-
سفسطة الملاحدة حول مقولة البعرة تدل على البعير
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين وعلى أصحابه الغر الميامين ، و على من أتبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد :
فقد انتشر في عصرنا مرض الإلحاد ، وهو أحد الأمراض الفكرية الفتاكة إذ يفتك بالإيمان و يعمي الحواس عن أدلة وجود الخالق الرحمن ،و تجد المريض يجادل في البديهيات و يجمع بين النقيضين ويفرق بين المتماثلين ،ويجعل من الظن علما و من العلم جهلا و من الحق باطلا و من الباطل حقا .
ومن عوامل انتشار هذا المرض الجهل بالدين و ضعف العقيدة واليقين والاسترسال في الوساوس الكفرية والسماع والقراءة لشبهات أهل الإلحاد دون أن يكون لدى الإنسان علم شرعي مؤصل .
وشبهات أهل الإلحاد ما هي إلا أقوال بلا دليل وادعاءات بلا مستند ،ورغم ضعفها و بطلانها إلا أنها قد تؤثر في بعض المسلمين لقلة العلم وازدياد الجهل بالدين ولذلك كان لابد من كشف شبهات ومغالطات ودعاوي أهل الإلحاد شبهة تلو الأخرى و مغالطة تلو المغالطة ودعوى تلو الدعوى حتى لا ينخدع أحد بكلامهم وشبههم .
وفي هذا المقال سنتناول بإذن الله الرد على سفسطة الملاحدة حول مقولة الأعرابي الذي سئل بم عرفت ربك؟ فقال البعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير، ليل داج، ونهار ساج، وسماء ذات أبراج، أفلا تدل على الصانع الخبير[1].
يعلق أحدهم على مقولة : البعرة تدل على البعير فيقول : " أنها مليئة بالمغالطات المنطقية ... 1 -المشكلة الأولى تكمن في ضرب مثال بمقياس خاطئ حيث أنه عندما يقول البعرة تدل على البعير فالرد على ذلك هو أي بعير؟؟ الجاموس أم البقر أم الماعز أم الجمل الخ...
و هذا ينطبق على الكون فلماذا هو الله؟ لم ليس فيشنو أو أودين أو زيوس أو اهووا مازدا؟؟
....
2- المشكلة الثانية هي الاعتماد على الخبرات السابقة بمعنى إننا نعرف شكل البعرة من الخبرات السابقة و نعلم كيف يتم تكوينها لذا عندما نراها يساعدنا دماغنا على إمدادنا بمعلومة سابقة تمكننا من التعرف على الجسم الموجود أمامنا و الآن تأملوا معي ذلك الأعرابي الذي وجد البعرة و أثر السير.تخيلوا لو انه رأى حفرة على شكل مثلث...ماذا كان سيقول؟؟ البعرة تدل على البعير و الحفرة تلك تدل على..........????????????? ببساطة لن يعلم ؛ لأنه ليست لديه خبرات سابقة تمكنه من التعرف عليه .
3- الاستنتاج على جهل يعد من أكبر المشاكل التي تواجه المتدين بشكل عام فهو يقول البعرة تدل على البعير ...و هذا الكون لا اعرف من أين جاء إذن...الله خلقه..هذه مغالطة منطقية أخرى
4- سذاجة الطرح..فقد ساوى الأعرابي الكون بما فيه ببعرة و بعير و المثالان مقياسهما مختلف تماما و قد اوضحنا ذلك سابقا
5- ... السؤال الأزلي من خلق الله؟؟ ... و في الحقيقة هذا ليس هو السؤال الصحيح بل السؤال الصحيح هو....كيف جاء الله...اخبرني بالطريقة التي جاء بها و سأفهم و أكف عن سؤالك لأني حينها سأقوم بتطبيق الفكرة على كل ما سبق .. عندما أسألك كيف جئت إلى الدنيا؟ ستقول بالتكاثر هنا سأتوقف عن السؤال فورا و افهم أن تلك هي طريقة الإنجاب و أطبقها على أبوك و جدك و سلالتك ...دعنا نرتب أفكارنا (كيف جاء الكون يا ملحد؟؟ جاء بالانفجار العظيم,,,و كيف جاءت المادة التي سببت الانفجار العظيم؟؟ لا اعلم ما زلنا نكتشف....هاها أجل دعني أخبرك إذن أن الله هو الذي جاء بها...إذن و كيف جاء الله؟؟؟ "
ويقول ملحد آخر عن مقولة : البعرة تدل على البعير : " أنها تعرض إهانة بالغة للذات الإلهية التي يحاولون إثبات وجودها، فلا الكون بعرة ولا الله بعير ...إن مقولة ( البعرة تدل على البعير) تستند في حقيقتها على معرفة سابقة للبعير وإنتاجها للبعرة، وهو ما يجعل البدوي يفرّق بين بعرة البعير وروث بقية البهائم الأخرى. وهذه الفكرة البسيطة تنسف من الأساس أيّ استدلال منطقي قائم للاستشهاد بهذه المقولة في مسألة غاية في التعقيد كمسألة نشوء الكون ووجود إله لهذا الكون، هذا إضافة إلى أن عملية إنتاج البعرة ليست عملية واعية، في حين إنتاج الكون تفترض إرادة ووعياً يُلصقها المؤمنون بآلهتهم، وهذا الأمر يجعل الاستدلال بهذه المقولة غير مقبول منطقياً.
ولنأخذ مثالاً على سذاجة هذه المقولة لنفهم منها استحالة الاعتماد عليها في الاستدلال بوجود الله بهذا المنطق. فإذا وجد أحدنا مادة كريهة الرائحة بالقرب من ضفة نهر، فإنه قد يُخمّن أن تكون هذه المادة روثاً لحيوان ما، ولكنه من المستحيل أن يُجزم لمن يعود هذا الروث؛ إلا أن يكون على معرفة سابقة. ولكن سكان المناطق النهرية يعرفون مثلاً أن هذا الروث روث تمساح، لأنهم على معرفة بشكل ورائحة روث التمساح، وعندها يُمكنهم أن يقولوا إن روث التمساح يدل على وجود التمساح، أو أن وجود بيض السلحفاة يدل على وجود السلحفاة، ولكن هنالك اشتراط واحد واجب الإمكان ألا وهو (المعرفة السابقة)، فكيف يُفرّق السكان الأصليون بين روث التمساح وروث فرس النهر؟ وبين بيض السلحفاة وبيض الزقزاق؟ وهل للمؤمنين معرفة سابقة بالله، تجعلهم يقولون إن (الكون يدل على وجود الله)؟ الواقع يقول إن لا أحد يمتلك هذه المعرفة السابقة على الإطلاق.
