الحمد لله, والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فمن صفات المربي الفاضل:
1- الصلاح وحسن الصلة بالله -تعالى-، والالتزام الكامل بالإسلام عقيدة ومعاملة وسلوكًا؛ بحيث لا يصدر منا قول أو فعل إلا وفق مرضاة الله -تعالى-، ثم نربي أولادنا عليه بالقدوة -وهذا أنجح-، والإرشاد والتدريب والملازمة.
ومما يدل على أثر هذه الصفة في التربية قول الله -تعالى- في قصة مريم -عليها السلام-: (فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا. يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا) (مريم:27-28).
قال ابن كثير -رحمه الله-:
"أي أنت من بيت طيب طاهر معروف بالصلاح والعبادة والزهادة، فكيف صدر هذا منك... قال قتادة: كان من أهل بيت يعرفون بالصلاح, ولا يعرفون بالفساد, ومن الناس من يعرفون بالصلاح ويتوالدون, وآخرون يعرفون بالفساد ويتوالدون... " اهـ من التفسير 3/122-123.
وقال الله -سبحانه وتعالى-: (وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا) (الكهف:82)، قال الإمام ابن كثير -رحمه الله-: "فيه دليل على أن الرجل الصالح يُحفظ في ذريته, وتشمل بركة عبادته لهم في الدنيا والآخرة بشفاعته فيهم, ورفع درجتهم إلى أعلى درجة في الجنة؛ لتقر عينه بهم كما جاء في القرآن, ووردت به السنة. قال سعيد بن جبير عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: "حُفظا بصلاح أبيهما, ولم يذكر لهما صلاحًا, وتقدم أنه كان الأب السابع. والله أعلم" اهـ من التفسير 3/102.
وقال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا) (التحريم:6).
قال الشيخ الجزائري -حفظه الله-: "إن الوقاية لا تتم إلا بالإيمان وصالح الأعمال بعد اجتناب الشرك والمعاصي, وهذا يتطلب العلم بذلك, وتوطين النفس على العمل بما يعلم من ذلك فعلاً لما يفعل وتركًا لما يترك, فليأخذ العبد نفسه وأهله بهذا نصحًا له ولهم, حتى يقي نفسه, ويقي أهله" اهـ من تفسيره "5/387".
"ولن يتحقق ذلك إلا بفهمنا وعملنا ودعوتنا لما تضمنته آيات الكتاب, وأحاديث الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وهذا الباب عظيم الأهمية، ولا نجد وصية أجمع لأصول التربية الإيمانية والعبادية والعملية والخلقية والمعاملات, والدعوة إلى الله -تعالى- من وصية لقمان لابنه وهو يعظه, ونحن نحتاجها؛ لتربية أنفسنا وإن بلغنا ما بلغنا من السن؛ فاحتياج الإنسان إلى أن يتعود الخير ليس مقصورًا على سن معين, وإن كان في صغره أقرب إلى الإجابة, وأقرب إلى قبول التعود والإعداد, بل هي وصايا لكل إنسان يربي بها نفسه كما يؤدب بها غيره" اهـ من كلام شيخنا "ياسر برهامي" -حفظه الله- على سورة لقمان.
وهذه الصفة أصل لما وراءها من الصفات, ومنها تنبع وهي:
2- العلم:
قال -صلى الله عليه وسلم-: (طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ) (رواه ابن ماجة، وصححه الألباني).
قال إسحاق بن راهوية -رحمه الله-: "معناه: يلزمه طلب علم ما يحتاج إليه من وضوئه وصلاته وزكاته إن كان له مال, وكذلك الحج وغيره", وقال "ابن المبارك" -رحمه الله-: "ليس هو الذي يطلبونه, ولكن فريضة على من وقع في شيء من أمر دينه أن يسأل عنه حتى يعلم" اهـ من جامع العلم وفضله ص9.
فيلزم هنا تعلم العلم الذي يتعلق بتربية الأولاد, ويشمل العلم بالشرع, والعلم بالواقع؛ أما العلم بالشرع: فهو ما يتعلق شرعًا بتربية الطفل من تعهد صلاته وصيامه وأخلاقه, وضوابط تأديبه خاصة الزجر والضرب, والعدل بين الأولاد في العطية ونحوها, والعلم الواقع بالنظر في تجارب عقلاء المربين الملتزمين بالمنهج الصحيح, ومن غيرهم إذا وافق منهج الإسلام وشرائعه.
