يا صاحبة الهمة العالية
إن من سمت الناجحين أولي الهمم العالية، الإصرار والعزيمة، فالآمال لا تتحقق إلا بالعزيمة والإصرار، وإن من أشد القيود التي تحول بين الإنسان وبين تحقيق أهدافه خور العزيمة؛ فقد يضع الإنسان لنفسه أهدافًا عالية، لكنه حينما يبدأ في العمل من أجل تنفيذها والوصول إليها يُفاجأُ بحجم الجهد الكبير الذي يتطلبه النجاح، فلا يصبر وتنْحلُّ عزيمته، فيترك أهدافه ويقعد عن العمل، ومن ثَمَّ فلا يحاول أن يضع له أهدافًا مرة أخرى، حيث ارتبط وضع الأهداف في ذهنه بالمشقة والتعب.
وصحيح أن طريق النجاح ليس مفروشًا بالورود والرياحين، ويحتاج إلى تعب وبذل لإدراكه، ولكن الإنسان حينما يذوق طعم النجاح تهون عليه كل لحظة تعب أمضاها في طريق النجاح، حتى يكون ذلك التعب أشهى إلى نفسه وألذ من طعم الراحة والدعة والسكون.
وهذه سنة الله تعالى؛ أنه لا نجاح ولا إنجاز إلا بتعب وكفاح، {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69]، ولابد دون الشهد من إبر النحل.
الرُقي السامي:
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: (لابد للسالك من همَّة تسيِّره وترقِّيه، وعلم يبصِّره ويهديه، فلابد لكل طالب علم بجانب علمه من همة تسيره وترقيه في مدارج الطلب، بها يستعلي طالب العلم على سفاسف الأمور، ويتحلى بإرادة من حديد؛ إذ هو مقدم على أمر عظيم حاله، خطير شأنه، ألا وهو وراثة النبي صلى الله عليه وسلم في التعليم والدعوة والبلاغ.
فلا يصلح لهذه المنزلة من سفلت همته؛ فحامت حول الدنايا، أو ضعفت إرادته؛ فانكسرت أمام الصعاب والبلايا ... وصاحب الهمة العالية أمانيه حائمة حول العلم والإيمان، والعلم الذي يقربه إلى الله ويدنيه من جواره، فأماني هذا إيمان ونور وحكمة، وأماني أولئك خدع وغرور) [مدارج السالكين، ابن القيم، (1/457)].
الهمة في الكتاب والسنة:
ولقد تواردت نصوص القرآن والسنة على حث المؤمنين ـ فضلًا عن طلاب العلم ـ على ارتياد معالي الأمور، والتسابق في الخيرات، وتحذيرهم من سقوط الهمة، وتنوعت أساليب القرآن في ذلك.
{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177) مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 175-177].
ومنها: ثناؤه سبحانه على أصحاب الهمم العالية:
وفي طليعتهم الأنبياء والمرسلون، وفي مقدمتهم أولو العزم من الرسل، وعلى رأسهم خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} [الأحقاف: 35].
ومنها: أنه عبر سبحانه عن أوليائه الذين كبرت همتهم بوصف الرجال في مواطن البأس والجلد، والعزيمة والثبات على الطاعة، والقوة في دين الله قال تعالى:
{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ } [النور: 36-37].
أما السنة الشريفة فمليئة بالكثير من تلك النصوص، قال صلى الله عليه وسلم: (إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة؛ فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها) [رواه البخاري].
وقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (إن الله تعالى يحب معالي الأمور وأشرافها، ويكره سفسافها)[صححه الألباني في صحيح الجامع، (2771)]، وقال صلى الله عليه وسلم يوصي أصحابه: (إذا سأل أحدكم فليكثر؛ فإنما يسأل ربه) [صححه الألباني في صحيح الجامع، (592)].
وقال صلى الله عليه وسلم: (... فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة) [رواه البخاري].
النعيم لا يُدرك بالنعيم:
واعلمي أخيتي أن النعيم لا يدرك بالنعيم، وأن المرء بقدر ما يتمنى يتعنَّى، وكلما كانت الأمنيات عالية، بذل الإنسان وتعب من أجلها.
وإذا كانت النفوس كبارًا تعبت في مرادها الأجسام
ومما يقوِّي عزيمتك على التحصيل والتفوق الدراسي، أن يكون لك هدف تسعين إليه، كما سنوضح إن شاء الله تعالى في الأسطر القادمة، وأن تضعي نصب عينيك النماذج البراقة التي قهرت العجز وضعف الإمكانات، فهذه النماذج تستنهض عزيمتك، وتستثير همتك.
