نموذجان للحركة



الكاتب: د. سلمان بن فهد العودة

السبت 4 صفر 1427الموافق 04 مارس 2006


الذين يتحركون في مضمار الحياة وبنائها يحتاجون إلى الوعي بما يفعلونه وما يواجهونه، ومعرفة كيف يتصرفون في منعطفات الحياة وصعابها وتحدياتها.

الكثير يبدؤون، ويبدؤون بهمة عالية، وطموح رائع، لكن سرعان ما تنكسر سهامهم على صخرة المشكلات العارضة، والتحديات الطبعية، واعتراضات الآخرين، وتكدير البيت والأسرة والعمل.. بل والنفس التي لا تُطاوع في خير، ولا ينكف عن شرها إلا بالمجاهدة والإصرار، وكأنها طفل مراوغ، ما إن يشعر بغفلة أهله حتى يهرب ليلعب ويعبث بكل ثمين وغالٍ!

وثمة فكرة جوهرية ترسّخت مع العديد من التجارب الإنسانية الحاضرة والغابرة؛ هي أن الإنسان المتحرك الفعّال يحفُّ به طريقان واضحان لا تشابك بينهما, وبحسب اختيار أحدهما يحقق المزيد من النجاح والاستمرار، أو الإخفاق والانقطاع.

1- الطريق الأول: يمكن التعبير عنه "أمسك الشمس":

وهو الطريق المستقيم، ويعني أن يكون إنساناً منتجاً مبادراً فعّالاً، لا يكثر التلفّت للوراء والتشاغل مع الآخرين بما قال وما فعل، وهو قد يكون أخطأ فعلاً، لكنه لا يريد أن يتوقف عند أخطائه، بل يعالج ذلك بأعمال إضافية جديدة، ولا يسمح بالجدل والحوار حول أطروحته أن يعوقه أو يوقف مسيرته.

يُروى عن بعض السلف أن رجلاً فارغاً أراد أن يوقفه ليحادثه فقال له: أمسك الشمس!

ومن هنا جاء عنوان هذا الطريق.

الحياة قصيرة؛ ولذا فأثمن استثمار أيامها هو المزيد من الأطروحات والإنتاج والعمل، هذا ليس استكباراً ولا تعالياً، وليس ادّعاءً لعصمة ما يقول ويفعل، بل من حق الآخرين أن ينتقدوا ويسدّدوا، وليس يلزم أن يكون هو حاضراً, أو أن يعقّب على كل كلمة، وكل مشاركة، وكأنها لا تأخذ الأهمية والاعتبار والصحة إلا بموافقته, وإمضائه.

قلت كلمتك, ودع الناس يقولوا كلماتهم!

وهنا يأتي دور الزمن الكفيل بإنضاج الأفكار، وبيان مدى أهمية الموضوع المطروح أصلاً، فضلاً عن أهمية الفكرة الخاصة.

وكثير من الموضوعات يتبين مع الوقت أنها غير ذات جدوى، وأن الحديث حولها كان ضرباً من التشاغل بالتوافه والصغائر، وتعبيراً عن الفراغ الفكري والنفسي.

وقد يكتسب بعض الموضوعات أهميته من ظرف خاص، تزول الأهمية بزواله، وتصبح قضية تاريخية لا وزن لها, وإن ملأت عقول الناس وأفواههم حيناً من الزمن، ولعل معظم ما نتحدث عنه هو من هذا القبيل!

فخطة "أمسك الشمس" تعني : أن الإنسان الفعّال ينظر إلى الأمام, ويفكر دائماً بالمزيد، ويبحث عن المبادرة، ويخفف إلى أبعد حدٍ ممكن من الحديث المعاد، والإيضاح وإيضاح الإيضاح والتردّد، ويترك للزمن قدراً من الأثر في إحداث التصحيح للأفكار والآراء والنظريات.

2- الطريق الثاني: الدائرة المفرغة، وأعني به دوران الإنسان - مفكراً أو داعية أو أديباً أو كاتباً- حول إنتاج أو عطاء معين, يبدئ فيه ويعيد ويردّد، ويردّ على الخصوم والمعارضين, ويدافع ويصحح ويؤكد حسن نيته وقصده، ويفنّد ما يقوله الآخرون، ويفرزهم حسب تصنيف خاص؛ فمنهم من يُتهم في نيته، ومنهم الحسود، ومنهم الصادقُ, ويخوض معركة شرسة مع الناس من حوله، ويبدأ الاصطفاف، فهذا عدو، وهذا صديق، وهذا محبّ، وهذا مبغض، وهذا موافق، وهذا مخالف..