3- تحقيق القوامة التي جعلها الله -تعالى- للرجل على زوجته:
قال الله -تعالى-: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ) (النساء:34).
قال الشيخ السعدي -رحمه الله- في تفسيره ص177: "أي قوامون عليهن بإلزامهن بحقوق الله -تعالى- من المحافظة على فرائضهن, وكفهن عن المفاسد, والرجال عليهم أن يلزموهن بذلك, وقوامون عليهن أيضًا بالإنفاق عليهن والكسوة والمسكن, ثم ذكر السبب الموجب لقيام الرجال على النساء فقال: (بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ) أي: بسبب فضل الرجال على النساء, وإفضالهم عليهن فتفضيل الرجال على النساء من وجوه متعددة: من كون الولايات مختصة بالرجال, والنبوة, والرسالة, واختصاصهم بكثير من العبادات: كالجهاد والأعياد والجمع, وبما خصهم الله به من العقل والرزانة والصبر والجَلد الذي ليس للنساء مثله.
وكذلك خصهم بالنفقات على الزوجات يختص بها الرجال ويتميزن عن النساء... فعُلم من هذا كله أن الرجل كالوالي والسيد لامرأته, وهي عنده عانية أسيرة خادمة, فوظيفته أن يقوم بما استرعاه الله به, ووظيفتها القيام بطاعة ربها, وطاعة زوجها فلذلك قال: (فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ) أي: مطيعات لله -تعالى-، (حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ) أي: مطيعات لأزواجهن, حتى في الغيب تحفظ بعلها في نفسها وماله, وذلك بحفظ الله لهن, وتوفيقه لهن لا من أنفسهن, فإن النفس أمارة بالسوء, ولكن من توكل على الله كفاه ما أهمه من أمر دينه ودنياه..." اهـ.
يا أيها القيم على البيت: قم بواجبك وأد الأمانة المنوطة بك: (كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ) (متفق عليه)، بما تضمنته كلمة القيم -أي القائم على الأمر رعاية ونصحًا ومراقبة-, واعلم أنك مسئول أمام الله -تعالى- عن هذه الرعية, فأعد للسؤال جوابًا، وإياك أن تتخلى عن قوامتك, وتنزل نفسك منزلة التابع لا المتبوع, والمطيع لا المُطاع, والموجَّه لا الموجِّه, والغائب لا الشاهد, والخادم لا المخدوم, فينتهي بك الحال إلى وظيفة جالب الأغراض والحاجيات, وصارت المرأة هي الرجل فتَتَعس وتُتعس, وتـَشقى وتَُشقى، والنتيجة جيل منهار, فالحذر.
وليس معنى ذلك أن المرأة قد ألغيت شخصيتها لا, بل لها مكانتها ووظيفتها, وطاعتها لزوجها, وعدم الترؤس عليه. فمن أسباب دخول المرأة الجنة كما جاء في الحديث: (وَأَطَاعَتْ بَعْلَهَا) (رواه أبو نعيم وابن حبان، وصححه الألباني) أي: زوجها في المعروف.
وتظهر الاحترام الشديد له خاصة أمام الأولاد؛ ليشبوا رجالاً مستقرين نفسيًا, ونساء صالحات متحببات لأزواجهن مطيعات... هذه الصفة من الأهمية بمكان؛ فإن وجدت, والحقوق المتبادلة بين الزوجين كان من وراء ذلك خير كثير, وإلا فضياع, وتعاسة, وفساد للأجيال والمجتمعات كما نرى ذلك أمام أعيننا. والله المستعان.
- ومن القوامة التوجيه كما بينا... وليعلم الأبوان أن حجر الأساس في التربية هو الاتفاق في أمور تربية الأبناء, وألا يظهر تضاد يحسه الولد, أو أن يجد جانبًا يميل إليه دون الآخر, ويكون ذلك بجلسة بينهما يضعان النقاط على الحروف في أمر التربية, والتوجيه والمتابعة.
- ولتحقيق القوامة لابد للأب ألا يكون غائبًا عن البيت لفترة طويلة, فأنى له الإشراف والمتابعة والتوجيه؟!