ولئن كان تاريخنا يحفل كما تعلمين بمثل هؤلاء، إلا أننا ننتقي لك نموذجًا في العصر الحديث، لفتاة قهرت العجز والمرض، إنها: "هيلين كيلر".
(بعد ولادتها بخمسة أشهر أُصيبت "هيلين" بالتهاب في الدماغ فقدت معه السمع والبصر معًا، وبعد انقضاء أربعة عشر ربيعًا مظلمًا عليها قالت بكل ثقة: سأذهب إلى جامعة "هارفارد" ذات يوم، وقد كان ما أرادت.
(عمل الحياة) كانت هاتان الكلمتان هما عنوان حياة "هيلين كيلر"، هذه الفتاة فاقدة السمع والبصر، لقد صممت على أن تخرج من ضيق ظروفها إلى استخدام ما يراه الجميع مبررًا لقعودها، بجعله سببًا لانطلاقها، تقول عن نفسها: دفعني إلى ذلك شوقي إلى السباق مع الفتيات المبصرات والسامعات.
لقد فاجأْت أصدقاءها في مدرسة "كامبردج" للبنات بقولها: سأذهب إلى الجامعة ذات يوم، وقد تحققت أحلامها واحدة تلو الأخرى، وانتقلت من معهد "بوسكن" إلى مدرسة الصم والبكم بـ"نيويورك" إلى مدرسة "كامبردج" للبنات، إلى جامعة "كامبردج" في "هارفارد"، وكان ذلك في خريف عام 1900م، ثم تخرجت في الجامعة 1904م بدرجة ممتاز.
وألَّفت كتابها الأول (قصة حياتي) التي كانت درسًا في الإرادة للإنسان في كل مكان، وتُرجم إلى خمسين لغة منها العربية، ثم ألَّفت كتابها الثاني (عالمي الخاص) عام 1908م، وأعقبتهما بكتابيها (السلام عند المساء) 1938م، و(ليكن لنا إيمان) 1941م.
مارست "كيلير" (العمل للحياة) طوال حياتها الفعالة لأنها كانت تجهز نفسها للقيام به منذ طفولتها، واستمرت تقوم بهذه الرسالة حتى وافتها المنية في يونيو 1968م) [مستفاد من: كيف أصبحوا عظماء، سعد سعود الكريباني، ص(147-149)].
وإن كانت مثل "هيلين" بظروفها الصحية قد شقَّت طريق العلم وقهرت العجز، فلأنت أيتها الغالية أحق بذلك بما وهبك الله من صحة وعافية ومقدرة، ثمَّ إنك أحق بذلك باعتبارك من خير الأمم، وأولى الناس بالهمة العالية والعزم الشديد.
النملة العجيبة:
وليتنا هنا نتعلم هذا الدرس العظيم من مخلوق صغير، هو في حد ذاته آية من آيات الله عز وجل في الصبر والتجلُّد والجدية وقوة العزيمة؛ إنها النملة.
وقد ذكر المؤرخون هذه القصة العجيبة عن القائد "تيمور لنك"، (دخل هذا القائد المشهور معركة من المعارك هو وجنوده، ومع بداية المعركة هُزِم جيشه وتفرق عنه، فما كان من "تيمور لنك" إلا أن هام على وجهه حزينًا كسيرًا كئيبًا لهذه الهزيمة المنكرة، ولكنه لم يرجع إلى بلده، بل ذهب إلى مغارة في إحدى الجبال وجلس فيها يتأمل حاله التي وصل إليها، وجيشه الذي تفرق عنه.
وبينما هو مستغرق في تفكيره، إذ رأى نملة تريد أن تصعد على حجرة ملساء لكنها تنطلق محاولة للمرة الثانية وتسقط، وتحاول الثالثة وتسقط، فالرابعة، وهكذا، فشدَّته وانقطع تفكيره، وبدأ بالتركيز مع النملة، يعُدُّ محاولاتها للصعود، حتى وصلت إلى ست عشرة مرة تصعد وتسقط، وتبادر بالصعود من جديد، وفي المحاولة السابعة عشرة نجحت النملة في الصعود.
