حين تتجدد الذكرى
رسائل "الغزالي" المتجدّدة
الثلاثاء 03 ربيع الثاني 1432 الموافق 08 مارس 2011
محمد عبد الصمد الادريسي
تمر علينا ذكرى وفاة الشيخ محمد الغزالي الخامسة عشرة، ومتغيرات كثيرة أصابت واقعنا العربي والإسلامي إنْ على المستوى الدعوي أو الفكري أو أحوال المسلمين؛ حيث كان له فيها صولات وجولات. وكم افتقدنا في هذه الأحوال نظراته الثاقبة للأحداث وقلمه الناقد السيال وفكره الرصين، وحماسه المشتعل في أن يرى موقعًا أفضل لهذه الأمة بين الأمم. وهو الذي أمضى حياته وفيًّا لدينه وهويته وذابًّا عنه في أكلح معاركه، حتى وافاه أجله في التاسع من شهر مارس 1996 حيث انقطع الشيخ محمد الغزالي عن الحياة، لكن أثره لا يزال باقيًا، وأفكاره لا تزال تغذي الأجيال من بعده، وتلهب حماسها للدعوة والعطاء لدين الله.
لقد كان الغزالي أبرز الوجوه في ساحة الفكر الإسلامي في وقته فقد قال عنه الدكتور عبد الصبور شاهين حين قدم خطبه: "والحق أن كتابًا يوضع على غلافه اسم الأستاذ الغزالي لا يحتاج إلى تقديم، فحسبه في تقديري أن يتوّج بهذا العَلَم الخفاق وقد قرأت الدنيا له عشرات الكتب في الإسلام ودعوته، وتلقّت عنه ما لم تتلق عن أحد من معاصريه، حتى إن عصرنا هذا يمكن أن يطلق عليه في مجال الدعوة عصر الغزالي".
لقد كان - رحمه الله- مدرسة وصاحب رسالة يقف كالطود الشامخ بين دعاة الإصلاح.. متعدد المواهب والملكات، ويعمل على جميع الواجهات؛ فهو الخطيب المؤثر، والمؤلف البارع، والمجاهد الصادق، والمناضل الثائر، والأديب المبدع، والشاعر المرهف الحس. وخلاصة القول إنه توافرت له من ملكات الإصلاح ما تفرّق عند غيره، واجتمع فيه من مقوّمات البناء ما جعله مدرسة خاصة لها تلامذتها ومميزاتها.
كان لعمق فكره وفهمه للإسلام أن اتسعت دائرة عمله وتعدّدت واجهات جهاده، فشملت مؤلفاته التي تربو على الخمسين: محاربة الاستبداد و تجديد الفقه السياسي، و الردّ على خصوم الإسلام، و ترشيد الصحوة الإسلامية، و التاريخ و التفسير و الحديث و التصوف و العقيدة. بل إن بعض مؤلفاته أحدثت دويًّا هائلاً بين مؤيديه و خصومه، خاصة كتابه: "السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث"، مما جرّ عليه معارك فكرية دافع فيها عن رأيه بكل ما أوتي من قوة الفكر ورجاحة العقل.
كتب عنه الشيخ يوسف القرضاوي وهو من أبرز تلاميذه كتاب "الغزالي كما عرفته" يقول في نهايته: "والحق أن هذه الدراسة أثبتت أنها أمام قائد كبير من قادة الفكر والتوجيه، وإمام فذٍّ من أئمة الفكر و الدعوة والتجديد، بل نحن أمام مدرسة متكاملة متميزة من مدارس الدعوة والفكر والإصلاح".
وسنحاول في هذه الأسطر القليلة - مع تجدّد ذكراه- أن نقف مع بعض ما تناوله الشيخ محمد الغزالي وهو يرسم معالم الحق على طريقته. وعسى أن نجدّد الارتواء من هذا المنهل الصافي ومن أفكاره التي (وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ).