هل يصح لقيم مدرسة أن يغيب عنها؟ وإن غاب فماذا سيكون حالها؟!! ما تتصوره هنا تأكد أن بيتك سيكون كذلك, بل أسوأ؛ لأن القوامة غابت, ومع الأيام ستجد نفسك في واد, وزوجتك وأولادك في واد آخر, وستندم -وقتئذ- ولات حين مندم.
- ومن القوامة الحزم الذي به قوام التربية: والحازم هو الذي يضع الأمور في مواضعها, فلا يتساهل في موقف الشدة, ولا يتشدد في موقف يستوجب اللين والرفق, ومن الحزم إلزام الولد بما يصلحه, وتجنيبه ما يضره كما أمر الله -تعالى- ورسوله -صلى الله عليه وسلم-, ومراقبته, ومتابعته في ذلك, وليس من الحزم أن يقع الوالد أسير ولده, فيدللـه ويلبي جميع رغباته, وترك معاقبته -إن استوجب الخطأ ذلك-, فينشأ مدللاً منقادًا للهوى غير مكترث بالحقوق المفروضة عليه.
- وليس من الحزم أن ينقاد لبكاء الطفل, وغضبه, وصياحه؛ ليدرك أن هذه وسائل غير مجدية, وليست وسيلة للوصول إلى ما يريد, وأن هناك وسائل طيبة توصل إلى المراد بهدوء واحترام كما أن الاستجابة لبكاء الصبي تعوده الاتكال على الآخرين, والضعف عن المطالبة بحق.
- وليس من الحزم أن تراقب ولدك في كل حركة وسكنة, وتعاقب عند كل هفوة, أو زلة، ولكن ينبغي أن تتسامح أحيانـًا, وأن تتغافل أحيانـًا إلا في شيء لابد فيه من توجيه, أو إرشاد.
- ومن الحزم تعويده النظام المنزلي في طعام وشراب ونوم, والمحافظة على النظافة, وتعويده تنظيم مكان نومه, وترتيب ثيابه وحاجياته, والحذر من الفوضوية في ذلك, فإنها تربي الولد على الفوضى في حياته كلها, وتؤدي إلى تفكك الأسرة, وضياع الأوقات والجهود, وليكن ذلك بحب ورفق وتدريب, لا بأوامر عسكرية يشعر معها الولد أنه في سجن, أو ثكنة عسكرية.
4- الليونة والمرونة, فالمربي الفاضل هو الذي يجمع في تربية ولده بين الحزم في موضعه, وبين الليونة والمرونة في موضعها:
والمقصود بها: قدرة فهم الآخرين بشكل متكامل لا بمنظار ضيق, وليس معناه الضعف والهوان, وإنما التيسير الذي أباحه الشرع, فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: (يَسِّرُوا وَلاَ تُعَسِّرُوا) (متفق عليه), وقال -صلى الله عليه وسلم-: (يَسِّرَا وَلاَ تُعَسِّرَا) (متفق عليه), وقال -صلى الله عليه وسلم-: (أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِمَنْ يَحْرُمُ عَلَى النَّارِ أَوْ بِمَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ النَّارُ عَلَى كُلِّ قَرِيبٍ هَيِّنٍ لَيِّنٍ سَهْلٍ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني), وقال -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ كَانَ هَيِّنًا لَيِّنًا قَرِيبًا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ) (رواه الحاكم والبيهقي، وصححه الألباني).
فعلى المربي في الأمور المباحة والمشروعة أن يتخير الأيسر كما كان -صلى الله عليه وسلم- إذا خُيِّر بين أمرين اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا, وهذا يكون في الأساليب, والألفاظ, والأوقات والتوجيه؛ ليصل بعقولهم إلى الخير بسهولة ويسر تقبله نفوسهم, وألا تكثر العتاب, فإنه يورث المِلال والجرأة والعناد, ويزيل مهابة الكلام بَلْه مهابة المربي.
قال الغزالي -رحمه الله- في "الإحياء -باب رياضة الصبيان-": "ولا تكثر القول عليه بالعتاب في كل حين, فإنه يهون عليه سماع الملامة, وركوب القبائح, ويسقط وقع الكلام من قلبه, وليكن الأب حافظًـًا هيبة الكلام معه, فلا يوبخه إلا أحيانـًا, والأم تخوف الأب, وتزجره عن القبائح" اهـ.
