-
سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ
سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ
من تفسيرالتحرير والتنوير -
{إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْأِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ}
استئناف ابتدائي فإن هذه الآيات العشر إلى قوله تعالى: {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} نزلت في زمن بعيد عن زمن نزول الآيات التي من أول هذه السورة كما ستعرفه.
والإفك: اسم يدل على كذب لا شبهة فيه فهو بهتان يفجأ الناس. وهو مشتق من الأفك بفتح الهمزة وهو قلب الشيء، ومنه سمي أهل سدوم وعمورة وأدمة وصبوييم قرى قوم لوط أصحاب المؤتفكة لأن قراهم ائتفكت، أي قلبت وخسف بها فصار أعلاها أسفلها فكان الإخبار عن الشيء بخلاف حالته الواقعية قلبا له عن حقيقته فسمي إفكا. وتقدم عند قوله تعالى: {فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} في سورة الأعراف.
و {جَاءُوا بِالْأِفْكِ} معناه: قصدوا واهتموا. وأصله: أن الذي يخبر بخبر غريب يقال له: جاء بخبر كذا، ولأن شأن الأخبار الغريبة أن تكون مع الوافدين من أسفار أو المبتعدين عن الحي قال تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ} ؛ فشبه الخبر بقدوم المسافر أو الوافد على وجه المكنية وجعل المجيء ترشيحا وعدي بباء المصاحبة تكميلا للترشح.
والإفك: حديث اختلقه المنافقون وراج عند المنافقين ونفر من سذج المسلمين إما لمجرد اتباع النعيق وإما لإحداث الفتنة بين المسلمين. وحاصل هذا الخبر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما قفل من غزوة بني المصطلق من خزاعة، وتسمى غزوة المريسيع ولم تبق بينه وبين المدينة إلا مرحلة، آذن بالرحيل آخر الليل. فلما علمت عائشة بذلك خرجت من هودجها وابتعدت عن الجيش لقضاء شأنها كما هو شأن النساء قبل الترحل فلما فرغت أقبلت إلى رحلها فافتقدت عقدا من جزع ظفار كان في صدرها فرجعت على طريقها تلتمسه فحبسها طلبه وكان ليل. فلما وجدته رجعت إلى حيث وضع رحلها فلم تجد الجيش ولا رحلها، وذلك أن الرجال الموكلين بالترحل قصدوا الهودج فاحتملوه وهم يحسبون أن عائشة فيه وكانت خفيفة قليلة اللحم فرفعوا الهودج وساروا فلما لم تجد أحدا اضطجعت في مكانها رجاء أن يفتقدوها فيرجعوا إليها فنامت وكان صفوان بن المعطل بكسر الطاء السلمي بضم السين وفتح اللام نسبة إلى بني سليم وكان مستوطنا المدينة من مهاجرة العرب قد أوكل إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم حراسة ساقة الجيش، فلما علم بابتعاد الجيش وأمن عليه من غدر العدو ركب راحلته ليلتحق بالجيش فلما بلغ الموضع الذي كان به الجيش بصر بسواد إنسان فإذا هي عائشة وكان قد رآها قبل الحجاب فاسترجع، واستيقظت عائشة بصوت استرجاعه ونزل عن ناقته وأدناها منها وأناخها فركبتها عائشة وأخذ يقودها حتى لحق بالجيش في نحر الظهيرة وكان عبد الله ابن أبي بن سلول رأس المنافقين في الجيش فقال: والله ما نجت منه ولا نجا منها، فراج قوله على حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة بكسر ميم مسطح وفتح طائه وضم همزة أثاثة وحمنة بنت جحش أخت زينب أم المؤمنين حملتها الغيرة لأختها ضرة عائشة وساعدهم في حديثهم طائفة من المنافقين أصحاب عبد الله بن أبي.
فالإفك: علم بالغلبة على ما في هذه القصة من الاختلاق.
والعصبة: الجماعة من عشرة إلى أربعين كذا قال جمهور أهل اللغة. وقيل العصبة: الجماعة من الثلاثة إلى العشرة وروي عن ابن عباس. وقيل في مصحف حفصة عصبة أربعة منكم. وهو اسم جمع لا واحد له من لفظه، ويقال: عصابة. وقد تقدم في أول سورة يوسف.
و {عُصْبَةٌ} بدل من ضمير {جَاءُوا} .
وجملة {لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ} خبر إن والمعنى: لا تحسبوا إفكهم شرا لكم، لأن الضمير المنصوب من {تَحْسَبُوهُ} لما عاد إلى الإفك وكان الإفك متعلقا بفعل {جَاءُوا} صار الضمير في قوة المعرف بلام العهد. فالتقدير: لا تحسبوا الإفك المذكور شرا لكم. ويجوز أن يكون خبر إن قوله: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْأِثْمِ} وتكون جملة {لا تَحْسَبُوهُ} معترضة.
