حد الردة بين جهل المسلمين وحقد المعترضين !
لقد ازدادت نبرات الصياح حول موضوع حد الردة , وكأن الإسلام قد أتى بغريب الأحكام , وما لا تعقله الأفهام , والمتابع للأحداث من العوام لا يعرف حقيقة الأمر من كثرة القيل والقال , وتشويه أصحاب الحرية الفكرية العوجاء لحكم قتل المرتد .
حد الردة وشرعيته والرد على المعترضين
يقول المعترضون بأن قتل المرتد عن الإسلام قتل للحرية الفكرية , ونشر الخوف بين الناس , ويضعفون حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي أخرجه البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما : " من بدل دينه فاقتلوه " .
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم : " لايحل دم امريء مسلم يشهد أن لا إله إلا الله ، وأني رسول الله ، إلا بإحدى ثلاث : الثيّب الزاني ، والنفس بالنفس ، والتارك لدينه المفارق للجماعة " ( متفق عليه ) .
ويقولون أن علة الحديث الأول هو عكرمة مولى ابن عباس رضي الله عنهما, فلقد اتُّهم من قبل عدد من علماء الرجال . لذا لم يرو له مالك ولا مسلم ، باعتباره ضعيفًا غير ثقة !
إن عكرمة مولى ابن عباس رضي الله عنهما ، مكي تابعي ثقة بريء مما يرميه الناس به ، فهو أحد التابعين والمفسرين المكثرين والعلماء الربانيين والرحالين الجوالين ، صنفه ابن سعد في الطبقه الثانية من التابعين . واحتج به البخاري وأصحاب السنن .
قال الإمام أحمد رحمه الله : ( عكرمة يحتج به ) .
وذكر يحيى بن معين عن محمد بن فضيل ثنا عثمان بن حكيم قال : جاء عكرمة إلى أبي أمامة بن سهل وأنا جالس عنده ، قال : ( يا أبا أمامة ، أسمعت ابن عباس يقول : ما حدثكم عكرمة عني بشئ فصدقوه فإنه لن يكذب عليّ ؟ قال : نعم ) ( الحافظ ابن رجب : شرح علل الترمذي 1 / 325 ) .
وقال يحيى بن معين رحمه الله : (إذا سمعت من يقع في عكرمة فاتهمه على الإسلام) (مقدمة فتح الباري ص 504 ) .
وقال الشعبي : ( ما بقي أحد أعلم بكتاب الله من عكرمة ) .
وقال قتادة : ( أعلم الناس بالحلال والحرام الحسن – البصري - ، وأعلمهم بالمناسك عطاء ، وأعلمهم بالتفسير عكرمة ) ( الذهبي : سير أعلام النبلاء 5/14 ) .
وقال البخاري رحمه الله : ( ليس أحد من أصحابنا إلا احتج بعكرمة ) ( مقدمة فتح الباري ص 504 ) .
وقال ابن منده : ( أما حال عكرمة في نفسه فقد عدله أمة من التابعين منهم زيادة على سبعين رجلا من خيار التابعين ورفعائهم , , وهذه منزلة لا تكاد توجد منهم لكبير أحد من التابعين على أن من جرحه من الأئمة لم يمسك عن الرواية عنه ولم يستغن عن حديثه, وكان حديثه متلقى بالقبول قرنا بعد قرن إلى زمن الأئمة الذين أخرجوا الصحيح ) (المصدر السابق ص 505 ) .
وأما ما زعمه المعترضون من أن مالكاً لم يرو لعكرمة , فهذا كذب على الإمام مالك , فإنه قد روى عن عكرمة في الموطأ ، ففي الموطأ 1/ 381: ( قال الراوي : وحدثني عن مالك عن ثور بن زيد الديلي عن عكرمة مولى ابن عباس قال: لا أظنه إلا عن عبد الله بن عباس أنه قال: الذي يصيب أهله قبل أن يفيض يعتمر ويهدي. وحدثني عن مالك أنه سمع ربيعة بن أبي عبد الرحمن يقول في ذلك مثل قول عكرمة عن ابن عباس قال مالك: وذلك أحب ما سمعت إلي في ذلك ) .
