-
اسرار القران (188)
" إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً " ( الإنسان:2).
هـذه الآية القرآنية الكريمة جاءت في مقدمات سورة الإنسان, وهي سورة مدنية, وآياتها إحدى وثلاثون بعد البسملة, وقد سميت بهذا الاسم لاستهلالها بالحديث عن الإنسان ونشأته ورسالته في هذه الحياة, مؤكدة أنه خلق للابتلاء, وأعطي حرية الاختيار بين الشكر لله ـ تعالى ـ أو الكفر بنعمائه, وهذا هو قمة ابتلائه والذي على أساسه يكون مصيره في الآخرة خلوداً في الجنة ونعيمها, أو خلوداً في النار وجحيمها.
وقد أجملت سورة الإنسان جزاء الكافرين, وفصلت جزاء المؤمنين, موجهة الخطاب إلى النبي والرسول الخاتم ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ مؤكدة أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ هو الذي اصطفاه للنبوة والرسالة, ونزل إليه القرآن الكريم تنزيلاًً, وأمره بالصبر لحكم الله, وحذره من طاعة الآثمين من المشركين والكفار, ووجهه إلى ذكر الله كثيراً بكرة وأصيلاًً, وبالسجود له بالليل طويلاً, وبتسبيحه وحمده والثناء عليه.
كذلك أنذرت سورة الإنسان من يبالغون في حب الدنيا ـ وهي الحياة العاجلة, القصيرة المنتهية حتماً بالموت ـ ويذرون أهوال الانتقال منها إلى الآخرة التي تصفها السورة الكريمة بأنها يوم ثقيل, مؤكدة أن الله ـ تعالى ـ هو خالقهم وخالق كل شيء, الذي أحسن خلقتهم كما أحسن كل شيء خلقه, ثم كفروا بأنعم الله عليهم, وهو القادر على إفنائهم واستبدالهم بغيرهم. وتأمر سورة الإنسان بضرورة الاتعاظ بالقرآن الكريم, وبما فيه من آيات الذكر الحكيم, وعلقت ذلك الاتعاظ بمشيئة الله الخالق ـ سبحانه وتعالى ـ انطلاقاً من إحاطة علمه, وكمال حكمته, وغلبة إرادته فهو ـ تعالى ـ يدخل من يشاء في رحمته, ويخرج من يشاء منها لما يعلمه من نوايا كل فرد من البشر, وأنه ـ سبحانه وتعالى ـ قد أعد للظالمين عذاباً أليماًً. وعلى ذلك فإن سورة الإنسان تمثل خطاباً مباشراً من الله ـ تعالى ـ إلى عباده من بني آدم الذي خلقه بيديه, ونفخ فيه من روحه, وعلَّمه من علمه, وأنطقه بقدرته, وأسجد له ملائكته, وخلق نسله من صلبه, وكرمهم بكرمه, وأفاض عليهم من رزقه وفضلهم على كثير من خلقه, وعلى الرغم من ذلك كفر أغلب الناس بالله ـ تعالى ـ أو أشركوا غيره في عبادته, ومن هنا جاء الخطاب إلى الإنسان في هذه السورة الكريمة مُحذِّراً من الخروج على منهج الله, ناصحاً باتقاء عذابه, وباليقظة لحقيقة ابتلائه, وإلى إدراك عظيم حكمته في الإنعام والابتلاء على حد سواء. وتبدأ سورة الإنسان بقول ربنا ـ تبارك وتعالى ـ: " هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً " ( الإنسان:1).
و(هل) حرف استفهام، ولكنها هنا حرف تأكيد بمعنى( قد), و(الحين) طائفة محدودة من الزمن الممتد, ولفظة( الدهر) تطلق على كل زمن طويل غير معين, وعلى مدة العالم كله. وقد أثبتت الدراسات العلمية أخيراً أن أقدم أثر للحياة على الأرض يعود إلى قرابة الأربعة آلاف مليون سنة(3,8 بليون سنة)، بينما أقدم أثر للإنسان لا يرجع لأكثر من مائة ألف سنة مضت، مما يؤكد أن الأرض قد عُمِّرت بمختلف أمم الحياة التي ازدهرت لعدة آلاف من ملايين السنين ولم يكن للإنسان فيها وجود, وهنا تأتي روعة التعبير القرآني: " هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً " ( الإنسان:1).