فقال: عجيب هذا الأمر، نملة تكرر المحاولة سبع عشرة مرة ولا تيأس حتى تنجح، وأنا لأول مرة أنهزم أنا وجيشي فأصاب باليأس والإحباط! فنزل من المغارة وقد صمم على أن يجمع فُلول جيشه، وأن يدخل المعركة مرة أخرى، وألَّا ينهزم ما دام حيًّا، وكل هذا وصورة النملة لا تفارق مخيلته وتعيش في رأسه.
فجمع جنوده، وتعاهدوا على الثبات والصبر في المعركة، وألَّا ينهزموا أبدًا ما داموا أحياء، فدخلوا المعركة بهذه النية وهذا التوجه والتصميم فانتصروا) [من محاضرة للدكتور ناصر العمر، بعنوان: النملة، نقلًا عن صناعة الهدف،هشام مصطفى عبد العزيز وآخرون، ص(61)].
ماذا بعد الكلام؟
ـ
ليكن شعارك هذا الأسبوع أيتها الغالية، "الانطلاق نحو القمة"، وهذه بعض الأشياء التي تعينك على أن تكوني من أصحاب الهمم العالية:
1- المجاهدة:
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: (أعرف من أصابه مرض من صداع وحمى، وكان الكتاب عند رأسه، فإذا وجد إفاقة قرأ فيه، فإذا غلب وضعه، فدخل عليه الطبيب يومًا وهو كذلك فقال: إن هذا لا يحل لك؛ فإنك تعين على نفسك، وتكون سببًا لفوات مطلوبك) [روضة المحبين، ابن القيم، ص(70)]، فهذا رغم مرضه؛ يجاهد ليقرأ، ويزداد علمًا.
2- الدعاء الصادق والالتجاء إلى الله تعالى:
فهو المسئول سبحانه أن يقوي إرادتنا، ويعلي همتنا، ويرفع درجاتنا.
3- قراءة سير سلف الأمة:
أهل الاجتهاد والهمة العالية، الذين صان الله بهم الدين؛ فكم من إنسان قرأ سيرة صالح مجاهد؛ فتغيرت حياته إثر ذلك تغيرًا كليًّا، وصلح أمره وحسن حاله.
قال علي بن الحسن بن شقيق: (قمت لأخرج مع ابن المبارك في ليلة باردة من المسجد؛ فذاكرني عند الباب بحديث أو ذاكرته، فما زلنا نتذاكر حتى جاء المؤذن للصبح) [سير أعلام النبلاء، الذهبي، (8/404)].
4- مصاحبة صاحب الهمة العالية:
وهذا من أعظم البواعث على علو الهمة؛ إذ كل قرين بالمقارن يقتدي، لأن البشر قد جُبلوا على الغيرة والتنافس، ومزاحمة بعضهم بعضًا، وحب المجاراة في طبائع البشـر أمر لا ينكر.
5- مراجعة جدول الأعمال اليومي ومراعاة الأولويات والأهم فالمهم:
وهذا أمر مفيد في باب تطوير الهمة، وكلما كان ذلك الجدول بعيدًا عن الرتابة والملل كان أجدى في معالجة الهمة.
6- الابتعاد عن كل ما من شأنه الهبوط بالهمة وتضييعها:
وبخاصة الكسل والفتور، فلابد للمرء من البعد عن الكسل؛ لأنه قاتل للهمة مذهب لها، وخاصة عند تقدم العمر وعجز الجسم.
(فهذا شيخ الإسلام زكريا الأنصاري رحمه الله كان يصلي النوافل من قيام مع كبر سنه، وبلوغه مائة سنة أو أكثر، وهو يميل يمينًا وشمالًا لا يتمالك أن يقف بغير ميل للكبر والمرض، فقيل له في ذلك فقال: يا ولدي، النفس من شأنها الكسل، وأخاف أن تغلبني، وأختم عمري بذلك) [الكواكب السائرة بأعيان المائة العاشرة، نجم الدين الغزي، (1/202)].
المصادر:
· مدارج السالكين، ابن القيم.
· الكواكب السائرة بأعيان المائة العاشرة، نجم الدين الغزي.
· روضة المحبين، ابن القيم.
· محاضرة للدكتور ناصر العمر، بعنوان: النملة.
· صناعة الهدف،هشام مصطفى عبد العزيز وآخرون.
· كيف أصبحوا عظماء، سعد سعود الكريباني.
· سير أعلام النبلاء، الذهبي.
مفكرة الإسلام - الخميس 07 اكتوبر 2010
المفضلات