هذا عن التزوير والتلفيق فى حياة القمنى. أماعن مستواه العلمى فأقول: كان لدىّ منذ عقد من الزمان تقريبا طالب دراسات عليا يحضّر معى أطروحة عن أحد شعراء بنى أمية، ولاحظت أنه ينقل كلاما عن بعض الكتب دون أن يكون للكلام معنى أو منطق. وعبثا حاولت أن أَثْنِيَه عن هذه الخطة الغبية فكنت أخفق فى كل مرة، إذ كلما صححت له شيئا من هذا القبيل عاد فاقترف شيئا شبيها له فى موضوع آخر. والسبب هو حماقته وقلة عقله وتصوره أن كل مهمته هى النقل عن الكتب التى تصادفه دون قانون أو أساس يرتكن إليه. وكان سهلا على أى ملاحظ أن يربط بين ذلك وبين حجم دماغه، إذ كان أَصْعَل كرأس النعامة. واعتمادا على المؤلفات الخاصة بما يسمى بـ"النقد الأسطورى"، الذى كان رائجا منذ عدة عقود رواجا أحمق كأية صرعة سخيفة يقلدها المماسيخ عندنا ممن لا شخصية لهم ولا مقدرة على تمييز الخبيث من الطيب ولا اللغو من القصد والذى كان يزعم منتهجوه أن العرب قبل الإسلام كانوا يقدسون الملوك والكواهن والنساء والثور الوحشى ولا أدرى ماذا أيضا، كتب اللوذعى الأصعل أن العرب كانوا يقدسون الناقة ويعبدونها، وكرر ذلك مرات حتى باخ الأمر وضاق صدرى من جرائه، فسألته: وأين يا بنىّ الدليل على أنهم كانوا يعبدون الناقة؟ فجاءت إجابته صاعقة، إذ قال: الدليل هو أنهم كانوا يركبونها. فقلت له ضاحكا: الله أكبر على هذا العلم اللدنى الذى لم يؤتَه أحد فى الأولين، ولا أظن أحدا سيؤتاه أيضا فى الآخِرين!
تذكرت هذا وأنا أقرأ بعض ما كتب القمنى (الدكتور المزيف الذى يذكرنا بحلاق الصحة أيام زمان حين كان يتصدى لمحاولة علاج الناس من كل الأمراض ويزعم أنه "دكتور"، والذى حصل على درجة الليسانس بتقدير "مقبول"!)، إذ وجدته ينقل كصاحبنا الأصعل من الكتب دون فهم ولا عقل، وهذا إن كان هو صاحب تلك الأفكار ولم يلقَّنْها تلقينا ليرددها على الورق كما حفّظوها له، فأنا كثير الشك فى أن يكون هو صاحب تلك الأفكار كما شككت من قبل فى الهالك خليل عبد الكريم، الذى كان "يُوَنِّج" معه فيكتبان الكلام الماسخ ذاته ويرددان الأفكار السخيفة المسيئة للإسلام ذاتها كأنهما الصوت والصدى، مع اختلاف الأسلوب فقط، ذلك الأسلوب المفعم بالأخطاء الفاحشة فى الحالتين حين لا يكون هناك مراجع لغوى، وأرى أن هناك جهة واحدة تمدهما بالأفكار والأطروحات التى تخدم هدفا بعينه فى حلبة الصراع الثقافى المراد منه طعن الإسلام فى مقتل، فضلا عن تقارضهما الثناء أيضا، وبطريقة ممجوجة بل مُقَيّئة.