ومن هذه الواجهات المتعددة التي حارب فيها الشيخ الغزالي، سال الكثير من مداد قلمه للحديث عن العلل التي تسكن قلب العالم الإسلامي، ويقع فيها العاملون للإسلام وهو ما ستتناول بعضه هذه الأسطر دون الإحاطة بجميع مقاله فيه.
طفولة إسلامية
مما شغل بال الشيخ محمد الغزالي، وأخذ نصيبًا وافرًا من دعوته، فيما يتعلق بالمشتغلين بالدعوة أنفسهم شريحة مهمة، ممن يحسبون أنفسهم دعاة إلى الله، وإن هم في الحقيقة إلاّ يظنون، فإن سوء صنيعهم وسوء فهمهم للدين وللنسب التي تكون معالمه جعلهم يضرون الدعوة أكثر مما ينفعونها.
يقول رحمه الله: "واليوم توجد طفولة إسلامية تريد الإنفراد بزمام الأمة.. وعندما يسمع أولوا الألباب حديثها يطرقون محزونين!!
والمخيف أنها طفولة عقلية تجمع في غمارها أرباب لحى وأصحاب هامات وقامات يقعون على أحاديث لا يفهمونها، ثم يقدمون صورة للإسلام تثير الانقباض والخوف!!"(1)
إن خطورة هؤلاء في نظر الغزالي في أنهم يسيئون إلى الإسلام بآياته التي أُنزلت ونصوصه التي وردت، إلاّ أنها تُوظّف في غير محلّها، أو تُفهم على خلاف ما جاءت لأجله، وربما ناقضت نصوصًا صريحة من القرآن. إنه يشكو من دعاة لا يقرؤون ولا يعانون، مشدودين إلى جدليات الماضي السحيق، ولا يتطرقون لما جدّ حولنا، ولا للطفرات الهائلة التي قفزت بها الحياة على أرضنا.
هؤلاء أشد خطورة من عدو يشكّك في آيات الكتاب، أو يرمي حقائقه بالأباطيل يقول: "لقد ابتلي الإسلام بأعداء ينقصون أطرافه من الخارج، كما ابتلي بأعداء يشوّهون حقائقه من الداخل، ولعل هذا العدو الداخلي أنكى من العدو الخارجي" .(2)
"ومع وضوح المنهج الإسلامي في الدعوة فإن دخانًا كثيفًا انطلق في جوه، وما نلوم المبشرين والمستشرقين فيما اختلقوا من إفك، وإنما نلوم نفرًا من الناس لبس أزياء العلماء وهو سوقة، وانطلق في عصبية طائشة يزعم أن الإسلام يمهد لحرب الهجوم وينشر دعوته بالسيف" .(3)
هذا الصنف من المحسوبين على الدعاة يغلب عليهم القصور العقلي، ولكن لديهم جرأة كبيرة على إرسال الأحكام البلهاء بثقة العباقرة، وقد أصاب الإسلام شرٌّ كبير من هؤلاء الجاهلين به وبتاريخه، قد جرّوا عليه تهما منكرة، وصدق فيهم قول الشاعر:
ما يبلغُ الأعداءُ من جاهلٍ
ما يبلغُ الجاهلُ من نفسهِ
والأمر يزداد خطورة حينما تصبح كلماتهم فتنة متنقلة تنفر ولا تبشر، يقول: "ولأكن صريحًا في توضيح ما أخافه، منذ أيام وقف بين الإسلاميين في الجزائر من يصيح بأعلى صوته: إن المرأة في الإسلام خُلقت لكي تلد الرجال، لا عمل لها إلاّ هذا!! وهذه الصيحة تنطلق والغزو الثقافي الديني والشيوعي يعد المرأة بالعلم والكرامة واستكمال الشخصية والمشاركة في إصلاح الأرض وغزو الفضاء.
