د. إبراهيم عوض
Ibrahim_awad9@yahoo.com
http://awad.phpnet.us/
بغتة وعلى غير انتظار اصطدمتُ فى المواقع والمنتديات النصرانية المهجرية بكتاب اسمه: "محنتى مع القرآن" مطبوع على غلافه أنه منشور فى دمنهور سنة 2004م وأن مؤلفه دكتور مصرى اسمه عباس عبد النور وأنه من الكتب الممنوعة من التداول. وكانت نبرة الفرح والشماتة واضحة بل صارخة فى تلك المنتديات والمواقع على اعتبار أن صاحب الكتاب عالم دينى مسلم انقلب على الإسلام وأعلن تبرؤه منه وكُفْرَه به، وأخذ يهاجمه ويهاجم الكتاب الذى نزل على نبيه مؤكدا أنه لم ينزل من السماء، وليس ثمة إله ولا يحزنون. ولقد نزّلتُ الكتاب فى التو واللحظة على جهازى وشرعت أقرأ فيه قليلا قليلا فى بعض أيام رمضان المبارك رغم انشغالى ببعض الأعمال الشديدة الأهمية. وكنت أدوّن ما يعنّ لى من ملاحظات على ما فى الكتاب كلما قرأت شيئا يستدعى ذلك.
وأول ما عن لى من تلك الملاحظات هو: هل هناك شخص حقيقى باسم عباس عبد النور؟ فأين هو؟ وما الذى يعرفه الناس عنه فى مصر، وفى دمنهور على وجه الخصوص بوصفها المدينة التى كان يعيش فيها وتعيش فيها أسرته من قبل جيلا وراء جيل، تُخَرِّج كبار علماء الدين ومشايخ الطرق؟ لقد جَشَّمْتُ صديقا لى أن يتقصى هذا الأمر فاتصل ببعض معارفه فى دمنهور فنَفَوْا أن يكون فى مدينتهم أسرة بهذا اللقب أو شخص بهذه الصفات. بل إن الإنسان ليتساءل حائرا: ترى هل لقب "عبد النور" شائع بين المسلمين المصريين؟ لقد رحت أكد ذهنى وأعصر ذاكرتى لعلى أستطيع أن أتذكر شخصا أعرفه أو سمعت به أو قرأت عنه يحمل هذا اللقب فلم يتيسر لى رغم ما بذلت من جهد جهيد. ونفس الإجابة سمعتها من كل من استطلعت رأيهم فى ذلك الموضوع. كل ما استطعنا أن نستحضره فى بالنا هو لقب "أبو النور"، أما "عبد النور" فكلا وألف كلا.
ثم إن المروجين للكتاب، ومعهم كاتب مقدمته، يذكرون للمؤلف دواوين شعرية وكتبا فى الفلسفة والدين وتفسير القرآن، ويصفونه بما يفيد أنه كان خطيبًا مِصْقَعًا، وهو ما يعنى أنه كان مشهورا بعيد الصيت، فكيف غاب عنا عالم وشاعر وخطيب ومؤلف على هذه الشاكلة؟ إننا لا نتذكر من المعروفين أرباب الكلمة من أهل دمنهور سوى د. عبد الوهاب المسيرى، وكذلك عبد المعطى المسيرى، الذى كان صاحب مقهى هناك، والذى لم أقرأ له إلا كتابا واحدا. فإذا كان عباس عبد النور له كل تلك الكتب والأشعار، وكان من الخطباء المفوهين الكبار، وكان فوق ذلك حاصلا على الدكتوراه فى الفلسفة من باريس، فكيف جهلناه وجهله غيرنا فى طول البلاد وعرضها على هذا النحو المخزى؟ أولو كان عبد النور شخصا حقيقيا، وليس شخصا مزيفا كما يقول كل شىء كتبه عنه واضع مقدمة الكتاب وكتبه هو عن نفسه فى دَرْجه، أكنا نجهله ويجهله الناس جميعا إلى هذه الدرجة؟ ترى أين تلك الكتب والدواوين التى ألفها عباس الهلاس؟ ولماذا لم نسمع بشىء منها؟
وعلى ذكر التكية التى يقول كاتب المقدمة إن عباس المحتاس كان مديرا لإحداها فى دمنهور، هل توجد حقا تكية فى دمنهور؟ فأين هى إذن؟ لقد كانت توجد تكية أو أكثر فى القاهرة، لكننا لم نسمع من قبل بوجود تكايا فى عاصمة البحيرة. ولقد قرأت للفنان المصرى التشكيلى عصمت داوستاشى عن تكية فى القاهرة فكر ذات مرة فى اللجوء إلى شيخها (الذى كانت له علاقة بأبيه) ليعيش بعيدا عن بيت الأسرة فى الإسكندرية فرارا من والدته، التى كانت تضيق برسومه وما تسببه لها من إرهاق فى تنظيف ما توسخه من أثاث البيت، وكيف استقل المواصلات حتى بلغ مدينة دمنهور حيث انتابه الخوف من تكملة المشروع، فعاد أدراجه بالقروش القليلة التى تبقت معه إلى الإسكندرية دون أن يشير إلى تلك التكية المزعومة وهو يكتب تلك الذكريات، بل دون أن تخطر فى باله مجرد خطور.