ثم تذكر السورة الكريمة الإنسان بحقيقة خلقه من نطفة مختلطة من ماءي أبيه وأمه, وهي حقيقة لم تدركها العلوم المكتسبة إلا في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي, وفي ذلك يقول ربنا ـ تبارك وتعالى ـ: " إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً " ( الإنسان:2). و(النطفة الأمشاج) ـ أي المختلطة ـ هي اللقيحة المكونة من إخصاب نطفة المرأة ـ البييضة ـ بواسطة نطفة الرجل ـ الحيمن ـ و(الابتلاء) هو الاختبار بالتكاليف حتى يُثبِت الإنسان جدارته بالجنة أو استحقاقه للنار, وقد زوده الله ـ تعالى ـ بملكات الاختيار بين الشكر لله أو الكفر بنعمائه, ومن هذه الملكات العقل والحس والضمير, ولذلك قال ربنا ـ سبحانه وتعالى ـ: " إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً " ( الإنسان:3).
وبعد ذلك تنتقل الآيات إلى إجمال جزاء كلٍ من الكافرين والأبرار المؤمنين فتقول: " إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً . إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورا . عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً " (الإنسان:4 ـ6). و(السلاسل) بها يقاد الكافرون. و( الأغلال) بها يقيدون من أيديهم وتجمع أيديهم بها إلى أعناقهم. و(السعير) النار المستعرة، والآية الكريمة تصور ما سوف ينال الكافرين من مهانة وإذلال في الآخرة. وفي المقابل تتحدث الآيتان التاليتان عن شيء من نعيم الأبرار من المؤمنين بالله, الشاكرين لأنعمه. و(الأبرار) جمع( بَر)، وهو المطيع المتوسع في فعل الخيرات. و(الكافور) في الدنيا هو طيب فيه بياض وبرودة, يستخرج من شجر يحمل نفس الاسم. أما( كافور) الآخرة فهو غيب لا يعلمه إلا الله ـ تعالى ـ وذلك لقول عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: كل ما ذكر في القرآن الكريم مما في الجنة ليس له في الدنيا شبيه إلا في الاسم. وفي وصف جانب من أخلاق المؤمنين الأبرار ووصف شيء من النعيم الذي وعدهم به رب العالمين تقول الآيات في سورة الإنسان:
" يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً . وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً . إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُوراً . إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً " ( الإنسان:7 ـ10). والشر المستطير هو العذاب المنتشر. و(اليوم العبوس القمطرير) هو شديد الهول, عظيم الأمر, تعبس فيه الوجوه، وتقطب الجباه من شدة الخوف من أهواله وتعاظم البلاء فيه. وتعاود الآيات إلى الحديث عن جزاء المؤمنين الأبرار في جنات النعيم فتقول :
" فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ اليَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً . وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً . مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً . وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً . وَيُطَافُ عَلَيْهِم بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا . قَوَارِيرَ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً . وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً . عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً . وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وَلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً . وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً . عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً . َإِنّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً " ( الإنسان:11 ـ22). و(النضرة) هي الحسن والبهجة في الوجوه. و(السرور) ضد الهم، وهو شعور بالرضا والسعادة يدركه القلب. و(الزمهرير) هو شدة البرد, وفي الحديث النبوي الشريف الذي رواه ابن أبي شيبة : " إن هواء الجنة سجسج لا حر ولا برد ". و(السجسج) هو الظل الممتد ما بين الفجر وطلوع الشمس. و( دانية) أي قريبة بمعنى أن الظلال قريبة منهم, مظللة عليهم، وذلك زيادة في تنعيمهم. و" ذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً " أي يسر لهم قطف ثمارها تيسيراً كبيراً بمعنى أن قطف ثمار الجنة جعل لأهلها أمراً ميسوراً في غاية السهولة, وذلك أيضاً من قبيل تكريمهم وتنعيمهم, ومن قبيل هذا التكريم أيضاً أن يطوف عليهم سقاة بأوعية شراب من فضة جعلت شفافة بقدرة الله ـ تعالى ـ حتى يرى ما بداخلها من شراب قدره الساقون تقديراً وفق ما يشتهي الشاربون من أهل الجنة دون أدنى زيادة أو نقصان, وفي ذلك يقول ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: ليس في الجنة شيء إلا أعطيتم في الدنيا شبيهه إلا " قَوَارِيرَ مِن فِضَّةٍ ". و(السلسبيل) هو السلس في الانسياغ, الممتع في المذاق. و(الولدان المخلدون) أي الدائمون على ما هم عليه من النضارة والبهاء, والذين ينبثون في مجالس أهل الجنة حتى ليتصورهم من يراهم من أهلها كأنهم حبات من الدر المنثور. " إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً . وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ " أي هناك في الجنة " نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً " تعظيماً لقدر هذا النعيم, وتعبيراً عن ضخامة الملك الذي يهبه الله ـ تعالى ـ لكل واحد من أهل الجنة." عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ " أي على كل واحد من أهل الجنة ثياب خضراء من السندس، وهو ما رق من الحرير ـ الديباج ـ و(إستبرق) وهو ما غلظ منه ." وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ " أي جعل في أيديهم أساور من فضة حلية لهم. " وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً " أي شراباً بالغاً غاية الطهر. وفوق كل هذا النعيم يسمع أهل الجنة من يردد على مسامعهم قول الحق ـ تبارك وتعالى ـ:" إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً " أي أن هذا النعيم المقيم قد أعد لكم جزاءاً لصالح أعمالكم في الدنيا, وكان سعيكم فيها محموداً عند الله, مرضياً عنه ومقبولاً منه.
