أما على تفسير د. مروان العطية الباحث العمانى الذى أضاف فى سبيل حل تلك القضية بعض العناصر المضيئة فإن الأمر يبدو متسقا، إذ ضمّن كتابا له بعنوان "لمحات من تراثنا" فقرات فى غاية الأهمية هذا نصها: "رُمِيَ الرجل بالتشيع رغم كونه من بني أمية. هذا التشيع من أبي الفرج، أو بعبارة أدل على المراد: من أموي، كان مبعث الدهشة والاستغراب ومثار النقد والتعليق. فابن الأثير يذكر عنه، وهو يقص أحداث سنة ست وخمسين وثلاثمائة، ما يلي: "فيها توفي أبو الفرج علي بن الحسين بن محمد بن أحمد الأصبهاني الأموي، وهو من ولد محمد بن مروان بن الحكم الأموي. وكان شيعيا وهذا من العجب". نجد مثل هذا الاستغراب عند الخوانساري في "روضات الجنات"، والذهبي في "سير أعلام النبلاء" و"العبر"... ونحن يحق لنا أن نستغرب تشيع أبي الفرج، فضلا عن استنكاره لما ستعلمه بعد قليل. فالرجل كان رقيق الدين، ولم يكن بالرجل المتزمت، وإنما كان من اللاهين العابثين. ذلك هو الأمر الذي يدل عليه شعره، ويدل عليه نثره، ويفسره صحبته للقوم الماجنين. لقد كان أبــو الفـرج يشرب الخمر، ويـحب الغلمان، ويحيا حياة المستهترين، ويصف مجالسه تلك شعرا مرة، ونثرا أخرى. وتــعود المشكلــة إلــى خبرٍ مرويٍّ عـن تلميذه المحسِّن بــن علي التنوخي حيث قــال: "ومن الرواة المتسعين الذين شاهدناهم أبـو الفــرج علـي بـن الحسين الأصبهاني، فإنه كان يحفظ من الشعر والأغاني والأخبار والآثار والحديث المسند والنسب ما لم أر قط من يحفظ مثله". إن كلمة "المتسعين" في هذا الخبر المروي عن التنوخي والتي تــدل علـى التوسع فـي الحفظ والرواية، والتي يدل عليها السياق، تصحفت عند المؤرخين وأصبحت: "مـــن الرواة المتشيعين". وقد نُقِلَتْ هذه الكلمة عـن التنوخي، ثم عـن ولـده أبي القـاسم عـلي بــن المحسِّن عـن الخطيب البغدادي فـي تاريخه مصحفةً سهوًا أو عمـدًا وأصبحت: "مــن الرواة المتشيعين". وقد نقلها على هذه الصورة المشوهة كل من ياقوت والقفطي وابــن خـلكان ومــن جاء بعدهم ممن ذكر هذا الخبر من المؤلفين. وبذلك صار أبو الـفرج "متشيعا" بـعد أن كان "متسعا"، علما أن النديم صــاحب "الفهرست"، وهــو مــن معاصريه وأصحابـه، وقـــد روى وحـــدَّث عنــــه، لـــم يشر إلـــى هــــذه النــــاحيـــة مطلقـــا. وكذلك الشــأن مع كــل معاصريه أو الذين عاشوا قريبـــا مــن عصره أو عـايشوا وعاصروا بعض مــن يعرف عن الرجل أخباره، حيث لــم يذكر واحد منهم مثل هــذا الخبر العجيب: فهذا أبـو نعيم الأصبهاني، وقد ترجم لأبي الفرج الأصبهاني في كتابه: "ذكر أخبار أصبهان"، ولم يشر إلى تشيع أبي الفرج من قريب أو بعيد. ومثله الثعالبي وابن حزم. إذن فالمسألة واضحة، وهذا التشيع الذي لصق بالرجل طويلا جاء عن طريق هــذا التصحيف العجيب الخبيث. وبهذا يزول عجب ابن الأثير وغيره من المؤرخين" (
http://www.alwaraq.net/Core/waraq/bo...kid=9&pageid=1)
والواقع أن هذا تفسير وجيه يمكن جدا أن يكون هو ما قد وقع، إلا أن الكاتب للأسف لم يقدم لنا الدليل القاطع على وقوع هذا التصحيف. ولو كان فعل لكان قد حسم الأمر نهائيا. إننى لا يخالجنى شك فيما قلته عن التشيع المزعوم لأبى الفرج، لكننى فى هذا قد اعتمدت على منطق الأحداث فى عصره وعلى تحليل شخصيته وكتاباته لا على الوثائق. وقد قدم د. العطية كلاما يتسم بوجاهة التفسير، لكنه لو كان قد أضاف الدليل على ما قاله، رغم وجاهته الشديدة فى حد ذاته، لوضع كلامه حدا نهائيا للقضية.