قلت للإسلاميين وأنا كاسف البال: أوقفوا هذا المجنون قبل أن ترتد الجزائر، وتستولي عليها فرنسا مرة أخرى. هذا المتحدث المسكين باسم الإسلام لا يعرف إلاّ حديثًا مكذوبًا بأن المرأة لا ترى رجلاً ولا يراها رجل. وأنها خُلقت ليفترشها فحل وحسب!!
وهذا متحدث إسلامي آخر يرى أن خروج الرسول في بدر يدل على جواز أن تكون الحرب في الإسلام هجومية، بل يدل على أن الإسلام قام بالسيف.
يقع هذا الفهم والمسلمون لا يقدرون على التقاط أنفاسهم من وطأة الهجوم عليهم، ولا يصنعون سنانًا ولا يقدمون برهانًا" .(4)
لصالح من هذه الجهالة؟
إن هؤلاء الأنصاف متعلمين كما سمّاهم الغزالي يظلمون الإسلام باسم الإسلام، ولا يخدمون إلاّ أعداءه الذين يعتمدون على ضحالة فكرهم لإلصاق التهم بدين الله وإخماد صحوة جديدة لهذا الدين المكافح المثخن بالجراح. بل إن الأمر أبعد من ذلك؛ إذ يصل الأمر بالغزالي إلى أن يصرح في ثقة بأنه يعتقد "أن انتشار الكفر في العالم يقع نصف أوزاره على متدينين بغضوا الله إلى خلقه بسوء كلامهم أو سوء صنيعهم"(5)
ذلك أنهم في عالم يبحث عن الحرية يصوّرون الإسلام دين استبداد، وفي عالم يحترم التجربة ويتبع البرهان يصوّرون الدين دين غيبيات مستوردة من عالم الجن وتهاويل مبثوثة الصلة بعالم الشهادة. وفي عالم تقارب فيه المتباعدون ليحققوا هدفًا مشتركًا فلا بأس أن يتناسوا أمورًا ليست ذات بال، ترى ناسًا من الدعاة يجترون أفكارًا بشرية باعدت بين المسلمين من ألف عام ليشقوا بها الصف، ويمزقوا بها الشمل".
في حين الإسلام الصحيح يقدم لأتباعه الخير، ويهب لهم النصر نجد التدين المغشوش يقدم الهزيمة، ويصنع التخلّف، ويحسّ الناس معه بالحرج. إن هؤلاء "لا ينقصهم غالبًا الحماس والإخلاص، وإنما ينقصهم عمق التجربة وحسن الفقه" .(6)
وبطريقة لا تخلو من النكتة يقول الغزالي وهو الذي يجيد صياغة الطرفة والتبليغ بها: "وددت لو أعنت على محاكاة أبي حامد الغزالي مؤلف "إلجام العوام عن علم الكلام" فألّفت كتابًا عنوانه "إلجام الرعاع والأغمار عن دقائق الفكر ومشكَل الآثار"؛ لأمنعهم عن مناوشة الكبار، وأشغلهم بما يصلحون له من أعمال تناسب مستوياتهم وتنفع أممهم بهم" .(7)
تصحيح التديّن المغلوط
عني الشيخ الغزالي -رحمه الله تعالى- بتصحيح الفكر الديني وقصور فهمه لدى المسلمين خاصتهم وعامتهم، وكان هذا بارزًا في كتبه الأولى "الإسلام والأوضاع الاقتصادية"، "الإسلام والمناهج الاشتراكية"، و "الإسلام المفترى عليه". وكان أول ذلك أن صحّح ما شاع من أن العبادة تنحصر في لحظة سجود أو مكان طواف. بل عمل على ترسيخ شمولية العبادة، فعندما ننظر إلى العبادات السماوية نجد أداءها في اليوم والليلة لا يستغرق نصف ساعة ونجد تعاليمها تستغرق صفحة أو صفحتين، ويبقى الزمان بعد ذلك واسعًا، والمجال رحبًا لفهم الحياة واكتشاف طاقاتها وتسخيرها كلاًّ وجزءًا لخدمة الدين. وكل جهد يُبذل في ذلك يسمى شرعًا عبادة وعملاً صالحًا. وبسبب سوء فهم العبادة كان هذا الفشل الذريع الذي دفعنا ثمنه باهظًا عندما خبنا في ميادين الحياة. وحسبنا أن مثوبة الله في كلمات تُقال ومظاهر تُقام.
