شروط الاستخلاف

الشرط الأول- الإسلام

يتفق فيه كل الصحابة... وهو الإسلام...
فلا يجوز لدولة إسلامية غالب سكانها من المسلمين ..
أن يكون الحاكم نصرانيًّا أو يهوديًّا مثلاً...
ولا تنظروا إلى ما يحدث في بعض بلدان العالم الإسلامي ...
من ولاية النصارى على الدولة.. مثل نيجيريا مثلاً... فهذه مخالفة شرعية واضحة....

الشرط الثاني - البلوغ

وهذا أيضًا يجتمع فيه كل الصحابة المرشحين للخلافة...

الشرط الثالث - الذكورة

لا بد أن يتولى أمور المسلمين ...وبالذات إمامة البلد والقيادة الأولى فيها رجل..
وأن بعض البلدان الإسلامية التي تجعل على رئاستها امرأة..
ولعلهم يفتقرون إلى رجل تتوافر فيه شروط الإمامة..
فشرط الذكورة طبعًا يتوافر في كل المرشحين للخلافة في زمان الصحابة....

إذن هذه الشروط الثلاثة ...الإسلام والبلوغ والذكورة ...لا يتفاضل فيها أحد من الصحابة على أحد.

الشرط الرابع - العدالة

الصحابة جميعًا عدول باتفاق العلماء..
والعدالة: هي ملكة في الشخص تحمله على ملازمة التقوى والمروءة....
والتقوى... وإن كانت من الأعمال التي تحتاج توافق بين الظاهر والباطن والسر والعلانية ..
إلا أن التقوى التي يبنى عليها شرط العدالة ...هي التي يراها الناس فقط..
فليس لأحد أن يطلع على قلب أحد..

ومن هذا المنطق فإن تعريف التقوى المطلوبة في الخليفة هو..
اجتناب الأعمال السيئة من الشرك والفسق والبدعة...
كما لا بد ألا يأتي بأي عمل من أعمال الشرك..
ولا بد أن يجتنب الأمور التي يتهم صاحبها بالفسق..
مثل ترك الصلاة..
وترك الزكاة..
وترك الصيام..
وفعل الكبائر الأخرى كشرب الخمر..
أو الزنا..
أو المجاهرة بفحش القول والعمل..
أو القتل بغير حق..
أو الاستهزاء بالدين..
ولا بد أيضًا أن يتجنب البدعة فضلاً عن أن يدعو لها..

واختلفوا في الصغائر.. أي اجتنابها شرط أم لا..
واتفقوا على أن الإصرار عليها يخل بشرط العدالة..

أما المراد بالمروءة فهو: التنزه عن النقائص التي قد تكون مباحة.. ولكن لا تصح في حقه..
مثل كثرة المزاح .. وضياع الهيبة ... وإن كان صادقًا في مزاحه..
وقديمًا كانوا يعتبرون الأكل في الشوارع والأسواق من مسقطات المروءة..
لكن العرف الآن يجيز ذلك ولم ينه الشرع عنه كذلك...

إذن شرط العدالة يقتضي أن يكون الخليفة تقيًّا صاحب مروءة ..
وإن كنا قد ذكرنا أن الصحابة كلهم عدول من هذه الوجهة..

إلا أنه من الواضح والمعلوم أن أبا بكر الصديق هو أكثرهم عدالة..
وأعظمهم تقوى..
وأشدهم مروءة..
لما سبق من الأحاديث ولشهادة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) له ..
بالإيمان والصحبة والدرجة العالية في الجنة....
شروط تفوق فيها الصديق

بعد الشروط السابق ذكرها ...
والتي يشترك فيها جميع الصحابة المؤهلين للخلافة في ذلك الوقت...

تأتي شروط أخرى في غاية الأهمية..
وهي تحتاج إلى بعض البحث في أحوال الصحابة ..
لنرى من هو أصلح الناس على ضوء هذه الشروط لتولي الخلافة..