إن مقولة (البعرة تدل على البعير) تمت إعادة صياغتها بطريقة رياضية وفقاً للتغيّرات المعرفية المتقدمة في تاريخ حركة الإنسان، وتمثل فيما يُسمى بمبدأ (السببية) أو العلّية، وهي تقضي بأن لكل موجود موجد بالضرورة، ولكن من غرائب العقلية الدينية أنه يرفض تطبيق هذا المبدأ بكُلياته، بحيث يتم استثناء الإله من هذا المبدأ عندما نطرح السؤال المنطقي: إذا كانت البعرة تدل على البعير، فعلى مَن يدل البعير؟ وبالتالي فعلى مَن يدل الله؟ والسؤال بصيغة أقل حدّة (من أوجد الله؟) وتكون الإجابة الصادمة للعقل هو أن الله هو الشيء الوحيد الذي وُجد من غير مُوجد! والمؤمنون متصالحون تماماً مع هذا الانقطاع المنطقي لهذا المبدأ العام "
ويقول ملحد آخر : " يستخدم المتدين مثال الساعة والبعرة للاستدلال على مسبب، ويشبه الخنفساء مثلاً بالساعة، فهذه أيضاً معقدة التركيب ولها نظام دقيق وهدف، وهو التكاثر والبقاء.
ولكن هناك مغالطة ضخمة وخداع مشين للذات في هذا التشبيه. وهو أننا نعرف تمام المعرفة أن الساعة مصنوعة ولها مسبب، فقد شاهدنا (أي بعضنا) من ركبها، وكيف ركبها، وكيف صنعت قطعها، وكيف جاءت ومن أين جاءت. وكذلك نعرف أن البعرة سببها البعير، فقد شاهدناه وهو يتبرزها. ولكن لم يشاهد أو يشعر أو يتحسس أحد منا بأي كيان، ميتافيزيقي بالخصوص، وهو يصنع الخنفساء أو الطير أو القطة أو الإنسان أو أي كائن طبيعي آخر ".
ويقول ملحد آخر : " عندما تدل البعرة على البعير فهذا البعير نعرفه وقد رأيناه من قبل ، ولكن لو أتى شخص غريب ولم ير من قبل أي بعير في حياته من قبل أو حتى سمع عنه وهذا الشخص قد أتى إلى الصحراء وقد رأى براز البعير لأول مرة.. فهل سيتمكن هذا الشخص من الاستدلال على البعير الذي لم يراه من قبل ! ، بالطبع لم يتمكن من معرفة من هو صاحب هذا البراز أبدا ما لم ير صاحبه ( البعير ) بأم عينه وهو يتبرز أمام عينيه ! وكذلك الأمر ينطبق على الساعة أو أي آلة معقدة عندما يراها رجلا من سكان الأدغال لأول مرة في حياته فإنه سوف ينسب تلك الساعة إلى الجن أو الأشباح أو أي آلهة قد سمع عنها أو عبدها ! دون أن يخطر على باله بأنها من صناعة البشر مثله ! ولكنه أكثر تطورا وتعلما منه بأشواط كثيرة جدا ! بحيث لو بقيت تلك الساعة بحوزة ذلك الرجل ساكن الأدغال مدى حياته كلها ! فلم يهتدي ابدا من هو صاحبها الحقيقي وكيف نشأت ! ولو كان هذا الرجل من أذكى رجال قومه ! وهذا الأمر أيضا ينطبق على الإنسان المؤمن برب السموات والأرض !! عندما يرى حجم الكون المذهل وتعقيد جميع الكائنات الحية.. فأنه سوف يقع وقد وقع بالفعل في نفس الخطأ الذي وقع به الرجلان الافتراضيان كما أسلفت في المثالين السابقين عندما نسب كل ما رآه إلى ربه الوهمي ( الله ) ! ولم يستوعب عقله أبدا أن يكون كل ما يراه هو نتيجة طبيعية بحتة والكائنات الحية مهما بلغت من تعقيد فهي لا تحتاج إلى أي رب على الإطلاق لينشئها وهي تنشأ حيث الظروف المناسبة لنشأتها ! وهذا الشيء قد تم إثباته تباعا عن طريق أجيال من العلماء العباقرة والباحثين " .
[1] - البيان والتبيين للجاحظ 1/163.
طبيب
-
عدم تعيين الفاعل على وجه التحديد لا يستلزم عدم وجود الفاعل
من البديهيات أن حدوث أي فعل يستلزم وجود فاعل له فحدوث الكتابة يستلزم وجود كاتب ،وحدوث البناء يستلزم وجود بان ،وحدوث الضرب يستلزم وجود ضارب ،وحدوث السرقة يستلزم وجود سارق وحدوث القتل يستلزم وجود قاتل .
والجزم بوجود فاعل للفعل لا يعني القدرة على تعيين فاعل الفعل دون الحاجة لأدلة وبراهين تفيد ذلك إذ تعيين فاعل الفعل يحتاج لأدلة وبراهين تفيد تعيين ذلك الفاعل دون غيره ،فحدوث جريمة ما يستلزم وجود مرتكب لها أما معرفة مرتكب الجريمة بعينه وتحديده دون غيره فيحتاج لأدلة وبراهين تفيد ذلك ،وحدوث كتابة على ورقة يستلزم وجود كاتب لها أما معرفة كاتب الورقة بعينه وتحديده دون غيره فيحتاج لأدلة وبراهين تفيد ذلك ،ورسم منظر طبيعي خلاب يستلزم وجود رسام مبدع أما معرفة من رسم هذا المنظر الطبيعي بعينه وتحديده دون غيره فيحتاج لأدلة وبراهين تفيد ذلك.