5- الحلم والأناة:
وهما خلقان يحبهما الله ورسوله كما قال -صلى الله عليه وسلم- لأشج عبد القيس: (إِنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ الْحِلْمُ وَالأَنَاةُ) فقال الأشج: الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله ورسوله. (رواه مسلم).
والحلم سيد الفضائل, ومنبع الخيرات, ومصدر السكينة والهدوء, فما من نتيجة حميدة إلا وكان الحلم سببها والموصل إليها؛ لأنه يقتلع الشر من جذوره, ويرغم الشيطان، قال الله -تعالى-: (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) (الشورى:37) وقال -تعالى-: (كُونُوا رَبَّانِيِّينَ) (آل عمران:80) قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: حلماء علماء, وقال -تعالى-: (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا) (الفرقان:636) قال الحسن: حلماء وإن جُهِل عليهم لم يجهلوا.
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه- قَالَ: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَعَلَيْهِ رِدَاءٌ نَجْرَانِي غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيُّ فَجَبَذَهُ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَدِيدَةً نَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عُنُقِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَقَدْ أَثَّرَتْ بِهَا حَاشِيَةُ الرِّدَاءِ مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَكَ. فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَضَحِكَ ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ. (متفق عليه).
- والحلم ترك المعاجلة بالعقوبة، ومنع النفس من ضد ما تحب عند ورود الموجب لذلك, وهو بهذا يشتمل على المعرفة, والصبر, والأناة, والتثبت.
- والعاقل يلزم الحلم عن الناس كافة, فإن صعب عليه ذلك فليتحالم؛ لأنه يرتقي به إلى درجة الحلم كما قال -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ، وَإِنَّمَا الْحِلْمُ بِالتَّحَلُّمِ، وَمَنْ يَتَحَرَّى الْخَيْرَ يُعْطَهُ، وَمَنْ يَتَّقِ الشَّرَّ يُوقَهُ) (رواه الدارقطني والطبراني، وحسنه الألباني).
- وأما الأناة فهي التأني, وترك العجلة والتسرع: وهي خير إلا في أمر الآخرة؛ فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: (التُّؤَدَةُ فِي كُلِّ شَيْءٍ إِلاَّ فِي عَمَلِ الآخِرَةِ) (رواه أبو داود والحاكم، وصححه الألباني).
- والحلم يشتمل على الصبر الذي جعله الله تعالى خيرًا لأهله, فقال -عز وجل-: (وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ) (النحل:126), وأخبر -تعالى- أنه يحب أهله فقال: (وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) (آل عمران:146), وهو خير عطاء فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: (وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ) (متفق عليه).
والصبر معناه لغة: الحبس، واصطلاحًا: حبس النفس عن الجزع, واللسان عن التشكي، والجوارح عن المعصية التي تدل على الجزع, وتسخط المقدور.
وقيل: هو تجرع المرارة من غير تعبس, وهو أنواع ثلاثة: صبر على طاعة الله, وصبر عن معصية, وصبر على أقداره المؤلمة.
والصبر هو معول المؤمن الذي عليه يعتمد في أمره كله خاصة في تربية ولده؛ لأنه يتعامل مع طفل له أخطاؤه -ولابد من خطئه-؛ لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال: (كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ) (رواه الترمذي وابن ماجه، وحسنه الألباني)، ويتعامل مع نفس قال الله -تعالى- عنها: (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) (البلد:10), وقال: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا. فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا. قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا. وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (الشمس:7-10), فأنت تنمي الخير الذي فيها متوجهًا إلى الله -تعالى- بصلاحها, وتضعف الشر الذي فيها, والموفق من وفقه الله -تعالى-, وهذا يحتاج إلى صبر بالغ؛ لأن الوالد يتعجل الثمار, ويريد ابنه ألا يخطئ, وقد يضاف إلى ذلك خوف مذمة الناس, فيدفعه ذلك إلى التهور والتسرع الذي لا يحمد عقباه.
- فوطـِّن نفسك على الصبر على ولدك توجيهًا ومتابعة, وعدم الملال, أو اليأس منه, واعلم أن ولدك ليس أنت, وأنه بمجرد الأمر يأتمر ويصير بذلك صالحًا, بل اعلم مسبقًا أنه سيخطئ, وقد لا ينفذ كالكبير تمامًا إذا وعظته أو نصحته؛ فقد ينتصح أو لا, وإن انتصح فقد يقع, أو يرجع إلى الذنب أو الخطأ؛ لأننا -كما ذكرنا- نفس إنسانية محل اختبار في هذه الدار (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) (الأنبياء:35).