ويجوز جعل {عُصْبَةٌ} خبر إن ويكون الكلام مستعملا في التعجيب من فعلهم مع انهم عصبة من القوم أشد نكرا، كما قال طرفة:
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة ... على المرء من وقع الحسام المهند
وذكر عصبة تحقير لهم ولقولهم، أي لا يعبأ بقولهم في جانب تزكية جميع الأمة لمن رموهما بالإفك. ووصف العصبة بكونهم منكم يدل على أنهم من المسلمين، وفي ذلك تعريض بهم بأنهم حادوا عن خلق الإسلام حيث تصدوا لأذى المسلمين.
وقوله: {لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} لإزالة ما حصل في نفوس المؤمنين من الأسف من اجتراء عصبة على هذا البهتان الذي اشتملت عليه القصة فضمير تحسبوه عائد إلى الإفك.
والشر المحسوب: أنه أحدث في نفر معصية الكذب والقذف والمؤمنون يودون أن تكون جماعتهم خالصة من النقائض فإنهم أهل المدينة الفاضلة. فلما حدث فيهم الاضطراب حسبوه شرا نزل بهم.
ومعنى نفي أن يكون ذلك شرا لهم لأنه يضيرهم بأكثر من ذلك الأسف الزائل وهو دون الشر لأنه آيل إلى توبة المؤمنين منهم فيتمخض إثمه للمنافقين وهم جماعة أخرى لا يضر ضلالهم المسلمين.
وقال أبو بكر ابن العربي : حقيقة الخير ما زاد نفعه على ضره وحقيقة الشر ما زاد ضره على نفعه، وأن خيرا لا شر فيه هو الجنة وشرا لا خير فيه هو جهنم . فنبه الله عائشة ومن ماثلها ممن ناله هم من هذا الحديث أنه ما أصابهم منه شر بل هو خير على ما وضع الله الشر والخير عليه في هذه الدنيا من المقابلة بين الضر والنفع ورجحان النفع في جانب الخير ورجحان الضر في جانب الشر اه. وتقدم ذكر الخير عند قوله تعالى: {أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ} في سورة النحل.
وبعد إزالة خاطر أن يكون ذلك شرا للمؤمنين أثبتت أنه خير لهم فأتى بالإضراب لإبطال أن يحسبوه شرا، وإثبات انه خير لهم لأن فيه منافع كثيرة؛ إذ يميز به المؤمنون الخلص من المنافقين، وتشرع لهم بسببه أحكام تردع أهل الفسق عن فسقهم، وتتبين منه براءة فضلائهم، ويزداد المنافقون غيظا ويصبحون محقرين مذمومين، ولا يفرحون بظنهم حزن المسلمين، فإنهم لما اختلقوا هذا الخبر ما أرادوا إلا أذى المسلمين، وتجيء منه معجزات بنزول هذه الآيات بالإنباء بالغيب. قال في الكشاف:... وفوائد دينية وآداب لا تخفى على متأملها اه.
وعدل أن يعطف خيرا على شرا بحرف بل فيقال: بل خيرا لكم، إيثارا للجملة الاسمية الدالة على الثبات والدوام.
والإثم : الذنب وتقدم عند قوله تعالى: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} في سورة البقرة
وعند قوله: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْأِثْمِ وَبَاطِنَهُ} في سورة الأنعام.
وتولي الأمر: مباشرة عمله والتهمم به.
والكبر بكسر الكاف في قراءة الجمهور، ويجوز ضم الكاف.وقرأ به يعقوب وحده، ومعناه: أشد الشيء ومعظمه، فهما لغتان عند جمهور أئمة اللغة. وقال ابن جني والزجاج: المكسور بمعنى الإثم، والمضموم: معظم الشيء. والذي تولى كبره هو عبد الله بن أبي سلول وهو منافق وليس من المسلمين.
وضمير {مِنْهُمْ} عائد إلى {الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ} . وقيل: الذي تولى كبره حسان بن ثابت لما وقع في صحيح البخاري: عن مسروق قال: دخل حسان على عائشة فأنشد عندها أبياتا منها:
حصان رزان ما تزن بريبة ... وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
فقالت له عائشة: لكن أنت لست كذلك. قال مسروق فقلت: تدعين مثل هذا يدخل عليك وقد أنزل الله تعالى: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} فقالت: أي عذاب أشد من العمى.
والوعيد بأن له عذابا عظيما يقتضي أنه عبد الله بن أبي سلول. وفيه إنباء بأنه يموت على الكفر فيعذب العذاب العظيم في الآخرة وهو عذاب الدرك الأسفل من النار، وأما بقية العصبة فلهم من الإثم بمقدار ذنبهم. وفيه إيماء بأذن الله يتوب عليهم إن تابوا كما هو الشأن في هذا الدين.
{لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} استئناف لتوبيخ عصبة الإفك من المؤمنين وتعنيفهم بعد أن سماه إفكا.