وللقمنى هذا كتاب بعنوان "الحزب الهاشمي وتأسيس الدولة الإسلامية"، وهو لا يختلف فى شىء ذى بال عما قاله خليل عبد الكريم فى الكتاب الذى يحمل اسم "قريش من القبيلة إلى الدولة المركزية". فهما يزعمان أن أجداد الرسول، وبالذات جده المباشر عبد المطلب بن هاشم، كانوا يعملون على إشاء دولة تحمل اسمهم، وأنهم توسلوا إلى ذلك باستغلال وسيلة الدين وأن تحقق هذا المطمح قد تم على يد محمد، الذى لم يكن نبيا ولا خلافه، بل مجرد رجل من بنى هاشم تنبه إلى مطامع عشيرته فى السلطان والحكومة فاستخدم كل وسيلة ممكنة لتحقيقها، ونجح أخيرا فيما كانوا يضعون الخطط من أجله طوال تلك الأجيال. ومن الواضح أنه هو والقمنى ينزعان عن قوس واحدة ويرددان كلام جهة واحدة، ولهذا نراهما يتقارضان الثناء ويصف كلاهما الآخر بأنه كذا وكذا فى عالم البحث والتأليف مما أفضتُ فيه القول فى كتابى عن عبد الكريم: "اليسار الإسلامى وتطاولاته المفضوحة على الله والرسول والصحابة"، وهو الكتاب الذى بينت فيه بالأدلة الموثقة تهافت الكلام المنسوب لعبد الكريم فى الكتب التى تحمل اسمه وسخفه وزيفه وبطلانه، وأحيل القارئ عليه إذا أراد أن يعرف وزن ما يقوله القمنى فى كتابه الذى معنا الآن.
وظاهرة أخذ أفكار الآخرين سرقةً أو عن طريق التراضى بين الآخذ والمأخوذ منه، بل أحيانا بأمر المأخوذ منه للآخذ أن يأخذ ما يكتبه وينشره باسمه، هى ظاهرة معروفة. وخليل عبد الكريم قد أخذ كتاب أبى موسى الحريرى: "قَسّ ونبىّ" ولفق منه كتابه هو: "فترة التكوين" حسبما وضحت بالأدلة القاطعة التى لا تقبل نقضا ولا إبراما فى كتابى: "لكن محمدا لا بواكى له". كما أمدته بعض الجهات بمضمون كتابَىِ كلير تسدال (C. Tisdall): وجون بلير (J. C. Blair) المسمى كل منهما بـ"The Sources of Islam: مصادر الإسلام" كى يصنع كتابه: "جذور الشريعة الإسلامية". وبالمناسبة فثم صفحات لصمويل زويمر المبشر الأمريكى المعروف حول الموضوع ذاته يجدها القارئ فى كتابه: "Arabia- The Cradle of Islam". كما تناول إدوار مونتيه المستشرق السويسرى هذه المسألة فى مقدمة ترجمته الفرنسية للقرآن المجيد التى صدرت فى أواخر العقد الثالث من القرن المنصرم. ولمن يود من القراء الاطلاع على تلك المقدمة أن يعود إلى الفصل الثانى من الباب الثانى من كتابى: "المستشرقون والقرآن"، ففيه ترجمة لها. كذلك لابن وراق كتاب فى نفس الموضوع ويتغيا نفس الغاية عنوانه: "The Origins of Islam: أصول الإسلام"، وإن كان قد ظهر لاحقا.