وبعد هذه الإفاضة في وصف أهل الجنة والنعيم الذي أعده الله ـ تعالى ـ لهم فيها تتجه الآيات بالخطاب إلى خاتم الأنبياء والمرسلين ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول له فيه ربنا ـ تبارك وتعالى ـ:
" إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ القُرْآنَ تَنزِيلاً . فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً . وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً . وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً "( الإنسان:23 ـ26).
وهذه الأوامر من الله ـ تعالى ـ إلى خاتم أنبيائه ورسله ـ صلى الله عليه وسلم ـ هي أوامر إلى كل مسلم ومسلمة أن يُقبل على كتاب الله تلاوةً وتدبراً ومدارسةً متأنية حتى يفهموا ما فيها من أوامر فيطبقوها, وما فيها من نواه فيجتنبوها, ثم ينطلقوا مبلغين عن الله ورسوله بالكلمة الطيبة، والحجة الواضحة، والمنطق السوي, لا يخرجهم عن ذلك سفه السفهاء من الكفار والمشركين أو من العصاة الضالين التائهين في متاهات الحياة الدنيا.
وعلى الدعاة إلى دين الله أن يصبروا كما صبر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأن يتجنبوا إثم الآثمين, وكفر الكفار والمشركين, وألا يطيعوهم في أمر أبداًً, وأن يداوموا في جميع الأوقات على ذكر الله ـ تعالى ـ وتسبيحه وتمجيده وتنزيهه عن جميع صفات خلفه، وعن كل وصف لا يليق بجلاله، مثل نسبة الشريك، أو الشبيه، أو المنازع، أو الصاحبة والولد لذاته العلية؛ لأن هذه كلها من صفات المخلوقين, والخالق منزه عن جميع صفات خلقه, وعلى المسلمين أن يحافظوا على الصلوات في أوقاتها من الفجر إلى العشاء, وعلى التهجد طويلاً من الليل بنافلة من الصلاة أو الذكر.
وبعد هذا الخطاب الرباني الموجه إلى خاتم الأنبياء والمرسلين ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإلى كل مؤمن به وبرسالته، يتجه الحديث في ختام سورة الإنسان إلى الحديث عن غالبية أهل الأرض من الكفار والمشركين, والظَّلَمَة الطغاة المتجبرين الذين أعمتهم الدنيا ببريقها الزائف, فأنستهم حتمية الآخرة وأهوالها وكروبها حتى يفاجأوا بحقيقتها، فيندموا أشد الندم حين لا يجدي ذلك ولا ينفع, وفي ذلك يقول ربنا ـ تبارك وتعالى ـ: " إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ العَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً . نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً " ( الإنسان:28,27).
و(العاجلة) هي الحياة الدنيا, والتركيز عليها ينسي المُنشغِل بها عن الآخرة وأهوالها. و(شد الأسر) هو إحكام الخلق وإتقانه, وعلى الرغم من ذلك يكفر العباد بخالقهم أو يشركون به أحد خلقه, ويتنكرون لأنعمه ولذلك قال ـ تعالى ـ إنه قادر على استبدالهم بغيرهم إذا شاء.
وتختتم سورة الإنسان بإعلان من الله ـ تعالى ـ بأن الآيات التي اشتملت عليها هذه السورة الكريمة هي موعظة بالغة منه, فمن شاء اتعظ بها واتخذ ما جاء فيها من أسباب الهداية وسيلة يتقرب بها إلى خالقه, ومن شاء أعرض عنها وعما جاء فيها من أسباب الهداية, والإنسان لا يختار شيئا إلا وفق علم الله ـ تعالى ـ وإرادته وهو العليم الحكيم, مع وجود دائرة الإرادة الشخصية لكل فرد من بني آدم يمارس فيها قراره بحرية كاملة وفي ذلك يقول ربنا ـ تبارك اسمه ـ:" إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً . وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً . يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً " ( الإنسان:29 ـ31).
من ركائز العقيدة في سورة الإنسان:
(1) الإيمان بالله ـ تعالى ـ رباً واحداً أحداًً, فرداً صمداًً, هو رب كل شيء ومليكه, وهو خالق الإنسان وخالق كل شيء, الذي خلق الإنسان من نطفة مختلطة من ماءي الأب والأم فجعله سميعاً بصيراً.