يقول الغزالي: "إن هناك سبعين صناعة مدنية وعسكرية تتعلق بالنفط واستخراجه والانتفاع بمشتقاته لا نعرف منها شيئًا، فهل نخدم عقيدة التوحيد بهذا العجز المهين؟! إنه لو قيل لكل شيء في البلاد الإسلامية عد من حيث جئت لخشيت أن يعيش الناس حفاة عراة لا يجدون ما يكتسون، ولا ما يتعلمون، ولا حتى ما يضيء لهم البيوت!!
وقد رأيت صيدلانيًا مشغولاً ببحث قضية صلاة تحية المسجد في أثناء خطبة الجمعة، ومهتما بترجيح مذهب على مذهب، فقلت له: لماذا لا تنصر الإسلام في ميدانك، وتدع هذا الموضوع لأهله. إن الإسلام في ميدان الدواء مهزوم!! ولو أراد أعداء الإسلام أن يسمّموا أمته في هذا الميدان لفعلوا ولعجزتم عن مقاومتهم!!
وسألني طالب بأحد أقسام الكيمياء عن موضوع شائك في علم الكلام فقلت في نفسي إن جائزة نوبل لهذا العام قسمت بين نفر من علماء الكيمياء، وليس فيهم عربي واحد، وحاجة المسلمين إلى الاستبحار في علوم الكيمياء ماسّة. وقد أوردت في بعض كتبي كيف أباد الروس قرية أفغانية عندما شنّوا عليها حربًا كيماوية، وذهب الضحايا في صمت، وتسامع جمهور المسلمين النبأ وهو لا يدري شيئًا عما كان أو يكون!!" .(8)
كما عمل الغزالي على تصحيح التدين المغلوط من خلال ردّ تلك التقاليد السقيمة التي تحسب على الدين ما ليس فيه، وتنسب إليه عادات ما أنزل الله بها من سلطان، فوقف وقفات أنصف فيها الدين مما شابه ظلمًا وافتراء على الله، خاصة في كتابه "ليس من الإسلام" يقول: "إننا قدمنا للإسلام صورًا تثير الاشمئزاز (..) والمأساة أننا مولعون بضم تقاليدنا وآرائنا إلى عقائد الإسلام وشرائعه لتكون دينًا مع الدين وهديًا من لدن رب العالمين، وبذلك نصد عن سبيل الله!
وأذكر هنا قصة الناقة التي عرضها صاحبها بعشرة دراهم، واشترط أن تُباع قلادتها معها بألف درهم، فكان الناس يقولون: ما أرخص الناقة لولا هذه القلادة الملعونة؟ ونحن نقول: ما أيسر الإسلام وأيسر أركانه وما أصدق عقائده وشرائعه لولا ما أضافه أتباعه من عند أنفسهم، واشترطوا على الناس أن يأخذوا به ويدخلوا فيه!!(9)
إن تلك التقاليد والبدع زوائد دودية تعكر صفو الإسلام وتشوب حقائقه الواضحة، وقد جاهد الغزالي لتصفيته منها؛ لأنها تمنع الإسلام من أن ينطلق بأركانه السليمة ومعالمه الثابتة وفطرته البريئة.