وهذا نص ما كتبه الرسام المعروف عن هذا الموضوع فى كتابه: "ذكريات الأحلام القديمة":"قبل ذلك بثلاث سنوات تقريبا (أى فى عام 1959م) قد حزمت حقيبة الكشافة بمتعلقاتي، وأخذت طريق مصر الاسكندرية الزراعي هدفا لي علي قدمي، حيث قررت أن أهجر أسرتي ومدينتي والدنيا كلها وأن أنعزل في التكية البكتاشية بجبل الجيوشي وأن أمشي بملابس الكشافة التي تحميني من فضول الآخرين لأنه لم يكن معي ما يكفي لركوب القطار، أمشي حتى القاهرة متوجها إلى التكية في جبل المقطم لأعيش هناك مع الدراويش بعيدا عن مشاكل أسرتي وخناقات أمي المتكررة معي لأني أرسم في المنزل، فيتسخ الأثاث وهي لا تتحمل مثل هذه الأمور. أتذكر أني مشيت بضعة كيلومترات حتى توقفت سيارة نقل لأستقلها حتي مدخل مدينة دمنهور فأدخلها مع الليل وينتابني الخوف فأقطع تذكرة رجوع للإسكندرية بما معي من نقود قليلة مؤجلا مشروع دروشتي المبكر إلى وقت آخر لم يأت بعد".
ليس ذلك فحسب، بل لو كانت هناك مثل تلك التكية المزعومة فى دمنهور ما مرت هذه المسألة مرور الكرام ولكان لتلك التكية شأن فى الحياة العامة يشبه، ولو إلى حد ما، شأن التكية التى كانت بالقاهرة على ما يصوره لنا قلم داوستاشى نفسه حين زارها فى بدايات ستينات القرن المنصرم برفقة والده: "كان زي الدراويش مكونا من جلباب يتوسطه حزام عريض كان يوضع فيه فيما مضى بعض الأشياء، وربما أسلحة وعصا البكتاشية. وفوق هذا الجلباب والحزام القماش الملفوف على الوسط ارتديت عباءة خفيفة من القطن صيفا، وثقيلة من الصوف شتاء، ثم ارتديت طربوشا أو عمامة البكتاشية، وهي ذات 12 ضلعا بعدد الأئمة الاثني عشر في المذهب الشيعي، ثم وضعت حول رقبتي قلادة من حجر لامع أشبه بحجر التلك علي شكل نجمة اثنتي عشرية هي الأخرى على ما أتذكر. ولعل التفاصيل بالصور أكثر وضوحا، تبدو فيها الملابس كلها فاتحة من اللون الأبيض الي الرمادي. لم تكن الصور الملونة قد ظهرت بعد ولا أعرف الألوان بدقة. وعليَّ أن أعثر على صور ملونة لبابا سري في تكية المغاوري بملابسه. وأتذكر أن مجلة "آخر ساعة" كانت قد صورته في حياته اليومية بالتكية وهو يتجول في سوق الخضار أو مع ضيوفه. كان شخصية مشهورة في ذلك الوقت، وكانت التكية ملتقي شخصيات عالمية مختلفة: بعضهم ملوك وأمراء، وآخرون سياح ومستشرقون، ونجوم السينما والسياسة والمجتمع في مصر. في ذلك الوقت من عام 1962 كنت أبلغ من العمر تسعة عشر عاما مفعما بالحياة والحركة. لم يكن اهتمامي الديني قد نضج، ولم أكن أصلي الا صلاة الجمعة مع أبي في مسجد أبي العباس، ولم يخطر ببالي أن أصبح درويشا، وإن كنت مبهورا بحياتهم خاصة في تكية المغاوري الأسطورية".