وقد أثبت ابن عبد البر في " التمهيد " في الضحية رواية مالك عن ثور عن عكرمة قال : (وقد روي في فضل الضحايا آثار حسان، فمنها: ما رواه سعيد بن داود بن أبي الزبير عن مالك عن ثور بن زيد عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله: ما من نفقة بعد صلة الرحم أعظم عند الله من إهراق الدم ) .
ونقل الحافظ ابن حجر في مقدمة " فتح الباري " عن ابن عبد البر قوله : ( وزعموا أن مالكا أسقط ذكر عكرمة من الموطأ ولا أدري ما صحته , لأنه قد ذكره في الحج وصرح باسمه ومال إلى روايته عن ابن عباس , وترك عطاء في تلك المسئلة مع كون عطاء أجل التابعين في علم المناسك ) ( مقدمة فتح الباري ص 505 ) .
بل هناك شاهد قوي ذكره الحافظ ابن رجب على تكذيب دعوى أتباع الغلام , وهو أن الأمام مالك رحمه الله أنكر تكذيب ابن عمر رضي الله عنه لعكرمة .
قال الحافظ ابن رجب : ( وأما تكذيب ابن عمر له [ قد ] روي من وجوه لا تصح ، وقد أنكره مالك ) ( شرح علل الترمذي 1 / 327 ) .
وأما عن عدم رواية مسلم له , فهذا لسبب أخر غير الذي زعمه المعترضون , قال الحافظ ابن حجر : ( وتركه مسلم فلم يخرج له سوى حديث واحد في الحج مقروناً بسعيد بن جبير ، وإنما تركه مسلم لكلام مالك فيه . وقد تعقب جماعة من الأئمة ذلك وصنفوا في الذب عن عكرمة ) ( مقدمة فتح الباري ص 501 ) .
فمسلم رحمه الله تركه من أجل ما ظنه أنه صحيح عن الإمام مالك في شأن عكرمة , ورغم ذلك أخرج له مسلم في صحيحه مقرونا بسعيد بن جبير في كتاب الحج .
وحديث النبي عليه الصلاة والسلام :" من بدل دينه فاقتلوه " . له طرق أخرى عن قتادة عن أنس عن ابن عبارس رضي الله عنهما وليس فيها عكرمة , أخرجها الإمام أحمد في مسنده وابن حبان في صحيحه والبيهقي في سننه الكبري والطبراني في المعجم الكبير وأبو يعلى في مسنده , فلا حجة لهم في إنكار صحة الحديث .
أما علة الحديث الثاني في رأيهم , هو الأعمش سليمان بن مهران , والأعمش رحمه الله أحد كبار أئمة المحدثين المتفق على وثاقتهم وجلالتهم .
قـال الذهبي عنه : ( الإمام ، شيخ الإسلام ، شيخ المقـرئين والمحـدثين ) ( سير أعلام النبلاء 6/ 226 ) .
وقال علي بن المديني : ( حفظ العلم على أمة محمد صلى الله عليه وسلم ستة : فلأهل مكة عمرو بن دينار , ولأهل المدينة بن شهاب الزهري , ولأهل الكوفة أبو إسحاق السبيعي وسليمان بن مهران الأعمش , ولأهل البصرة يحيى بن أبي كثير ناقلة وقتادة ) (تهذيب الكمال 12/84 ) .
وقال الحافظ ابن حجـر : ( ثقـة حافـظ ، عـارف القـراءات ، ورع ، لكنه يُدلس) ( التقـريب ص 254 ) .
والأصل في مرويات الأعمش عن شيوخه الذين ثبت سماعه منهم في الجملة ، وكانت تلك المرويات خالية عما يستنكر سنداً أو متناً ، ولم يظهر بعد تتبع الطرق ما يدل على عدم سماع الأعمش من شيخه لذلك الحديث بعينه ، قبول عنعنته وعدم إعلالها بالتدليس وعدم السماع ، وعلى هذا جرى عمل الأئمة الكبار في تخريج أحاديث الأعمش المعنعنة ، كأبي عبد الله البخاري ، ومسلم بن الحجاج في صحيحيهما فضلاً عمن دونهما.
قال العلامة ابن عثيمين : ( ما جاء في صحيحي البخاري ومسلم بصيغة التدليس عن ثقات المدلسين فمقبول ) ( مصطلح الحديث ص 19 ) .