طاقاتنا المعطلة
وهب الغزالي حياته كلها للدعوة منقطعًا إليها في حماسة وتفانٍ، ولذلك كان أشد ما يحزّ في نفسه التراخي في تبليغ دعوة الله والعمل للإسلام. فكان يتأمل في أعداد المسلمين التي تزيد يومًا عن يوم زيادات محسوسة، ولكن هذه الزيادة لا يفرح بها صديق ولا يخاف منها عدو!! ولا يظهر لها نتاج حضاري في بر أو بحر، كأن الشرع لم يكلفهم بعمل.
إنه يعتبر الأمة التي انتمت إلى هذا الدين أمة فاقدة للوعي، عوجاء الخطا، تحسب أنها حية، لكنها مغمى عليها. تعيش بضمير معتل، ولا تحمل همًّا لدين ولا دعوة.
يقول رحمه الله: "إن الرجل عندنا قد ينال أعلى الإجازات العلمية، وقد يعين في أعلى المناصب بأوروبا أو أمريكا، لكن صلته بدينه صفر وعلاقته بجنسه هواء!! على حين يكون زميله اليهودي كالإعصار في خدمة الصهيونية وزميله النصراني أسرع من البرق في خدمة الاستعمار! فهل هذا المسلم البارد الشعور يجدي على أمته شيئًا؟ إنه كالجندي المرتزق بسلاحه يخدم أي مبدأ على ملء بطنه وإيثار عاجلته" .(10)
إن الأمر كما يراه الغزالي لا يحتاج إلى استيراد طاقات من الخارج، بل إلى استحياء الملكات الخامدة في النفوس على أن يتوفر أمران أساسيان:
1- الصدق: "إننا عندما نصدق نخترع مالا يخطر على بال، ونقتحم آفاقًا ما عرفها الأولون، ونكسب معارك كثرت فيها هزائمنا من قبل" .(11)
2- الذكاء: ولعله يقصد هنا الجانب الفني في مقابل المضمون "إن الوصول إلى الحق يحتاج إلى قدر من الذكاء قدر ما يحتاج إلى الإخلاص، ومن ثم منح الله أجرين لمن عرفه؟ ومنح أجرًا واحدا لمن أخطأه وهو حريص على بلوغه" .(12)
فنون المواجهة
الهجوم المعاصر على الدين شامل مستوعب ومرسوم بعناية فائقة، ومن ورائه ساسة مهرة، وعلماء نفس ورجال إعلام وأجهزة مالية وإدارية وأفلام من كل نوع، وعيون ساهرة في الصحف. ومن العيب أن يظل الدعاة خارج النطاق والتأثير، بينما الأمة من أفقر أمم الأرض إلى التربية والتعليم ومعرفة الذات!!
إن الغزالي يؤمن أشد الإيمان بأن أخف الواجبات التي يتطلبها الإسلام اليوم هو الوعظ المباشر والإرشاد. إنه ما لم يخطّط الدعاة لسير الدعوة فإن مستقبلها إلى تراجع.
فهو يؤكد أن العرض الإعلامي الحريص على بث الحق وإيثار السلام ورفض الشحناء يستطيع أن يبرز تعاليم الإسلام في صور شتى لعل أيسرها الخبر المجرّد. لكنه يتساءل بعد ذلك: أيكفي ذلك في زمن تبرّجت فيه الدعوات وافتتنت فيه أساليب الاستهواء؟! إن الحوار الذكي في قصة شائقة أو تصوير الواقع في هذه القصة بل الصورة الساخرة أو النكتة البارعة هذه جميعها أصبحت من وسائل البلاغ المبين (وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً).
ونختم بهذه الكلمات عن الدعوة والدعاة يقول في كتابه هموم داعية: "أما علم الدعاة وتكوينهم لما يناط بهم فالكلام فيه مر المذاق؟
نظرت بعيدًا عن دار الإسلام، وراقبت زحام الفلسفات والملل التي تتنافس على امتلاك زمام العالم، فوجدت الإعلاميين أو الدعاة يختارون من أوسع الناس فكرًا وأرقّهم خلقًا وأكثرهم حيلة في ملاقاة الخصوم وتلقّف الشبهات العارضة!!