ولولا هنا حرف بمعنى هلا للتوبيخ كما هو شأنها إذا وليها الفعل الماضي وهو هنا {ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ} . وأما {إِذْ سَمِعْتُمُوهُ} فهو ظرف متعلق بفعل الظن فقدم عليه ومحل التوبيخ جملة {ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً} فأسند السماع إلى جميع المخاطبين وخص بالتوبيخ من سمعوا ولم يكذبوا الخبر.
وجرى الكلام على الإبهام في التوبيخ بطريقة التعبير بصيغة الجمع وإن كان المقصود دون عدد الجمع فإن من لم يظن خيرا رجلان، فعبر عنهما بالمؤمنين وامرأة فعبر عنها بالمؤمنات على حد قوله : {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} .
وقوله: {بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً} وقع في مقابلة: {ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ} فيقتضي التوزيع، أي ظن كل واحد منهم بالآخرين ممن رموا بالإفك خيرا إذ لا يظن المرء بنفسه.
وهذا كقوله تعالى: {وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} أي يلمز بعشكم بعضا، وقوله: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} .
روي أن أبا أيوب الأنصاري لما بلغه خبر الإفك قال لزوجه: ألا ترين ما يقال? فقالت له: لو كنت بدل صفوان أكنت تظن بحرمة رسول الله سوءا ? قال: لا. قالت: ولو كنت أنا بدل عائشة ما خنت رسول الله فعائشة خير مني وصفوان خير منك. قال: نعم.
وتقديم الظرف وهو {إِذْ سَمِعْتُمُوهُ} على عامله وهو {قُلْتُمْ} للاهتمام بمدلول ذلك الظرف تنبيها على أنهم كان من واجبهم أن يطرق ظن الخير قلوبهم بمجرد سماع الخير وأن يتبرؤا من الخوض فيه بفور سماعه.
والعدول عن ضمير الخطاب في إسناد فعل الظن إلى المؤمنين التفاوت، فمقتضى الظاهرة أن يقال: ظننتم بأنفسكم خيرا، فعدل عن الخطاب للاهتمام بالتوبيخ فإن الالتفات ضرب من الاهتمام بالخبر، وليصرح بلفظ الإيمان، دلالة على أن الاشتراك في الإيمان يقتضي أن لا يصدق مؤمن على أخيه وأخته في الدين ولا مؤمنة على أخيها وأختها في الدين قول عائب ولا طاعن. وفيه تنبيه على أن حق المؤمن إذا سمع قالة في مؤمن أن يبني الأمر فيها على الظن لا على الشك ثم ينظر في قرائن الأحوال وصلاحية المقام فإذا نسب سوء إلى ما عرف بالخير ظن أن ذلك إفك وبهتان حتى يتضح البرهان. وفيه تعريض بأن ظن السوء الذي وقع هو من خصال النفاق التي سرت لبعض المؤمنين عن غرور وقلة بصارة فكفى بذلك تشنيعا له.
وهذا توبيخ على عدم إعمالهم النظر في تكذيب قول ينادي حاله ببهتانه وعلى سكوتهم عليه وعدم إنكاره.
وعطف {وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} تشريع لوجوب المبادرة بإنكار ما يسمعه المسلم من الطعن في المسلم بالقول كما ينكره بالظن وكذلك تغيير المنكر بالقلب واللسان.
والباء في {بِأَنْفُسِهِمْ} لتعدية فعل الظن إلى المفعول الثاني لأنه متعد هنا إلى واحد إذ هو في معنى الاتهام.
والمبين: البالغ الغاية في البيان، أي الوضوح كأنه لقوة بيانه قد صار يبين غيره.
قوله {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ}
استئناف ثان لتوبيخ العصبة الذين جاءوا بالإفك وذم لهم. ولولا هذه مثل لولا السابقة بمعنى هلا.
والمعنى: أن الذي يخبر خبرا عن غير مشاهدة يجب أن يستند في خبره إلى إخبار مشاهد، ويجب كون المشاهدين المخبرين عددا يفيد خبرهم الصدق في مثل الخبر الذي أخبروا به، فالذين جاءوا بالإفك اختلقوه من سوء ظنونهم فلم يستندوا إلى مشاهدة ما أخبروا به ولا إلى شهادة من شاهدوه ممن يقبل مثلهم فكان خبرهم إفكا. وهذا مستند إلى الحكم المتقرر من قبل في أول السورة بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} فقد علمت أن أول سورة النور نزل أواخر سنة اثنتين أو أوائل سنة ثلاث قبل استشهاد مرثد بن أبي مرثد.
وصيغة الحصر في قوله: {فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} للمبالغة كأن كذبهم لقوته وشناعته لا يعد غيرهم من الكاذبين كاذبا فكأنهم انحصرت فيهم ماهية الموصوفين بالكذب.
واسم الإشارة لزيادة تمييزهم بهذه الصفة ليحذر الناس أمثالهم.