وفي دراسة أجراها الدكتور خالد بن عبد الله السبيت بعنوان " الاختلاف على الأعمش في كتاب العلل للدارقطني(تخريج ودراسة)" قال فيها : ( الأعمش موصوف بنوعين من التدليس هما تدليس الإسناد وتدليس التسوية:
أ- فأما تدليس الإسناد فتبين لي من خلال العينة التي شملتها الدراسة أن تدليس الأعمش قليل وهو مفهوم كلام أهل العلم وعين ما فعله الحافظان العلائي ، وابن حجر العسقلاني إذا وضعاه في المرتبة الثانية .
ب- وأما تدليس التسوية فلم أقف في حديث من أحاديث الدراسة على حديث دلس في هذا النوع من التدليس ، وهذا دالٌ على ندرة وقوع هذا النوع من التدليس منه ) ا.هـ.
والحديث الثاني أخرجه النسائي في سننه من طرق أخرى صحيحة وليس فيها الأعمش رحمه الله , فقال : ( أخبرنا عمرو بن علي ، قال : حدثنا يحيى، قال : حدثنا سفيان ، قال: حدثنا أبو إسحاق عن عمر بن غالب ، قال : قالت عائشة أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يحل دم امرئ مسلم إلا رجل زنى بعد إحصانه ، أو كفر بعد إسلامه ، أو النفس بالنفس " ) .
ثم روى النسائي حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه في هذا الموضوع، فقال : ( أخبرني إبراهيم بن يعقوب ، قال : حدثني محمد بن عيسى ، قال : حدثنا حماد بن زيد قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، قال : حدثني أبو أمامة بن سهل ، وعبد الله بن عامر بن ربيعة قال: كنا مع عثمان وهو محصور ، وكنا إذا دخلنا مدخلا نسمع كلام من بالبلاط ، فدخل عثمان يوماً ثم خرج فقال : إنهم ليتواعدوني بالقتل ، قلنا يكفيكهم الله ، قال : فلم يقتلوني ؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : رجل كفر بعد إسلامه ، أو زنى بعد إحصانه أو قتل نفساً بغير نفس ". فو الله ما زنيت في جاهلية ولا إسلام ، ولا تمنيت أن لي بديني بدلا منذ هداني الله ولا قتلت نفساً ، فلم يقتلوني ؟! " وهذا حديث صحيح وإسناده صحيح ) .
وقال الإمام البخاري في صحيحه في " كتاب استتابة المرتدين " : " حدثنا مسدد حدثنا يحيى ، عن قرة بن خالد قال : حدثني حميد بن هلال ، قال : حدثنا أبو بردة ، عن أبي موسى قال : أقبلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم , وساق قصة من طلبوا العمل من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لن أو لا نستعمل على عملنا من أراده ، ولكن اذهب أنت يا أبا موسى أو يا عبد الله بن قيس إلى اليمن ثم أتبعه معاذ بن جبل ، فلما قدم عليه ألقى له وسادة ، قال : انزل ، فإذا رجل عنده موثق قال : ما هذا ؟ قال : كان يهوديا فأسلم ، ثم تهود قال : اجلس ، قال : لا أجلس حتى يقتل قضاء الله ورسوله ثلاث مرات ، فأمر به فقتل ".. الحديث.
وأخرجه مسلم في " الإمارة " قال : حدثنا عبد الله بن سعيد ومحمد بن حاتم قالا: حدثنا يحيى بن سعيد القطان به .
فهذه جملة من الأحاديث الصحيحة الثابت فيها حكم الله ورسوله بقتل المرتد ، فلا حجة في إنكار الأحاديث , فحد الردة حكم قولي وفعلي .
ولقد تعجبت كثيرًًا من قول أحد أعضاء هذا المنتدى ( أبو أنس ) , أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتل المرتد , وكأن أقواله وأوامره صلى الله عليه وسلم عبث بأرواح العباد , أو هى لا تقبل عنده- أي عند العضو- إذا لم يتبعها الفعل , فهو من حيث لا يدري - أو يدري - ينكر أقوال النبي صلى الله عليه وسلم في معظم أركان الدين , بل ويستخف بأوامره صلى الله عليه وسلم !
بل انظر إلى تبجحه على حضرة المصطفى صلى الله عليه وسلم حين زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك المرتدين دون أن يقتلهم , ونحن نطلب منه الدليل على تلك الدعوى البالية , والتي فيها الإتهامات الواضحة للنبي صلى الله عليه وسلم بعدم القيام بشرع الله في أرضه - وحاشاه صلى الله عليه وسلم - .