وهذا الكون الذي نعيش فيه له لحظة بداية ولحظة تكوين ولحظة إنشاء ،وهذا يستلزم وجود مبدئ ومكون و منشئ له ،وهو الإله الخالق ،ومعرفة من هو هذا الإله الخالق وتعيينه يحتاج لأدلة وبراهين تفيد ذلك ،وهذه الأدلة والبراهين لابد أن تكون موجودة ظاهرة واضحة إذ لا يعقل أن من خلق هذا الكون بهذا الإبداع وهذا التناسق وهذا الجمال وهذا النظام و هذا الاتساع لا يضع للناس أدلة تدل عليه و تعرف الناس به ،وإذا كان من اخترع شيئا من الأشياء يبين للناس أنه مخترع ذلك الشيء بل ويغضب إذا نسب الاختراع لغيره فكيف بمن أبدع السموات و الأرض ،وخلق هذا الجمال على غير مثال ؟!!
ولا يصح الاعتراض على مقولة البعرة تدل على البعير بأنها لم تبين من الفاعل على وجه التحديد ؛ لأن تعيين الفاعل على وجه التحديد يحتاج لأدلة وبراهين تفيد التحديد والتعيين ،ولا يلزم من عدم تعيين الفاعل على وجه التحديد عدم وجود الفاعل أي عدم تعيين الفاعل لا ينفي وجود الفاعل بمعنى أن الاختلاف في تعيين و تحديد الفاعل لا يمنع من الإقرار بوجود الفاعل .
ومنطق هؤلاء الملاحدة هداهم الله أن مادام يوجد عدة احتمالات للبعير فلا يصح أن يقال البعرة تدل على البعير مع أن الإقرار بوجود بعير بعر البعرة شيء ،وتحديد من ذلك البعير الذي بعر هذه البعرة شيء آخر ، وعدم معرفتي بالبعير الذي بعر البعرة لا يمنع من إقراري بوجود بعير بعر البعرة .
ومنطق الملاحدة في نشأة الكون أن مادام يوجد عدة احتمالات لمنشئ الكون فلا يصح أن يقال أن للكون منشئ مع أن الإقرار بوجود منشئ للكون شيء ،وتعيين ذلك المنشئ على وجه التحديد شيء آخر ،وعلى التسليم الجدلي تنزلا مع الملاحدة أني لا أعرف من منشئ الكون على وجه التحديد فهذا لا ينفي أن للكون منشئ .
مقولة البعرة تدل على البعير مقولة بديهية
إن مقولة البعرة تدل على البعير مقولة بديهية أوضح من أن توضح وهي مثل الكتابة تدل على كاتب ،والبناء يدل على بان ،وهذه معارف أولية لا تحتاج في تصورها أو التصديق بها إلى اكتساب أو معرفة سابقة أي علم الإنسان بأن البعرة تدل على البعير ليس موقوفا على معرفة سابقة للبعير وإنتاجها للبعرة كقولنا الكل أكبر من الجزء ،و النقيضان لا يجتمعان ، والخطّان المُتوازيان لا يتقابلان .
وبمجرد أن يرى الإنسان بعرة يدرك أن لها سبب ولها محدث ولها فاعل حتى وإن كانت أول بعرة يراها في حياته كما أن الإنسان إذا رأى كتابة يدرك أن لها سبب ولها محدث ولها فاعل حتى وإن كانت أول كتابة يراها في حياته .
وبمجرد أن يدرك الإنسان أن شيء من الأشياء أثر يعلم أن سببه مؤثر ، وبمجرد أن يدرك الإنسان أن شيء من الأشياء فعل يعلم أن سببه فاعل ،وهذا العلم لا يحتاج إلى رؤية سابقة للمؤثر أو الفاعل ،و عليه فالعلم بأن البعرة سببها البعير لا يحتاج إلى رؤية سابقة لبعير يبعر كي يعلم بأن للبعرة باعر ، وهو مثل العلم بأن الكتابة سببها كاتب ،ولا يحتاج الإنسان لرؤية سابقة لإنسان يكتب كي يعلم بأن للكتابة كاتب ،ومثل العلم بأن البناء سببه بان ،ولا يحتاج الإنسان لرؤية سابقة لإنسان يبني كي يعلم بأن للبناء بان ،ومثل العلم بأن الضرب سببه ضارب ،ولا يحتاج الإنسان لرؤية سابقة لإنسان يضرب كي يعلم بأن للضرب ضارب ،ولو رأى إنسان كرسيا لأول مرة علم أن له صانع ،ولا يحتاج ذلك لرؤية نجار يصنع الكرسي .
وهذا الكون الذي نعيش فيه له لحظة تكوين و إنشاء ووجد بعد أن لم يكن موجودا ،وهذا يستلزم وجود مكون و منشئ و موجِد له ،وهو الإله الخالق ،والعلم بذلك لا يحتاج إلى رؤية سابقة للإله ،وهو يكون الكون وينشئه و يوجده ،و إذا كان أصغر شيء مصنوع في الكون لم نر صانعه يستحيل أن يكون بلا صانع فكيف يصح أن يقال هذا الكون بأكمله بلا خالق لأننا لم نر الخالق وهو يخلق الكون ؟!!!
عدم تصور فاعل الفعل لا يستلزم عدم تعقل وجوده
و عدم تصور السبب لا يستلزم عدم تعقل وجوده
إن الإقرار بوجود فاعل للفعل ،وتعقل وجوده لا يستلزم تصور ذلك الفاعل ،وعدم تصور فاعل الفعل لا يستلزم عدم تعقل وجوده بمعنى آخر عدم تصور السبب لا يستلزم عدم تعقل وجوده ولا ينفي وجوده، و معنى التصور استحضار صورة الشيء في الذهن [1] أو حصول صورة الشيء في العقل [2] ،و قد يطرق باب بيتي طارقا فأجزم أن هناك طارقا بالباب وأعقل أن هناك طارقا بالباب لكن لا أدري من هذا الطارق ولا أتصور من هذا الطارق قد يكون إنسانا قد يكون رجلا قد يكون امرأة قد يكون طفلا قد يكون قطة قد يكون كلبا ،وعليه فعدم تصوري للطارق الذي بالباب لا ينفي تعقلي بوجود طارق بالباب ،ولا ينفي وجود طارق بالباب .
و الأجسام تسقط على الأرض بفعل الجاذبية الأرض ،ونحن نعقل وجود الجاذبية ،ولكننا لا نستطيع تصور هذه الجاذبية الأرضية رغم وجودها ،وعدم تصورنا لهذه الجاذبية الأرضية لا ينفي وجودها .