- واعلم أن هناك فروقًا فردية بين الأولاد, وليس شرطـًا ما كان ناجحًا مع ولد أن يكون ناجحًا مع ولد آخر, والمربي الناجح هو الذي يحاول أن يتفهم طبيعة ابنه, وما عنده من مميزات وعيوب, فيرفع من المميزات ويحاول استغلالها, ويعالج جاهدًا صابرًا عيوبه بجميع وسائل التربية.
- وأنت في تأديتك هذه الأمانة, وصبرك عليها مأجور؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ لَكِ مِنَ الأَجْرِ عَلَى قَدْرِ نَصَبِكِ) (رواه الحاكم، وصححه الألباني), وما تؤمله في فضل الله -تعالى- أن يرزقك الله ولدًا صالحًا دافع عظيم إلى بذل الجهد والصبر, والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم, فلنتوجه إليه -تعالى- في ذلك.
- ولابد من الأخذ بوصية النبي -صلى الله عليه وسلم- للرجل: (لاَ تَغْضَبْ) قَالَ: قَالَ الرَّجُلُ: فَفَكَّرْتُ حِينَ قَالَ النَّبِيُ -صلى الله عليه وسلم- مَا قَالَ فَإِذَا الْغَضَبُ يَجْمَعُ الشَّرَّ كُلَّهُ (رواه أحمد، وصححه الألباني).
- ولابد من كظم الغيظ, وتجرع المرارة، قال الله -تعالى-: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (آل عمران:134), وقال -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ كَظَمَ غَيْظًا -وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَهُ- دَعَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى رُءُوسِ الْخَلاَئِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ اللَّهُ مِنَ الْحُورِ مَا شَاءَ) (رواه أبو داود وأحمد وابن ماجه، وحسنه الألباني)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ) (متفق عليه), وفسر الأئمة "ابن المبارك" و"أحمد" و"ابن راهويه" -رحمهم الله- حسن الخلق: بترك الغضب, ومعنى لا تغضب: إما الأخذ بأسباب حسن الخلق من: الكرم, والحلم, والحياء, والتواضع, واحتمال الأذى, والصفح, وكظم الغيظ, ونحو ذلك من الأخلاق الجميلة التي إن تخلقت بها النفس أوجب لها دفع الغضب عن حصول أسبابه.
وإما عدم العمل بمقتضى الغضب, بل يجاهد نفسه على ترك تنفيذه, والعمل بما يأمر به؛ لأنه إذا ملك الإنسان كان هو الآمر الناهي.
- وعلاج الغضب الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، كما جاء في الصحيحين, وتغيير الوضعية, فإن كان قائمًا فليجلس, فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع كما جاء في مسند أحمد.
والسكوت كما قال -صلى الله عليه وسلم-: (وَإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْكُتْ) (رواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد، وصححه الألباني)" بتصرف من جامع العلوم والحكم ص150 وما بعدها.
- علاج خطأ الطفل:
أولاً: علينا بالرفق واللين والرحمة, والبعد عن العبوس والتجهم والعنف, فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لاَ يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ وَمَا لاَ يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ) (رواه مسلم), وقال -صلى الله عليه وسلم-: (يَا عَائِشَةُ ارْفُقِي فَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَرَادَ بِأَهْلِ بَيْتٍ خَيْراً دَلَّهُمْ عَلَى بَابِ الرِّفْقِ) (رواه أحمد، وصححه الألباني), وقال -صلى الله عليه وسلم-: (إن الله إذا أحب أهل بيت أدخل عليهم الرفق) (رواه أحمد والبيهقي، وصححه الألباني), وقال -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيَعْرِفْ حَقَّ كَبِيرِنَا فَلَيْسَ مِنَّا) (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني), وعن أنس قال: "مَا رَأَيْتُ أَحَدًا كَانَ أَرْحَمَ بِالْعِيَالِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: كَانَ إِبْرَاهِيمُ مُسْتَرْضِعًا لَهُ فِي عَوَالِي الْمَدِينَةِ فَكَانَ يَنْطَلِقُ وَنَحْنُ مَعَهُ فَيَدْخُلُ الْبَيْتَ وَإِنَّهُ لَيُدَّخَنُ وَكَانَ ظِئْرُهُ قَيْنًا فَيَأْخُذُهُ فَيُقَبِّلُهُ ثُمَّ يَرْجِعُ" (رواه مسلم), وعن أبي هريرة قال: أتى النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- رجل ومعه صبي فجعل يضمه إليه فقال النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: (أترحمه) قال: نعم, قال: (فالله أرحم بك منك به, وهو أرحم الراحمين) (رواه البخاري في الأدب المفرد، وصححه الألباني).