ويذكر كاتب مادة "دمنهور" فى موسوعة "الويكيبيديا" المعالم الأثرية التى تتميز بها مدينة دمنهور فيوردها على النحو التالى: "مسجد التوبة ثانى مسجد في أفريقيا بعد مسجد عمرو بن العاص، ومسجد الحبشي بُنِيَ في اوائل القرن العشرين، وهو تحفة معمارية رائعة، وأوبرا دمنهور: بُنيت في عهد الملك فؤاد. تم تجديد دار الاوبرا وترميمها لتعود لشكلها الأول الجميل، ومبنى مكتبة البلدية: بني في عهد الملك فؤاد، ومبنى مدرسة دمنهور الثانوية العسكرية: تحفة معمارية رائعة بنيت في عهد الملك فؤاد، ومبنى دار الاسعاف: بُنِيَ في عهد الملك فؤاد، وبها مستشفى تعليمي، وكوبري فلاقه المتحرك". وكما يرى القارئ ليس هناك أدنى إشارة إلى أية تكية فى تلك المدينة المظلومة مع عباس الهلاس. كذلك لم أجد أدنى إشارة إلى التكية فى موقع مدينة دمنهور أو فى أى موضع آخر على المشباك.
ولقد كتب نجيب محفوظ عن التكية فى أكثر من عمل قصصى له، فكيف لم يحدث أن تحدث عن تكية دمنهور أحد من تناولوا تلك المدينة فى أعمالهم أو كانوا من أبنائها أو كانت لهم بها علاقة قوية، كتوفيق الحكيم، الذى يقال إنه كتب روايته الشهيرة: "يوميات نائب في الأرياف" على مقهى الأديب عبد المعطى المسيرى فيها، ومحمد فريد أبو حديد فى "أنا الشعب" أو عبد المعطى المسيرى فى أى من كتبه أو أقاصيصه، أو يس الفيل (الذى عمل كاتبا بمنطقة دمنهور التعليمية، وأحد مؤسسي جمعية الأدباء بدمنهور) فى أى من قصائده أومسرحياته أو قصصه، أو د. عبد الوهاب المسيرى فى سيرته الذاتية، أو محمد صدقى الأديب الماركسى فى أى من قصصه، أو خيرى شلبى فى "وكالة عطية" مثلا؟
والداهية الدهياء هو أن يقول كاتب المقدمة إن عباس الهلاس كان يعمل "مديرا" للتكية. بالله متى كان المشرف على التكية يسمى: "مديرا"؟ أنحن فى جمعية استهلاكية؟ إن مثل ذلك المشرف إنما يلقب بــ"شيخ التكية". وبالمناسبة فهناك رواية مشهورة صدرت أوائل الخمسينات من القرن البائد فى سلسلة "اقرأ" المصرية بعنوان "شيخ التكية" لمحمد عبده عزام. " شيخ" لا "مدير"! لكن شاء الله الذى لا تُرَدّ له مشيئة رغم أنف مؤلف الكتاب الكافر الذى يحادّ الله ورسوله أن يفضح اللصوص مخرجى هذا الفلم الهندى الردىء فأوقعهم فى شر أعمالهم ليرتكبوا هذا الخطأ الفاضح ويعرف الناس أنه لا مكان فى الدنيا لما يسمى بــ"الجريمة الكاملة".
كذلك وقع كاتب المقدمة فى مصيبة أخرى فاضحة، إذ استخدم للتعبير عن "وزارة الأوقاف" عبارة "دائرة الأوقاف الإسلامية" (ص5)، مما لا يعرفه المصريون، إذ يقولون: "وزارة الأوقاف" لا "إدارة الأوقاف"، فضلا عن أننا فى مصر لا نصفها بــ"الإسلامية" لأنه لا يوجد عندنا فى الحكومة إلا أوقاف إسلامية. ومعروف أن العرب غير المصريين يستعملون مصطلح "دائرة" للدلالة على المصالح الحكومية. ومعنى هذا أن كاتب المقدمة ليس مصريا. وهذا يذكرنى بما ثار فى ستينات القرن الماضى بخصوص وثيقة سياسية ورد فيها اسم "الاتحاد السوفييتى" بألف بعد الياء (هكذا: السوفياتى)، فكان هذا دليلا على أنها مفبركة فى بيروت وليست صادرة عن مصر لأننا فى مصر نكتبها بياءين على عكسهم فى لبنان، إذ يكتبونها بألف بعد الياء. فانظر أيها القارئ كيف تكون مثل هذه الدقائق الصغيرة فيصلا فى تلك القضايا الخطيرة. وهو ما يشبه ما نحن فيه الآن. ليس هذا فحسب، إذ يسمِّى عباس ابن نسناس العرقسوس: "ماء السوس" (ص262) كما يقول إخواننا فى الشام مثلا، وهو ما لا تجده فى مصر أبدا. وعلى ذكر السوس فإن لى صديقًا من علماء سورية كان يعمل معنا فى جامعة أم القرى بالسعودية، وكان كلما زرته فى بيته قال لى: ما رأيك فى أن أُحْضِر لك "السوس"؟ ذلك أنه يعرف مدى حبى للعرقسوس!