والمغناطيس يجذب المواد المصنوعة من الحديد ، والكوبلت ، والنيكل ، والكروم والمنجنيز والجادولينيوم وغيرها بفعل الظاهرة المغناطيسية ،ونحن نعقل وجود الظاهرة المغناطيسية ،ولكننا لا نستطيع تصور هذه الظاهرة المغناطيسية رغم وجودها ،وعدم تصورنا لهذه الظاهرة المغناطيسية لا ينفي وجودها .
وبالعقل يدرك الإنسان الأشياء و يميز بين الحسن و القبيح و الخير والشر ،ونحن نعقل وجود العقل ولكننا لا نستطيع تصور هذا العقل رغم وجوده ،وعدم تصورنا للعقل لا ينفي وجوده .
يقول الشعراوي – رحمه الله - : ( وفَرْق بين التعقُّل والتصوُّر، والذي أتعب الفلاسفة أنهم خلطوا بينهما، فالتعقل أن أنظر في آيات الكون، وأرى أن لها موجداً، أمّا التصور فبأنْ أتصور هذا الموجِد: شكله، اسمه، صفاته. . إلخ وهذه لا تتأتى بالعقل، إنما بالرسول الذي يأتي من قِبَل الإله الموجد.
وسبق أن ضربنا مثلاً - ولله تعالى المثل الأعلى - قلنا: لو أننا نجلس في مكان مغلق، وطرق الباب طارق، فكلنا يتفق على أن طارقاً بالباب لا خلاف في هذه، لكن نختلف في تصوُّره، فواحد يتصور أنه رجل، وآخر يقول: طفل، وآخر يتصوَّره امرأة، وواحد يتصوره بشيراً، وآخر يتصوره نذيراً. . إلخ.
إذن: اتفقنا في التعقُّل، واختلفنا في التصور، ولكي تعرف مَن الطارق فعلينا أن نقول: من الطارق ؟ ليعلن هو عن نفسه ويخبرنا مَنْ هو؟ ولماذا جاء؟ ويُنهي لنا في هذا الخلاف.
كذلك الحق - تبارك وتعالى - هو الذي يخبرنا عن نفسه، لكن كيف يتم ذلك؟ من خلال رسول من البشر يستطيع أنْ يتجلى الله عليه بالخطاب، بأن يكون مُعدّاً لتلقِّي هذا الخطاب، لا أنْ يخاطب كل الناس.
وقد مثَّلْنا لذلك أيضاً (بلمبة) الكهرباء الصغيرة أو (الراديو) الذي لا يتحمل التيار المباشر، بل يحتاج إلى (ترانس) أو منظم يعطيه الكهرباء على قَدْره وإلا حُرق، فحتى في الماديات لا بد من قوي يستقبل ليعطي الضعيف.
والحق سبحانه يُعد من خَلْقه مَنْ يتلقى عنه، ويُبلِّغ الناس، فيكلم الله الملائكة، والملائكة تكلم الرسل من البشر )[3].
قول المؤمنين بوجود خالق للكون مبني على علم وليس على جهل
إن قول المؤمنين بوجود خالق للكون قول مبني على علم ،وليس قولا مبنيا على جهل ، والكون نفسه وُجِد بعد أن لم يكن موجودا ،وأُحدِث بعد أن لم يكن حادثا فلابد أن يكون له موجِد ومحدِث ،وعندنا أربعة احتمالات لوجود الكون فإما أن يكون الكون قد وجد صدفة أو يكون الكون قد أوجد نفسه بنفسه أو الطبيعة أوجدته أو هناك خالق خلقه .
والاحتمال الأول مرفوض ؛ لأن الصدفة ليست بشيء حتى تستطيع أن توجد شيئا ،و الصدفة ليست فاعلة ،ولكنها صفة للفعل الصادر من الفاعل ،والفعل لا يوجد بدون فاعل ،ومعنى أن الفعل حدث صدفة أي الفعل حدث دون قصد وترتيب مسبق من الفاعل ووصف كيفية حدوث الفعل لا ينفي وجود فاعل له ،وعندما نسمع أن أثرا من الآثار الفرعونية اكتشف صدفة لا نفهم من ذلك أن الأثر ليس له مكتشف [4]،وعندما نسمع أن أحد القوانين الفيزيائية اكتشف صدفة لا نفهم من ذلك أن القانون ليس له مكتشف[5] ،وعندما نسمع أن شيئا من الأشياء اخترع صدفة لا نفهم من ذلك أن هذا الشيء ليس له مخترع [6] .
والاحتمال الثاني مرفوض ؛ لأن الكون لم يكن موجوداً قبل أن يوجد فكيف يوجد شيئاً وهو غير موجود أصلا ،وفاقد الشيء إذا كان لا يملِكه ولا يملك أسبابه لا يعطيه ؟ ، والقول بأن الكون أوجد نفسه بنفسه يلزم منه وجود الكون قبل وجوده ، و هذا محال .
والاحتمال الثالث مرفوض إذ الطبيعة قد تعني ذوات الأشياء المادية المحسوسة الموجودة في الكون حولنا من جماد وحيوان ونبات ،وقد تعني صفات الأشياء الموجودة في الكون من حركة وسكون, وحرارة وبرودة, وليونة ويبوسة, وغير ذلك وقد تعني مجموع السنن و القوانين المتحكمة في ظواهر العالم المشاهد المحسوس السارية على جميع موجوداته فإن عني بالطبيعة ذوات الأشياء المادية المحسوسة الموجودة في الكون حولنا من جماد وحيوان ونبات فهذا مقتضاه أن الكون قد أوجد نفسه بنفسه و الكون علة لنفسه وهذا فاسد ،ومن المعلوم أن الشيء لا يخلق شيئاً أرقى منه، فالطبيعة من سماء وأرض ونجوم وشموس وأقمار وغير ذلك لا تملك عقلاً ولا سمعاً ولا بصراً، فكيف تخلق إنساناً سميعاً عليماً بصيراً ! وإن عني بالطبيعة صفات الأشياء فهذا التفسير أفسد من التفسير السابق ؛ لأنه إذا عجزت ذات الأشياء عن إيجاد نفسها فعجز صفاتها من باب أولى ،وإن عني بالطبيعة القوانين التي تتحكم في الكون فهذا باطل ؛ لأن القوانين تحتاج لمن يسنها و يقننها ،و لا يمكن لقوانين الطبيعة أن تنتج شيئا للوجود ،ولا يمكن لقوانين الطبيعة أن تنتج حدثا من الأحداث بل غاية قوانين الطبيعة وصف العلاقة بين أحداث معينة بعدما أوجدتها الأسباب ،ومن يعتقد أن القوانين تستطيع أن تسبب شيئا من الأشياء كمن يعتقد أن القوانين الحسابية يمكن أن توجد مالا ،و كمن يعتقد أن القوانين التي تعمل بها السيارة يمكن أن تخلق السيارة أو تسير السيارة دون الحاجة لمن يقودها و هذا قول في غاية السخف والسقوط .