(2) اليقين بأن الله ـ تعالى ـ قد وهب الإنسان مطلق الإرادة وحرية الاختيار, وهداه إلى طريق الحق بواسطة الوحي, وترك له أن يختار الشكر لله على نعمائه أو الكفر بها.
(3) التصديق بكل ما جاء بالقرآن الكريم عن الآخرة وأهوالها, وعن الجنة ونعيمها, والنار وجحيمها؛ لأن هذه من الغيوب المطلقة التي لا سبيل للإنسان في الوصول إليها إلا عن طريق وحي السماء.
(4) الإيمان بأن الله ـ تعالى ـ هو الذي نزل القرآن الكريم تنزيلاً على خاتم الأنبياء والمرسلين ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليكون تذكرة وهداية للعالمين في أمر الدين بركائزه الأربع الأساسية ـ العقيدة, والعبادة, والأخلاق, والمعاملات ـ لأن الله ـ تعالى ـ يعلم بعلمه المحيط عجز الإنسان عن الوصول إلى تصورات صحيحة في هذه القضايا بجهده منفرداً مهما أوتي من أسباب الذكاء والفطنة, ولذلك حفظ القرآن الكريم في لغة وحيه إلى أن تقوم الساعة. وقد ترك ربنا ـ جل جلاله ـ الخيار مفتوحاً أمام الإنسان بين الإيمان والكفر، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر, وعلى أساس من هذا الاختيار سيكون المصير في الآخرة إما في الجنة أو في النار.
(5) التصديق بضرورة الصبر على قضاء الله وقدره, وعلى الاجتهاد في عبادته وذكره, وعلى مخالفة الآثمين من الكفار والمشركين مخالفة تامة.
(6) التسليم بأن الله ـ سبحانه وتعالى ـ قادر على إفناء خلقه, وعلى استبدالهم بغيرهم، وأن ذلك على الله يسير.
(7) اليقين بأن الإرادة البشرية داخله في دائرة قدر الله ومشيئته, وهو العليم الحكيم الذي يدخل من يشاء في رحمته, والظالمين أعد لهم عذاباً أليماً.
من القضايا التعبدية في سورة الإنسان:
(1) ضرورة الوفاء بالنذور, والحرص على إطعام المساكين واليتامى والأسرى طلباً لمرضاة الله, وهذا الأمر من الله ـ تعالى ـ يوضح الفارق بين دين سماوي خالص ودين وضعي محرف, ففي الوقت الذي يأمر القرآن الكريم بإطعام الأسير دهس الصهاينة المجرمون آلاف الأسرى المصريين تحت سيور دباباتهم, كما دهست دبابات الأمريكان الغازين لأرض كلٍ من العراق وأفغانستان آلاف المدنيين.
(2) الأمر بالمحافظة على الصلوات المفروضة, وعلى أداء النوافل، ومنها قيام الليل, ومداومة ذكر الله وتسبيحه وتمجيده وتنزيهه عن كل وصف لا يليق بجلاله.
(3) ضرورة الصبر لحكم الله ـ تعالى ـ ولقضائه وقدره, والالتزام بأوامره, واجتناب نواهيه, والقيام بواجب التبليغ عنه وعن رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ والصبر على فجور الكفار والمشركين وصلافتهم وفحشهم, وعلى بذاءة الآثمين وقلة أدبهم, وانعدام حيائهم, والحرص على عدم الانحدار إلى مستوياتهم المنحطة وأساليبهم المتدنية.
من الإشارات الكونية في سورة الإنسان:
(1) تأكيد أن حيناً من الدهر قد انقضى ولم يكن للإنسان وجود يذكر إلا في علم الله ـ تعالى ـ والعلوم المكتسبة تشير إلى أن أقدم أثر للحياة على الأرض يصل إلى نحو الأربعة بلايين من السنين(3.8 بليون سنة)، بينما أقدم أثر للإنسان عليها لا يتعدى المائة ألف سنة.
(2) الإشارة إلى خلق الإنسان من نطفة أمشاج( مختلطة من ماءي الأب والأم)، وهي حقيقة لم تصل إليها العلوم المكتسبة إلا في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي.
(3) تقديم السمع على البصر في هذه الآية التي نحن بصددها, وفي العديد غيرها من آيات القرآن الكريم. والعلوم المكتسبة تثبت تقدم مراكز السمع على مراكز الإبصار في مخ الإنسان, وسبق استخدام حاسة السمع عند كلٍ من الحميل والوليد لحاسة البصر. وكل قضية من هذه القضايا تحتاج إلى معالجة خاصة بها, ولذلك فسوف أركز هنا على النقطة الثانية من القائمة السابقة والمتعلقة بخلق الإنسان من نطفة أمشاج.