وعن يعلى بن مرة حدثهم أنهم: "خَرَجُوا مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى طَعَامٍ دُعُوا لَهُ فَإِذَا حُسَيْنٌ يَلْعَبُ فِي السِّكَّةِ قَالَ فَتَقَدَّمَ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أَمَامَ الْقَوْمِ وَبَسَطَ يَدَيْهِ فَجَعَلَ الْغُلاَمُ يَفِرُّ هَا هُنَا وَهَا هُنَا وَيُضَاحِكُهُ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- حَتَّى أَخَذَهُ فَجَعَلَ إِحْدَى يَدَيْهِ تَحْتَ ذَقَنِهِ وَالأُخْرَى في فَأْسِ رَأْسِهِ فَقَبَّلَهُ وَقَالَ: (حُسَيْنٌ مِنِّي وَأَنَا مِنْ حُسَيْنٍ أَحَبَّ اللَّهُ مَنْ أَحَبَّ حُسَيْنًا حُسَيْنٌ سِبْطٌ مِنَ الأَسْبَاطِ) (رواه أحمد والترمذي وابن ماجه، وحسنه الألباني).
- وعليك أن تعوذهم من الشيطان والعين كما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يعوذ الحسن والحسين -رضي الله عنهما- ويقول: (إِنَّ أَبَاكُمَا كَانَ يُعَوِّذُ بِهَا إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ وَهَامَّةٍ، وَمِنْ كُلِّ عَيْنٍ لاَمَّةٍ) (رواه البخاري). والعين اللامة هي: العين المؤذية بالحسد.
وعن عائشة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رأى صبيًا يبكي فقال: (مَا لِصَبِيِّكُمْ هَذَا يَبْكِي فَهَلاَّ اسْتَرْقَيْتُمْ لَهُ مِنَ الْعَيْنِ) (رواه أحمد، وحسنه الألباني).
وعن ابن عابس الجهني -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له: (يَا ابْنَ عَابِسٍ أَلاَ أَدُلُّكَ -أَوْ قَالَ أَلاَ أُخْبِرُكَ- بِأَفْضَلِ مَا يَتَعَوَّذُ بِهِ الْمُتَعَوِّذُونَ). قَالَ بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) و(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) هَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ) (رواه أحمد والنسائي، وصححه الألباني).
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ -رضي الله عنه- قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَتَعَوَّذُ مِنَ الْجَانِّ وَعَيْنِ الإِنْسَانِ حَتَّى نَزَلَتِ الْمُعَوِّذَتَانِ فَلَمَّا نَزَلَتَا أَخَذَ بِهِمَا وَتَرَكَ مَا سِوَاهُمَا" (رواه الترمذي وابن ماجه، وصححه الألباني).
- وعليك أن تدعو لهم لا أن تدعو عليهم, فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: (لاَ تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ وَلاَ تَدْعُوا عَلَى أَوْلاَدِكُمْ وَلاَ تَدْعُوا عَلَى خَدَمِكُمْ وَلاَ تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ لاَ تُوَافِقُوا مِنَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى سَاعَةَ نَيْلٍ فِيهَا عَطَاءٌ فَيَسْتَجِيبَ لَكُمْ) (رواه مسلم وأبو داود), وجاء رجل إلى ابن المبارك -رحمه الله- يشكو ولده, فقال "هل دعوت عليه؟ قال: نعم. قال: أنت أفسدته".
فالحذر من الدعاء على الولد, فقد يستجاب الدعاء فيفسد الولد ويشقى, وتزداد المشكلة تعقيدًا, ولعلاج هذا لابد من الدعاء له مرة أخرى بالصلاح؛ لتزيل الدعوة له الدعوة عليه, فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: (وَلاَ يَرُدُّ الْقَدَرَ إِلاَّ الدُّعَاءُ) (رواه ابن ماجه، وحسنه الألباني).
