داء الزنا ودواؤه (3)
الشيخ . عبد المنعم مطـاوع
مجلة الهدي النبوي - باب الـتـزكيـة
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، وأشهد أنا لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ومصطفاه ، وبعد ..
فإني أحمد الله تعالى إليك قارئي الكريم ، أن بلغني وإياك شهر الصيام ، ومدّ سبحانه في أعمارنا ونفّس لنا فيها حتى لاقيناه ، وأعاننا بحوله ومدده وقوته فأدينا هذا الركن الركين من مباني الإسلام العظام ، وقد أفاض علينا مولانا من نفحاته ، ورحماته ، وبركاته ، من قيام لياليه ، وأنسٌ بتلاوة كلامه ، ومنافسة في أعمال الخير والبر كلٌ بما يسّر الله له ، فكان من جرّاء هذا الخير جميعًا ما وجدناه من انشراح في الصدور ، واجتماع لشعث القلوب ، فخشعت الجوارح وتهذبت الشهوات ، فصارت أقرب إلى العدل ، ونحن نبتهل هذه الفرصة السانحة لنتمم مقالتنا هذه بختام ما بدأناه قبل مقالتين من وصف لداء الزنا ومن بحث عن دوائه .
وموعدنا اليوم مع دواء الداء لمن ابتلى بهذه الفاحشة ، وكذلك تثبيت لمن تراوده وتنازعه نفسه لفعلها أسأل الله التوفيق لي ولإخواني جميعًا ، وأن تلقى هذه الكلمات قلوبًا يقظة وآذانا منصتة ، وألسنًا بالدعاء مبتهلة إلى الله تعالى أن يجنبها تعالى مواقع الردى ، ومواطن الزلل وأن يكون لها أسوة في نبي الله يوسف عليه السلام حينما دعا ربه متوسلاً قائلاً : (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ) (يوسف:33) ومن قبل قال : (مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ) (يوسف:23) فإليك أخي الحبيب ، وأختي الكريمة ما تيسر من أدوية شرعية لهذا الداء ، فاللهم ألهمنا رشدنا آمين .
* الدواء الأول : إحياء تقوى الله في قلب العبد ودوام المراقبة للمولى عز وجل :
فإذا اتقى العبدُ ربه صان نفسه عن فعل الفاحشة بل ومقدماتها ، فإن منزلة التقوى تعظم في نفس العبد الأمر والنهي (ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ) (الزمر:16) وأما المراقبة فما أعظمها من سبب لعدم الوقوع في الفواحش وما أجلها من دواء لداء الزنا ، فإن حقيقتها دوام علم العبد وتيقنه باطلاع الحق سبحانه وتعالى على ظاهره وباطنه .
يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله وهو يفسر مطلع سورة هود عليه السلام وما يليها من الآيات التي تتحدث عن علم الله ومراقبته وشهوده لأعمالهم فقال رحمه الله : اعلم أن الله تبارك وتعالى ما أنزل من السماء إلى الأرض واعظاً أكبر ، ولا زاجراً أعظم مما تضمنته هذه الآيات الكريمة وأمثالها في القرآن ، من أنه تعالى عالم بكل ما يعمله خلقه ، رقيب عليهم ، ليس بغائب عما يفعلون . وضرب العلماء لهذا الواعظ الأكبر ، والزاجر الأعظم مثلاً ليصير به كالمحسوس ، فقالوا : لو فرضنا أن ملكاً قتّالا للرجال ، سفّاكاً للدماء شديد البطش والنكال على من انتهك حرمته ظلماً ، وسيّافه قائم على رأسه ، والنطع مبسوط للقتل ، والسيف يقطر دماً ، وحول هذا الملك الذي هذه صفته جواريه وأزواجه وبناته ، فهل ترى أن أحداً من الحاضرين يهتم بريبة أو بحرام يناله من بنات ذلك الملك وأزواجه ، وهو ينظر إليه ، عالم بأنه مطلع عليه ؟ لا ، وكلا ! بل جميع الحاضرين يكونون خائفين، وجلة قلوبهم ، خاشعة عيونهم ، ساكنة جوارحهم خوفاً من بطش ذلك الملك . ولا شكّ ، ولله المثل الأعلى أن رب السموات والأرض جل وعلا أشد علماً ، وأعظم مراقبة ، وأشد بطشاً ، وأعظم نكالاً وعقوبة من ذلك الملك ، وحماه في أرضه محارمه ... أ.هـ ([1]).