بل إنى لا أتصور أن يكون الكتاب قد طُبِع فى مصر أصلا، ناهيك بدمنهور تلك المدينة الصغيرة التى لو كان الكتاب قد تم طبعه فيها لعُرِف الطابع على الفور وكانت فضيحة. بل إننى لأتصور أن الكاتب ليس مصريا، وربما ليس مسلما رغم كل الآيات والأحاديث التى يناقشها ويستشهد بها. ذلك أن مثل تلك الاستشهادات ليست من الصعوبة بمكان. ولعل من الضرورى، لدلالته ذات المغزى، أن أنبه إلى الطريقة التى يحيل بها الكاتب إلى مواضع الآيات القرآنية، إذ تعتمد فى معظم الحالات على ذكر رقم السورة كعادة المستشرقين والمبشرين لا على اسمها، وفى المرات النادرة التى يذكر فيها اسم السورة نراه يعقبه بذكر رقمها. وغير بعيد كتاب "الفرقان الحق"، الذى أكثر فيه ملفقه النصرانى الفلسطينى من إيراد العبارات القرآنية وتقليدها والنسج على منوالها. وهناك عبد الله العربى، مترجم المقدمة التى مهد بها المحامى البريطانى المولود فى نهاية القرن السابع عشر: جورج سيل (أو جرجيس صال) لترجمته الإنجليزية للقرآن الكريم. لقد صاغها المدعوّ: عبد الله العربى بعربية متينة ولا عربية أجعص شيخ أزهرى من الأزاهرة المودَّكين، وهو مع ذلك نصرانىٌّ قُحٌّ من نصارى الشام فيما أتصور.
كذلك هل يمكن التصديق بأن رجلا يذهب إلى باريس ويحصل على دكتوراه فى الفلسفة ثم يعود فيشتغل خطيبا فى مسجد، مثله مثل أى شخص عادى ليس معه دكتوراه؟ والمضحك أن يزعم كاتب المقدمة بأن وزارة الأوقاف المصرية هى التى أرسلته إلى عاصمة الفرنسيس فى بعثة دراسية للحصول على دكتوراه فى الفلسفة. ترى ما علاقة الأوقاف بالفلسفة؟ بل ما علاقتها بعباس المحتاس، وهو لم يكن خريج أزهر، بل كان حاصلا على ليسانس كلية الآداب من جامعة فؤاد؟ ومما يبعث على القهقهة أن يقول الكاتب إنه ترك كلية أصول الدين وهو فى السنة الثالثة إلى كلية الآداب. ترى هل هذا ممكن؟
إن الكلتين غير متناظرتين حتى يجوز أن يحوّل الطالب أوراقه من الواحدة إلى الأخرى، فضلا عن أن أصول الدين تابعة للأزهر، على حين أن الآداب تابعة لجامعة الملك فؤاد، فالتحويل بينهما إذن غير ممكن. إلا أن الكاتب لا يميز بين كوعه وبوعه، ويظن أن قراءه "كاوِيرْكَات" مختومون على قفاهم مثله! خيبة الله عليك يا أبا العبابيس، يا سليل النسانيس والخنانيص! بل هل هناك رجل يمكن أن يلحد وهو شيخ قد جاوز الثمانين، وبعد أن كان مؤمنا تقيا طول عمره؟ كذلك نراه يقول إنه بعد وفاة والده صار من "هيئة علماء المدينة". ترى هل هناك فى المدن المصرية شىء اسمه: "هيئة علماء المدينة"؟ نعم كانت هناك فى القاهرة "هيئة كبار العلماء"، لكن لم نسمع بــ"هيئة علماء المدينة" هذه إلا الآن.
ثم انظروا إلى تشكيل كل حرف فى عنوان الكتاب وفى اسم المؤلف! فمنذ متى يشكل المصريون عناوين كتبهم بهذه الطريقة، وبخاصة أن العنوان يخلو تماما من أية كلمة تحتاج إلى تشكيل؟ ومما له مغزاه فى هذا السياق أن مروجى الكتاب وناشريه فى مواقعهم هم مجرمو نصارى المهجر الذين نرجو أن يفيقوا من غيهم وقلة أدبهم قبل أن يأتى يوم لا تنفع فيه أوربا ولا أمريكا ويقول الكافر حين يرى الشيطان يتبرأ منه ويتركه يواجه مصيره الأسود وحده ويُضْرَب بالحذاء دون أن يخف لنجدته مخلوق: "يا ليتنى كنت ترابا"، فضلا عن أنهم هم الوحيدون الذين كانوا يعرفون بصدور الكتاب، إلى أن وضعوه فى مواقعهم ومنتدياتهم، فعندئذ عرفه المسلمون.