وقد ظل عبد الكريم، إلى أن بلغ مبلغ الشيوخ، شخصا خاملا لم يكتب كلمة واحدة فى العلم ولم يسمع به إنسان، ثم فجأة أصبح مؤلفا لعدد من الكتب كلها مضروبة، أى مسروقة، وكلها فى التطاول على الله والرسول والصحابة والتشكيك فى الإسلام والسخرية منه ومن المسلمين وتاريخهم وحضارتهم، مثل القمنى سواء بسواء، بالإضافة إلى أنهما قد ظهرا فى نفس التاريخ. والقمنى لا صلة بينه وبين كتب التراث، وبخاصة فى مجال الإسلاميات. وكثير من الكتب التى يشير إليها فى المؤلفات التى تحمل اسمه لا يعرفها إلا "المدعبسون" من المستشرقين ذوى الأنياب الزرقاء، علاوة على أنه يسوق لنا فى كثير من الأحيان عددا من المصادر والمراجع الإنجليزية والفرنسية والألمانية يريد أن يوهمنا أنه "ولد مقطّع السمكة وذيلها" فى معرفة اللغات الأوربية، على حين أنه فى هذا الميدان مسكين مسكين مسكين. فمن أين للقمنى بهذا النوع من الكتب أو ذاك، وهو المحدود الثقافة؟ ثم إنه قد اتضح تماما أن الدكتورية التى يطنطن بها ويزعم على أساسها أنه أستاذ بالجامعات المصرية، وكأن الجامعات المصرية تلمّ، هى شهادة مزورة ملفقة مشتراة بمائتى دولار. يا بلاش! فهل يجوز أن نصدق شيئا يقوله هذا الشخص؟
ومن هذا الضرب من الكتب التى يغض صاحبها الأصلى الطرف عن الآخذ، إن لم يشجعه ويبتهج بما فعل، مقال ديفيد صمويل مرجليوث المستشرق البريطانى المضرَّس: "The Origins of Arabic Poetry"، الذى سطا عليه طه حسين وعمل منه كتابه: "فى الشعر الجاهلى"، فقام مرجليوث يدافع عن سيادة "عميد الأدب العربى"، الذى كان لا يزال حِصْرِمًا لم يتزبَّب بعد أو يحصل على لقب العمادة الميمون، قائلا إن البحثين قد ظهرا فى وقت واحد تقريبا، فكيف يسطو طه على كتابى، ولم يكن قد رآه؟ وهو ما استفزنى لما يتضمنه من كذب قارح فألفت كتابى: "معركة الشعر الجاهلى بين الرافعى وطه حسين" وأهويت على جلده السميك بالسياط العلمية، مسميا إيا بـ"الكَيْذُبان"، ومستغربا أن يتنازل بكل هذه البساطة صاحبُ نظريةٍ مثل نظريته عن ملكيتها، وعَهْدُنا بكل باحث أن يحرص على نسبة الريادة لنفسه فى كل شىء يتوصل قبل غيره له حتى لو كانت عطسة، فما بالنا بنظرية كهذه تريد أن تقلب أمر الشعر الجاهلى كله رأسا على عقب، إذ تزعم أنه لم يكن لذلك الشعر وجود بالمرة، بل لم يعرف العرب الشعر أصلا إلا فى العصر الأموى، إلى جانب أن المدة الزمنية التى تفصل بين ظهور البحثين هى عشرة أشهر، وأن مقال مرجليوث قد وصل مصر قبل صدور كتاب طه حسين بشهور طوال قرأته الدوائر العلمية فى مصر أثناءها وعرفت جيدا بما فيه، ومنهم تلميذ طه حسين فى كلية الآداب فى ذلك الوقت: محمود شاكر، وأحمد تيمور باشا ويعقوب صروف ومصطفى صادق الرافعى على سبيل المثال، وأن طه حسين كان صديقا للمستشرقين وكان الذين يحاضرون منهم فى الجامعة المصرية آنئذ يجتمعون فى منزله كل أسبوع على الأقل؟
ومن تلك الكتب أيضا ذلك الكتاب الـمَعْزُوّ إلى الشيخ على عبد الرازق بعنوان "الإسلام وأصول الحكم"، إذ يشكك علماءُ أجلاءُ فى تلك النسبة ويؤكدون أنه من صنع يد المستشرقين. ويمكن الرجوع مثلا إلى كتاب د. ضياء الدين الريس رحمه الله فى هذا الموضوع: "الإسلام والخلافة في العصر الحديث" حيث يشك الأستاذ الدكتور فى أن يكون عبد الرازق هو مؤلف الكتاب الفعلى، ويؤكد أنه لم يُعْرَف عن الشيخ قط أنه كان باحثا أو مفكرا أو سياسيّا أو مشتغلا بالسياسة، لأنه إنما تلقى ثقافته بالأزهر، ولم ينتج غير مذكرة أو كتيب في علم البيان، ثم لم يضع مؤلفا آخر أو بحثا في السياسة بعد صدور الكتاب الذي كان شيئا شاذّا بالنسبة لسيرة حياته.