* الدواء الثاني : الاكتفاء بالحلال الطيب والبعد عن الخبيث :
قال تعالى : (قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ) (المائدة:100) وقال جل ذكره : (فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ...) (النساء:3) وقال: (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ) (البقرة:223) فالمؤمن روحه طيب وبدنه طيب وخلقه طيب وعمله طيب وكلامه طيب ومطعمه طيب ومشربه طيب وملبسه طيب ومنكحه طيب ومدخله طيب ومخرجه طيب ومنقلبه طيب ومثواه طيب .... أ.هـ ([2]).
وقد سبق بيان أن الزواج من الأسباب العظيمة التي نصبها الشرع الحنيف للعباد كي يحصنوا فروجهم ، فيكتفوا بما أحل الله جل وعلا ، ويبتعدوا عن الزنا ومقارفة الفواحش "فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ" ([3]).
* الدواء الثالث : الإكثار من صوم النوافل لاسيما للشباب :
فلا شك أن الصيام من الأدوية الشرعية التي نوه بها النبي صلى الله عليه وسلم وحض الشباب عليها ، وهذا في حالة عدم قدرتهم على الدواء السابق ألا وهو النكاح ، فقال : " وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ " والوجاء هو رض الأنثيين ، فكأن شهوة الشاب تنقطع بكثرة الصيام إلى أن يعفه الله بالمنكح الحلال الطيب .
* الدواء الرابع : تأدية الصلاة فرضها ونفلها مع الاجتهاد في الخشوع فيها :
قال تعالى : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) (العنكبوت:45) وقال : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ) (المؤمنون:1-5) ، وقال : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) (هود :114) .
وراجع سبب نزول هذه الآية لتعرف ارتباطها الشديد بما نحن فيه .
فقد روى البخاري في صحيحه (4687) بسنده عن ابن مسعود ؛ أن رجلا أصاب من امرأة قُبْلَة ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره ، فأنزل الله : ( وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ) فقال الرجل: ألي هذا يا رسول الله ؟ قال: "لجميع أمتي كلهم".
وروى الإمام أحمد ، ومسلم ، وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي .
عن ابن مسعود قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ، إني وجدت امرأة في بستان ، ففعلت بها كل شيء ، غير أني لم أجامعها، قَبَّلتها ولزمتها ، ولم أفعل غير ذلك، فافعل بي ما شئت . فلم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا ، فذهب الرجل ، فقال عمر : لقد ستر الله عليه ، لو ستر على نفسه . فأتبعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بصرَه ثم قال: "ردوه عليّ". فردّوه عليه ، فقرأ عليه: ( وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ ) فقال معاذ -وفي رواية عمر -: يا رسول الله ، أله وحده ، أم للناس كافة ؟ فقال: "بل للناس كافة" ([4]).
* الدواء الخامس : المبادرة إلى التوبة وعدم اليأس وإن تكرر الوقوع في الفاحشة :
قال تعالى : ( ... وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ) (الفرقان:68-70) .
والشيطان يأتي لمن وقع في الفاحشة إذا أراد أن يتوب إلى الله تعالى ويقلع فيجلب عليه بخيله ورجله فمنهم من يجعله يُسوف في التوبة فيقول للشاب : إذا تزوجت فتب حينئذ ، وإن كان متزوجًا قال له : إذا اقترب عمرك من نهايته فتب أو اذهب فحج ترجع من ذنوبك كيوم ولدتك أمك ويظل يمنيه حتى تأتيه منيته وهو قائم على معصيته فلا أفلح ولا أنجح ، وإذا لم يفلح عدو الله في التغرير بعبد فإنه يشككه في توبته ويضخم عليه ذنوبه حتى ييأس من توبة الله عليه فيترك التوبة ويوغل أكثر في المعصية وهكذا .. ودواء هذا أن يبادر العاصي بالتوبة ، وأن يعلم سعة رحمة الله بالعبد ، وإذا كان الله جل في علاه يقبل توبة الكافر بل ومن كان يصد عن سبيل الله ويريد قتل رسل الله ، فكيف بالمسلم العاصي فلاشك أن توبته أرجى وأحرى بالقبول وقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم : " ذاك جبريل أتاني فقال: من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة". قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: "وإن زنى وإن سرق" ([5]).
والقائل فقلت هو أبو ذر راوي الحديث فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم .
