(أَكْلُ مَالِ اليَتِيمِ)
رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ قَالَ (اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هُنَّ؟ قَالَ (الشِّرْكُ بِاللَّهِ وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلا بِالحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ اليَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ المُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الغَافِلاَتِ).
فتعالوا معنا نتعرف إلى مفهوم اليتيم وحسن رعايته وفضل كفالته وحرمة التفريط في أمواله وتضييع مدخراته.
مَن هو اليتيم؟
اليتيم في الشرع: هو مَن مات أبوه وهو دون البلوغ، وبعد البلوغ لا يسمى يتيمًا؛ فعن حنظلة المالكي قال رسولُ الله (لا يُتْمَ بعد احتِلام، ولا يُتْم على جارية إذا هي حاضت) فلفظ اليتيم الوارد في الكتاب والسنَّة يُراد به مَن مات أبوه وهو لَم يبلُغ من الذُّكور والإناث الحُلُم أي الرابعة عشرة من العمر تقريبا.
وممَّا يضع البلسم على جِراح الأيتام في المجتمع المسلم، أنَّ نبيَّنا أرادَه ربه أن ينشأ يتيمًا، غير أنه حاز الكَمال في التربية برِعاية ربِّه له، والذي خاطَبَه في معرض المنِّ والتَّذكير بالنِّعمة في قوله تعالى:﴿ أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى ﴾، ومن الصحابة الأيتام أبو هريرة والزبير بن العوام ومن الأئمة الاعلام الإمام البخاري والإمام الشافعي والإمام أحمد بن حنبل والإمام ابن الجوزي والإمام الأوزاعي والسيوطي وابن حجر والثوري. وحسبهم أنهم أولو النهى، وأئمة في الهدى، وأعلام في التقى، ومصابيح في الدجى، وشموس في الورى. هذا الطِّفْل الذي فقَدَ أباهُ، أو فَقَدَ أباه وأمّه كليهما، هذا الطِّفْلُ عُرضةٌ لأكْل ماله، ولإهماله، وللعُدْوان عليه، لذلك وردت في الشريعة الاسلامية لليتيم، حقوق عظمى، ووصايا كبرى، التقصير فيها من الكبائر والعظائم، والتفريط فيها من الموبقات والجرائم.
قال الله تعالى: ﴿ أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى ﴾ [الضحى: 6 - 8] فيستفاد من الآيات أن اليتيم يحتاج إلى أمور ثلاثة في حياته وعلى وجه السرعة ودون تأخير لورود العطف بالفاء التي تفيد الترتيب والتعقيب دون فاصل زمني كبير: المسكن الذي يأوي إليه. والتربية الصالحة، والمال الذي يُنفق عليه منه؛ أي: الإيواء، والإنفاق، والتربية، فكأن الآية خطاب إلى الأمة بالنيابة مؤداه: أيتها الأمة أمني لكل يتيم مأوى. يسكن فيه ومالا ينفق عليه وتربية وتعليمًا؛ حتى لا يضل ولا يشقى.
وقد جاءت آيات القرآن الكريم لتراعي اليتيم من الناحية النفسية والاجتماعية؛ لينشأ نشأة سويَّة، فأمرتْ بإكرامه والرفق به، ونهتْ عن قهره وزجره وإهانته؛ قال الله: ﴿ فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ ﴾ والقهر كلمة حبلى بكل معاني الضغط النفسي والبدني والاهانة ونقص الكرامة لان معناها كما اورد ابن منظور في اللسان الأخذ من فوق.
وقد ذم الله أولئك الذين يهينون اليتيم ولا يكرمونه؛ بل يزجرونه ويدفعونه عن حقِّه، فقال: ﴿ أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ﴾
ومعنى يدع اليتيم: يدفعه بعنف عن استيفاء حقوقه، وليس الدَّعُّ إلا كلمة عجيبة اشتملت على كل معاني الإقصاء والإهمال، والشدة والعنف وسائر مظاهر الظلم التي تلحق باليتيم. قد عُنيت الآيات في القرآن الكريم عناية عظيمة بالحقوق المالية لليتامى؛ حتى لا يكونوا عرضة للضياع ولسلب أموالهم، وشرعت لهم موارد كثيرة يأخذون منها المال؛ منها:
الصدقة المندوبة الزكاة المفروضة: (وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ)
والميراث: ﴿ وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا ﴾ [النساء: 8] والغنائم ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى ﴾ [الأنفال: 41].
ولرعاية اليتيم ثلاثة حالات:
1- يتيم غني غير محتاج: أن يموتَ أبوه ويترك له مالاً، فتتكفَّل به أمُّه وترعاه، أو جدُّه أو عمُّه، أو أحد من أقاربه، فيحفظ له ماله، ويُحسِن استثماره، وهو في هذه الحال لا يحتاج إلا للتربية الصالحة، فقد أمن الإيواء والمال.
2- يتيم فقير محتاج: أن يموت أبوه ولَم يترك له من المال شيئًا، وهذا يحتاج إلى المال والتربية.
3- يتيم فقير محتاج مات أبوه وأمه دون أن يترك له مال، فيتكفله أحد اقاربه أو أحد المحسنين، أو الجمعيات الخيرية، وهذا يحتاج إلى الإيواء والمال والتربية.
فضل الكفالة لليتيم: الإحسان إلى اليتيم، ورعايته والاعتناء به وكفالته، من أعظم القربات إلى الله تعالى. فإنه لا يصح شرعًا ولا طبعًا ولا وضعًا أن يحرم هؤلاء مرتين؛ مرة من حنان الأمومة، وعطف الأبوة، وأخرى من رحمة المجتمع ورعايته.