من أقوال المفسرين:
في تفسير قوله ـ تعالى ـ: " إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً " ( الإنسان:2).
ذكر ابن كثير ـ رحمه الله ـ ما مختصره: ثم بين ذلك فقال جل جلاله" إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ " أي أخلاط, والمَشِجُ والمَشِيجُ, الشيء المختلط بعضه في بعض. قال ابن عباس: يعني ماء الرجل وماء المرأة إذا اجتمعا واختلطا, ثم ينتقل بعد من طور إلى طور, وحال إلى حال. وقال عكرمة ومجاهد: الأمشاج هو اختلاط ماء الرجل بماء المرأة, وقوله ـ تعالى ـ: " نَّبْتَلِيهِ " أي نختبره، كقوله ـ جل جلاله ـ: " لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً " (الملك:2). " فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً " أي جعلنا له سمعاً وبصراً يتمكن بهما من الطاعة والمعصية. (انتهى قول المفسر)
وجاء في تفسير الجلالين ـ رحم الله كاتبيه ـ ما نصه: " إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ " الجنس ." مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ " أخلاط أي: من ماء الرجل وماء المرأة المختلطين الممتزجين ." نَّبْتَلِيهِ " نختبره بالتكليف, والجملة مستأنفة, أو حال مقدرة أي: مريدين ابتلاءه حين تأهله . " فَجَعَلْنَاهُ " بسبب ذلك" سَمِيعاً بَصِيراً " (انتهى قول المفسر)
*وذكر صاحب صفوة البيان لمعاني القرآن ـ رحمة الله ، ما نصه:" من نطفة " من مني, وهو ماء الرجل وماء المرأة, ممتزج أحدهما بالآخر, كما قال ـ تعالى ـ :" أمشاج " أي أخلاط بمعنى مختلط ممتزج من الماءين, أو من عناصر شتى . يقال: مَشَجَ بينهما ـ من باب ضَرَبَ ـ خلط ومزج، وهو جمع مُشَج كَسُبَت, أو مَشِج كَكَتِف, أو مشيج كنصير. وقيل: مختلطة. وأمشاج مفرد جاء على أفعال كأعشار في قولهم: برمة أعشار, أي متكسرة. " نَّبْتَلِيهِ " مبتلين له, أي مريدين ابتلاءه واختباره بالتكاليف حتى يتأهل لذلك. " فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً " ليتمكن من الاستماع للآيات التنزيلية, والنظر في الآيات التكوينية. (انتهى قول المفسر)
وجاء في الظلال ـ رحم الله كاتبها برحمته الواسعة جزاء ما قدم ـ ما نصه: .. والأمشاج: الأخلاط. وربما كانت هذه إشارة إلى تكون النطفة من خلية الذكر وبويضة الأنثى بعد التلقيح. وربما كانت هذه الأخلاط تعني الوراثات الكامنة في النطفة, والتي يمثلها ما يسمونه علمياً( الجينات)، وهي وحدات الوراثة الحاملة للصفات المميزة لجنس الإنسان أولاً ولصفات الجنين العائلية أخيراًً, وإليها يعزى سير النطفة الإنسانية في رحلتها لتكوين جنين إنسان لا جنين أي حيوان آخر, كما تعزى إليها وراثة الصفات الخاصة في الأسرة، ولعلها هي هذه الأمشاج المختلطة من وراثات شتى، خلقته يد القدرة هكذا من نطفة أمشاج, لا عبثاً ولا جزافاً ولا تسلية, ولكنه خلق ليُبتَلَى ويمتحن ويختبر، والله ـ سبحانه ـ يعلم ما هو، وما اختباره، وما ثمرة اختباره، ولكن المراد أن يظهر ذلك على مسرح الوجود, وأن تترتب عليه آثاره المقدرة في كيان الوجود, وأن تتبعه آثاره المقدرة, وأن يجزي وفق ما يظهر من نتائج ابتلائه،ومن ثم جعله سميعاً بصيراًً, أي زوده بوسائل الإدراك ليستطيع التلقي والاستجابة, وليدرك الأشياء والقيم ويحكم عليها ويختار ويجتاز الابتلاء وفق ما يختار، وإذن فإن إرادة الله في امتداد هذا الجنس وتكرر أفراده بالوسيلة التي قدرها, وهي خلقته من نطفة أمشاج كانت وراءها حكمة, وكان وراءها قصد, ولم تكن قلقه، كان وراءها ابتلاء هذا الكائن واختباره, ومن ثم وُهِبَ الاستعداد للتلقي والاستجابة, والمعرفة والاختيار، وكان كل شيء في خلقه وتزويده بالمدارك وابتلائه في الحياة بمقدار. (انتهى قول المفسر)
