ما لكم لا ترجون لله وقاراً؟!
د. عبد العزيز بن محمد آل عبداللطيف (*)
دعا نوح - عليه السلام - أولُ رسول إلى أهل الأرض إلى تعظيم الله - عز وجل - فقال لقومه: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح: 31] أي: ما لكم لا تعظمون الله حق عظمته؟! كما دعا خاتم النبيين والمرسلين نبينا محمد البيان إلى تعظيم الله - تعالى - وتقـديره حـق قدره، كما في حديث ابـن عـمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله البيان قرأ هذه الآية يوماً على المنبر: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سبحانه وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 76]، ورسول الله البيان يقول هكذا بيده يحركها، يُقْبِل بها ويُدْبِر «يمجِّد الربُّ نفسه: أنا الجبّار، أنا المتكبر، أنا الملك، أنا العزيز، أنا الكريم» فرجف برسول الله البيان المنبر، حتى قلنا: لَيَخِرَّنَّ به[1].
وإذا كان تعظيم الله - عز وجل - هو سبيل المرسلين فقد ظهر في الآونة الأخيـرة مـا ينقـض ذلك؛ إذ استفحل التطاول على ربنا - عز وجل - والانتقاص من جناب مقام نبينا الأكرم البيان، والاستخفاف بالدين وشعائره وحرماته، وصارت هذه «الردة المغلَّظة» في مؤلفات وروايات ومجلات، وعبر قنوات ومواقع شبكات المعلومات. وتولّى كبر ذلك فئام من كفرة الغرب ومنافقي هذه الأمة وزنادقتها، كما نفر طائفة من المحتسِبين من أجل مدافعة هذا الفساد العريض والكفر الصريح.
وفي غمرة الانفتاح وانكباب المعلومات بعُجَرها وبُجَرها، ووفرة وسائل الاتصال وكثرتها؛ فإن بعض الـمُتديِّنة والمتسنّـنة ـ فضلاً عمن دونهم ـ قد تساهلوا في اقتناء مؤلفات الزندقة والضلال، والاطلاع على روايات الكفر البواح، واعتادوا الدخول إلى مواقع إلكترونية تدعو إلى الردّة والانسلاخ من الإسلام والسنة، فأفضى بهم ذلك إلى استمراء سماع ومشاهدة الكفر والشرك والضلال، وهان عليهم التفوّه به ونشره، وتوسعوا في ذلك بدعوى الرصد والمتابعة لسبيل المجرمين.
فربما حذّر بعضهم من السحر، وضمّن هذا التحذير مشاهد مصورة للكفر المغلّظ الواقع من السحرة الأفاكين وأذنابهم، مثل: كتابة المصحف بدم الحيض، وتعليق هذه الصور الشنيعة في بيوت الله تعالى!
وقد يعمد البعض إلى بيان ضلال الرافضة وزندقتهم، فينـقل طعـنهم في الصحابة - رضي الله عنهم - صوتاً وصورة، ومن ذلك: قذفهم أم المؤمنين عائشة الصدّيقة بنت الصدّيق - رضي الله عنهما - بما برّأها الله منه. مع أن التحذير متحقق دون الولوج في هذا المضيق، بل إن معاينة وسماع هذه المشاهد «الكفرية» في هذا السياق لا ينفك عن مفاسد متعـددة؛ إذ إن الإفراط والإدمان في سماع ومشاهدة الردة المغلّظة ـ كالاستهزاء بالله - تعالى - وسبّ رسول الله البيان، وتضليل الصحابة - رضي الله عنهم -، والتهكم والانتقاص من شعائر وحرمات الشرع المطهّر ـ قد يؤول بأقوام إلى ضعف الغيرة الإيمانية، ورقّة الدين، وتهوين شأن هذه النواقض، فلا يتمعّر وجهه غضباً لله - عز وجل - كما يجب، بل ربما علق القلب بشيء من ذلك الضلال، فالشُّبَهُ خطّافة، والقلوب ضعيفة؛ فواغوثاه بالله!
إن الإيمــان بالله مـبـني على تعظـيم الله وإجـلاله، قال - سبحانه - : {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْـجِبَالُ هَدًّا * أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا * إن كُلُّ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم: 88 - 39]
قال الضحـاك بن مزاحم في تفسير قوله - تعالى -: {تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ}: «يتـشـققن مـن عظـمـة الله - عز وجل -»[2].