والتقييد بقوله: {عِنْدَ اللَّهِ} لزيادة تحقيق كذبهم، أي هو كذب في علم الله فإن علم الله لا يكون إلا موافقا لنفس الأمر. وليس المراد ما ذكره كثير من المفسرين أن معنى {عِنْدَ اللَّهِ} في شرعه لأن ذلك يصيره قيدا للاحتراز، فيصير المعنى: هم الكاذبون في إجراء أحكام الشريعة. وهذا ينافي غرض الكلام ويجافي ما اقترن به من تأكيد وصفهم بالكذب؛ على أن كون ذلك هو شرع الله معلوم من قوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} إلى قوله: {فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} .فمسألة الأخذ بالظاهر في إجراء الأحكام الشرعية مسألة أخرى لا تؤخذ من هذه الآية.
قوله {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}
{وَلَوْلا} هذه حرف امتناع لوجود . والفضل في الدنيا يتعين أنه إسقاط عقوبة الحد عنهم بعفو عائشة وصفوان عنهم، وفي الآخرة إسقاط العقاب عنهم بالتوبة. والخطاب للمؤمنين دون رأس المنافقين. وهذه الآية تؤيد ما عليه الأكثر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يحد القذف أحدا من العصبة الذين تكلموا في الإفك. وهو الأصح من الروايات: إما لعفو عائشة وصفوان، وإما لأن كلامهم في الإفك كان تخافتا وسرارا ولم يجهروا به ولكنهم أشاعوه في أوساطهم ومجالسهم. وهذا الذي يشعر به حديث عائشة في الإفك في صحيح البخاري وكيف سمعت الخبر من أم مسطح وقولها: أو قد تحدث بهذا وبلغ النبي وأبوي?. وقيل: حد حسان ومسطحا وحمنة، قال ابن إسحاق وجماعة، وأما عبد الله بن أبي فقال فريق: إنه لم يحد حد القذف تأليفا لقلبه للإيمان. وعن ابن عباس أن أبيا جلد حد القذف أيضا.
والإفاضة في القول مستعار من إفاضة الماء في الإناء، أي كثرته فيه. فالمعنى: ما أكثرتم القول فيه والتحدث به بينكم.
قوله{إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ}
إذ ظرف متعلق بأفضتم والمقصود منه ومن الجملة المضاف هو إليها استحضار صورة حديثهم في الإفك وبتفظيعها.
وأصل {تَلَقَّوْنَهُ} تتلقونه بتاءين حذفت إحداهما. وأصل التلقي أنه التكلف للقاء الغير، وتقدم في قوله تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} أي علمها ولقنها، ثم يطلق التلقي على أخذ شيء باليد من يد الغير كما قال الشماخ:
إذا ما راية رفعت لمجد ... تلقاها عرابة باليمين
وفي الحديث: "من تصدق بصدقة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا طيبا تلقاها الرحمان بيمينه" .. الحديث، وذلك بتشبيه التهيؤ لأخذ المعطى بالتهيؤ للقاء الغير وذلك هو إطلاقه في قوله: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ} .ففي قوله: {بِأَلْسِنَتِكُمْ} تسبيه الخبر بشخص وتشبيه الراوي للخبر بمن يتهيأ ويستعد للقائه استعارة مكنية فجعلت الألسن آله للتلقي على طريقة تخييلية بتشبيه الألسن في رواية الخبر بالأيدي في تناول الشيء. وإنما جعلت الألسن آلة للتلقي مع أن تلقي الأخبار بالأسماع لأنه لما كان هذا التلقي غايته التحدث بالخبر جعلت الألسن مكان الأسماع مجازا بعلاقة الأيلولة. وفيه تعريض بحرصهم على تلقي هذا الخبر فهم حين يتلقونه يبادرون بالإخبار به بلا ترو ولا تريث. وهذا تعريض بالتوبيخ أيضا.
وأما قوله: {وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ} فوجه ذكر {بِأَفْوَاهِكُمْ} مع أن القول لا يكون بغير الأفواه أنه أريد التمهيد لقوله: {مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} ، أي هو قول غير موافق لما في العلم ولكنه عن مجرد تصور لأن أدلة العلم قائمة بنقيض مدلول هذا القول فصار الكلام مجرد ألفاظ تجري على الأفواه.
وفي هذا من الأدب الأخلاقي أن المرء لا يقول بلسانه إلا ما يعلمه ويتحققه وإلا فهو أحد رجلين: أفن الرأي يقول الشيء قبل أن يتبين له الأمر قيوشك أن يقول الكذب فيحسبه الناس كذابا. وفي الحديث: بحسب المرء من الكذب أن يحدث بكل ما سمع، أو رجل مموه مراء يقول ما يعتقد خلافه قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} وقال {كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} .
هذا في الخبر وكذلك الشأن في الوعد فلا يعد إلا بما يعلم أنه يستطيع الوفاء به. وفي الحديث آية المنافق ثلاث: "إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان" .
