-
طريقة القرآن في إثبات النبوات
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فمن تأمل حديث القرآن عن النبوة وبيان أصولها ودلائلها، وغير ذلك من أحوالها وخصائصها وجد به ما يثلج صدره، وينوِّر قلبه، ويشفي وساوس وشبهات نفسه؛ فإن كثيرًا من الناس يجول في قلوبهم أمر النبوة جولاً عظيمًا، وقلوب كثير منهم فيها من الشك والشبهات ما الله به عليم إذ أعرضوا عن دلائل القرآن لأصول النبوة وأصول الدين، وتمسكوا بما أملاه الهوى عليهم مما يظنونه دلائل وبراهين.
فأهم وظيفة للعقل هو تدبر دلائل أصول الدين من كتاب الله -عز وجل-، وفهم وجه الدلالة فيها، ولما كان المقصود هو الكلام على النبوة خصوصًا فلا يسع المقام أكثر من الإشارة لبعض ما ورد في القرآن لتقرير النبوة وتمييزها، وبيان دلائلها.
قال الله -تعالى-: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ . خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ . اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ . الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ . عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) (العلق:1-5).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "ذكر الله -تعالى- في أول ما أنزل أنه الأكرم، وهو أبلغ من الكريم، وهو المحسن غاية الإحسان، ومن كرمه أنه علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم؛ فعلمه العلوم بقلبه، والتعبير عنها بلسانه، وأن يكتب ذلك بالقلم... فإذا كان قد علمه هذه العلوم فكيف يمتنع عليه أن يعلمه أمره وخبره، وينبئه بذلك؟!
وكيف يمتنع عليه أن يعرف الناس رسله وأنبيائه؟!
وبيان ذلك: أن من رأى العلقة قطعة من دم فقيل له: هذه العلقة يصير منها إنسانـًا يعلم كذا وكذا من أنواع العلوم لكان يستبعد ذلك ويتعجب منه غاية العجب.
ومعلوم أن من نقل الإنسان من كونه علقة إلى أن يصير إنسانـًا عالمًا قارئًا كاتبًا كان أقدر على جعله عالمًا بأمره وخبره وينبئه بذلك، وكذلك من كان قادرًا على أن يهدي الإنسان الذي كان علقة بأنواع من الطرق إلى أنواع من العلوم كان أقدر على أن يعرفه برسله وأنبيائه، مع ما في ذلك من الإنعام عليه، والإحسان إليه، والرحمة به مما هو أحوج إليه من كثير من أنواع العلوم.
وإذا كان قد هداهم إلى أن يعلم بعضهم صدق رسول من أرسله إليه بشر مثله بعلامات يأتي بها الرسول وإن لم تتقدم مواطأة وموافقة بين المرسل والمرسل إليه، فكيف لا يقدر هو أن يرسل رسولاً ويجعل معه علامات يُعرِّف بها عباده أنه أرسله؟!
وللناس طرق في الدلالة على النبوة: طريق القدرة، وطريق الرحمة، وطريق الحكمة، وطريق العدل، وغير ذلك من الطرق، وكلها صحيحة تدل على النبوة؛ فإن الشيء كلما كان الناس إليه أحوج كان الرب به أجود، فلما كانت حاجتهم إلى الهواء أشد جعله الله -تبارك وتعالى- مبذولاً لكل أحد في كل وقت بكل مكان، ثم الماء بعد ذلك، ثم الغذاء.
وكذلك العلوم فلكما كانوا إلى بعض العلم أحوج كان الرب به أجود؛ فإنه سبحانه- الأكرم الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يكن يعلم" اهـ من النبوات بتصرف.
وقد نبه -رحمه الله- في هذا الكلام على طريق القدرة، وطريق الرحمة، والآيات تدل على النبوة أيضًا بطريق الحكمة، فإن من نظر إلى خلق نفسه وما في أعضائه وتركيبها من المنافع والحكم علم أن خالقه رحيمًا حكيمًا -سبحانه وتعالى عز وجل-.
قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "وفي نفس الإنسان عبرة تامة، فإن من نظر في خلق أعضائه وتركيبها وما في ذلك من المنفعة والحكمة مثل كون الماء ماء العين ملحًا؛ لحفظ شحمة العين من أن تذوب، وماء الأذن مرًا؛ ليمنع الذباب من الولوج، وماء الفم عذبًا؛ ليطيب ما يمضغ من الطعام، وجعل ذلك في الرأس دون القدم، وأمثال ذلك علم علمًا ضروريًا أن خالق ذلك له من الحكمة والرحمة ما يبهر العقول". اهـ من شرح الأصفهانية بتصرف يسير.
ونبَّه الله -تعالى- في كتابه في غير موطن أن نفي النبوة لا يليق بحكمته -عز وجل-، قال الله -تعالى-: (أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى) (القيامة:26)، أي: هملاً بلا أمر ولا نهي، ولا حساب ولا جزاء، ولا نبوات، وقال: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا) (المؤمنون:115)، فمن أنكر النبوة فقد اتهم الله -سبحانه- بالسفه والعبث حاشاه -سبحانه-؛ ولهذا قال -تعالى-: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) (الأنعام:91).
قال الشيخ السعدي -رحمه الله-: "هذا تشنيع على من نفى الرسالة، وزعم أن الله ما أنزل على بشر من شيء، فمن قال هذا، فما قدر الله حق قدره، ولا عظمه حق عظمته، إذ هذا قدح في حكمته، وزعم أنه يترك عباده هملاً بلا أمر ولا نهي، ونفي لأعظم منة امتن الله بها على عباده؛ وهي الرسالة، التي لا طريق للعباد إلى نيل السعادة، والكرامة، والفلاح، إلا بها، فأي قدح في الله أعظم من هذا؟!".
فبهذا ونحوه من آيات القرآن قرر -سبحانه- النبوة ورد على مشركي العرب وغيرهم ممن أنكر جنسها، ولما قرر -تعالى- في كتابه إمكان النبوة ووقوعها تحت قدرته ولزومها لكماله وعظمته وربوبيته بيَّن أيضًا دلائل صدق النبي المعين، ودلائل كذب المتنبئ؛ قال -تعالى-: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ . وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (آل عمران:79-80)؛ فأعظم دليل على كذب المتنبئ أن يدعو لعبادة غير الله -تعالى-، كيف يدعو الرسول لغير ما استقر في الفطر والعقول من وحدانية الرب -سبحانه- واستحقاقه للعبادة دون غيره؟! وكيف يدعو لخلاف ما علمه الناس بالضرورة من دين الأنبياء من التوحيد والمعروف وأصول الأحكام؟!
وبالضد فإن أعظم دليل على النبوة استواء ما يدعو إليه الرسول وصحته وسلامته من التناقض لا سيما استواء عقيدته في المعبود -عز وجل-.
قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "النبوة مشتملة على أشرف العلوم ولأعمال فكيف يشتبه الصادق فيها بالكاذب، ولا يتبين صدق الصادق وكذب الكاذب من وجوه كثيرة؟! لا سيما وقد علم جنس ما جاءت به الأنبياء والمرسلون، وما كانوا يدعون إليه ويأمرون به، فلو قدر أن رجلاً جاء في زمن إمكان النبوة وأمر بالشرك وعبادة الأوثان، وأباح الفواحش والظلم والكذب، وزعم مع ذلك أنه نبي فهل كان مثل هذا يحتاج أن يطالب بمعجزة أو أن يشك في كذبه؟! ولو أتى هذا بما نظن أنه معجزة لعلم أنه من جنس خوارق السحرة لا من جنس معجزات الأنبياء" اهـ من شرح الأصفهانية بتصرف يسير.
وهذا المسلك قد سلكه كثير من الناس لتمييز حال النبي -صلى الله عليه وسلم- ومعرفة صدقه من كذبه، كما فعل هرقل ملك الروم لما سئل أبا سفيان عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وكان أبو سفيان حينئذٍ مشركًا؛ فقال هرقل: "بماذا يأمركم؟؟ فقال أبو سفيان: يقول: (يَقُولُ اعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ، وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَاتْرُكُوا مَا يَقُولُ آبَاؤُكُمْ، وَيَأْمُرُنَا بِالصَّلاَةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ وَالصِّلَةِ... ) (رواه البخاري).
وفي حديث حاطب بن أبي بلتعة -رضي الله عنه- لما أرسله النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المقوقس ملك مصر ليدعوه إلى الإسلام فلما قرأ الملك كتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لحاطب: قد نظرت في هذا فوجدت لا يأمر بمزهود فيه، ولا ينهى عن مرغوب فيه، ولم أجده بالساحر الضال ولا الكاهن الكاذب.
