الوجه التاسع: إنه يمكن أن يكون في نسخ غير هذه النسخ التي بأيديهم فأزيل من بعضها ونسخت هذه مما أزيل منه.
ويدل على ذلك تخالف نسخ التوراة والإنجيل وتناقضها (الأناجيل تواريخ).
وقولهم: "
إن نسخ التوراة متفقة في شرق الأرض وغربها " كذب ظاهرن فهذه التوراة التي بأيدي النصارى تخالف التوراة التي بأيدي اليهود، والتي بأيدي السامرة تخالف هذه وهذه.
وهذه نسخ الإنجيل يخالف بعضها بعضا ويناقضه، فدعواهم: أن نسخ التوراة والإنجيل متفقة شرقا وغربا من البهت والكذب الذي يروجونه على أشباه الأنعام، حتى إن هذه التوراة التي بأيدي اليهود فيها من الزيادة والتحريف والنقصان ما لا يخفى على الراسخين في العلم، وهم يعلمون قطعا أن ذلك ليس في التوراة التي أنزلها الله على موسى ولا في الإنجيل الذي أنزله على المسيح، وكيف يكون في الانجيل الذي أنزل على المسيح " قصة صلبة " وما جرى له، وأنه أصابه كذا وكذا، وصلب يوم كذا وكذا، وأنه قام من القبر بعد ثلاث، وغير ذلك مما هو من كلام شيوخ النصارى، وغايته أن يكون من كلام الحواريين خلطوه بالانجيل وسموا الجميع انجيلا؛
وكذلك كانت " الأناجيل عندهم أربعة " يخالف بعضها بعضا. ومن بهتهم وكذبهم قولهم: إن التوراة التي بأيديهم وأيدي اليهود والسامرة سواء والنصارى لا يقرون أن الانجيل منزل من عند الله على المسيح وأنه كلام الله؛ بل كل فرقهم مجمعون على أنها أربعة تواريخ ألفها أربعة رجال معروفون في أزمان مختلفة لوا يعرفون الإنجيل غير هذا:
(
1)
إنجيل ألفه متى: تلميذ المسيح بعد تسع سنين من رفع المسيح وكتب بالعبرانية في بلد يهود بالشام.
(
2)
وانجيل ألفه مرقس الهاروني: تلميذ شمعون بعد ثلاث وعشرين سنة من رفع المسيح، وكتبه باليونانية في بلاد انطاكية من بلاد الروم، ويقولون أن شمعون المذكور هو ألفه ثم محى اسمه من أوله ونسب إلى تلميذه مرقس.
(
3)
وانجيل ألفه لوقا: الطبيب الأنطاكي تلميذ شمعون بعد تأليف مرقس.
(
4)
وانجيل ألفه يوحنا: تلميذ المسيح بعد ما رفع المسيح ببضع وستين سنة، كتبه باليونانية.
وكل واحد من هذه الأربعة يسمونه الإنجيل، وبينها من التفاوت والزيادة والنقصان ما يعلمه الواقف عليها، وبين توراة السامرة واليهود والنصارى من ذلك ما يعلمه من وقف عليها، فدعوى الكاذب الباهت: "
ان نسخ التوراة والإنجيل متفقة شرقا وغربا بعدا وقربا " من أعظم الفرية والكذب، وقد ذكر غير واحد من علماء الإسلام ما بينها من التفاوت والزيادة والنقصان والتناقض .
جمعهم بين التحريف والكتمان لنعت الرسول: وقد وبخهم الله سبحانه وبكتهم على لسان رسوله بالتحريف والكتمان والإخفاء.
قال تعالى: "
إِنَّ الَّذَينَ يَكتُمونَ ما أَنزَلَنا مِنَ البَيناتِ وَالهُدى مِن بَعدِ ما بَيناهُ لِلناسِ في الكِتابِ أَولئكَ يَلعَنَهُمُ اللَهَ وَيَلعَنَهُمُ اللاعِنونَ"
(1) .
وقال تعالى: "
إِنّ الَّذَينَ يَكتُمونَ ما أَنزَلَ اللَهُ مَن الكِتابِ وَيَشتَرونَ بِهِ ثَمَناً قَليلاً أَولئِكَ ما يَأكلُونَ في بُطونِهِم إِلاّ النار وَلا يُكَلِمُهُمُ اللَهُ يَومَ القِيامة وَلا يُزكيهِم وَلَهُم عَذابٌ أَليم"
(2) .
وقال تعالى: "
يا أَهلَ الكِتابِ لِمَ تَلبَسونَ الحَقَّ بِالباطِل وَتَكتُمونَ الحَقَّ وَأَنتُم تَعلَمون"
(3) .
وقال تعالى: "
يا أَهلَ الكِتابِ قَد جاءَكُم رَسولُنا يُبينُ لَكُم كَثيراً مِما كُنتُم تُخفونَ مِنَ الكِتاب وَيَعفو عَن كَثير قَد جاءَكُم مِنَ اللَهِ نورٌ وَكِتابٌ مُبين * يَهدي بِهِ اللَهُ مِن اِتَبَعَ رِضوانَهُ سُبَلَ السَلام، وَيُخرِجُهُم مِنَ الظُلَماتِ إِلى النورِ بإِذنِهِ وَيَهديهِم إِلى صِراطٍ مُستَقيم"
(4) .
وأما التحريف فقد أخبر سبحانه عنهم في مواضع متعددة، وكذلك لي اللسان بالكتاب ليحسبه السامع منه وما هو منه. فهذه خمسة أمور:
أحدها: لبس الحق بالباطل وهو خلطه به بحيث لا يتميز الحق من الباطل!
الثاني: كتمان الحق.
الثالث: إخفاؤه وهو قريب من كتمانه.
الرابع: تحريف الكلم عن مواضعه، وهو نوعان تحريف لفظه وتحريف معناه.
الخامس: ليّ اللسان به ليلبس على السامع اللفظ المنزل بغيره وهذه الأمور إنما ارتكبوها لأغراض لهم دعتهم إلى ذلك.
فإذا عادوا الرسول وجحدوا نبوته وكذبوه وقاتلوه فهم إلى أن يجحدوا نعته وصفته ويكتموا ذلك ويزيلوه عن مواضعه ويتألوه على غير تأويله أقرب بكثير، وهكذا فعلوا، ولكن لكثرة البشارات وتنوعها غلبوا عن كتمانها وإخفائها فصاروا إلى " تحريف التأويل " وإزالة معناها عمن لا تصلح لغيره، وجعلها لمعدوم لم يخلقه الله ولا وجود له البتة.
يتبع.........
المفضلات