بل في ظاهر دعواه إتهام للنبي صلى الله عليه وسلم بأنه لا يعني ما يقول , فهل تنقم من الصحابة رضوان الله عليهم أن استجابوا لأمر نبيهم صلى الله عليه وسلم , وهل تجرؤ أن تزعم أنك أرجح عقلاً , وأكثر فهمًا , وأحرص إتباعًًا لأوامر النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة رضوان الله عليهم ؟!
ففي دعواه الباطلة ما يفيد ضلال الصحابة رضوان الله عليهم الذين قتلوا المرتد في مواضع عدة إستنادًا لأمر النبي صلى الله عليه وسلم , بل يتهم إجماع الأمة المعصوم بالضلال لإجماعها على قتل المرتد .
فانظروا إلى لسان حاله زاعمًا أنه فهم مراد أمر النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة رضوان الله عليهم لم يفهموا , وكذا حاله والأمة !
ثم هو من ناحية أخرى , ينكر الحديث أصلاً من حيث السند وهو في أعلى مراتب الصحة , ثم يعود فيقول - لما كُشف على حقيقته - : أنا أقول بقتل المرتد !
ونقول : إن الإسلام الحنيف هو الذي وضع مواثيق حرية الإعتقاد , فقال سبحانه : {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }البقرة256.
وقد ذكر المفسرون أن سبب نزول الآية في قوم من الأنصار , وإن كان حكمها عاما , فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كانت المرأة تكون مقلاتا – لا يعيش لها ولد – فتجعل على نفسها إن عاش ولدها أن تهوده , فلما أجليت بنو النضير كان فيهم من أبناء الأنصار , فقالوا لا ندع أبناءنا . فأنزل الله عز وجل : {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ }البقرة256.
كما روي نحوه فيمن تنصر ولداه وكان رجلا مسلما فأراد أن يكرهما على الإسلام , وقد أبيا إلا النصرانية فأنزل الله فيه ذلك .( أخرجه أبو داود والبيهقي وابن حبان , والطبري في التفسير 3/14 ) .
فالآية تنفي أن يجبر إنسان على الإسلام , فقوله تعالى : {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ } هذا قبل أن يسلم المرء وقبل أن يدخل في الدين , فكيف يستدل بالآية على إباحة الكفر وجواز الردة ؟! إن المنافقين أرادوا أن يفعلوا ذلك : {وَقَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ }آل عمران72 .
لقد رأى المعترضون عقوبة المرتد مصادرة لحرية الرأي , وحرية التدين , ونحن نؤمن أن حق كل امريء أن يؤمن إذا شاء وأن يكفر إذا شاء : {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقاً}الكهف29 . فإذا آثر الوثنية أو اليهودية أو النصرانية لم يعترضه أحد .
وهنا نتساءل هل من حرية الرأي عند اعتناق الإسلام أن نكسر قيوده ونهدم حدوده ؟ هل حرية الرأي تعطي صاحبها في أي مجتمع إنساني حق الخروج على هذا المجتمع ونبذ قواعده ومشاقة أبنائه ؟ هل خيانة الوطن أو التجسس لحساب أعدائه من الحرية ؟ هل إشاعة الفوضى في جنباته والهزء بشعائره ومقدساته من الحرية ؟!
إن من منافذ الخطأ في فهم النظام الإجتماعي الإسلامي اتخاذ بعض المصطلحات الحديثة معيارا لهذا النظام , مع تجاهل اضطراب هذه المصطلحات , وعدم الإتفاق على تحديد مدلول المصطلح , واختلاف هذا المدلول من زمان إلى زمان , ومن أمة إلى أمة , وذلك كمصطلح : الحرية !