وفي حديث المغيرة مع المقوقس وكان المغيرة حينئذٍ مشركًا لم يسلم بعد-، أن الملك سأله: "ألا تخبرني إلى ما يدعو؟".
فقال: يدعونا إلى أن نعبد الله وحده لا شريك ونخلع ما كان يعبد الآباء، ويدعو إلى الصلاة والزكاة، ويأمر بصلة الرحم، ووفاء العهد، وتحريم الزنا والخمر، ولا يأكل مما ذبح على النصب".
فقال المقوقس: "هذا نبي مرسل ولو أصاب القبط والروم اتبعوه، وقد أمرهم بذلك عيسى ابن مريم -عليه السلام-، وهذا الذي تصفون منه بعث به الأنبياء قبله... ".
وكان هذا المسلك أكثر ما يسلكه النبي -صلى الله عليه وسلم- في دعوته للخلق سواء الوثنيون منهم كمشركي العرب والفرس، أو غيرهم من أهل الكتاب كاليهود والنصارى، وخطبه وحواراته ورسائله لهؤلاء وهؤلاء مشهورة مذكورة في كتب السنن وغيرها.
وكان أصحابه ورسله -صلى الله عليه وسلم- يقتدون به في ذلك في دعوته للناس، كحديث جعفر بن أبي طالب -رضي الله عنه- للنجاشي ملك الحبشة، قال: (أَيُّهَا الْمَلِكُ كُنَّا قَوْماً أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ نَعْبُدُ الأَصْنَامَ وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ وَنَأْتِى الْفَوَاحِشَ وَنَقْطَعُ الأَرْحَامَ وَنُسِىءُ الْجِوَارَ يَأْكُلُ الْقَوِىُّ مِنَّا الضَّعِيفَ فَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْنَا رَسُولاً مِنَّا نَعْرِفُ نَسَبَهُ وَصِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ وَعَفَافَهُ فَدَعَانَا إِلَى اللَّهِ لِنُوَحِّدَهُ وَنَعْبُدَهُ وَنَخْلَعَ مَا كُنَّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ مِنَ الْحِجَارَةِ وَالأَوْثَانِ وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ الْحَدِيثِ وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ وَحُسْنِ الْجِوَارِ وَالْكَفِّ عَنِ الْمَحاَرِمِ وَالدِّمَاءِ وَنَهَانَا عَنِ الْفَوَاحِشِ وَقَوْلِ الزُّورِ وَأَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ وَقَذْفِ الْمُحْصَنَةِ وَأَمَرَنَا أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَأَمَرَنَا بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ... ) (رواه أحمد، وصححه الألباني).
وبالجملة فهذا المسلك النوعي في الاستدلال على النبوة هو من أهم المسالك في كتاب الله -تعالى-، وفي سيرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وسيرة أصحابه -رضي الله عنهم-.
وهناك مسلك آخر أشار إليه القرآن في أكثر من موطن وهو المسلك الشخصي، يستدل بالصفات الشخصية لمدعي النبوة على صدقه أو كذبه، فمن كان معروفـًا عند الناس معرفة تامة بالصدق والأمانة، والعقل، والعدل، والبر والفضل، وحسن الخلق، ثم أخبر أنه رسول الله فلابد أن يكون صادقـًا؛ فإنه لم يكن ليكذب على الله ويصدق الناس، بل من يكذب على الله يكذب على الناس من باب أولى وأحرى، وكذلك من كان معروفـًا بالكذب أو سوء الخلق أو بالظلم والفواحش وغير ذلك من صفات السوء إذا قال أنه رسول الله علم أنه متنبئ كذاب، فإن جعل مثل هذا نبيًا لا يليق بحكمة الله، ورحمته، وعدله، وكماله وعظمته -عز وجل-.
قال الله -تعالى- مخبرًا عن قول نبيه -صلى الله عليه وسلم-: (فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (يونس:16)، ينبههم -صلى الله عليه وسلم- إلى صفاته الشخصية التي علموها وخبروها خبرة تامة من صدقه وبره وأمانته، وعفافه وحسن خلقه، وما هو عليه من الرشد والعقل والعدل.