و هذه الشروط المتبقية .. ثلاثة ..

(1) الشجاعة والقوة والنجدة..
(2) العلم والدراية بأمور الفقه والدين والحياة بصفة عامة..
(3) حسن الرأي وحسن الإدارة والحكمة في المفاضلة بين الأمور..


طبعًا مع وجود شرط رابع تحدثنا عنه من قبل ..
وهو أن يكون الخليفة من قريش ..
وهذا الشرط استثنى الأنصار كما ذكرنا ...

و مع هذه الشروط الثلاثة الأخيرة .. علينا أن نرى أين موقع الصديق منها ؟!
الشجاعة والقوة والنجدة

لا بد للخليفة أن يكون كذلك.. وإلا ضاعت هيبة البلاد..
فقرار الحرب يحتاج إلى رجل شجاع لا يهاب الموت.. بل يطلبه..
و إذا تردد الخليفة في نفسه ساعة أو ساعتين.. أو يومًا أو يومين..
فقد تضيع البلاد نتيجة التردد والجبن...

فأين الصديق في صفة الشجاعة؟

روى البخاري عن عروة بن الزبير رحمه الله قال:

سألت عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن أشد ما صنع المشركون برسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال: رأيت عقبة بن أبي معيط جاء إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) وهو يصلي، فوضع رداءه في عنقه، فخنقه خنقًا شديدًا، فجاء أبو بكر حتى دفعه عنه، فقال: "أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله، وقد جاءكم بالبينات من ربكم؟"

ففي هذا الموقف العصيب... محاولة لقتل رسول الله (صلى الله عليه وسلم)..
يأتي أبو بكر الصديق دون غيره من الصحابة.. ويدافع عنه (صلى الله عليه وسلم)..
في موقف من أشد المواقف خطورة على حياة الرسول.. وعلى حياة الصديق نفسه..
لكنه إذا انتكهت حرمة الدين.. أو حرمة الرسول (صلى الله عليه وسلم)... فالصديق لا ينظر لنفسه أبدًا.

انظروا إلى هذه الرواية التي رواها البزار في مسنده..
وذكرها ابن حجر العسقلاني في فتح الباري عن شرحه للحديث السابق..
وهذه الرواية عن علي بن أبي طالب ..

قال علي : "أَخبِروني من أشجع الناس؟"

وكان وقتها أمير المؤمنين..

قالوا: أنت.
قال: "أما إني ما بارزت أحدًا إلا انتصفت منه، ولكن أخبروني بأشجع الناس"..


يقصد أنه شجاع... ولكن هناك من هو أشجع منه...

فقال الناس: لا نعلم فمن؟
قال: "أبو بكر".


ثم بدأ يفسر لهم..

قال: إنه لما كان يوم بدر، فجعلنا لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) عريشًا..
فقلنا.. من يكون مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لئلا يهوي إليه أحد من المشركين؟
فو الله ما دنا أحد إلا أبو بكر شاهرًا بالسيف على رأس رسول الله (صلى الله عليه وسلم)..
لا يهوي إليه أحد إلا هوى إليه.. فهو أشجع الناس..
ثم يكمل علي ويقول: ولقد رأيت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وقد أخذته قريش (أي وقت مكة)...
فهذا يجبأه... وهذا يتلتله..
وهم يقولون: أنت الذي جعلت الآلهة إلهًا واحدًا؟
قال: فوالله ما دنا منه أحد... إلا أبو بكر يضرب هذا ويجبأ هذا ويتلتل هذا..
وهو يقول: ويلكم أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله.
ثم رفع علي بردة كانت عليه فبكى حتى اخضلت لحيته، ثم قال: أنشدكم الله أمؤمن آل فرعون خير أم أبو بكر؟

فسكت القوم..

فقال: ألا تجيبوني؟ فوالله لساعة من أبي بكر خير من ألف ساعة من مثل مؤمن آل فرعون، ذاك رجل يكتم إيمانه (أي مؤمن آل فرعون) وهذا رجل أعلن إيمانه...(أي أبو بكر)..