ومعروف أن من عادتهم تأليف كتب تهاجم الإسلام بأسماء مجهولة (ككتاب "تيس عزازيل" للأب يوتا ابن العبيطة، وهو اسم لا وجود له، وكتاب "حوار صريح حول الإسلام" للشيخ المزعوم الحمار محمد النجار، و"مقارنة الإسلام والمسيحية" للشيخ المقدسى الذى لا يوجد إلا فى أوهام المتاعيس المتخلفين من نصارى المهجر، وكتاب "هل القرآن معصوم؟" للمدعوّ: عبد الله عبد الفادى، وهو كذلك اسم مختلق، وكتابَىِ "الفرقان الحق" و"القرآن الشعبى"، اللذين صدرا دون أن يكون على غلاف أى منهما اسم مؤلفه). وقد يسندون تلك الكتب إلى أسماء مسلمة لا حقيقة لها (كالكتاب الذى يشتمل على الترجمة العربية للمقدمة التى صدّر بها جورج سيل ترجمته القرآنية إلى اللغة الإنجليزية والذى نسبوه إلى عبد الله العربى نزيل الديار الإفرنجية كما قالوا على الغلاف)، ودائما ما يزعمون أن الشيخ الفلانى أو زعيم الجماعة الإسلامية العلانية قد أسلم. ومن هذه الشاكلة أيضا ما هو معروف من أن كثيرا من المتظاهرين بالإلحاد فى موقع "اللادينيين العرب" هم فى حقيقة الأمر نصارى سخفاء يتخذون من ذلك التظاهر فرصة للنيل من الإسلام بطريقتهم الملتوية المفضوحة رغم هذا. كذلك من اللافت للنظر أن زكريا بطرس يستشهد فى برنامجه كثيرا بهذا الكتاب حتى فيما يمكن، بل فيما يجب، أن يرجع فيه إلى غيره، وذلك حين يستخدمه مرجعا وسيطا بدلا من الرجوع إلى المصدر أو المرجع الذى نقل عنه عباس عبد النور. وهذه معلومة هامة من شأنها أن تساعد فى كشف الجهة التى أصدرت الكتاب، وإن كان الأمر لا يحتاج إلى المزيد بعد كل ما أوردناه هنا من معلومات وأدلة.
وأخيرا فمن عادة بعض الكفار من قديمٍ تأليفُ الكتب وعَزْوُها إلى غيرهم حتى يخلصوا من التبعة ويتفرجوا على ما يحدثونه من فتنة وهم يفركون أيديهم ابتهاجا بما يَرَوْن دون أن يتعرضوا للوم أو أذى ودون أن يعرف الناس من حولهم أنهم هم أصحاب كل هذه الضجة المثارة. وفى هذا من اللذة ما فيه. وفى الفصل الذى عقده د. عبد الرحمن بدوى لمحمد بن زكريا الرازى (الطبيب المسلم المشهور والمتهم بالإلحاد صدقًا أو بُطْلاً) فى كتابه: "من تاريخ الإلحاد فى الإسلام" إشارة إلى بعض الملاحدة العرب فى العصر العباسى ممن ألفوا الكتب الكفرية ونسبوها إلى علماءَ إغريقٍ (ص256 من ط2/ دار سينا للنشر/ 1993م).
هذا، وحين أوشكت أن أنتهى من الرد الذى بين يدى القارئ وجدت دعاية لكتاب عباس فى بعض المواقع تقول إنه كان أستاذاجامعيا. وهذه كذبة أخرى أضرط من الأكاذيب السابقة، وإلا ففى أية جامعة يا ترى كان أستاذا ذلك الكذاب المفضوح الذى أخراه الله؟ كذلك تقول الدعاية إن النسخة الموجودة فى الموقع هى طبعة أخرى من الكتاب الممنوع من التداول فى البلاد العربية والإسلامية. والسؤال الآن هو: إذا كان الكتاب ممنوعا من التداول والتوزيع فى البلاد الإسلامية كلها فلم طبعتم منه طبعة جديدة، وأنتم لن تستطيعوا توزيعه، وبخاصة أن لديكم الإنترنت تنشرونه فيه على أوسع نطاق مما لا يمكنكم أن تحصلوا على عشر معشاره لو طبعتموه طباعة ورقية؟ إن هذا دليل آخر على أن كل ما يتعلق بهذا الكتاب هو كذب فى كذب.