و إذا بطلت الاحتمالات الثلاثة تعين أن يكون الاحتمال الرابع ،وهو وجود خالق للكون هو الصحيح لفساد ما ينقضه .
[1] - انظر المعجم الفلسفي لمجمع اللغة العربية ص 45
[2] - المعجم الفلسفي للدكتور جميل صليبا ص 281
[3] - تفسير الشعراوي 19/11692
[4] - يوجد الكثير من المقابر الفرعونية التي اكتشفت صدفة ، ومن ذلك اكتشاف أهالي أحد قرى أشمون المنوفية مصر بالصدفة مدخل مقبرة فرعونية إثناء إجراء حفائر لتشييد مسجد وقاموا بإبلاغ مسئولي المجلس الأعلى للآثار الذين أوفدوا لجنة فنية وأثرية متخصصة وتبين لهم أنه من الاكتشافات الأثرية المهمة ويعود إلي العصر الفرعوني المتأخر للدولة الفرعونية القديمة .
[5] - يوجد الكثير من القوانين الفيزيائية التي اكتشفت صدفة ،ومن ذلك اكتشاف أرشميدس لقانون الطفو ،واكتشاف نيوتن للجاذبية .
[6] - من الأشياء التي اخترعت عن طريق الصدفة اختراع هانز ليبرش للنظارة الطبية ،و اختراع جون واكر لأعواد الثقاب واختراع ليبارون سبنسر للميكروويف
طبيب
-
و إن قال الملاحدة قول المؤمنين كل حادث يحتاج إلى محدث قول بلا دليل و لا سبيل للبرهنة عليه و مهما جمع من أدلة من العالم فإنها لا تكفي للوصول إلى الكلية لاستحالة اختبار كل الحوادث و معرفة هل هي محتاجة إلى محدث أو لا فالجواب هذه سفسطة لا أثارة عليها من علم إذ مقولة الحادث لا بد له من محدِث من البديهيات .
و البدهيات هي حقائق ضرورية لا تحتاج إلى برهان، أي أنها تفرض نفسها على الذهن بحيث لا يحتاج إلى برهان لإثباتها ويجمع العقلاء على صحتها واعتمادها كأصول ضرورية لازمة ، و هي تعتبر أسسا و قواعد أولية ومقاييس تبنى عليها باقي الأفكار، وبراهين لإثبات صدق غيرها من الأفكار .
و مقولة كل حادث لابد له من محدث هي كمقولة كل كتابة لابد لها من كاتب و لو رأي شخص كتابة فقال لابد لها من كاتب فاعترض عليه آخر قائلا : ( أثبت لي أن هذه الكتابة تحتاج لكاتب و هل اختبرت كل الكتابات لتعرف هل تحتاج إلى كاتب أم لا ) لعده الناس مجنونا .
و مقولة كل حادث لابد له من محدث بديهية مستغنية أن يذب عنها يستدل بها و لا يستدل لها فالسؤال عن إثباتها يعتبر خطأ فادح كالتصديق بأن النار حارة فهذا التصديق لا يحتاج إلى إثبات و جمع الأدلة عليه من كل العالم .
و إني أسأل عن شخص يفكر في وجود جهاز دقيق الحجم معقد التركيب محكم الوظائف وجد بلا موجد ما حكمه عند العقلاء و أيهما أعظم في الحكم هذا الجهاز الدقيق أم هذه خلية الإنسان الحية ،وهي دقيقة الحجم معقدة التركيب محكمة الوظائف أضف إلى ذلك أنها تنمو و تتكاثر و تتنفس و تتغذى و تقوم بعمليات حيوية تعجز عن محاكاتها أكبر المصانع في العالم ، و الأعجب من هذا أن المواد الميتة خارج الخلية كالكربوهيدرات و البروتينات عندما تعبر غشاء الخلية و يسمح لها بالاندماج مع مكونات الخلية وعضياتها تتحول هذه المواد من مواد ميتة لا حياة فيها إلى عضيات حية تتغذى ، وتتنفس ؟!!
والكون الذي نعيش فيه محكوم بقوانين لا يحيد عنها ،ولاينفك عنها فهي مفروضة عليه فرضا فلابد أن يكون لها من قننها و سنها وفرضها و عندنا ثلاث احتمالات لمن سن هذه القوانين إما أن يكون الكون نفسه هو الذي سن هذه القوانين أو القوانين نفسها أو شيء آخر خارج عن الكون .
و الاحتمال الأول مرفوض إذ يلزم منه وجود الكون قبل وجوده .
و الاحتمال الثاني مرفوض ؛ لأنه تصوير للقوانين على أنها فاعلة محركة ،و القوانين مجرد وصف سلوك لظاهرة في الكون يتكرر تحت نفس الظروف .
و الاحتمالان السابقان باطلان فتعين الاحتمال الثالث لفساد ما ينقضه ،وهو أن يكون من سن قوانين الكون شيء خارج عن الكون فهذا إثبات لشيء خارج عن الكون ،وهو الإله الخالق .
و نجد هذا الكون الذي نعيش فيه في غاية الانتظام فتجد المطر لا يستطيع أن يمتنع عن الأرض فتنعدم الحياة ويهلك الناس ،و الأرض لا تستطيع أن تمتنع عن إنبات الزرع و ما رأينا يوما تعطل الشمس أو سقوط نجم من السماء على الأرض و غير ذلك من الأمور ،و كل هذا يدل على وجود خالق قدير يحفظ نظام هذا الكون فلابد للتنظيم من منظم ، قال تعالى : ﴿ إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ [ البقرة : 164 ] ، وقال تعالى : ﴿ لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ ﴾ و إذا كان العقل يحيل انتظام عمل مصنع من المصانع دون منظم لهذا المصنع فكيف بهذا الكون الشاسع ؟!