وتبدأ الأحاديث والأقوال والردود والمجاهدات لحشد هذا أو صدّ ذاك، وتسيطر على نفسيّته هذه المواقف ما بين اغتباط وانزعاج وحب ومقت، حتى تكون هذه المواقف كالوسم في قلبه وعقله وحياته؛ فكأنه تورّط في شبكة أو أحبولة لا مخلص له منها؛ فصار يدور حول نفسه، وحول مشروع واحد بدأه ولم يستطع إكماله، وانشغل بالمحاماة عنه، ومدافعة الآخرين لئلا يجتاحوه، وصار جهده دوراناً حول عمل قد يكون صغيراً أو تافهاً أو وسطاً أو حتى جيّداً، لكنه لا يستحق أكثر من الوقت الذي صُرف فيه أصلاً، فلا معنى لأن يضيع فيه المزيد من الأوقات في الدفاع والحماية والتشييد والنصرة وذبّ الخصوم.

إنها مجزرة الوقت، ومقصلة العمر، ونزيف الحياة؛ نمارس ذلك باختيارنا وإرادتنا، بل بحماسنا، مسكونين بروح الجهاد والمقاومة والنصرة، واعتقاد امتلاك الصواب.

وحين تدرك أن فترة العمل والنشاط للإنسان محدودة، ربما ما بين العشرين والخمسين غالباً، تدري أنها لا تسمح بهذه الانشغالات الفرعية التي تعوق عن السير إلى الأمام وعن الإبداع والتجديد، وتعتقل فكر المرء ولسانه وجهده في جزئية كان خليقاً به أن يتجاوزها إلى غيرها، وألاّ يقلق ممن يعارضها أو ينتقدها أو حتى يتهم صاحبها، فالله حكم عدل, وفي النهاية لا يصح إلا الصحيح، (وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ)[سورة فصلت:46].

وليس النقد مدمراً للأفكار الصحيحة، بل هو معزّز لها، ومؤكّد لمصداقيتها، وسبب لتكميلها وإبعاد جوانب الخلل والنقص فيها.

وإن كنا أمام فكرة لا يمكن الجزم بصوابيّتها؛ فالنقد يمكن أن يؤكد درجتها وقدرها، ويصنفها ضمن دائرة الخطأ أو الصواب.

ربما كانت "الأنانية" والاعتقاد المفرط بصوابية الذات سبباً في نشوب كثير من الإقدام ضمن شبكة الدائرة المغلقة، على أنها كانت جديرة بأن تبدع وتنجح وتتفوق، لكن صدمة المعارضة لفكرة ما، والجدل حولها؛ جذبت اهتمام صاحبها فخاض الحلبة، واستغرق فيها، واستنفدت كل اهتمامه حتى لم يعد لديه المزيد للجديد.

إنهما طريقان، ومن السذاجة أن يقول قائل: يمكن هذا ويمكن هذا!

إنه ليس لك إلا بطن واحد، فإذا أكلت حتى شبعت من الأطعمة السريعة غير ذات الجدوى، وشربت عليها المشروبات الغازية، لم يعد لديك مكان للأطعمة الجيدة والمفيدة، وإذا استغرقت وقتك قراءة وسماعاً ومتابعة وكتابة ورداً وبحثاً حول قضية؛ لم يعد لديك مزيد اهتمام بغيرها، ويفوت عليك العمر, ويُقال: رحمه الله, أشغلته تلك القضية، وكان فيها مجتهداً، ولكنها لا تستحق!

على أن المسارعة بالردّ والجواب ليست حكمة؛ لأنها تكون غالباً تسويغاً ودفاعاً، أكثر منها استفادة لما يقوله الآخرون، وتأصيلاً للفكرة، وتهذيباً بجوانبها وحذفاً لدخيلها.

فاصبر حتى تذهب فورة الحماس والانفعال والحرارة، وتصبح القضية هادئة، وحينئذ يصح أن تصرف النظر بالكلية قناعة، أو تنظر بتوازن وحياد؛ لتستفيد لا لتردّ.

يقول المولى جل وعلا: (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ)[سورة سبأ:46].

ويقول سبحانه وتعالى: (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)[سورة المائدة:93].

ويقول تبارك اسمه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا)[سورة النساء:136].

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على النبي الأمين.