وإلى القارئ الآن الكلمة المذكورة أنقلها بتمامها كما وجدتها فى الموقع المشار إليه: "كتاب محنتي مع القرآن ومع الله في القرآن- الطبعة الثانية، وهي نسخة محسنة جدا. عباس عبد النور من مواليد دمنهور، سني المذهب. فقيه. مدير تكية. قضى ستين عاما من عمره مسلما تقيا، وإمام مسجد، وخطيبا رائعا، وكاتبا وشاعرا ومفسرا للقرآن الكريم، ثم نشر كتابه: "محنتي مع القرآن"، وكفر عندما بلغ الثمانين من عمره. وكتابه هو أخطر كتب الالحاد. ألتحق بكلية اصول الدين في الأزهر. ومنح مساعدة من دائرة الأوقاف الإسلامية ، فانتقل إلى جامعة السوربون في باريس ليحضر دكتوراه في فلسفة العلم، وتمكن من الفلسفة والعلم معا. ولما عاد إلى مدينته أصبح إماما وخطيبا في أحد مساجدها، وكان له فيها مريدون، نشأهم على الإيمان وحسن العبادة، كما كان أستاذا جامعيا، ومؤلفاً لكتب فلسفية وعلمية عديدة. إلا أن حياته الفكرية لم تكن من دون قلق ولا حياته الدينية من دون شكوك. لقد كان عقله يثير موضوعات شائكة، وكان إيمانه يكفيه الجواب على كل معضلة. صراع العلم والإيمان ابتدأ عند عباس باكرا، صراع لم تتح له الفرصة ليطرح علنا. ولو خرج من الخفاء منذ نشأته، لما وصل إلى هذا الحد من العنف المعبر عنه في هذا الكتاب الذي قل نظيره".
وبالمناسبة لم يذكر لنا كاتب المقدمة الفطاس كيف وصلت إليه مخطوطة الكتاب ما دام عباس عبد الديجور قد نفق. وهذه ثغرة أخرى من الثغرات الكثيرة الفاضحة. وكيف يا ترى تم تحسين الطبعة الجديدة، وقد هلك المؤلف وراح فى ستين داهية؟ هل من حق أحد أن يتصرف فى كتاب مات صاحبه فيحسّن فيه ويضيف إليه أو يحذف منه؟ فمن أعطاه هذا الحق؟ إن هذه فلتة من فلتات اللسان التى تكشف أن مؤلف الكتاب ما زال حيا، ومن ثم نظر فى كتابه ففكر فى تحسينه وتنقيجه على عادة المؤلفين مع الطبعات الجديدة لكتابهم. ثم ماذا كان موقف زوجته وأولاده منه بعدما كفر وكتب كتابه هذا؟ والمفروض أنهم معروفون، على الأقل: تبعا لمعرفة الناس عباس ابن نسناس بوصفه شيخ طريقة وإمام مسجد وخطيبا مفوها ومؤلفا مرموقا وأستاذا جامعيا وشاعرا وقصاصا، وبياع دبابيس وأمشاط وفلاّيات وسكر نبات، ومن يقول: هات؟ فلماذا سكت كاتب المقدمة البكاش عنهم ولم يأت على ذكرهم ولو بكلمة واحدة؟ إن هناك تعتيما على هذه المسألة، وهى ثغرة خطيرة تضاف إلى الثغرات الكثيرة الماضية واللاحقة.
فإذا ولجنا من باب الكتاب إلى الداخل فأول شىء نلاحظه أن عباس يذكر كرسىّ الاعتراف قائلا إنه سوف يجلس الآن على كرسى الاعتراف ويفض مغاليق قلبه لنا بصراحة تامة، وهذه زلة لسان فاضحة، إذ ليس عند المسلمين كراسىّ اعتراف، ومثل ذلك الرجل "التقى الورع سابقا!" لا يمكن أن تخطر له فكرة كرسى الاعتراف أبدا. ومثل ذلك قوله: "طوبى للبُلْه، فإن لهم ملكوت السماوات" (ص32)، ففيه تأثير إنجيلى واضح. ومثله أيضا تأكيده أن "الدين لله، والوطن للجميع" (ص50)، فهى عبارة كان النصارى الأقباط يغرمون بها ويرددونها دائما لإلهاء المسلمين عن الإسلام، أما الآن فإنهم يعلنون بكل صراحة ووقاحة أن المسلمين ليسوا مصريين، بل عربا وَفَدُوا على أرض الكنانة من شبه الجزيرة العربية وينبغى أن يعودوا من حيث جاؤوا ويتركوا الجمل بما حمل لهم ينعمون به هنيئا مريئا، إذ هم وحدهم المصريون حقا وصدقا. ومن هذا الوادى كذلك ما نقرؤه بهامش الصفحة التاسعة والخمسين من وصف عِبْس لمبشر غبى مثله اتخذ من ضمير الجمع العائد على الله فى القرآن دليلا على صحة التثليث بأنه "أحد أذكياء المبشرين". وهذه زلة لسان خطيرة لها دلالتها. ومنه كذلك قوله (ص124): "لكن على من تقرأ مزاميرك يا داود؟"، وهى عبارة كتابية بامتياز.