وهكذا .. فثبات الصديق مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في جميع المشاهد والغزوات معلوم ..
بما في ذلك طبعًا في أحد وحنين ...حيث فر معظم القوم..
ولم يبق إلا هو والقلة.

وشرط الشجاعة طبعًا يقصد به الشجاعة في القلب...
والتي تؤدي إلى قرار شجاع غير متردد...
وليس بالضرورة أن يكون صاحب الرأي الشجاع هو أمهر الناس في القتال.. أو هو أقواهم جسدًا..
لكن المراد أن يأخذ القرار الشجاع المناسب في الموقف..
حتى وإن كان على حساب حياته..

فلا يشترط في الخليفة طبعًا أن يقاتل بنفسه..
حتى يشترط أن يكون أمهر الناس وأقواهم جسدًا..
وإن كان أبو بكر كان يقاتل بنفسه أحيانًا ..
وهو خليفة إذا تطلب الأمر ذلك..
وهذا ما سنراه في حروب الردة ..
حين خرج في حرب عبس وذبيان بنفسه لما غَزَتَا المدينة المنورة ...

فأبو بكر الصديق وإن كان رجلاً نحيلاً ضعيفًا في بنيته..
إلا أنه كان أشجع الصحابة في قرار حروب الردة ...وقرار فتح فارس والروم..

نعم هناك من الصحابة من أقوى منه جسدًا..
وأمهر منه حربًا ورميًا..
لكن هذا لا يشترط في الخليفة ..
إنما يشترط في قائد الجيوش أو الممارس للقتال..

لذلك ولى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عمرو بن العاص على أبي بكر في موقعة ذات السلاسل..
لأنه في هذه الجزئية يتفوق عمرو بن العاص..
لكن في شمول معنى القيادة للخلافة وللدولة..
فلا شك أن الصديق فاق الجميع..

وهناك مثل يوضح هذا الأمر:
ذكرناه في حديثنا عن إنكار الذات عند الصديق وموقفه ..
وهو يدافع عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ..
حتى نال منه المشركون وتورم وجهه وكاد أن يموت..
ففي هذا الموقف ..
نجد أن الصديق دفعته شجاعته إلى الدفاع عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم)..
لكن لم يكن له طاقة بالمشركين فضربوه..
وهذا لا يطعن في شجاعته..
بل على العكس ..
فالرجل الجسيم القوي قد يحتمي وراء جسده..
وقد يخفي في داخله قلبًا ضعيفًا يخشى الموت ويطلب الحياة..
بينما الرجل النحيل الضعيف إذا قدم على مهلكة واضحة كان هذا دليلاً على شجاعته..
واستهانته بالموت وطلبه للشهادة ويقينه بالأجل..
وهذا كله مما يرجى في خليفة المسلمين.
روى ابن إسحاق في سيرته وابن كثير في تفسيره وغيرهم ..

أن أبا بكر دخل بيت المدراس على يهود (بيت المدراس هو بيت يدرس فيه اليهود فيه التوراة) ...
وكان دخول أبي بكر هذا في أول العهد المدني ..
في زمن المعاهدة بين رسول الله (صلى الله عليه وسلم) واليهود...
ولم يكن الرسول (صلى الله عليه وسلم) ممكنًا في المدينة بعد..
وكان اليهود قوة لا يستهان بها في المدينة.. سلاح ورجال وقلاع وأموال..
وأبو بكر الآن يدخل على اليهود في عقر دارهم في بيت المدراس..
وقد اجتمع عدد ضخم من اليهود هناك وأبو بكر بمفرده..

دخل أبو بكر فوجد منهم ناسًا قد اجتمعوا إلى رجل منهم يقال له: فنحاص..
وكان من علمائهم وأحبارهم ومعه حبر من أحبارهم يقال له: أشيع..