وزاد في توبيخهم بقوله: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} ، أي تحسبون الحديث بالقذف أمرا هينا.وإنما حسبوه هينا لأنهم استخفوا الغيبة والطعن في الناس استصحابا لما كانوا عليه في مدة الجاهلية إذ لم يكن لهم وازع من الدين يزعهم فلذلك هم يحذرون الناس فلا يعتدون عليهم باليد وبالسب خشية منهم فإذا خلوا أمنوا من ذلك. فهذا سبب حسبانهم الحديث في الإفك شيئا هينا وقد جاء الإسلام بإزالة مساوي الجاهلية وإتمام مكارم الأخلاق.
والهين: مشتق من الهوان، وهو ان الشيء عدم توقيره والمبالاة بشأنه، يقال: هان على فلان كذا، أي لم يعد ذلك أمرا مهما، والمعنى: شيئا هينا. وإنما حسبوه هينا مع أن الحد ثابت قبل نزول الآية بحسب ظاهر ترتيب الآية في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ} الآية لجواز أنه لم تحدث قضية قذف فيما بين نزول تلك الآية ونزول هذه الآية، أو حدثت قضية عويمر العجلاني ولم يعلم بها أصحاب الإفك، أو حسبوه هينا لغفلتهم عما تقدم من حكم الحد إذ كان العهد به حديثا. وفيه من أدب الشريعة أن احترام القوانين الشرعية يجب أن يكون سواء في الغيبة والحضرة والسر والعلانية.
ومعنى {عِنْدِ اللَّهِ} في علم الله مما شرعه لكم من الحكم كما تقدم آنفا في قوله تعالى: {فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} .
قوله{وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ}
عطف على جملة {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ} الخ. وأعيدت لولا وشرطها وجوابها لزيادة الاهتمام بالجملة فلذلك لم يعطف {قُلْتُمْ} الذي في هذه الجملة على {قُلْتُمْ} الذي في الجملة قبلها لقصد أن يكون صريحا في عطف الجمل.
وتقديم الظرف وهو {إِذْ سَمِعْتُمُوهُ} على عامله وهو {قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا} كتقديم نظيره في قوله: { لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ} الخ وهو الاهتمام بمدلول الظرف.
وضمير {سَمِعْتُمُوهُ} عائد إلى الإفك مثل الضمائر المماثلة له في الآيات السابقة.
واسم الإشارة عائد إلى الإفك بما يشتمل عليه من الاختلاق الذي يتحدث به المنافقون والضعفاء، فالإشارة إلى ما هو حاضر في كل مجلس من مجالس سماع الإفك.
ومعنى {قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا} أن يقولوا اللذين أخبروهم بهذا الخبر الإفك، أي قلتم لهم زجرا وموعظة.
وضمير {لَنَا} مراد به القائلون والمخاطبون. فأما المخاطبون فلأنهم تكلموا به حين حدثوهم بخبر الإفك. والمعنى: ما يكون لكم أن تتكلموا بهذا. وأما المتكلمون فلتنزههم أن يجري ذلك البهتان على ألسنتهم.
وإنما قال:{مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا} دون أن يقول: ليس لنا أن نتكلم بهذا، للتنبيه على أن الكلام في هذا وكينونة الخوض فيه حقيق بالانتفاء. وذلك أن قولك: ما يكون لي أن أفعل، أشد في نفي الفعل عنك من قولك: ليس لي أن أفعل. ومنه قوله تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام:{قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} .
وهذا مسوق للتوبيخ على تناقلهم الخبر الكاذب وكان الشأن أن يقول القائل في نفسه: ما يكون لنا أن نتكلم بهذا، ويقول ذلك لمن يجالسه ويسمعه منه. فهذا زيادة على التوبيخ على السكوت عليه في قوله تعالى: {وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} .
و {سُبْحَانَكَ} جملة إنشاء وقعت معترضة بين جملة {مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا} وجملة: {هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} . و {سُبْحَانَكَ} مصدر وقع بدلا من فعله، أي نسبح سبحانا لك. وإضافته إلى ضمير الخطاب من إضافة المصدر إلى مفعوله، وهو هنا مستعار للتعجب كما تقدم عند قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً} وقوله: {وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} في سورة يوسف. والأحسن أن يكون هنا لإعلان المتكلم البراءة من شيء بتمثيل حال نفسه بحال من يشهد الله على ما يقول فيبتدئ بخطاب الله بتعظيمه ثم بقول {هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} تبرئا من لازم ذلك وهو مبالغة في إنكار الشيء والتعجب من وقوعه.
وتوجيه الخطاب إلى الله في قوله: {سُبْحَانَكَ} للإشعار بأن الله غاضب على من يخوض في ذلك فعليهم أن يتوجهوا لله بالتوبة منه لمن خاضوا فيه وبالاحتراز من المشاركة فيه لمن لم يخوضوا فيه.
وجملة {هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} تعليل لجملة {مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا} فهي داخلة في توبيخ المقول لهم.
ووصف البهتان بأنه {عَظِيمٌ} معناه أنه عظيم في وقوعه، أي بالغ في كنه البهتان مبلغا قويا.