وهناك أيضا تأكيده (ص207) أن القرآن ليس فى مستوى واحد من الجودة والأناقة والإتقان، بل "فيه القمح، وفيه الزُّوَان"، أى الجيد والردىء. والزوان هو ما يسميه العامة: "الدحريج"، وينقونه من القمح ويرمونه. وهذا المثل موجود فى الإصحاح الثانى عشر من إنجيل متى، ففيه نقرأ: "24قَدَّمَ لَهُمْ (أى عيسى عليه السلام) مَثَلاً آخَرَ قِائِلاً:«يُشْبِهُ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ إِنْسَانًا زَرَعَ زَرْعًا جَيِّدًا فِي حَقْلِهِ. 25وَفِيمَا النَّاسُ نِيَامٌ جَاءَ عَدُوُّهُ وَزَرَعَ زَوَانًا فِي وَسْطِ الْحِنْطَةِ وَمَضَى. 26فَلَمَّا طَلَعَ النَّبَاتُ وَصَنَعَ ثَمَرًا، حِينَئِذٍ ظَهَرَ الزَّوَانُ أَيْضًا. 27فَجَاءَ عَبِيدُ رَبِّ الْبَيْتِ وَقَالُوا لَهُ:يَا سَيِّدُ، أَلَيْسَ زَرْعًا جَيِّدًا زَرَعْتَ فِي حَقْلِكَ؟ فَمِنْ أَيْنَ لَهُ زَوَانٌ؟. 28فَقَالَ لَهُمْ: إِنْسَانٌ عَدُوٌّ فَعَلَ هذَا. فَقَالَ لَهُ الْعَبِيدُ: أَتُرِيدُ أَنْ نَذْهَبَ وَنَجْمَعَهُ؟ 29فَقَالَ: لاَ! لِئَلاَّ تَقْلَعُوا الْحِنْطَةَ مَعَ الزَّوَانِ وَأَنْتُمْ تَجْمَعُونَهُ. 30دَعُوهُمَا يَنْمِيَانِ كِلاَهُمَا مَعًا إِلَى الْحَصَادِ، وَفِي وَقْتِ الْحَصَادِ أَقُولُ لِلْحَصَّادِينَ: اجْمَعُوا أَوَّلاً الزَّوَانَ وَاحْزِمُوهُ حُزَمًا لِيُحْرَقَ، وَأَمَّا الْحِنْطَةَ فَاجْمَعُوهَا إِلَى مَخْزَني»... 36حِينَئِذٍ صَرَفَ يَسُوعُ الْجُمُوعَ وَجَاءَ إِلَى الْبَيْتِ. فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ تَلاَمِيذُهُ قَائِلِينَ:«فَسِّرْ لَنَا مَثَلَ زَوَانِ الْحَقْلِ». 37فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُمْ:«اَلزَّارِعُ الزَّرْعَ الْجَيِّدَ هُوَ ابْنُ الإِنْسَانِ. 38وَالْحَقْلُ هُوَ الْعَالَمُ. وَالزَّرْعُ الْجَيِّدُ هُوَ بَنُو الْمَلَكُوتِ. وَالزَّوَانُ هُوَ بَنُو الشِّرِّيرِ. 39وَالْعَدُوُّ الَّذِي زَرَعَهُ هُوَ إِبْلِيسُ. وَالْحَصَادُ هُوَ انْقِضَاءُ الْعَالَمِ. وَالْحَصَّادُونَ هُمُ الْمَلاَئِكَةُ. 40فَكَمَا يُجْمَعُ الزَّوَانُ وَيُحْرَقُ بِالنَّارِ، هكَذَا يَكُونُ فِي انْقِضَاءِ هذَا الْعَالَمِ: 41يُرْسِلُ ابْنُ الإِنْسَانِ مَلاَئِكَتَهُ فَيَجْمَعُونَ مِنْ مَلَكُوتِهِ جَمِيعَ الْمَعَاثِرِ وَفَاعِلِي الإِثْمِ، 42وَيَطْرَحُونَهُمْ فِي أَتُونِ النَّارِ. هُنَاكَ يَكُونُ الْبُكَاءُ وَصَرِيرُ الأَسْنَانِ. 43حِينَئِذٍ يُضِيءُ الأَبْرَارُ كَالشَّمْسِ فِي مَلَكُوتِ أَبِيهِمْ. مَنْ لَهُ أُذُنَانِ لِلسَّمْعِ، فَلْيَسْمَعْ".