فقال أبو بكر لفنحاص: "ويحك، اتق الله وأسلم، فوالله إنك تعلم أن محمدًا لرسول الله، قد جاءكم بالحق من عنده، تجدونه مكتوبًا عندكم في التوراة والإنجيل".

أبو بكر أخذته الحمية للدين لما رأى فنحاص يعلم الناس التوراة المحرفة..
ويبعدهم عن دين الله..
لم يفكر أنه وحيد في جحر الثعالب..
كل ما فكر فيه هو دين الله ودعوة الإسلام..
لكن فنحاص كان إنسانًا شريرًا قاسي القلب سيئ الأدب كعادة اليهود..
قال للصديق ما لم يتوقع الصديق أبدًا أن يسمعه من إنسان..

قال: والله يا أبا بكر، ما بنا إلى الله من فقر وإنه إلينا لفقير، وما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا، وإنا عنه أغنياء وما هو عنا بغني، ولو كان عنا غنيًّا ما استقرضنا أموالنا، كما يزعم صاحبكم، ينهاكم عن الربا ويعطيناه، ولو كان غنيًّا ما أعطانا الربا.

هذا الكلام الفاحش من فنحاص يقصد به قول الله ..

(مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)

فيقول إن الله يستقرضنا، وسيعطينا مكانه أضعافًا كثيرة..
فكأن هذا ربا وهو قد نهى عن الربا فكيف يعطيه..
أمر عجيب وعقول مختلة وقلوب ميتة..
المهم هذا ما قاله فنحاص..

فماذا كان رد فعل الصديق وهو يقف وحيدًا أمام جموع اليهود ...؟

ها هو دين الله ينتقص أمام وجهه..
وهو قد جعل لنفسه قانونًا لا ينساه: أينقص الدين وأنا حي.

فبماذا رد عليه الصديق؟

إنه لم يرد بلسانه..
الصديق فاجئنا وفاجأ فنحاص وفاجأ اليهود بغضب شديد عظيم..
ولم يشعر بنفسه إلا وهو يرفع يده فيضرب فنحاص في وجهه ضربًا شديدًا ..
حتى سالت الدماء من وجه فنحاص..
وتورم وجهه..

وقال الصديق : "والذي نفسي بيده لولا العهد الذي بيننا وبينك لضربت رأسك أي عدو الله".

وطبعًا اليهود مع كونهم كثرة إلا أنهم إن رأوا ثباتًا من الرجل الذين أمامهم ..
ودبت في قلوبهم الرهبة تملكهم الرعب والهلع..
فلم يستطيعوا فعل شيء..
وما تحرك منهم رجلٌ واحد..

ولكن ذهب فنحاص إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال: يا محمد انظر ما صنع بي صاحبك.

فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لأبي بكر: "مَا حَمَلَكَ علَى مَا صَنَعْتَ؟"

فقال أبو بكر: يا رسول الله إن عدو الله قال قولاً عظيمًا، إنه يزعم أن الله فقير وأنهم أغنياء، فلما قال ذلك غضبت لله مما قال, وضربت وجهه..

فجحد ذلك فنحاص وقال: والله يا محمد ما قلت ذلك..

فأنزل الله تعالى فيما قال فنحاص ردًّا عليه وتصديقًا لأبي بكر..

(لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ
وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الحَرِيقِ)


ونزل في أبي بكر الصديق وما بلغه في ذلك من الغضب قوله تعالى..

(لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا
وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ)


لم يكن هذا وقت المواجهة مع اليهود... بل وقت الصبر...وسيأتي يوم المواجهة بعد ذلك.

الشاهد من القصة هو أن الصديق ...لا تأخذه في الله لومة لائم..
شجاع، مقدام... لا يتردد عن جهاد... ولا يفر من لقاء...
ولا يتحمل أن ينتهك دين الله ولا يتحرك..
هذه هي الشجاعة المرجوة في الخليفة..
وهذا هو الإقدام المطلوب في قائد الأمة...