وذكر أصحاب المنتخب في تفسير القرآن الكريم ـ جزاهم الله خيراًً ـ ما نصه: إنا خلقنا الإنسان من نطفة ذات عناصر شتى, مختبرين له بالتكاليف فيما بعد, فجعلناه ذا سمع وذا بصر ليسمع الآيات وير الدلائل. (انتهى قول المفسر)
وجاء في صفوة التفاسير ـ جزى الله كاتبه خيراً ـ ما نصه: " إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ " أي نحن بقدرتنا خلقنا هذا الإنسان من ماء مهين ـ وهو المني ـ الذي ينطف من صلب الرجل, ويختلط بماء المرأة ـ البويضة الأنثوية ـ فيتكون منهما هذا المخلوق العجيب. قال ابن عباس:" أَمْشَاجٍ " يعني أخلاط, وهو ماء الرجل وماء المرأة إذا اجتمعا واختلطا, ثم ينتقل بعد من طور إلى طور, ومن حال إلى حال. " نَّبْتَلِيهِ " أي لنختبره بالتكاليف الشرعية, والأوامر الإلهية, لننظر أيشكر أم يكفر؟ وهل يستقيم في سيره أم ينحرف ويزيغ؟. " فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً " أي فجعلناه من أجل ذلك عاقلاً مميزاً, ذا سمع وبصر, ليسمع الآيات التنزيلية, ويبصر الدلائل الكونية على وجود الخالق الحكيم. قال الإمام الفخر: أعطاه ـ تعالى ـ ما يصح معه الابتلاء وهو السمع والبصر, وهما كنايتان عن الفهم والتمييز, كما قال ـ تعالى ـ حاكياً عن سؤال إبراهيم لأبيه:" لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ " (مريم:42)؟, وقد يراد بهما الحاستان المعروفتان, وخصهما بالذكر لأنهما أعظم الحواس وأشرفها. (انتهى قول المفسر)
من الدلالات العلمية للآية الكريمة:
على الرغم من أن قضية تكون الأجنة قد شغلت بال الإنسان منذ أن وطأت قدماه سطح الأرض، إلا أن العلوم المكتسبة لم تصل إلى معرفة دور كلٍ من نطفة الرجل ـ الحيمن ـ ونطفة المرأة ـ البييضة ـ في ذلك التكون إلا في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي, وبعد مجاهدة استغرقت عشرات القرون ومئات من العلماء, ومن هنا فإن الإشارة القرآنية إلى خلق الإنسان من نطفة أمشاج ـ أي مختلطة ـ وفي أوائل القرن السابع الميلادي يعتبر سبقاً علمياً يشهد للقرآن الكريم بأنه لا يمكن أن يكون صناعة بشرية, بل هو كلام الله الخالق الذي أنزله بعلمه على خاتم أنبيائه ورسله, كما يشهد للنبي والرسول الخاتم الذي تلقاه بالنبوة وبالرسالة، ويشهد له بذلك ما رواه عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ حيث قال: مر يهودي برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو يحدث أصحابه فقالت قريش: يا يهودي إن هذا يزعم أنه نبي. فقال: لأسألنه عن شيء لا يعلمه إلا نبي. قال فجاء حتى جلس ثم قال: يا محمد ممن يخلق الإنسان؟، فقال رسول الله ـ صلى عليه وسلم ـ: يا يهودي من كلٍ يخلق، من نطفة الرجل ومن نطفة المرأة. "( مسند الإمام أحمد بن حنبل)، والحديث مذكرة تفسيرية واضحة الدلالة للآية القرآنية الكريمة التي نحن بصددها وذلك لأن مصطلح( النطفة) كما يطلق على الحيمن يطلق على البييضة, ومصطلح النطفة( الأمشاج) ـ أي المختلطة ـ يطلق على اتحاد هاتين النطفتين وتكوين النطفة المخصبة التي تعرف باسم اللقيحة (Fertilized Ovumor Zygote) التي تستمر في الانقسام حتى تنغرس في بطانة جدار الرحم، فتعرف حينئذ باسم الأرومة الجرثومية المنغرسة(Implanted Blastula)، أو مرحلة العلقة (Leech`likestage) .
والنطفة لغةً هي الماء الصافي قلَّ أو كَثُرَ, والجمع( نِطَاف) و(نُطُف), ويعبر بها عن ماء التكاثر ـ التناسل ـ ويُكنَّى عن اللؤلؤة بـ( النطفة), وليلة( نَطُوف) يجيء فيها المطر حتى الصباح, و(الناطف) السائل من المائعات, ويقال: فلان( ميطف) المعروف أي يندى به, و(النطف) الدلو واحدته( نطفة), و(نطفان) الماء سيلانه, وقد( نَطَفَ)( يَنْطُِف)( بضم الطاء وكسرها) أي يسيل. يقال:( نَطَفَت) آذان الماشية و(تَنَطَّفَت) أي: ابتلت بالماء فقطرت.