و إن قال الملاحدة الاستدلال بدليل النظام قائم على التشابه بين الكائنات الطبيعية و المصنوعات البشرية فلأننا شاهدنا أن جميع المصنوعات البشرية لا تخلو من صانع ، فلا بد أن يكون للكون المنظَّم من صانع خالق ، و هذا التشابه بمجرده لا يكفي لسحب و تعْدِيَة حكم أحدهما إلى الآخر لاختلافهما ، فإن مصنوعات البشر موجودات صناعية ، بينما الكون موجود طبيعي .
و الجواب أن العقل المدُقّق في حقيقة النظم و المتتبع لعلته ، سيحكم فورا بأن مصدر النظام هو خالق حكيم عالم قد أوجد الأجزاء المختلفة كمّا وكيفا ، ورتبها ونسقها بحيث يمكن أن تتفاعل في ما بينها ، وتتعاون لتحقيق الهدف المطلوب والغاية المقصودة من إيجادها وهذا الحكم الذي يصدر عن العقل لا يستند إلى شيء سوى إلى ماهية النظام وطبيعته الرافضة للتحقق بلا فاعل عالم ومدبر، ولا يستند إلى التشابه ، ولا إلى التجربة كما زعموا فبرهان النظم قائم على إدراك الحس بوجود النظام في الكون بملاحظة العقل للنَّظم و التناسق و الانضباط بين أَجزاء الوجود أي ملاحظة نفس ماهية النظام من دون تنظيرها بشيء ، فيحكم بما هو هو، من دون دخالة لأَية تجربة و مشابهة ، بأَنَّ موجد النَّظم لا محالة يكون موجوداً حكيما قديرا .
و برهان النظام قائم أيضا على البديهة العقلية القاضية بأن النظام لا يكون إلا من منظم ذي إرادة و قدرة وحكمة و ما ذكروه من أن هذا مصنوع ، و هذا طبيعي لا يلغي وجود النظام في كليهما ، و لا يلغي البديهة العقلية القاضية بوجود منظم للكون .
و الفارق الذي ذكروه بين الأحداث التي تكون في الطبيعة و التي يفعلها الانسان غير مؤثر إذ لا فارق بين الأحداث التي تكون في الطبيعة و التي يفعلها الانسان من حيث السبب و العلة .
و إن قال الملاحدة لا يمكن الحكم على الكون أنه منتظم فهل لدينا كون آخر يمكن مقارنته بهذا الكون حتى يمكننا القول بأن كوننا منظم و الجواب لا يشترط في القول بأن الكون منتظم وجود كون آخر يقارن بكوننا ، فوصف أي شيء بصفة لا يستلزم وجود مماثل له لكي يوصف و الشيء يوصف عن طريق رؤيته بالبصر أو الإحساس به عن طريق الحواس الأخرى أو رؤية الشبيه بالبصر أو الإحساس بالشبيه عن طريق الحواس الأخرى .
و لعل الملاحدة خلطوا بين وصف الشيء و مقارنة الشيء بغيره فالمقارنة تحتاج وجود شيء آخر يقارن بالشيء مثل فلان جميل هذا وصف و عند مقارنة فلان بغيره تقول فلان أجمل من فلان و هذا الشيء منظم و هذا الشيء أكثر نظاما من هذا الشيء .
و إن قال الملاحدة لو كان هناك كيان صمم هذا النظام فهذا يعني أن هذا الكيان بنفس الفرض هو محكم ومعقد أكثر من الكون فمن أين أتى هذا الكيان ؟ و الجواب أن القول بوجود منظم للكون لا يفرض وجود سبب لهذا المنظم ؛ لأن الذي نظم الكون هو الخالق و الخالق ليس كالمخلوق و لا يصح أن يُقاس القديم الأزلي الذي لا أول له على الحادث الذي له أول و هل يوجد لله شبيه حتى نشبه الله به و الله ليس له شبيه .
و إن قال الملاحدة لا يصح أن يقال أن الكون منظم لوجود الفوضى في الكون و الجواب هذه الظواهر التي يدعون أنها فوضوية لا تلغي وجود نظام في الكون فكم يوجد في الكون من أشياء منظمة منسقة حتى أبهرت علماء الفيزياء و الأحياء و الكيمياء و الفلك و الجولوجيا و غيرهم .
و الفوضى تستلزم عدم وجود أنظمة و قوانين تحكم هذه الظواهر الفوضوية و إمكان استنتاج قوانين عامة تحكم هذه الأمور يدل على انتظامها و ليس على عدم انتظامها ، و لا يوجد شيء في الكون في الغالب لا يخضع لقوانين ،و ما لم يتم معرفة قوانينه فهذا لقصور العلم في الوقت الحالي و مع مرور الزمن سيكشف لنا العلم وجود نظام لهذه الظواهر .
و ما دامت الفوضى تخضع لقوانين فليست فوضى ، و لكن نظام مرتب لم يتم الكشف عن ماهيته الحقيقية ، و هل وجود ظواهر فوضوية في الكون كما يدعون ينفى وجود موجد لها ؟!!
و النظام هو السائد في الكون بدليل إمكان العلماء من وضع قوانين للظواهر الفيزيائية و الطبيعية فلو كانت الفوضى هي السائدة لما تمكن العلماء من وضع قوانين تحكم الكون .
ووجود الكائنات الحية دليل على وجود خالق حي وهب الحياة لها فالحياة لا تأتي إلا من حي ،و من يقول من الملاحدة: " نشأة الحياة ليست دليلا على وجود خالق ؛ لأنها نشأت صدفة عبر سلسلة طويلة من التطور الكيميائي ما قبل الحيوي استمر لملايين السنين ابتداء من الكيميائيات البسيطة مروراً بالجزيئات المتعددة و الجزيئات المتعددة الناسخة ذاتياً داخلةً بدورات تحفيزية وصولاً إلى كائنات ما قبل بكتيرية وأخيراً وصولاً إلى بكتريا بسيطة " فالجواب هذا الكلام لا يصح ،و ينم عن الجهل بمفهوم الصدفة إذ على التسليم الجدلي تنزلا مع الملاحدة أن الحياة نشأة صدفة نتيجة سلسلة من التفاعلات فهذا لا ينفي وجود خالق للحياة ؛ لأن الصدفة ليست فاعلة ،ولكنها صفة للفعل الصادر من الفاعل ،والفعل لا يوجد بدون فاعل .