فمن هذا شأنه يكون عنده من طيب النفس وطهرها ما يمنعه من تعمد الكذب، ومن رجاحة العقل والبصيرة ما يمنعه من الخطأ في معرفة الملك والوحي وتمييزه عن الجن والشياطين؛ فلا يكذب عمدًا كالسحرة والكهان، ولا خطأ كحال المجانين والممسوسين والموسوسين.
قال ابن كثير -رحمه الله-: "يقول لهم النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الدليل على صدقي وأني لم أتقوله من عندي؛ أنكم تعلمون صدقي وأمانتي منذ نشأت بينكم إلى حين بعثني الله -عز وجل-، لا تنتقدون علي شيئًا تَغمصوني به؛ ولهذا قال: (فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) أي: أفليس لكم عقول تعرفون بها الحق من الباطل.
ولهذا لما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان ومن معه عن صفة النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال أبو سفيان: فقلت: لا. وقد كان أبو سفيان إذ ذاك رأس الكفرة وزعيم المشركين، ومع هذا اعترف بالحق: وَالفَضْلُ ما شَهدَتْ به الأعداءُ... فقال له هرقل: فقد أعرف أنه لم يكن ليدَعَ الكذب على الناس ثم يذهب فيكذب على الله!
وقال جعفر بن أبي طالب للنجاشي ملك الحبشة: بعث الله فينا رسولاً نعرف نسبه وصدقه وأمانته... " اهـ من تفسير القرآن العظيم بتصرف يسير.
وفي حديث المغيرة -رضي الله عنه- مع المقوقس أنه سأله عن نسب النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "هو أوسطهم نسبًا، فقال المقوقس: كذلك الأنبياء تبعث في نسب قومها، ثم سأل كيف حديثه؟ فقال: ما يسمى إلا الأمين من صدقه، فقال المقوقس: انظروا في أمركم أترونه يصدق فيما بينكم وبينه ويكذب على الله؟!".
فبمثل هذا السؤال والبحث استفاد هؤلاء وغيرهم أن هذا نبي حق.
ولما بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- العلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوى -صاحب هجر- ليدعوه إلى الإسلام قال له العلاء: يا منذر، إنك عظيم العقل فلا تصغرن في الآخرة، إن هذه المجوسية شر دين، ليس فيها تكرم العرب ولا علم أهل الكتاب، ينكحون ما يستحيى من نكاحه، ويأكلون ما يتكرم عن أكله، ويعبدون في الدنيا نارًا تأكلهم يوم القيامة.
ولست بعديم عقل ولا رأي؛ فانظر هل ينبغي لمن لا يكذب أن تصدقه ولمن لا يخون أن تأمنه، ولمن لا يخلف أن تثق به فإن كان هذا هكذا فهذا هو النبي -صلى الله عليه وسلم-، والله لا يستطيع ذو عقل أن يقول: ليت ما أمر به نهى عنه، أو ما نهى عنه أمر به، أو ليته زاد في عفوه أو نقص من عقابه، إن ذلك منه على أمنية أهل العقل، وفكر أهل البصر.... الحديث، وفيه إسلام المنذر، وكتابته بذلك إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكان من أعظم أسباب إسلامه بلاغة العلاء بن الحضرمي، وحسن استدلاله على النبوة بكلا المسلكين: النوعي والشخصي.
وبمثل هذا آمن كثير من فضلاء الأمة وسابقيهم كخديجة -رضي الله عنها-، وأبي بكر، وزيد، وعلي وغيرهم -رضي الله عنهم-؛ لما علموا من صدق النبي -صلى الله عليه وسلم- وبره وأمانته، وعقله ورشده، وعدله، بل قد آمن كثير منهم قبل أن يروا المعجزات أو تتلى عليهم الآيات؛ إذ كانت سيرته عندهم كافية لمعرفة صدقه في قوله: "إني رسول الله".
ولذلك لما طعن من طعن في شخص النبي -صلى الله عليه وسلم-، وزعم أنه تكهن وأن له رئيًا من الجن دحض الله -عز وجل- فريتهم تلك فقال: (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ . تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ . يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ) (الشعراء:221-223)، فقد علم القاصي والداني أن الشياطين لا تتنزل إلا على من يشاكلها في الشر والفساد، بل من هو في الغاية من ذلك، فمن رام مساعدة الشياطين له وهو دون المنتهى في الكذب والقبائح لم تلبي له الشياطين طلبه إلا بعد أن يفعل ما يطلبونه منه من أنواع القبائح والشرور والشرك -والعياذ بالله-.