إلا أن الكاتب يسخر بعد ذلك من المسيح والنصرانية سخرية مرة، وإن كان غريبا قوله إنه، بعدما تيقن من عدم وجود إله أصلا، فكر فى اللجوء إلى يسوع ودينه (ص36 وما بعدها). فما دام قد توصل إلى أنه لا يوجد إله أصلا، فكيف يخطر له أن يلجأ إلى المسيح؟ إن المسيح بشر مثله هو تماما، فكيف تواتيه نفسه على التفكير فى اللجوء إليه، وهو الذى كفر بالله ذاته؟ أليس هذا أمرا غريبا ومريبا؟ والمضحك أن النصارى يحتفون بالكتاب رغم ذلك مثلما احتفَوْا بكتب القمنى رغم ما فيها من إنكار المعجزات ومن الافتراء على مريم والقول بأنها كانت بَغِيًّا من بغايا المعبد المقدسات، ومثل انتشائهم باختراع القرآن الشعبى، الذى يسىء إلى مريم وعيسى عليهما السلام حسبما وضحت فى مقالى الطويل حول هذا الوضوع.
ومن الثغرات الفاضحة فى الكتاب قوله (ص33): "بل لقد بلغ بى الترحيبُ بالمصيبة وشكرُ الله عليها مبلغ الصوفية، فكنت أذهب مذهبهم وأقول على طريقتهم بأن المصيبة معصية عُجِّلَتْ فى الدنيا حتى نلقى الله فى الآخرة وليس علينا شاهدٌ بذنب! لقد نسيتُ، ولعلى قد تناسيتُ، ولى مصلحة فى هذا التناسى، أن المصيبة إذا كانت تعيد الإنسان إلى الله أحيانا فإنها فى أحيان أخرى تُبْعِده عنه أيضا. المصيبة طريق إلى الله، وهى اأيضا طريق إلى الشيطان". فهذا يعنى أنه فى الأصل لم يكن صوفيا من الصوفية، وإنما ذهب فى تلك المحنة فقط مذهبهم، مع أنه يقول عن نفسه فى مقدمة الكتاب إنه كان واحدا منهم، إذ كان يحضر حلقات ذكرهم. بل لقد ذكر صوفيته صراحة أكثر من مرة كما فى ص41 مثلا.
ثم إن الأسلوب الذى صيغ به الكتاب ليس أسلوب شيخ بلغ أرذل العمر كما يريد أن يوهمنا الكاتب والذين يقفون من ورائه يوسوسون فى أذنه ويلقنونه ما ينبغى أن يقوله، بل هو أسلوب شخص ما زال يتوثب عُرَامًا وحيوية، فهو يتهكم ويسخر ويداور ويناور ويسجع ويجانس ويوازن ويرادف وينفث قلمه لهب الحقد والتشكيك مندفعا فائرا منثالا. وليس هذا من سمات كتابات الشيوخ الفانين ولا من الأساليب التى تبرز فى مثل ذلك السياق الذى لا يكون الإنسان فيه على مزاجه الرائق كى يفكر فى البديعيات والمترادفات وما إلى هذا. كذلك فمصطلحاتٌ مثل "التنوير" و"قوى الظلام" و"الخطاب القرآنى" و"النص" (ص7 مثلا) و"مجتمع متخلف آسن لاعمل له إلا إنتاج ذاته وتكرار ذاته" و"الأُطُر الاجتماعية" و"صدمة الحداثة" و"الأيديولوحيا" و"الأسطرة" (أى تحويل الموضوعات إلى أساطير ص143) و"الذائقة اللغوية" (ص152) هى مصطلحات غريبة على رجل عاش كما يقول فى حلقات الذكر وبين أهله من علماء الدين ممن لا تجرى هذه المصطلحات على ألسنتهم، فضلا عن الاعتزاز بها كما هو واضح فى الكتاب، وبخاصة أنه كتب كتابه وقد تخطى الثمانين كما ذكر (ص44). بل إن الرقم 80 ليؤكد أن المسألة ليست سوى كذبة بلقاء تدل على أن الأمر كله بكش فى بكش، إذ ذكر عباس ا لمحتاس فى بداية الكتاب أنه من مواليد 1927م. فإذا كان الكتاب قد صدر عام 2004م كما هو مطبوع على الغلاف، فكيف يمكن أن يكون المؤلف الموهوم قد تخطى الثمانين مع أنه قد مات قبل صدور الكتاب؟ إنها داهية أخرى من الدواهى المتلتلة التى أراد الله أن يفضحهم بها.
المفضلات