وعلى التسليم الجدلي أن الملاحدة قدموا الآلية الصحيحة لنشأة الحياة فهم تكلموا عن كيفية نشأة الحياة ، و ليس لماذا نشأة الحياة ومن الذي أنشأها ؟ ، ومن الذي جعلها تنشأ بهذه الطريقة ؟ إذ العلم يبحث عن الفعل ،و لا يبحث عن الفاعل ،و يبحث عن الحدث ،و لا يبحث عن الحادث.
و لو كانت الحياة قد نشأت نتيجة سلسلة من التفاعلات فلابد من وجود موجِد للمواد التي تتفاعل ، ولابد من وجود من أعطى هذه المواد القابلية للتفاعل ،وهذه السلسلة من التفاعلات لها شروط معينة للحدوث فتحتاج إلى من يهيئ لها الشروط المعينة لحدوثها ،وهذه السلسلة من التفاعلات تحتاج إلى من يحافظ عليها كي تعطي نتائجها .
ولو كانت الحياة قد تطورت من مادة غير حية فمن الذي طور هذه المادة ؟ إذ أي تطور لابد له من مطور ، و إن قيل المادة هي التي طورت نفسها عبر ملايين السنين ،فالجواب هذا الكلام يستلزم أن الأدنى يتطور بنفسه إلى الأعلى ،و التطور الذاتي إلى الأكمل دون تدبير حكيم عليم قدير خالق، أمرٌ مستحيل عقلاً، إذ الناقص لا ينتج الكامل في خطةٍ ثابتة ، وهو بمثابة إنتاج العدم للوجود[1] ،و يلزم من هذا الكلام قبول تحول الناقص إلى الكامل بنفسه، وهذا نظير وجود الشيء من العدم الكلي المحض[2].
ومن يدعي من الملاحدة أن توافر الظروف لنشأة الحياة أدى لنشأة الحياة دون الحاجة لمسبب فدعواه في غاية السخف والسقوط ،وهو كمن يقول توافر الظروف لحدوث الجريمة أدي لحدوث الجريمة ،وعليه فليس للجريمة مرتكب .
وقد عرفنا خالق الكون بنفسه وبأسمائه وبصفاته و بخلقه للكون وبما يحبه و بما يكره من خلال رسله وأنبيـائه المؤيدين بالمعجزات وأخبرنا أنه الله ،وأخبرنا أنه هو الذي خلقنـا و لو كان هناك خالق غير الله لأدعى الخلق ، و لم يدع أحد غير الله لنفسه الخلق إلا خذله الله في الدنيا و افتضح أمره ، أما الله سبحانه فقد قال أنه الخالق لكل شيء عن طريق رسله و أنبيائه و لم ينازعه أحد قال تعالى : ﴿ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ﴾ [ فاطر : 3 ] ،وقال تعالى: ﴿ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الأعراف: 54] ، وقال تعالى: ﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ﴾ [الزمر: 62] و قال تعالى : ﴿ قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاء لاَ يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ﴾ [الرعد : 16]
[1] - كواشف زيوف للشيخ عبد الرحمن حبنكة الميداني ص 331
[2] - كواشف زيوف للشيخ عبد الرحمن حبنكة الميداني ص 446
طبيب
-
مقولة البعرة تدل على البعير من باب ضرب المثل
إن قول الأعرابي البعرة تدل على البعير كانت على سبيل ضرب المثل والقياس ليتضح قوله ،ويزداد الكلام بالمثل وضوحا كما قيل بالمثال يتضح المقال .
ولسان حال الأعربي يقول إذا كانت البعرة تدل على فاعلها ،وهي أقل شأنا من وجود الليل والنهار والسماء والنجوم فمن باب أولي وجود الليل والنهار والسماء والنجوم والكون بأكمله يدل على وجود فاعله ،وهو الإله الخالق .
وإذا كان أثر السير يدل على فاعله ،وهو أقل شأنا من وجود الليل والنهار والسماء والنجوم فمن باب أولي وجود الليل والنهار والسماء والنجوم والكون بأكمله يدل على وجود فاعله ،وهو الإله الخالق قال تعالى : ﴿ إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ [ البقرة : 164 ]
والإنسان حين ينظر في الكون وفي آياته لا بُدَّ أنْ يصل من خلالها إلى الخالق عَزَّ وَجَلَّ، فما كان لها أنْ تتأتى وحدها، ثم إنه لم يدَّعها أحدٌ لنفسه ممَّنْ ينكرون وجود الله، وقلنا: إن أتفه الأشياء التي نراها لا يمكن أن توجد هكذا بدون صانع، فمثلاً الكوب الذي نشرب فيه، هل رأينا مثلاً شجرة تطرح لنا أكواباً ؟
إذن: لا بُدَّ أن لها صانعاً فكر في الحاجة إليها، فصنعها بعد أنْ كان الإنسان يشرب الماء عباً، أو نزحاً بالكفن وما توصلنا إلى هذا الكوب الرقيق النظيف إلا بعد بحث العلماء في عناصر الوجود، أيها يمكن أنْ يعطيني هذه الزجاجة الشفافة، فوجدوا أنها تُصنَع من الرمل بعد صَهْره تحت درجة حرارة عالية، فهذا الكوب الذي يمكن أنْ نستغني عنه أخذ منا خبرة وقدرة وعلماً . إلخ فما بالك بالشمس التي تنير الكون كله منذ خلق الله هذا الكون دون أنْ تكلّ أو تملَّ أو تتخلف يوماً واحداً، وهي لا تحتاج إلى صيانة ولا إلى قطعة غيار، أليست جديرة بأن نسأل عمَّنْ خلقها وأبدعها على هذه الصورة، خاصة وانها فوق قدرتنا ولا تنالها إمكاناتنا[1].
وليس في مقولة البعرة تدل على البعير إهانة للذات الإلهية ،ولا تشبيه الكون ببعرة أو تشبيه الخالق ببعير كما يزعم الملاحدة هداهم الله ؛ لأن المقولة أتت على سبيل ضرب المثل ،وتشبيه حال أمر بحال أمر آخر ،وتنبيه الذهن على قياس النظير على النظير .