وإنما كان عظيما لأنه مشتمل على منكرات كثيرة وهي: الكذب، وكون الكذب بطعن في سلامة العرض، وكونه يسبب إحنا عظيمة بين المفترين والمفترى عليهم من خيرة الناس وانتمائهم إلى أخير الناس من أزواج وآباء وقرابات، وأعظم من ذلك أنه اجتراء على مقام النبي صلى الله عليه وسلم ومقام أم المؤمنين رضي الله عنها.
والبهتان مصدر مثل الكفران والغفران. والبهتان: الخبر الكذب الذي يبهت السامع لأنه لا شبهة فيه. وقد مضى عند قوله تعالى: {وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً} في سورة النساء.
قوله {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} .
بعد أن بين الله تعالى ما في خبر الإفك من تبعات لحق بسببها للذين جاءوا به والذين تقبلوه عديد التوبيخ والتهديد، وافتضاح للذين روجوه وخيبة مختلقة بنقيض قصدهم، وانتفاع للمؤمنين بذلك، وبين بادئ ذي بدء أنه لا يحسب شرا لهم بل هو خير لهم، وأن الذين جاءوا به ما اكتسبوا به إلا إثما، وما لحق المسلمين به ضر، ونعى على المؤمنين تهاونهم وغفلتهم عن سوء نية مختلقيه، وكيف ذهلوا عن ظن الخير بمن لا يعلمون منها إلا خيرا فلم يفندوا الخبر، وأنهم اقتحموا بذلك ما يكون سببا للحاق العذاب بهم في الدنيا والآخرة، وكيف حسبوه أمرا هينا وهو عند الله عظيم، ولو تأملوا لعلموا عظمه عند الله، وسكوتهم عن تغيير هذا؛ أعقب ذلك كله بتحذير المؤمنين من العود إلى مثله من المجازفة في التلقي، ومن الاندفاع وراء كل ساع دون تثبت في مواطئ الأقدام، ودون تبصر في عواقب الإقدام.
والوعظ: الكلام الذي يطلب به تجنب المخاطب به أمرا قبيحا. وتقدم في آخر سورة النحل.
وفعل {يَعِظُكُمُ} لا يتعدى إلى مفعول ثان بنفسه، فالمصدر المأخوذ من {أَنْ تَعُودُوا} لا يكون معمولا لفعل {يَعِظُكُمُ} إلا بتقدير شيء محذوف، أو بتضمين فعل الوعظ معنى فعل متعد، أو بتقدير حرف جر محذوف، فلك أن تضمن فعل {يَعِظُكُمُ} معنى التحذير. فالتقدير: يحذركم من العود لمثله، أو يقدر: يعظكم الله في العود لمثله، أو يقدر حرف نفي، أي أن لا تعودوا لمثله، وحذف حرف النفي كثير إذا دل عليه السياق، وعلى كل الوجوه يكون في الكلام إيجاز.
والأبد : الزمان المستقبل كله، والغالب أن يكون ظرفا للنفي .
وقوله: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} تهييج وإلهاب لم يبعث حرصهم على أن لا يعودوا لمثله لأنهم حريصون على إثبات إيمانهم، فالشرط في مثل هذا لا يقصد بالتعليق، إذ ليس المعنى: إن لم تكونوا مؤمنين فعودوا لمثله، ولكن لما كان احتمال حصول مفهوم الشرط مجتنبا كان في ذكر الشرط بعث على الامتثال، فلو تكلم أحد في الإفك بعد هذه الآية معتقدا وقوعه فمقتضى الشرط أنه يكون كافرا وبذلك قال مالك. قال ابن العربي: قال هشام بن عمار : سمعت مالكا يقول: من سب أبا بكر وعمر أدب ومن سب عائشة قتل لأن الله يقول: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} فمن سب عائشة فقد خالف القرآن ومن خالف القرآن قتل اه. يريد بالمخالفة إنكار ما جاء به القرآن نصا وهو يرى أن المراد بالعود لمثله في قضية الإفك لأن الله برأها بنصوص لا تقبل التأويل، وتواتر أنها نزلت في شأن عائشة. وذكر ابن العربي عن الشافعية أن ذلك ليس بكفر. وأما السبب بغير ذلك فهو مساو لسب غيرها من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
{وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ} أي: يجعلها لكم واضحة الدلالة على المقصود. والآيات: آيات القرآن النازلة في عقوبة القذف وموعظة الغافلين عن المحرمات.
ومناسبة التذكير بصفتي العلم والحكمة ظاهرة.
قوله {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} .
لما حذر الله المؤمنين من العود إلى مثل ما خاضوا به من الإفك على جميع أزمنة المستقبل أعقب تحذيرهم بالوعيد على ما عسى أن يصدر منهم في المستقبل بالوعيد على محبة شيوع الفاحشة في المؤمنين؛ فالجملة استئناف ابتدائي، واسم الموصول يعم كل من يتصف بمضمون الصلة فيعم المؤمنين والمنافقين والمشركين، فهو تحذير للمؤمنين وإخبار عن المنافقين والمشركين.