وقد علم القاصي والداني أيضًا أنه -صلى الله عليه وسلم- من أبعد الناس عن ذلك، بل هو في غاية الضد منه، في غاية الصدق والأمانة، والبر والعفاف، والمروءة.
ثم لو كان الذي يأتيه شيطان لكان يأمره بمراد الشياطين من الشرك والظلم، وإباحة الفواحش وغير ذلك من مطالب الشياطين؛ لا أن يأمره بالتوحيد والمعروف، ونحو ذلك مما هو أبغض شيء للشياطين، ولذلك قال -تعالى- قبل هذه الآيات: (وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ . وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ) (الشعراء:210-211)، فبيَّن -عز وجل- أن هذا القرآن مما لا تبغي الشياطين نشره والدعوة إليه؛ فكيف يزعمون أنهم الذين أوحوه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-؟؟!!
وكان من هو أعقل وأحسن حالاً من هؤلاء تأبى نفسه أن يتهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- بتلك التهمة ظاهرة البطلان، فذهب إلى ما هو أ قل قبحًا من ذلك فقال: لا، بل هو شاعر فرد الله -تعالى- عليه ذلك بقوله: (وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ . أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ . وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ) (الشعراء:224-226)، فبيَّن -تعالى- أنه ليس من جنس الشعراء الذين يتبعون شهواتهم وأهواءهم، ولأجل ذلك يمدحون ما قد ذموه أو يذمون ما قد مدحوه، بل قد يمدحون الشيء وضده، ويذمون الشيء وضده في آن واحد؛ كل ذلك بحسب مصالحهم وأهواءهم، فليسوا بأصحاب دعوة ينافحون عنها مهما تغيرت الظروف، بل هم في كل واد يهيمون، ولذلك فإن أفعالهم تخالف أقوالهم، فيمدحون ما لم ولن يفعلوه، ويذمون ما هم غارقين فيه.
فمن عرف الرسول -صلى الله عليه وسلم- وصدقه، ووفاءه وبره، وعفافه، ومطابقة قوله لعمله علم يقينـًا أنه ليس بساحر، ولا بشاعر كذاب.
قال الشيخ السعدي -رحمه الله-: "هذا جواب لمن قال من مكذبي الرسول: إن محمدًا ينزل عليه شيطان، وقول من قال: إنه شاعر؛ فقال: (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ) أي: أخبركم الخبر الحقيقي الذي لا شك فيه ولا شبهة.
(عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ)، أي: بصفة الأشخاص، الذين تنزل عليهم الشياطين.
(تَنزلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ) أي: كذاب، كثير القول للزور، والإفك بالباطل، (أَثِيمٍ) في فعله، كثير المعاصي، هذا الذي تنزل عليه الشياطين، وتناسب حاله حالهم.
(يُلْقُونَ) عليه (السَّمْعَ) الذي يسترقونه من السماء، (وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ) أي: أكثر ما يلقون إليه كذب فيصدق واحدة، ويكذب معها مائة، فيختلط الحق بالباطل، ويضمحل الحق بسبب قلته، وعدم علمه؛ فهذه صفة الأشخاص الذين تنزل عليهم الشياطين، وهذه صفة وحيهم له.
وأما محمد -صلى الله عليه وسلم-، فحاله مباينة لهذه الأحوال أعظم مباينة؛ لأنه الصادق الأمين، البار الراشد، الذي جمع بين بر القلب، وصدق اللهجة، ونزاهة الأفعال من المحرم.
والوحي الذي ينزل عليه من عند الله، ينزل محروسًا محفوظـًا، مشتملاً على الصدق العظيم، الذي لا شك فيه ولا ريب، فهل يستوي -يا أهل العقول- هذا وأولئك؟!
وهل يشتبهان، إلا على مجنون، لا يميز، ولا يفرق بين الأشياء؟!
فلما نزهه عن نزول الشياطين عليه، برَّأه أيضا من الشعر فقال: (وَالشُّعَرَاءُ) أي: هل أنبئكم أيضًا عن حالة الشعراء، ووصفهم الثابت، فإنهم (يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ) عن طريق الهدى، المقبلون على طريق الغي والردى، فهم في أنفسهم غاوون، وتجد أتباعهم كل غاوٍ ضال فاسد.