ومع هذا فقد ذكر د. محمد أحمد خلف الله فى كتابه: "صاحب الأغانى أبو الفرج الأصفهانى الراوية" (ص136- 137، 174) للرجل شعرا يعلن فيه أنه إمامى، ونصه:
أنت يا ذا الخال في الوجـــــــــــــــــــــــــــــــنة مما بِيَ خالي
لا تبالي بي ولا تُخْــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــطِرني منك ببالِ
لا ولا تَفْكِر في حا لي، وقد تعرف حالي
أنا في الناس إمامــــــــــــــــــــــــــــــــيٌّ، وفي حبك غالي
وهو، إن صح، اعتراف صريح من الرجل بأنه شيعى. لكننا للأسف نسمع صاحب الشعر يقول عن نفسه إنه إمامى، على حين أن خلف الله قد كرر القول بأن أبا الفرج زيدى لا إمامى، والزيديون والإماميون طريقان مختلفان رغم ان كلا الفريقين يتعصب لذرية على كرم الله وجهه، إلا أن مدار التعصب من ذرية علىٍّ لدى هؤلاء غيره لدى أولئك. وقد سبق أن رأينا الشميطى، وكان من شعراء الإمامية، يعيب من خرج من الزيدية قائلا:
سن ظلم الإمام للناس زيدٌ * إن ظلم الإمام ذو عقّال
وبنو الشيخ والقتيل بفخ * بعد يحيى ومُوتِم الأشبال
وقبل هذا فإن الشعر ليس لأبى الفرج أصلا، بل لأبى الحسن بن مقلة. وهذا مذكور فى "يتيمة الدهر" ذاتها التى أحال إليها خلف الله فى نسبة الشعر للأصفهانى، وإن كان صاحب "الذريعة إلى تصانيف الشيعة" قد نسبها إلى أبى الفرج مع أنها لا تشاكله ولا تشاكل شعره، وبخاصة أنها تقوم على اصطياد المحسنات اصطيادا مما لا يوافق شعر العصر الذى كان أبو الفرج يعيش فيه ولا أسلوب أبى الفرج نفسه فى شعره أو نثره.
وهناك مؤلف شيعى أنكر إنكارا شديدا أن يكون الأصفهانى شيعيا، وهذا المؤلف هو محمد باقر الموسوى الخوانسارى صاحب "روضات الجنات فى أحوال العلماء والسادات"، إذ قال: "وأيًّا ما وُجِد فى كلماته من المديح (أى مديح آل البيت) ففيه أولا أنه غير صريح. ولو سُلِّم فهو محمول على قصده التقربَ إلى ملوك ذلك العصر الـمُظْهِرين لولاية آل البيت غالبا والطمعَ فى جوائزهم العظيمة بالنسبة إلى مادحيهم كما هو شأن كثير من شعراء ذلك العصر، فإن الإنسان عبد الإحسان، مع أنى تصفحت كتاب "أغانيه" المذكور إجمالا فلم أر فيه إلا هزلا وضلالا، أو بقصص أصحاب الملاهى اشتغالا، وعن علوم أهل بيت الرسالة اعتزالا، وهو فيما ينيف على ثمانين ألف بيت تقريبا، مضافا إلى كون الرجل من الشجرة الملعونة فى القرآن وداخلا فى سلسلة بنى أمية وآل مروان. فكيف يمكن وجود رجل من أهل الإيمان فى قوم تُوَجَّه إلى قاطبتهم الألعان على أى لسان، ومن أى إنسان؟".
