة في القضاء والقدر على أربع مراتب:
إنَّ عقيدة أهل السنة والجماعة في القضاء والقدر أيها الإخوة: تقوم على أربع مراتب وأركان وهي: العلم، والكتابة، والمشيئة، وخلق الأفعال والأحداث، قال الشاعر في نظمها:
علم كتابة مولانا مشيئته *** وخلقه وهو إيجاد وتكوين
المرتبة الأولى: العلم:
فأمَّا بالنُّسبة لمرتبة العلم لابُدَّ نؤمن أنَّ الله يعلم كل شيء جملةً وتفصيلاً، أزلاً وأبداً، مما يتعلق بأفعاله أو بأفعال عباده، علمه محيط بالماضي والحاضر والمستقبل، وما لا لم يكن لو كان كيف كان سيكون، يعلم الموجود والمعدوم والممكن والمستحيل، ولا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السَّموات والأرض، علم خلقه قبل أن يخلقهم، فعلم أرزاقهم وآجالهم وأقوالهم وأعمالهم وحركاتهم وسكناتهم، وعلم أهل الجنَّة وعلم أهل النَّار قبل أن يخلق الجنَّة وقبل أن يخلق النَّار، فإذاً هذه أول مرتبة من مراتب القضاء والقدر، أول ركن العلم السَّابق الشَّامل، هذه التي أنكرها غلاة القدرية، يا معشر النِّساء: فالآن غلاة القدرية قالوا: هذه المعاصي التي صارت من شرِّ وقتل وجرائم، فقالوا: كيف الله قدَّرها، والله لا يُقدِّر ولا يسمح بها، تنظر إلى القضية التي صارت، قالوا: إذاً ما كان يعرف، فهذا المخرج، ما كان يعلمه، وما هو المخرج عندهم؟ ما كان يعلمها، فوقعوا في الشِّرك والكفر واتهام الله بالجهل والنَّقص، كيف تقولون ما كان يعرفه؟ فهذه قضية أهل البدع يريدون أن يفرُّوا من شيءٍ فيقعوا في شيءٍ أدهى وأمرّ، قالوا: نريد أن ننزَّه الله عن أنَّه سمح بالشَّرِّ أو أنَّه قضى بالشَّرِّ وأشياء فيها قتل أو جرائم، فقال ما كان يعلم، ومعناه أنكم اتهمتم الله بالجهل عالم الغيب والشَّهادة لا يعزب عنه مثقال ذرة، يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم، وعنده مفاتيح الغيب لا يعلمها إلا هو، ما تسقط من ورقة إلا يعلمها، ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس، النَّبي صلى الله عليه وسلم لما سأل عن أولاد المشركين ما هو مصيرهم، قال: الله أعلم بما كانوا عاملين [رواه البخاري: 1384، ومسلم: 6933].
يعني: لو واحد كافر عنده ولد صغير ومات هذا الولد الصَّغير، سيذهب للجنَّة أو للنَّار؟ وُجِّه السؤال للنَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم، فأجاب بعلم الله تعالى الذي هو: الله أعلم بما كانوا عاملين ، لو الولد هذا ما مات واستمر في الحياة وكبر كان سيكفر مثل أبويه أو سيسلم؟ الله أعلم بما كانوا عاملين ولذلك من الأقوال هذا الجواب الذي في الحديث والقول الآخر الذي هو أرجح وأقوى أنَّهم يُختبرون يوم القيامة، وما منكم من نفس إلا وقد عُلم منزلها من الجنة والنار [رواه مسلم: 6903].
منقول من موقع الشيخ محمد صالح المنجد
المفضلات