1- يقول: ﴿ فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ ﴾ [البلد: 11 - 15]؛ يقول ابن كثير في تفسيره: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَة؛َ أي: أفلا سلك الطريق التي فيها النجاة والخير.
2- مصدر غني للحسنات يقول النبي: (مَنْ مَسَحَ رَأْسَ يَتِيمٍ لَمْ يَمْسَحْهُ إلا لِلَّه، كَانَ لَهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ مَرَّتْ عَلَيْهَا يَدُهُ حَسَنَاتٌ).
3- دواء لعلاج قسوة القلب: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلًا شَكَا إلى رَسُولِ اللَّه قَسْوَةَ قَلْبِهِ فَقَالَ لَه: إِنْ أَرَدْتَ تَلْيِينَ قَلْبِكَ فَأَطْعِمْ الْمِسْكِينَ وَامْسَحْ رَأْسَ الْيَتِيم).
4- من أسباب المغفرة ودخول الجنة بإذن الله يقول النبي: (مَنْ قَبَضَ يَتِيمًا مِنْ بَيْنِ الْمُسْلِمِينَ إلى طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ إلا أَنْ يَعْمَلَ ذَنْبًا لَا يُغْفَرُ لَه).
5- قال رسول الله: ((أنا وكافل اليتيم في الجنَّة هكذا))، وأشار بالسبابة والوُسْطى، وفرَّج بينَهُما شيئًا؛ وإنَّما فرَّج بين أصبعَيْه؛ لبيان مِقدار التفاوُت بينه وبين الأنبياء،
والمراد بكافِل اليتيم القائم بأُموره من الإيواء او المال او التربية سواء أكان جدًّا أو جدة أو أُمًّا، أو عمًّا أو عمَّة، أو خالاً أو خالةً، أو قريبًا أو أجنبيًّا؛ وكذلك يدخُل في كافل اليتيم كفالة الأيتام عن طريق الجمعيات الخيرية الموثوقة، بحيث يدفع أموالاً ينفق بها على اليتيم، ويربِّي حتى يبلغ، ويقول الإمام النووي: (وهذه الفضيلة تحصُل لِمن كفله من مالِ نفسه أو من مال اليتيم بولاية شرعية).
بمعنى أن كفالة اليتيم تحدث لمن كفل اليتيم بمال؛ سواء أكان هذا المال للكفيل، أو المكفول، وهو اليتيم، فالرجل الذي يتزوج امرأه عندها أولاد صغار ويقوم بكفالتهم؛ سواء من ماله، أو مالهم، هو رفيق للرسول في الجنة.
المحافظة على أموال اليتامى: والواجب على مَن يلي أمْوال اليتامى أن يحافظ على أموال اليتامى وألا يتصرَّف فيها إلا إذا كان في ذلك مصلحة لليتيم؛ لقولِه تعالى: ﴿ وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ﴾ [الأنعام: 152]، فيسعى الولي في تنمية مال اليتيم بالتجارة؛ يقول النبي: ((اتَّجِرُوا فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى لا تَأْكُلُهَا الزَّكَاةُ )).
إن الزكاة سيف مسلط على المال المكنوز، فإن لم يوظف في التجارة، أكلته الزكاة.
ومن أعْظم الذنوب: التفريط في أموال اليتامى، والتسبب في ضياعِها؛ سواء كان بعدم حفظها، أم بِعَدم المطالبة بها، أم أكل أموالِهم التي ورِثوها، فلقد قال الله جل وعلا: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ﴾ [النساء: 10]. حينما يأكل الأخ الأكبر حقَّ إخوته الصغار الذين أصبحوا يتامى بعد موت أبيهم، وحرموا أخواتهم البنات، ووالله إن شربة ماء من أموال اليتامى بغير حق، إنما هي نار تغلي في البطون، وإن لقمة خبز من أموال اليتامى بغير حق، إنما هي نار تتأجج في البطون، وقال رسول الله: "اللهم إني أُحَرِّجُ حق الضعيفين اليتيم والمرأة".
والمعنى في هذا الحديث: تعظيم ظلم هذين الضعيفين: المرأة واليتيم، فإنَّ ضعفَهما قد يُغري المعتدين بظلمهما وهضم حقوقهما، ولهذا دعا النبي عليه الصلاة والسلام بالحرج - وهو الضيق والإثم - على كُلِّ من نال منهما بسوء. كي يتسلم اليتامى أموالهم؛ يلزم شرطان أساسيان، وهما: البلوغ أي النضوج البدني، والرشد أي النضوج العقلي، ويلزم الارتباط بين هذين الشرطين، فلا يكفي أحدهما دون الآخر، وذلك مستفاد من قول الله: ﴿ وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا ﴾ [النساء: 6].
واقع اليتامى في العالم: فحرب غزة خلَّفت 1350 طفلاً في دائرة اليُتْمِ والحِرمان؛ وخلَّفَت الحرب في العِراق خمسة ملايين يتيم. إنَّ هناك أكثر من 210 ملايين طفل يتيم في جميع أنحاء العالم، ونظَرًا لقلَّة العِناية بهذه الشَّرِيحة، فإنَّ 10 % من الأيتام الذين يُغادِرون المَلاجِئ يُقدِمون على الانتِحار، ويتحوَّل أَزْيَدُ من 60 % من الفتيات إلى مُمارَسة البغاء، وينضمُّ 70 % من الأطفال الذُّكور إلى عالَم الجريمة.
المفضلات