وحتى لا أشتت ذهن القارئ أكتفى بشاهد آخر من هذه الشواهد المنتنة، فنحن المتخصصين فى الدراسات العربية والإسلامية نعرف جيدا اسم المستشرق الإيطالى الأمير كايتانى صاحب كتاب "حوليات الإسلام"، إذ لاسمه شنة ورنة لا يتمتع بهما سوى قلة بين المستشرقين. إلا أن هذا الأمير المستشرق صاحب الشنة والرنة قد اتُّهِم بأنه ليس مؤلف ذلك الكتاب، بل مجموعة من المستعربين الإيطاليين على رأسهم ليفى دى لا فيدا. وقد كتب د. عبدالرحمن بدوى فى هذه المسألة ذاكرا أنه كانت هناك قضية فى هذا الشأن نُظِرَتْ أمام المحاكم الإيطالية وحضرها الكتاب الأصليون بوصفهم شهودا حيث اعترف دى لافيدا ببعض مشاركاته فى الكتاب المذكور، ولم يصرح بكل شىء إبقاء على سمعة أستاذه (انظر د. عبدالرحمن بدوى/ دفاع عن محمد صلى الله عليه وسلم ضد المنتقصين من قدره/ ترجمة كمال جاد الله/ الدار العالمية للكتب والنشر/ 96).
وفى كتاب صمويل زويمر: "Arabia- The Cradle of Islam" شىء يذكرنا بما قاله القمنى فى الكتاب الذى بين أيدينا، وإن لم يذهب بعيدا كما ذهب القمنى، إذ عزا زويمر نجاح محمد فى أمره لا إلى أنه نبى، بل إلى عبقريته، التى استفادت مما قدمه الحنفاء فكريا، ومن وضع أسرته الأرستقراطى ومكانة جده عبد المطلب من الناحية السياسية. وها هو ذا نص ما كتبه الرجل فى أصله الإنجليزى:
"Mohammed was a prophet without miracles but not without genius. Whatever we may deny him we can never deny that
he was a great man with great talents. But he was not a self¬ made man. His environment accounts in a large measure for his might and for his method in becoming a religious leader.
There was first of all the political factor. "The year of the elephant" had seen the defeat of the Christian hosts of Yemen who came to attack the Kaaba. This victory was to the young and ardent mind of Mohammed prophetic of the political future of Mecca and no doubt his ambition assigned himself the chief place in the coming conflict of Arabia against the Roman and Persian oppressors.
Next came the religious factor. The times were ripe for re¬ ligious leadership and Mecca was already the centre of a new movement. The Hanifs had rejected the old idolatry and en¬tertained the hope that a prophet would arise from among them.1 There was material of all sorts at hand to furnish the platform of a new faith; it only required the builder's eye to
call cosmos out of chaos. To succeed in doing this it would be necessary to reject material also; a comprehensive religion and a compromising religion, so as to suit Jew and Christian and idolater alike.
Then there was the family factor, or, in other words, the aristocratic standing of Mohammed. He was not a mere "camel-driver." The Koreish were the ruling clan of Mecca; Mecca was even then the centre for all Arabia; and Moham¬ med's grandfather, Abd el Muttalib, was the most influential
and powerful man of that aristocratic city. The pet-child of Abd el Muttalib was the orphan boy Mohammed. Until his eighth year he was under the shelter and favor of this chief man of the Koreish. He learned what it was to be lordly and to exercise power, and never forgot it. The man, his wife and his training were the determinative factors in the character of Mohammed. The ruling factor was the mind and genius of the man himself".
يتبع...
المفضلات