قال ابن عباس - رضي الله عنهما - في تفسير هذه الآيات: «اقشعرت الجبال وما فيها من الأشجار، والبحار وما فيها من الحيتان، وفزعت السماوات والأرض، وجميع المخلوقات إلا الثقلين، وكادت أن تزول، وغضبت الملائكة، فاستعرت جهنم، واكفهرت الأرض حين قالوا: اتخذ الله ولداً»[3].
وقـد سـار سلف الأمـة على سبيل الإجلال والتعظيم لله - عز وجل - وآياته وشعائره، فقال الإمام سفيان بن عيينة: «سمعت من جابر الجعفي (رافضي هلك سنة 721هـ) كلاماً خشيت أن يقع عليّ وعليه البيت»[4].
ولما ناظر الإمام الشافعيُّ حفصاً الفردَ (أحد المتكلمين) قال الشافعي: «لقد سمعت من حفص كلاماً لا أقدر أن أحكيه»[5].
وناظر الإمام أحمـد القائلـين بخَلْـق القــرآن، فكـــان مما قاله - رحمه الله - : «ما رأيت أحداً طلب الكلام واشتهاه إلا أخرجـه إلى أمر عظيـم، لقد تكلموا بكلام واحتجوا بشيءٍ مَا يقوى قلبي ولا ينطق لساني أن أحكيه»[6].
هكذا كان سلف الأمة يتورعون عن حكاية ضلالات المتكلمين، مع أن زندقة المعاصرين أشنع وأشنع من زندقة المتكلمين بمراحل، فإن بين هاتين الزندقتين مفاوز تنقطع فيها أعناق المطي، فكيف يحلو للبعض أن يقتني كتب الردة وروايات الزندقة دون موجب شرعي؟! لقد قرر ابن القيم أن الكتب المشتملة على الكذب والبدعة يجب إتلافها وإعدامها، فلا ضمان في تحريق الكتب المضلة ومحقها[7].
فماذا يقال عن كتب الكفر والردة؟!
ومن طريف ما يُحكى في هذا المقام أن الأمير الصنعاني (ت 2811هـ) أصابه داء أعيا الأطباء، فجيء له بكتاب «الإنسان الكامل» لعبد الكريم الجيلي، وكتاب «المضنون به على غير أهله» لأبي حامد الغزالي[8]. قال الصنعاني: «فطالعت الكتابين، ورأيت فيهما ما هو والله كفر لا يتردد فيه إيمان، فحرّقتهما، ثم جعلت أوراقهما في التنور وخُبِزَ لي على نارهما خبزٌ نضيج، وأكلته بنيّة الشفاء من ذلك الداء، فذهب ـ بحمد الله ـ ذلك الألم، ونمت الليل أو أكثره، وحمدت الله على نصرة دينه وعلى العافية»[9].
ومع القناعة بأهمية معرفة سبيل المجرمين على سبيل التفصيل، واليقين بأن معرفة ذلك مما يزيد العبد إيماناً ورسوخاً، إلا أن المقصود هو مجانبة الإفراط والتوسع في ذلك، فلا يشتغل كل من هبَّ ودبَّ بحيازة علوم (الزندقة) وموادها، بل إنما يتولى ذلك عالم راسخ أو باحث ثقة ونحوهما، وبالقدر الذي تتحقق به معرفة الباطل، ومن أجل نقضه وهتكه، كما أن مخاطبة العامة وتحذيرهم من زندقةِ ورِدّةِ كُتّابٍ وحَمَلة أقلام ينبغي أن يكون بحذر وقدر، فالاسترسال بعرض باطلهم وزخرف قولهم وتزويق كلامهم قد يفضي بالعامة وأشباههم إلى انخداع وشكوك، ويوقع في جرأة ورعونة في التفوّه بهذه الضلالات.
نسأل الله الثبات. {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 8].
ثبتنا الله جميعا على الحق و الإيمان و غفر لنا زلاتنا وعافانا ..
اللهم آآمين .
----------------------------------------
(*) أستاذ مشارك في قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ـ الرياض.
[1] أخرجه أحمد: 2/27. وابن خزيمة في كتاب التوحيد، ح (59).
[2] أخرجه أبو الشيخ في العظمة: 1/143.
[3] انظر: تفسير القرطبي: 11/851، وتفسير ابن كثير: 3/631.
[4] أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم: 2/611.
[5] أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم: 2/611.
[6] الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية، لابن بطة، (ت: الوابل)، 2/55.
[7] انظر: الطرق الحكمية، ص 452.
[8] هذان الكتابان حافلان بالضلال المبين والزندقة والشطح.
[9] مصلح اليمن محمد بن إسماعيل الصنعاني، لعبد الرحمن بعكر، ص 921.
المفضلات