- وعليك -إن أخطأ- أن تعالج خطأه بالحكمة والإقناع, وهذا نتعلمه من رسولنا -صلى الله عليه وسلم-, فعن أَبِي رَافِعِ بْنِ عَمْرٍو الْغِفَارِيِّ قَالَ: كُنْتُ وَأَنَا غُلاَمٌ أَرْمِي نَخْلاً لِلأَنْصَارِ فَأُتِيَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فَقِيلَ إِنَّ هَا هُنَا غُلاَماً يَرْمِى نَخْلَنَا فَأُتِىَ بِي إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: (يَا غُلاَمُ لِمَ تَرْمِي النَّخْلَ). قَالَ: قُلْتُ: آكُلُ. قَالَ: (فَلاَ تَرْمِ النَّخْلَ وَكُلْ مَا يَسْقُطُ فِي أَسْافِلِهَا). ثُمَّ مَسَحَ رَأْسِي وَقَالَ: (اللَّهُمَّ أَشْبِعْ بَطْنَهُ) (رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه، وحسنه الحافظ ابن حجر، وقال الألباني: في إسناده جهالة، لكنه يتقوى بطريق آخر).
- وليكن هذا على انفراد في جلسة يغلب عليها الرحمة, وإظهار الشفقة, فهي أدعى -إن شاء الله- لقبولها, كما وجدنا وصايا الآباء للأبناء في القرآن تقوم على ذلك قال -تعالى-: (وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ. أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (البقرة:132-133).
وقال -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ... ) (لقمان:13) الآيات.
- وأن تعلق العصا في مكان ظاهر يراه الطفل, فهناك من الأطفال من يردعه مجرد رؤية العصا, أو السوط, وقد أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك فقال: (عَلِّقُوا السَّوْطَ حَيْثُ يَرَاهُ أَهْلُ الْبَيْتِ، فَإِنَّهُ لَهُمْ أَدَبٌ) (رواه الطبراني في المعجم الكبير، وحسنه الألباني)، قال ابن الأنباري: "لم يرد الضرب به لأنه لم يأمر بذلك أحدًا, وإنما أراد لا ترفع أدبك عنهم" فيض القدير.
- كان لأبي محمد العكبري سوط معلق في منزله, فإذا سئل عنه قال: "ليرهب العيال منه" البداية والنهاية 6/139.
- وأن يخوفه الأب به إن تكرر الخطأ, ولا يهمله أو يغفل عنه, فإن تأديبه ومنعه مما يفسده مسئوليته, وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: (أَلاَ لاَ يَجْنِي جَانٍ إِلاَّ عَلَى نَفْسِهِ وَلاَ يَجْنِي وَالِدٌ عَلَى وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ عَلَى وَالِدِهِ) (رواه الترمذي وابن ماجه، وصححه الألباني), والجناية: الذنب والجرم.
- إن أخطأ الولد تجهمت في وجهه؛ لتعلن أنك غير راض عن فعله, فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا اطلع على أحد من أهل بيته كذب كذبة لم يزل معرضًا عنه حتى يحدث توبة" (رواه أحمد، وصححه الألباني).
- وإن اعتذر الولد قبلت اعتذاره, وقومت سلوكه, وتحول غضبك إلى ابتسامة حانية راضية.
- وإن عاد إلى الخطأ, فاحذر الغضب. وإن كان لابد من عقاب, فافعله وأنت هادئ؛ لأن الغرض الإصلاح والتأديب, لا الانتقام والتشفي, وانظر إلى تأديبه -صلى الله عليه وسلم-, فعن أنس -رضي الله عنه- قال: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ خُلُقًا فَأَرْسَلَنِي يَوْمًا لِحَاجَةٍ فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لاَ أَذْهَبُ. وَفِي نَفْسِي أَنْ أَذْهَبَ لِمَا أَمَرَنِي بِهِ نَبِيُّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَخَرَجْتُ حَتَّى أَمُرَّ عَلَى صِبْيَانٍ وَهُمْ يَلْعَبُونَ فِي السُّوقِ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَدْ قَبَضَ بِقَفَايَ مِنْ وَرَائِي فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ يَضْحَكُ فَقَالَ: (يَا أُنَيْسُ أَذَهَبْتَ حَيْثُ أَمَرْتُكَ). قُلْتُ: نَعَمْ أَنَا أَذْهَبُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. (رواه مسلم).