وجعل الوعيد على المحبة لشيوع الفاحشة في المؤمنين تنبيها على أن محبة ذلك تستحق العقوبة لأن محبة ذلك دالة على خبث النية نحو المؤمنين . ومن شأن تلك الطوية أن لا يلبث صاحبها إلا يسيرا حتى يصدر عنه ما هو محب له أو يسر بصدور ذلك من غيره، فالمحبة هنا كناية عن التهيؤ لإبراز ما يحب وقوعه. وجيء بصيغة الفعل المضارع للدلالة على الاستمرار. وأصل الكناية أن تجمع بين المعنى الصريح ولازمه فلا جرم أن ينشأ عن تلك المحبة عذاب الدنيا وهو حد القذف وعذاب الآخرة وهو أظهر لأنه مما تستحقه النوايا الخبيثة. وتلك المحبة شيء غير الهم بالسيئة وغير حديث النفس لأنهما خاطران يمكن أن ينكف عنهما صاحبهما، وأما المحبة المستمرة فهي رغبة في حصول المحبوب. وهذا نظير الكناية في قوله تعالى: {وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} كناية عن انتفاء وقوع طعام المسكين. فالوعيد هنا على محبة وقوع ذلك في المستقبل كما هو مقتضى قوله: {أَنْ تَشِيعَ} لأن أن تخلص المضارع للمستقبل. وأما المحبة الماضية فقد عفا الله عنها بقوله: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} .
ومعنى {أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ} أن يشيع خبرها، لأن الشيوع من صفات الأخبار والأحاديث كالفشو وهو: اشتهار التحدث بها. فتعين تقدير مضاف، أي أن يشيع خبرها إذ الفاحشة هي الفعلة البالغة حدا عظيما في الشناعة.
وشاع إطلاق الفاحشة على الزنى ونحوه وتقدم في قوله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} في سورة النساء. وتقدم ذكر الفاحشة بمعنى الأمر المنكر في قوله: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا} في سورة الأعراف. وتقدم الفحشاء في قوله تعالى: {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ} في سورة البقرة.
ومن أدب هذه الآية أن شأن المؤمن أن لا يحب لإخوانه المؤمنين إلا ما يحب لنفسه، فكما أنه لا يحب أن يشيع عن نفسه خبر سوء كذلك عليه أن لا يحب إشاعة السوء عن إخوانه المؤمنين. ولشيوع أخبار الفواحش بين المؤمنين بالصدق أو الكذب مفسدة أخلاقية فإن مما يزع الناس عن المفاسد تهيبهم وقوعها وتجهمهم وكراهتهم سوء سمعتها وذلك مما يصرف تفكيرهم عن تذكرها بله الإقدام عليها رويدا رويدا حتى تنسى وتنمحي صورها من النفوس، فإذا انتشر بين الأمة الحديث بوقوع شيء من الفواحش تذكرتها الخواطر وخف وقع خبرها على الأسماع فدب بذلك إلى النفوس التهاون بوقوعها وخفة وقعها على الأسماع فلا تلبث النفوس الخبيثة أن تقدم على اقترافها وبمقدار تكرر وقوعها وتكرر الحديث عنها تصير متداولة. هذا إلى ما في إشاعة الفاحشة من لحاق الأذى والضر بالناس ضرا متفاوت المقدار على تفاوت الأخبار في الصدق والكذب.
ولهذا دل هذا الأدب الجليل بقوله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} أي يعلم ما في ذلك من المفاسد فيعظكم لتجتنبوا وأنتم لا تعلمون فتحسبون التحدث بذلك لا يترتب عليه ضر وهذا كقوله: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} .
قوله {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} .
هذه ثالث مرة كرر فيها {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} . وحذف في الأول والثالث جواب لولا لتذهب النفس كل مذهب ممكن في تقديره بحسب المقام.
وقد ذكر في المرة الأولى وصف الله بأنه تواب حكيم للمناسبة المتقدمة، وذكر هنا بأنه رؤوف رحيم، لأن هذا التنبيه الذي تضمنه التذييل فيه انتشال للأمة من اضطراب عظيم في أخلاقها وآدابها وانفصام عرى وحدتها فأنقذها من ذلك رأفة ورحمة لآحادها وجماعتها وحفظا لأواصرها. وذكر وصف الرأفة والرحمة هنا لأنه قد تقدمه إنقاذه إياهم من سوء محبة أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا تلك المحبة التي انطوت عليها ضمائر المنافقين كان إنقاذ المؤمنين من التخلق بها رأفة بهم من العذاب ورحمة لهم بثواب المتاب.
وهذه الآية هي منتهى الآيات العشر التي نزلت في أصحاب الإفك على عائشة رضي الله عنها، نزلت متتابعة على النبي صلى الله عليه وسلم وتلاها حين نزولها وهو في بيته.
قوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} .