حتى البوذية وهي دين وثني رُزقت رجالاً على حظ خطير من الإيمان والحركة! لقد طالعت صور الرهبان البوذيين الذين يحرقون أنفسهم في فيتنام ليلفتوا الأنظار إلى ما يصيبهم من اضطهاد، فعرتني رجفة لجلادة الرجال والنساء الذين يفعلون ذلك!
فلما رجعت ببصري إلى ميدان الدعوة في أرض الإسلام غاص قلبي من الكآبة كأنما يُختار الدعاة وفق مواصفات تعكر صفو الإسلام، وتطيح بحاضره ومستقبله..وما أنكر أن هناك رجالاً في معادنهم نفاسة وفي مسالكهم عقل ونبل. بيد أن ندرتهم لا تحلّ أزمة الدعاة التي تشتدّ يومًا بعد يوم..والغريب أن الجهود مبذولة لمطاردة الدعاة الصادقين من العلماء الأصلاء والفقهاء الحكماء!! للقضاء عليهم وترك المجال للبوم والغربان من الأميين والجهلة والسطحيين يتصدون للدعوة ويتحدثون باسم الإسلام(..) ويوجد الآن شباب وشيوخ يعملون في ميدان الدعوة، أبرز ما يمتازون به الجهل بالنسب التي تكون معالم الدين وتضبط شعب الإيمان. وأبرز ما يتسمون به ضعف الخلق والعجز العجيب عن فقه الدنيا!!(13)
قد ترى العابد منهم يضع يديه على صدره وهو قائم للصلاة، ثم يعيد وضعهما بعد الرفع من الركوع ويثير زوبعة على ضرورة ذلك، فإذا كلفته بعمل ترقى به الأمة اختفى من الساحة!(..) فبأي فكر يطلع علينا القرن الجديد وجمهورنا جاهل في فنون الجهاد بارع في الحديث حول تحية المسجد ووضع اليدين في الصلاة؟!
إنه هناك علماء هم في حقيقتهم عوام لا شغل لهم إلاّ هذه الثرثرات والتقعرات، وقد أضاعوا أمتهم وخلّفوا أجيالاً من بعدهم لا هي في دنيا ولا هي في دين!!(14)
ثم سكن القلم
هذه بعض مواضيع تناولها الشيخ الغزالي وخطها قلمه وجال فيها بفكره وروحه، تمثل نزرًا يسيرًا من دعوته وفكره، وهو الذي ظل رافعًا رأسه شاهرًا قلمه. مبلغًا عن الله ورسوله لا تثنيه رغبة ولا تصده رهبة، لا يغريه وعد أو يرهبه وعيد، حتى وافاه الأجل المحتوم حين قام مدافعًا عن العقيدة في أحد المؤتمرات بالرياض، فأصابته أزمة قلبية كان فيها أجله، فمات في غمار الدعوة التي عاش لأجلها. أحسن العيش في سبيل الله، فرُزق الموت في سبيل الله. ودُفن مع شهداء أحد في البقيع بين الإمام مالك والإمام نافع، فرحمة الله عليه ورضوانه.
--------------------------------------------------------------------------------
(1) السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث ص132
(2) المرجع نفسه ص194
(3) الدعوة الإسلامية في القرن الحالي ص 14
(4) السنة النبوية ص 78
(5) مشكلات في طريق الحياة الإسلامية ص45
(6) مشكلات في طريق الحياة الإسلامية ص 5
(7) علل وأدوية ص 81
(8) مشكلات في طريق الحياة الإسلامية ص12-13
(9) السنة النبوية ص 67
(10) مشكلات في طريق الحياة الإسلامية ص 34
(11) السنة النبوية ص167
(12) نفس المرجع السابق ص 190
(13) هموم داعية نهضة مصر الطبعة السادسة ص 124
(14) نفسه ص 129
المفضلات