وأخرج الإمام أحمد عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: كنا جلوساً مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: " يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة ", فطلع رجل من الأنصار تُنْطُفُ لحيته من وضوئه.
استعراض تاريخي لتطور علم الأجنة:
ما من شك في أن قضية تكون الأجنة قد شغلت بال الإنسان منذ اللحظات الأولى لوجوده, وحاول تفسيرها بتصورات متعددة وجدت إشارات إليها في معظم الحضارات القديمة, كما دوَّنت محاولات لمنع الحمل في الحضارة المصرية القديمة يعود تاريخها إلى حوالي(2000) سنة قبل الميلاد.
وفي الحضارة الهندية القديمة وجدت إشارات إلى كيفية تكون الجنين يعود تاريخها إلى(1416) سنة قبل الميلاد, ويعزى ذلك إلى اختلاط دم حيض المرأة بماء الرجل.
وفي الحضارة اليونانية القديمة كتب أبو قراط(Hippocrates) الذي عاش في الفترة من حوالي(460) ق. م إلى (377) ق. م عن تكون أجنة الدجاج وشبه ذلك بتكون أجنة الإنسان.
وخلفه أرسطو(Aristotle) الذي عاش في الفترة من حوالي(384) ق. م. إلى(322) ق. م. ونادى بتكون الجنين من كتلة غير مشكلة من بذرة وروح مغذية، وبأن جميع الأعضاء تنتج من دم الحيض عند اختلاطه بماء الرجل.
أما جالين(Galen) الذي عاش في حوالي(130 م إلى 201 م)، فقد كتب كتاباً عن تكون الجنين وصف فيه كلاً مما يعرف اليوم باسم المشيمة, والغشاء المشيمي, وغشاء السلي ـ الرحل ـ ولم يدون شيء يذكر عن تكون الجنين في الفترة من القرن الثالث إلى القرن السادس عشر الميلاديين، وإن كانت هناك بعض المحاولات البدائية في العصور الوسطى لا نعرف منها سوى أعمال قسطنطين الأفريقي (Constantinus Africanus) الذي عاش في الفترة من(1020 م إلى1087 م)، وكتب كتاباً باللاتينية بعنوان " طبيعة الإنسان " (De Humana Natura) اعتمد فيه على كثير من المراجع العربية والرومانية واليونانية, وحاول فيه الربط بين تطور الجنين في مراحله المتتابعة وبين الكواكب التي تظهر في الأفق مع كل شهر من أشهر الحمل.
أما في عصر النهضة فقد كتب في موضوع تكون الأجنة كثيرون، كان منهم ليوناردو دافنشي(Leonardo da Vinci) الذي عاش في القرن الخامس عشر الميلادي، والذي رسم أشكالاً عديدة للرحم أثناء الحمل, وقام بقياسات لحجم الجنين في المراحل السابقة على ولادته.
وكان منهم فابريشيوس (Fabricius) الذي عاش في الفترة( من1537 م إلى1619 م)، وكتب موسوعتين في علم الأجنة, وقدم رسوماً للجنين في عدد من مراحله, وكان منهم وليام هارفي
(William Harvey) الذي عاش في الفترة( من1578 م إلى1657 م)، ونُشِرَ في سنة(1651 م) كتاباً بعنوان التخلق الحيواني (Gdeneratione Animalium) اعتمد فيه على كثير من المراجع العربية، واقترح أن بذرة الرجل ـ الحيمن ـ إذا دخلت الرحم تحولت إلى ما يشبه البيضة التي ينتج منها الجنين. ولما عجز عن رؤية مراحل ذلك اقترح أن الأجنة تفرزها أرحام الإناث.
وكان تصميم المجهر في سنة(1609 م) بواسطة الهولندي(Z .Janssen) فتحاً في مجال العلوم المكتسبة ـ بصفة عامة ـ وفي مجال علم الأجنة ـ بصفة خاصة ـ والمجاهر الأولى كانت بدائية للغاية، إلا أنها قد ساعدت الكثيرين من أمثال دي جراف (De Graaf) في سنة(1672 م) على اكتشاف جريب البييضة دون أن يعرف ماهيته, ولكنه يسمى اليوم باسمه (Graafian Follicle), وساعدت مالبيجي (Malpighi) في سنة(1675 م) على رؤية بعض مراحل الأجنة في بيض الدجاج المخصب, وظن أن البيضة تحتوي فرخاً كامل النمو في هيئة متقزمة.