- وللضرب قواعد:
أنه ليس هو الأصل إنما يلجأ إليه عند استنفاد الوسائل الأخرى للتأديب, أو الحمل على الطاعات الواجبة.
- ألا يكون قبل العاشرة لأجل الصلاة؛ كما قال -صلى الله عليه وسلم-: (مُرُوا أَبْنَاءَكُمْ بِالصَّلاَةِ لِسَبْعِ سِنِينَ وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا لِعَشْرِ سِنِينَ وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ) (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني), فهذا الأمر بالضرب بالنسبة للصلاة, أما دونها من الأمور الحياتية والسلوكية, فلا يضرب عليها إلا ضربًا دون ضرب الصلاة للتهذيب.
- وأن يقلل منه ما أمكن كالملح القليل للطعام يصلحه ولا يفسده, فقد كتب عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- إلى الأمصار يقول: "لا يقرن المعلم فوق ثلاث فإنها مخافة للطفل".
- وقال القاضي "شريح": "لا يضرب الصبي على القرآن إلا ثلاثًا كما غطَّ جبريل -عليه السلام- محمدًا -صلى الله عليه وسلم- ثلاثًا".
- وأن يصيب بضربه الجلد دون اللحم, وألا يرفع إبطه في الضرب, وأن يجتنب الوجه والمواضع الحساسة؛ كما قال -صلى الله عليه وسلم-: (إِذَا ضَرَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَّقِ الْوَجْهَ) (رواه وأبو داود، وصححه الألباني).
- وإذا استغاث الطفل بالله -تعالى- فيجب التوقف تعظيمًا لله -تعالى- في نفسه, ويقول: تركتك من أجل تعظيمك لاسم الله -تعالى-؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: (مَنِ اسْتَعَاذَكُمْ بِاللَّهِ فَأَعِيذُوهُ وَمَنْ سَأَلَكُمْ بِاللَّهِ فَأَعْطُوهُ) (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني). قال الطيبي: "هذا إذا كان الضرب تأديبًا, وأما إذا كان حدًا فلا, وكذا إذا استغاث مكرًا" انتهى من تحفة الأحوذي.
- وليحذر القسوة والعنف, فإنها مخالفة للشرع, ويترتب عليها مفاسد كثيرة.
قال ابن خلدون -رحمه الله-: "الفصل الأربعون في أن الشدة على المتعلمين مضرة بهم... ومن كان مربَّاه -أي: تربيته- بالعسف والقهر من المتعلمين, أو المماليك, أو الخدم سطا أي سيطر به القهر, وضيق القهر على النفس في انبساطها, وذهب بنشاطها, ودعاه إلى الكسل, وحمله على الكذب والخبث خوفـًا من انبساط الأيدي بالقهر عليه, وعلمه المكر والخديعة لذلك, وصارت هذه له عادة وخلقـًا, وفسدت معاني الإنسانية التي له من حيث الاجتماع والتمدن, وهي الحمية والمدافعة عن نفسه ومنزله, وصار عيالاً على غيره في ذلك, بل وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل, والخلق الجميل, فانقبضت عن غايتها, ومدى إنسانيتها, فارتكس وعاد في أسفل السافلين, وهكذا وقع في كل أمة حصلت في قبضة القهر, ونال منها العسف, واعتبره في كل من يملك أمره عليه, ولا تكون الملكة الكافلة له رفيقة به...
فينبغي للمعلم في متعلمه, والوالد في ولده أن لا يستبدا عليه في التأديب. وقد قال محمد بن أبي زيد: "لا ينبغي لمؤدب الصبيان أن يزيد في ضربهم إذا احتاجوا إليه على ثلاثة أسواط شيئًا"، ومن كلام عمر -رضي الله عنه-: "من لم يؤدبه الشرع لا أدبه الله"، حرصًا على صون النفس عن مذلة التأنيب, وعلمًا بأن المقدار الذي عينه الشرع لذلك أملك له فإنه أعلم بمصلحته" اهـ بتصرف من المقدمة, المجلد السادس, نسخة إليكترونية.
وصلى الله على نبينا محمد, وعلى آله وصحبه وسلم.
المفضلات