ولست مع ذلك أشاطر الكاتب الشيعى ما قاله فى لعن الأمويين جميعا، فالأمويون ليسوا شيئا واحدا، ومن ثم لا يصح أن نلعنهم كلهم عاطلا مع باطل، فضلا عن أن ننفى عنهم الإيمان، فهذا تألٍّ على الله سبحانه وتعالى وقلة أدب معه عز وجل قد تحبط عملنا وتُرْدِينا نحن فى النار، بل نلعن من قتلوا الحسين وأشاروا به ورَضُوه، وإن كنا لا نرى له رضى الله عنه ولا لأبيه رغم إجلالنا لهما ولأهل البيت عموما، إلا من انحرف منهم عن قصد السبيل، أى حق دينى فى الخلافة. إنما هى الكفاءة ومصلحة الإسلام والمسلمين ليس إلا. وأرى أن عليا كرم الله وجهه أفضل من معاوية خلقا وعلما وشجاعة وأنقى سلوكا، وقد كنت أحب لو أنه لم يُقْتَل وأنه بقى فى خلافة المسلمين يدبر أمور العباد إلى أن يقضى الله أمرا، لكن كان للقدر حكم آخر فنجح الخوارج فى قتله هو وحده ونجا معاوية وعمرو بن العاص رغم أنهم كانوا قد خططوا لاغتيال الثلاثة جميعا. لماذا نجح اغتيال على وحده، وفشلت الخطة مع الاثنين الآخرين؟ عِلْم ذلك عند رب القضاء والقدر! على أن تفضيلى عليًّا على معاوية لا ينسحب على أبى بكر وعمر وعثمان، فهؤلاء الأربعة كلهم عندى فى مستوى واحد من الفضل، إذ هم جميعا قد خدموا دين الله منذ بدايات الإسلام بكل ما يستطيعون، لم يقصِّروا فى ذلك شعرة واحدة، وأعطَوْه من أموالهم وذاتهم ومواهبهم ما يشهد بأن كلا منهم كان أمة وحده على اختلاف مواهبهم ونوع عطائهم أحيانا، رضى الله عن الجميع. كما أن إيثارى أبا الحسين على معاوية لا يعنى أن أبا يزيد يخلو من أى فضل، فقد نفع الله به الإسلام ومد بحنكته رقعة الدولة إلى مسافات بعيدة ، كما كان سياسيا أريبا، وفيه واقعية ساعدته على سَوْس البشر، على عكس علىٍّ، الذى يبدو لى أنه كان يحتاج إلى أن يمزج مثاليته بشىء من الواقعية حتى يمكنه مواجهة النفوس والأحداث وتوجيهها وتطويعها على النحو الذى يتمنى. فالسياسة تحتاج إلى قدر من المرونة والنزول على مقتضيات الواقع والظروف دون أن يتنكر السياسى لمبادئه بالضرورة. لكن تلك نقرة أخرى.
على أن الغريب ادعاء محمد بن الحسن الطوسى (385 - 460 هـ)، وهو أحد أعمدة الشيعة فى عصره، أن أبا الفرج قد ألف كتابا بعنوان "ما نزل من القرآن فى أمير المؤمنين وأهل بيته عليه السلام"، وكتابا آخر يتضمن كلام فاطمة فى فدك، وهو ما لم يقله أحد غيره، إذ لا نجده فى "الفهرست" لابن النديم ولا "معجم الأدباء" لياقوت ولا "العِبَر" لابن خلدون ولا "تاريخ بغداد" للخطيب ولا "عيون التواريخ" لابن شاكر ولا "كشف الظنون" لكاتب جلبى، فضلا عن أن الأصفهانى ذاته لم يقله، ومن ثم فلا يؤبَه به. وإلى القارئ نص ما قال ذلك الكاتب الشيعى: "أبو الفرج الأصفهاني: زيدي المذهب، له كتاب "الأغاني" كبير، وكتاب "مقاتل الطالبيين"، وغير ذلك من الكتب، وكتاب "ما نزل من القرآن في أمير المؤمنين وأهل بيته عليهم السلام"، وكتابٌ فيه كلام فاطمة عليها السلام في فَدَك، وغير ذلك من الكتب. أخبرنا عنه جماعة منهم أحمد بن عبدون بجميع كتبه ورواياته" (الطوسى/ الفهرست/ تحقيق جواد القيومى/ مؤسسة نشر الفقاهة/ 1417هـ/ 280).
أبو الفرج إذن لم يكن شيعيا ولم يكن متحمسا لأى أحد ولا لأى شىء، فقد كان كل همه هو نِشْدان المتعة: متعة الغناء، ومتعة الطعام ومتعة السمر، ومتعة الشراب، ومتعة الغلمان طبقا لما قيل عنه وما قاله هو عن نفسه فى هذا الجانب. أما أن يكون شيعيا أو متحمسا لأى مذهب آخر على ذلك النحو الذى يشغلنا بتصنيف ما كان يدين به فكلا وألف لا. مثل أبى الفرج لا يصلح لذاك ولا يصلح ذاك له. إنما هو رجل دنيا ولذة، وهذا لا ينفى عنه أنه كان عالما فى مجاله، وكان أديبا ذا أسلوب قلما نجد له نظيرا فى السلاسة والانسيابية والدفء وقوة الأسر والبراعة فى الحكاية والقص والتصوير والفكاهة والمقدرة على إيراد ما يشاء من الشواهد الشعرية وغير الشعرية فى الوقت الذى يريد، وفى الموضع الذى يريد، وعلى النحو الذى يريد ويخدم ما يريد. وأنت إذا شرعت فى قراءة "الأغانى" شَدَّك شَدًّا رغم كل ما أخذناه عليه. وقد اعترف بذلك الجميع حتى الذين انتقدوه على مجونه وعبثه وفسقه وتطاوله على كل شىء وكل إنسان تقريبا.
المصدر
http://alarabnews.com/show.asp?NewId=19964&PageID=26&PartID=2
المفضلات