وفي سنة(1677 م) تمكن كلٌ من هام(Hamm) وليوفينهويك (Leeuwenhoek) من اكتشاف نطفة الرجل ـ الحيمن ـ وذلك باستخدام مجهر محسن, وذلك دون معرفة دوره في عملية تكوين الجنين, ظناً منهما بأن رأس الحيمن يحتوي إنساناً كامل النمو في هيئة متقزمة جداً ينمو إلى حجم الحميل في رحم الأم.
وظلت هذه الخرافة سائدة بين علماء الأجنة حتى رفضها العالم الألماني وولف
(Casper Friedrich Wolff) في سنة(1759 م)، والذي اقترح نظرية التآصل الفوقي أو السطحي(Epigenesis)، والتي تنادي بأن نمو الجنين يتم بواسطة نمو وتمايز خلايا خاصة.
وعلى الرغم من ذلك بقيت خرافة الإنسان السابق التكوين والتقزم في رأس الحيمن سائدة حتى سنة(1775 م), حتى ألغاها سباللنزاني(Spallanzani) الذي أثبت أن الجنين يتكون عن طريق إخصاب البييضة بواسطة الحيمن.
في سنة(1817 م) اكتشف العالم الألماني باندر(Heinrich Christian Pander) الطبقات الثلاث من الخلايا الجرثومية(Germcells) التي تنتج عن انقسام النطفة الأمشاج أو اللقيحة(Zygote).
وفي سنة(1827 م) وصف فون باير(Von Baer) الخلية البيضية(Oocyte)، وذلك بعد مائة وخمسين عاماً من اكتشاف الحيمن(Sperm), ولاحظ عملية انقسام اللقيحة(Zygote) , وتعرف على كيفية تكون الأنسجة والأعضاء المختلفة، وإلى هذا التاريخ لم يكن معروفاً أن كلاً من الحيمن والبييضة من خلايا الجسم حتى تقدم كلٌ من شليدن (Schleiden) وشفان (Schwann) بنظرية الخلية(The cell theory) في سنة(1839 م).
من هذا الاستعراض يتضح سبق القرآن الكريم لجميع المعارف المكتسبة في التأكيد على أن الإنسان يخلق من كلٍ من ماء الرجل وماء المرأة ـ النطفة الأمشاج أي المختلطة ـ وذلك بأكثر من اثني عشر قرناً, ولا يمكن لعاقل أن يتخيل مصدراً لهذا العلم في القرن السابع الميلادي غير الله الخالق، مما يشهد للقرآن الكريم بأنه لا يمكن أن يكون صناعة بشرية, بل هو كلام الله الخالق الذي أنزله بعلمه على خاتم أنبيائه ورسله, وحفظه بعهده الذي قطعه على ذاته العلية في نفس لغة وحيه ـ اللغة العربية ـ وحفظه حفظاً كاملاًً : كلمة كلمة, وحرفاً حرفاً على مدى الأربعة عشر قرناً الماضية وإلى أن يشاء الله.
فالحمد لله على نعمة الإسلام, والحمد لله على نعمة القرآن الذي حفظه الله ـ سبحانه وتعالى ـ ليبقى حجة على جميع الناس إلى يوم الدين, والحمد لله على بعثة خاتم الأنبياء والمرسلين الذي بعثه الله ـ تعالى ـ رحمة للعالمين, فختم ببعثته النبوات, وأتم الرسالات, ونشر نور الهداية في الأرض، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، ونسأل الله أن يجزيه خير ما جازى به نبياً عن أمته, وصلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه، ومن تبع هداه، ودعا بدعوته إلى يوم الدين. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
معلومات الموضوع
الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
المواضيع المتشابهه
-
بواسطة طالب عفو ربي في المنتدى منتديات الدكتور / زغلول النجار
مشاركات: 0
آخر مشاركة: 26-12-2009, 01:11 PM
-
بواسطة طالب عفو ربي في المنتدى منتديات الدكتور / زغلول النجار
مشاركات: 0
آخر مشاركة: 26-12-2009, 01:10 PM
-
بواسطة طالب عفو ربي في المنتدى منتديات الدكتور / زغلول النجار
مشاركات: 0
آخر مشاركة: 26-12-2009, 01:08 PM
-
بواسطة طالب عفو ربي في المنتدى منتديات الدكتور / زغلول النجار
مشاركات: 0
آخر مشاركة: 26-12-2009, 01:07 PM
-
بواسطة طالب عفو ربي في المنتدى منتديات الدكتور / زغلول النجار
مشاركات: 0
آخر مشاركة: 20-12-2009, 10:48 PM
الكلمات الدلالية لهذا الموضوع
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى
المفضلات