الإمام المجدد: محمد عبده رحمه الله
الكاتب: راضي جودة
في شرقنا العربي نهض رواد كثيرون في مختلف ميادين الدين والسياسة والاجتماع والأدب ... لم تنحصر جهودهم الإصلاحية داخل بلادهم ، بل انطلقت إلى سائر البلاد العربية الإسلامية تحرر الفكر وتوقظ الوعي وفي طليعة هؤلاء الإمام محمد عبده .
ولد محمد بن عبده بن حسن خير الله بإحدى القرى المصرية بإقليم الغربية
( حصة شبشير ) بمركز طنطا في أواخر سنة 1265هـ / 1849م ، ولكنه نشأ بقرية ( محلة نصر ) من قرى مركز شبراخيت بإقليم البحيرة وقد قاست هذه القرية العيش في ظل نظام الإقطاع وسميت (محلة نصر) لأنها كانت إقطاعا ً لرجل بهذا الاسم وفي هذه القرية نشأ وترعرع ( محمد عبده ) من أسرة متوسطة وقد علمه أبوه القراءة والكتابة ثم وكله إلى معلم خاص لتحفيظ القرآن ثم أرسله إلى طنطا لتلقي العلم هناك تمهيدا ً للترقي منه إلى الأزهر وفي عام 1866م التحق بالجامع الأزهر، وفي سنة 1877م حصل علي شهادة العالمية... زوجه والده في سن مبكرة خشية أن تصرفه سن المراهقة من مواصلة طلب الدرس والتفقه في الدين .
وفي سنة 1288هـ- 1871م التقى الشيخ محمد عبده بأستاذه جمال الدين الأفغاني فحضر دروسه ولزم مجامعه الأدبية ومجالسه المليئة بالحكم والأدب والسياسة بل لازمه كظله .. ولم تمض سنوات بعد أول لقاء لهما حتى قامت الثورة العرابية فشارك زعماء الثورة نضالهم وكان يعمل آنذاك رئيسا ً لتحرير جريدة ( الوقائع المصرية ) فدعا في مقالته إلى التعاون على الخير وطالب بالحرية ورفع الظلم عن كاهل الشعب ونادى بإصلاح التعليم والتربية في المدارس وحمل على الرشوة وأهلها وبيّن أن الحق للقانون وليس للقوة .. وقد كان كل همه في الدين هو تطهير الإسلام من البدع والشوائب والتمسك بكتاب الله وسنة رسوله .
وقد كان الخديو عباس حلمي الثاني يشكو من مسلك الإمام محمد عبده في حضرته ويقول :
إنه يدخل علي كأنه فرعون ! ويستمع محمد عبده إلى هذه الشكوى فلا يزيد على أن يقول : وأينا فرعون ؟ ...
وانتهت الثورة العرابية بنفي الإمام إلى بيروت كما نفي جمال الدين الأفغاني إلى الهند فكان عمله في بيروت التعليم بالمدرسة السلطانية وإلقاء المحاضرات على طلابه في منزله وفي المساجد المشهورة .. وأخيرا ً أذن له بالعودة إلى مصر فلم يفارق بيروت إلا بعد أن أودع أرائه في إصلاح الأمة الإسلامية بالتعليم والتربية في رسالتين أرسل إحداهما إلى شيخ الإسلام بالآستانة والثانية إلى والي بيروت ...
وهنا يأتي اختلاف وجهة النظر بين الإمامين .. فالإمام محمد عبده خُلق للتعليم والتهذيب .. أما الإمام جمال الدين الأفغاني فخُلق للدعوى والحركة في مجال العمل السياسي والثورة .. فهما وإن تساويا في الرأي إلا أنهما يختلفان في النظر والطريقة .
وما إن عاد محمد عبده إلى مصر عام 1889م حتى أبعدوه عن وظائف التعليم خشية تأثير آرائه التقدمية على نفوس الناشئين من معلمي المستقبل واختاروا له وظيفة القضاء ، فجال وصال في هذه الميدان ، فشرع في تعلم اللغة الفرنسية بقصد التوسع في دراسته في مجال القانون الجنائي ‘.. ولكن رغم هذا لم يصرفه منصبه القضائي عن التأليف التاريخي بكتابة كثيرا من الرسائل والكتب ، وفي عام 1899م اختاره الخديو عباس حلمي الثاني مفتيا للديار المصرية (وأطلق عليه بعدها لقب :المفتي الأكبر) ، ومن أشهر الفتاوى فتواه بصحة نظام " التوفير في البريد " بالإرباح ؛ وصحة نظام "التامين" وهو ما ساعد على تأسيس النهضة الأولى للاقتصاد المصري عن طريق الادخار الاجتماعي واستثمار المدخرات لصالح المجتمع وفتواه بجواز الاستعانة بغير المسلمين في إصلاح أحوال الأمة ؛ وبضرورة تعلم لغات الأمم الاخري طلبا للعلم والحكمة وتجنبا للشرور الوافدة أو الثابتة.
وفي الساعة الخامسة من مساء 11 يوليو سنة 1905م توفي الأستاذ الإمام بالإسكندرية عن عمر يناهز ستة وخمسين عاما تاركا ثلاث بنات.
وأنهي مقالي عن سيرة الإمام بخير وصف قاله عنه تلميذه وصديقه السيد / محمد رشيد رضا صاحب جريدة المنار بقوله :
" انه سليم الفطرة ، قدسي الروح ، كبير النفس ، صادف تربية صوفية نقية زهدته في الشهوات والحياة الدنيا ، وأعدته لوراثة هداية النبوة ، فكان زيته في زجاجة نفسه صافيا ً يكاد يضيء ولو لم تمسه نار . "
جريدة الشروق - الاثنين 28 مارس 2011 مـ - 23 ربيع الثاني 1432 هـ
المفضلات