هذه الآية نزلت بعد العشر الآيات المتقدمة، فالجملة استئناف ابتدائي، ووقوعه عقب الآيات العشر التي في قضية الإفك مشير إلى أن ما تضمنته تلك الآيات من المناهي وظنون السوء ومحبة شيوع الفاحشة كله من وساوس الشيطان، فشبه حال فاعلها في كونه متلبسا بوسوسة الشيطان بهيئة الشيطان يمشي والعامل بأمره يتبع خطى ذلك الشيطان. ففي قوله: {لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} تمثيل مبني على تشبيه حالة محسوسة بحالة مفعولة إذ لا يعرف السامعون للشيطان خطوات حتى ينهوا على اتباعها.
وفيه تشبيه وسوسة الشيطان في نفوس الذين جاءوا بالإفك بالمشي.
و {خُطُوَاتِ} جمع خطوة بضم الخاء. قرأه نافع وأبو عمرو وحمزة وأبو بكر عن عاصم والبزي عن ابن كثير بسكون الطاء كم هي في المفرد فهو جمع سلامة. وقرأه من عداهم بضم الطاء لأن تحريك العين الساكنة أو الواقعة بعد فاء الاسم المضمومة أو المكسورة جائز كثير.
والخطوة بضم الخاء: اسم لنقل الماشي إحدى قدميه التي كانت متأخرة عن القدم الأخرى وجعلها متقدمة عليها. وتقدم عند قوله: {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} في سورة البقرة.
ومن شرطية ولذلك وقع فعل يتبع مجزوما باتفاق القراء.
وجملة {فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} جواب الشرط، والرابط هو مفعول {يَأْمُرُ} المحذوف لقصد العموم فأنه عمومه يشمل فاعل فعل الشرط فبذلك يحصل الربط بين جملة الشرط وجملة الجواب. وضميرا {فَإِنَّهُ يَأْمُرُ} عائدان إلى الشيطان. والمعنى: ومن يتبع خطوات الشيطان يفعل الفحشاء والمنكر لأنه من أفراد العموم.
والفحشاء: كل فعل أو قول قبيح. وقد تقدم عند قوله تعالى: {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ} في سورة البقرة.
والمنكر: ما تنكره الشريعة وينكره أهل الخبر. وتقدم عند قوله تعالى: {وَيَنْهُونَ عَنِ المُنْكَر} في سورة آل عمران.
وقوله: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} الآية، أي لولا فضله بأن هداكم إلى الخير ورحمته بالمغفرة عند التوبة ما كان أحد من الناس زاكيا لأن فتنة الشيطان عظيمة لا يكاد يسلم منها الناس لولا إرشاد الدين، قال تعالى حكاية عن الشيطان: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} .
و {زَكَى} بتخفيف الكاف على المشهور من القراءات. وقد كتب {زَكَى} في المصحف بألف في صورة الياء. وكان شأنه أن يكتب بالألف الخالصة لأنه غير ممال ولا أصاله باء فإنه واوي اللام, ورسم المصحف قد لا يجري على القياس. ولا تعد قراءته بتخفيف الكاف مخالفة لرسم المصحف لأن المخالفة المضعفة للقراءة هي المخالفة المؤدية إلى اختلاف النطق بحروف الكلمة، وأما مثل هذا فمما يرجع إلى الأداء والرواية تعصم من الخطأ فيه.
وقوله: {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} تذييل بين الوعد والوعيد، أي سميع لمن يشيع الفاحشة، عليم بما في نفسه من محبة إشاعتها، وسميع لمن ينكر على ذلك، عليم لما في نفسه من كراهة ذلك فيجازي كلا على عمله.
وإظهار اسم الجلالة فيه ليكون التذييل مستقلا بنفسه لأنه مما يجري مجرى المثل.
-
بسم الله الرحمن الرحيم
جزاك الله خيراً و جعله في ميزان حسناتك
وإخوان حسبتهم دروعا ×××× فكانوها ولكن للأعادي
وخلتهم سهاما صائبات ×××× فكانوها ولكن في فؤادي
وقالوا قد صفت منا قلوب ×××× لقد صدقوا ولكن من ودادي
-
جزاكم الله خيرا ونفع بكم الاسلام والمسلمين
-
اقتباس
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة carolina
بسم الله الرحمن الرحيم
جزاك الله خيراً و جعله في ميزان حسناتك
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك ... لك مني أجمل تحية .
معلومات الموضوع
الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
المواضيع المتشابهه
-
بواسطة ابوغسان في المنتدى العقيدة والتوحيد
مشاركات: 0
آخر مشاركة: 11-01-2012, 06:41 PM
-
بواسطة om miral في المنتدى المنتدى الإسلامي
مشاركات: 13
آخر مشاركة: 04-01-2010, 11:40 AM
-
بواسطة ابو باسم في المنتدى المنتدى العام
مشاركات: 3
آخر مشاركة: 25-08-2008, 04:47 PM
-
بواسطة kholio5 في المنتدى الرد على الأباطيل
مشاركات: 1
آخر مشاركة: 31-01-2007, 07:27 PM
الكلمات الدلالية لهذا الموضوع
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى
المفضلات