والعربي يضرب مثلا لسوء الْجَزَاء بقوله : جزاه جَزَاء سنمار ،وَكَانَ سنمار بِنَاء مجيداً من الرّوم فَبنى الخورنق للنعمان بن امرئ الْقَيْس فَلَمَّا نظر إِلَيْهِ النُّعْمَان استحسنه وَكره أَن يعْمل مثله لغيره فَأَلْقَاهُ من أَعْلَاهُ فَخر مَيتا[2] قال النعمان لسنمار: ما رأيت مثل هذا البناء قط. فقال له سنمار: إني أعلم موضع آجرة لو زالت لسقط القصر كله. فقال النعمان أيعرفها أحد غيرك. قال: لا. قال: لأدعنها وما يعرفها أحد.وأمر به قفذف من أعلى القصر[3]،وعندما يقال هذا المثل على شخص لا يقصد بذلك تشبيه هذا الشخص بسنمار ،ولكن تشبيه حاله بحال سنمار .
والعربي يضرب مثلا لمن يرجع بالخيبة بقوله رجع بِخُفَّيْ حنين ،و حنين هو اسم إسكاف من أهل الحيرة، ساومه أعرابي بخفين ولم يشترهما، فغاظه ذلك وعلق أحد الخفين في طريقه، وتقدم فطرح الآخر وكمنَ له، وجاء الأعرابي فرأى أحد الخفين فقال: ما أشبه هذا بخف حنين، لو كان معه آخر لاشتريته. فتقدم فرأى الخف الثاني مطروحا في الطريق فنزل وعقل بعيره ورجع إلى الاول، فذهب الإسكاف براحلته وجاء إلى الحي بخفي حنين[4] فكان هذا مثلا يضرب عند الرجوع بالخيبة[5]. وعندما يقال هذا المثل على شخص لا يقصد بذلك تشبيه هذا الشخص بالأعرابي الذي رجع بِخُفَّيْ حنين ،ولكن تشبيه حاله بحال الأعرابي .
والعربي يضرب مثلا لما يكتفي بمنظره عن تعرف حاله بقوله كفى برغائها[6] منادياً و،َأَصله أَن ضيفاً أَنَاخَ[7] بِفنَاء رجل فَجعلت رَاحِلَته ترغو فَقَالَ الرجل مَا هَذَا الرُّغَاء أضيفٌ أَنَاخَ بِنَا فَلم يعرفنا مَكَانَهُ فَقدم قراه فَقَالَ الضَّيْف كفى برغائها منادياً[8] قَال أبو عبيد: هذا مَئَلٌ مشهور عند العرب يضرب في قَضَاء الحاجة قبل سؤلها، ويضرب أيضاً للرجل تحتاج إلى نُصرتَه أوْ مَعُوْنَتَهُ فلا يحضرك، ويعتلُّ بأنه لم يعلم، ويضرب لمن يقف بباب الرجل فيقَال: أرْسِلْ مَنْ يستأذن لك ويقول: كفى بعلمه بوقوفي ببابه مستأذنا لي، أي قد علِم بمكاني فلو أراد أذِنَ لي[9].
ومما يؤكد عدم قصد الأعرابي الأهانة للذات الإلهية أنه لم يذكر البعرة تدل على البعير وحدها بل اتبعها بقوله وأثر السير يدل على المسير ، ليل داج، ونهار ساج، وسماء ذات أبراج، أفلا تدل على الصانع الخبير فلما تغافل الملاحدة عن باقي كلام الأعرابي ؟!!
بطلان سؤال من خلق الله ؟ وكيف جاء الله ؟ومن أوجد الله ؟
إن العقل السليم يبطل سؤال من خلق الله أو كيف جاء الله ؟ أو من أوجد الله ؟، إذ كون الله خالقا يستلزم ألا يكون مخلوقا ،وعليه فلا يصح سؤال من خلق الله أو كيف جاء الله ؟ أو من أوجد الله ؟ ، والأصل في الخالق الوجود إذ لو كان الأصل فيه العدم لما أوجد الكون ؛ لأن فاقد الشيء الذي لا يملكه، ولا يملك سبباً لإعطائه لا يعطيه ، و إذا كان الأصل في الخالق الوجود فلا يصح أن نسأل عن سبب وجوده أو كيف جاء .
و الخلق يفتقرون إلى خالق ، و لو كان الخالق يفتقر إلى غيره ،وهكذا للزم التسلسل في الفاعلين إلى ما لا نهاية و بالتالي لا يوجد خالق للخلق ، و الخلق فعل و الفعل لا بد أن يكون له فاعلا ،و عدم وجود خالق للخلق يستلزم ألا يوجد فاعل للفعل وهذا باطل .
و سؤال السائل : من خلق الله ؟ يساوي سؤال : ما الذي سبق الشيء الذي لا شيء قبله ؟ و يساوي سؤال : ما بداية الشيء الذي لا بداية له ؟ ويساوى سؤال : ما بداية وجود الشيء الذي لا بداية لوجوده ؟ .
هذا و الحمد لله الذى بنعمته تتم الصالحات
[1] - تفسير الشعراوي 19/11691
[2] - جمهرة الأمثال للعسكري 1/305
[3] - الحيوان للجاحظ 7/460
[4] - الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية للجوهري 5/2106
[5] - اللباب في قواعد اللغة وآلات الأدب لمحمد علي السراج ص 274
[6] - الرغاء صوت الأبل
[7] - أناخ بالمكان أقام بالمكان واستقر
[8] - جمهرة الأمثال للعسكري 2/151
[9] - مجمع الأمثال لأبي الفضل الميداني النيسابوري 2/142
طبيب
-
طبيب
معلومات الموضوع
الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
المواضيع المتشابهه
-
بواسطة Kemooo في المنتدى منتدى الشكاوى والإقتراحات
مشاركات: 27
آخر مشاركة: 18-08-2014, 12:48 AM
-
بواسطة challengerforever في المنتدى منتدى نصرانيات
مشاركات: 2
آخر مشاركة: 03-09-2012, 05:05 AM
-
بواسطة heureuse05 في المنتدى منتدى الكتب
مشاركات: 2
آخر مشاركة: 03-08-2009, 01:38 PM
-
بواسطة زهراء في المنتدى المنتدى العام
مشاركات: 5
آخر مشاركة: 25-04-2009, 08:54 AM
-
بواسطة بن رشد في المنتدى منتدى نصرانيات
مشاركات: 2
آخر مشاركة: 20-04-2008, 07:30 PM
الكلمات الدلالية لهذا الموضوع
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى
المفضلات