(أَلَمْ تَرَ) غوايتهم وشدة ضلالهم (أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ) من أودية الشعر، (يَهِيمُونَ) فتارة في مدح، وتارة في قدح، وتارة في صدق، وتارة في كذب، وتارة يتغزلون، وأخرى يسخرون، ومرة يمرحون، وآونة يحزنون، فلا يستقر لهم قرار، ولا يثبتون على حال من الأحوال.
(وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ) أي: هذا وصف الشعراء، أنهم تخالف أقوالهم أفعالهم، فإذا سمعت الشاعر يتغزل بالغزل الرقيق، قلت: هذا أشد الناس غرامًا، وقلبه فارغ من ذاك، وإذا سمعته يمدح أو يذم، قلت: هذا صدق، وهو كذب، وتارة يتمدح بأفعال لم يفعلها، وتروك لم يتركها، وكرم لم يحم حول ساحته، وشجاعة يعلو بها على الفرسان، وتراه أجبن من كل جبان، هذا وصفهم.
فانظر، هل يطابق حالة الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم-، الراشد البار، الذي يتبعه كل راشد ومهتد، الذي قد استقام على الهدى، وجانب الردى، ولم تتناقض أفعاله ولم تخالف أقواله أفعاله؟!
الذي لا يأمر إلا بالخير، ولا ينهى إلا عن الشر، ولا أخبر بشيء إلا صدق، ولا أمر بشيء إلا كان أول الفاعلين له، ولا نهى عن شيء إلا كان أول التاركين له.
فهل تناسب حاله، حالة الشعراء، أو يقاربهم؟! أم هو مخالف لهم من جميع الوجوه؟! فصلوات الله وسلامه على هذا الرسول الأكمل، والهمام الأفضل، أبد الآبدين، ودهر الداهرين، الذي ليس بشاعر، ولا ساحر، ولا مجنون، ولا يليق به إلا كل كمال.
ولما وصف الشعراء بما وصفهم به، استثنى منهم من آمن بالله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، وعمل صالحًا، وأكثر من ذكر الله، وانتصر من أعدائه المشركين من بعد ما ظلموهم.
فصار شعرهم من أعمالهم الصالحة، وآثار إيمانهم؛ لاشتماله على مدح أهل الإيمان، والانتصار من أهل الشرك والكفر، والذب عن دين الله، وتبيين العلوم النافعة، والحث على الأخلاق الفاضلة فقال: (إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) (الشعراء:227)، ينقلبون إلى موقف وحساب، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة، إلا أحصاها، ولا حقـًا إلا استوفاه. والحمد لله رب العالمين" اهـ من تيسير الكريم الرحمن.
وبالجملة فتتبع دلائل النبوة من كتاب الله -عز وجل- من أمتع وأنفع ما يكون، ومما يزيد القلب إيمانـًا وعلمًا ويقينـًا ونورًا وانشراحًا، فتلك إشارات إلى أصولها، ولا يسع المقام أكثر من ذلك، ومن أراد المزيد فكتاب الله لا يغني عنه غيره.
نسأل الله أن يجمعنا بأنبيائه الكرام بأعلى منازل الجنان إنه هو الكريم المنان.
www.salafvoice.com
موقع صوت السلف
معلومات الموضوع
الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
المواضيع المتشابهه
-
بواسطة نيو في المنتدى الإعجاز العلمي فى القرأن الكريم والسنة النبوية
مشاركات: 21
آخر مشاركة: 03-07-2014, 11:01 AM
-
بواسطة huria في المنتدى منتديات الدعاة العامة
مشاركات: 0
آخر مشاركة: 14-04-2013, 01:07 AM
-
بواسطة huria في المنتدى منتديات الدعاة العامة
مشاركات: 0
آخر مشاركة: 04-04-2013, 10:58 PM
-
بواسطة ساجدة لله في المنتدى شبهات حول القران الكريم
مشاركات: 25
آخر مشاركة: 18-02-2011, 04:26 PM
-
بواسطة طالب عفو ربي في المنتدى منتديات الدعاة العامة
مشاركات: 0
آخر مشاركة: 19-03-2010, 09:32 PM
الكلمات الدلالية لهذا الموضوع
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى
المفضلات