* الدواء السادس : البعد عن المواطن والأحوال التي تساعد وتسهل فعل الفاحشة :
فلاشك أن وجود الإنسان في بيئة سيئة يغلب على أهلها فعل الفواحش والمنكرات فهذا يعرضه للخطر والانزلاق أكثر بكثير من المكلف الذي يعيش في بيئة إيمانية يغلب على أهلها الدين والصيانة والعفاف والتقى ، وقارن بين أحوال الناس في المساجد وأحوال آخرين في القرى السياحية أو في بلاد الكفار ، أو الأماكن التي تنتشر فيها الرذيلة يظهر لك هذا الفرق بيّنًا ، بل المكلف الواحد نفسه يجد هذا الفرق واضحًا بين سلوكه في بيئة الطهر والعفاف ، وسلوكه في البيئة الفاسدة ومن حام حول الحمى يوشك أن يواقعه ، فسد الذرائع والطرق التي توصل إلى الزنا واجب كما مرّ بنا في المقال السابق .
* الدواء السابع : التفكر في قدر فاحشة الزنا وما رتب عليها من العقوبات وما تجره من الويلات ، وقد أشرنا إلى بعضها سابقًا .
* الدواء الثامن : الحياء من الله والملائكة وعباد الله الصالحين :
فخلق الحياء مما يعين المرء على تجنب فعل الفواحش مهما تهيأت أسبابها فهو يستحي من الله أن يراه في مثل هذه المواطن ، ويعلم أن معه من الملائكة من لا يغيب عنهم ، ثم هو كذلك يستحي من أهل الصلاح من عباد الله ، فالحياء خير كله ، ومن جملة خيره أنه ينأى بصاحبه عن مواطن الشبهات فضلاً عن أماكن المحرمات ، فضلاً أن يقارفها هو نفسه .
* الدواء التاسع : الاجتهاد في ملء وقت العبد بالنافع الديني والدنيوي فإن فراغ المرء من الأعمال مع الصحة ووفرة المال ، وليس ثمّ إيمان راسخ يعصم العبد من الزلل لهو من أسباب الهلاك العظيمة والسقوط في وحل الشهوات المحرمة ، ورحم الله القائل :
إن الشباب الفراغ والجدة
مفسدة لدين المرء أي مفسدة
وقال عليه الصلاة والسلام : " نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ " ([6]).
* الدواء العاشر : تدبر قصص السالفين من النبيين والمرسلين من أهل العفة والصيانة ، ولاسيما قصة يوسف عليه السلام ، وما صح عن نبينا صلى الله عليه وسلم مما قصّه علينا من أهل العفة من الأمم السالفة كأحد الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى الغار وقصته مشهورة ، وكذلك من اشتهر بذلك من أهل الإسلام ، ومن ابتلى بسبب عفافه وبعده عن الحرام ، كل هذه الأمور توقظ في المكلفين ولاسيما الشباب حمية الديانة والاستعصام بالله من شر الشيطان ، ومن شر حبائله من النساء ، ويفتح أبواب المنافسة والمجاهدة في هذا الباب فينقمع الشر وأهله ، ويسعد أهل العفة ويفوزون .
وهناك أدوية أخرى تركناها طلبًا للاختصار ، ولكن لابد للسالك إلى الله تعالى أن يظل دائمًا وأبدًا على وجل من أن تزل قدمه بعد ثبوتها فهذا الخوف يجعله إن شاء الله في مأمن من السقوط ، وأما إذا أطلق الإنسان عنان الثقة بنفسه ، واستخف بهذا الداء ، ولم يحتط لنفسه فما أسرع هلكته نسال الله العافية والسلامة ، وهذا سعيد بن المسيب رحمة الله عليه يقول : ما خفت على نفسي شيئًا مخافة النساء ، قالوا يا أبا محمد إن مثلك لا يريد النساء ولا تريده النساء ، فقال هو ما أقول لكم ، وكان شيخًا كبيرًا أعمش ([7]) . وقال أيضًا وهو ابن أربع وثمانين سنة وقد ذهبت إحدى عينيه وهو يعشو بالأخرى : ما شيء أخوف عندي من النساء ([8]).
وإلى هنا ينتهي لقاؤنا اليوم مع وعد باللقاء ما دام في الأجل بقاء
اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها ، واجعل خير أيامنا يوم نلقاك آمين .
([1]) أضواء البيان (2/170-171) .
([2]) زاد المعاد لابن القيم (1/66) .
([3]) متفق عليه .
([4]) تفسير ابن كثير (2/444) .
([5]) متفق عليه .
([6]) صحيح البخاري (6412)
([7]) الطبقات الكبرى لابن سعد (5/136) ونقله في سير الأعلام (4/241) .
([8]) حلية الأولياء (2/166) ونقله في سير الأعلام (4/237) .
المفضلات