فلسنا نعلم أمة ولاجماعة أطلقت هذا المصطلح من كل قيد , فما من أمة أو جماعة إلا قيدته بقيد أو أكثر بحسب ما ترى فلسفة نظامها الإجتماعي , فانظر على سبيل المثال كيف حاربت الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوربية الشيوعية في شتى أنحاء المعمورة وسفكت دماء الشيوعيين في كل مكان , ولقد زعم يوحنا بولس بابا الفاتيكان السابق في كتاب له عن " الشيوعية " أن الشيوعية هو الخطر الذي يهدد العالم بجميع أنظمته وهيئاته, وأنه يجب محاربتها بشتى الوسائل , بل قام هو شخصيا بمحاربة الشيوعية في كل كتاباته , بل وقرن مع الشيوعية الإسلام , ولعل هذا ما جعل الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوربية محاربة المسلمين لا في بلادهم بل في بلاد المسلمين , وأقاموا حد الردة عليهم آلاف المرات في شتى ديار الإسلام !
فالمرتد لا يقر رأيا فقط , بل يكون خارجا عن الدولة الإسلامية بكل نظامها الأساسي , بل يكون فعله هدما للحق , ونقضا لدولته , وزعزعة لأمنها !
فمن الملوم ؟! الهادم الذي استدعى العقوبة لنفسه , أم المحافظ على كيان الأمة ؟!
فلو أن هذا المرتد قصر خروجه على نيته ولم يصرح به , فلا حرج عليه , فالإسلام لا يحارب الناس على نياتهم , أما إذا صرح وأراد زعزعة الدولة , فتصريحه محاربة للدولة والمجتمع , ولا بد من اقتلاع هذه البذرة الفاسدة من المجتمع .
إن من المتفق عليه عند العقلاء في عصرنا أن فساد الجريمة وفساد المجرم لا يقفان عند حد الجارم بل يتعدى الفساد إلى غيره من الأفراد , وإلى المجتمع , وأن أول ما يؤثر فيه هذا الفساد أهله وأسرته , والمحيطين به والمخالطين له , لذا فإن العقوبة إصلاح للجارم , ووقاية للمجتمع من فساده وزجر لغيره من ذوي النفوس الضعيفة وعن الإقتداء به .
ومن المتفق عليه كذلك أن ترك المجرم يستمتع بجرمه , إنما هو إقرار له على جريمته , وإغراء لغيره بسلوك مسلكه !
ومن المتفق عليه أن مصلحة المجتمع مقدمة على مصلحة الفرد , ذلك لأن مصلحة المجتمع كلية عامة , تعود على مجموع الأفراد , بينما مصلحة الفرد نفسه جزئية تخصه , وضررها يعود على المجموع بمن فيهم ذاك الفرد , بل إنه من المتفق عليه أنه إذا تعارضت حياة الفرد وحياة الجماعة أهدرت حياة الفرد اعتبارا لحياة الجماعة .
فهل خرج الإسلام بحد الردة عن دائرة المتفق عليه بين العقلاء ؟ وهل تجاوز حرية الإعتقاد والتدين ؟!
يقول العلامة الفرنسي " جوستاف لوبون " : ( رأينا في أي القرآن التي ذكرناها آنفا أن مسامحة محمد - صلى الله عليه وسلم – لليهود والنصارى كانت عظيمة للغاية , وأنه لم يمثل مؤسسوا الأديان التي ظهرت قبله كاليهودية والنصرانية على وجه الخصوص , وسنرى كيف سار خلفاؤه على سنته , وقد اعترف بذلك التسامح بعض علماء أوروبا المرتابون أو المؤمنون القليلون الذين أمعنوا النظر في تاريخ العرب , وقد نقل عن "روبرتسن" في كتابه " تاريخ شارلكن " : إن المسلمين وحدهم الذين جمعوا بين الغيرة لدينهم وروح التسامح نحو أتباع الأديان الأخرى وأنهم مع امتشاقهم الحسام نشرا لدينهم, تركوا من لا يرغب فيه أحرارا في التمسك بتعاليمهم الدينية ) ( جوستاف لوبون : حضارة العرب ص 128) .
إن الإسلام الحنيف وضع ضوابط شرعية إنسانية لحد الردة ,
ففي أسفار اليهود والنصارى التي بين أيدينا , نجد فيها أن حد الردة يطبق دون مراجعة أو استتابة , ففي سفر التثنية 17/ 1-7 : ( إذا وجد في وسطك في أحد أبوابك التي يعطيك الرب إلهك رجل أو امرآة يفعل شرا في عيني الرب إلهك , بتجاوز عهده ويذهب ويعبد آلهة أخرى ويسجد لها أو للشمس أو للقمر أو لكل من جند السماء الشيء الذي لم أوص به , وأخبرت وسمعت وفحصت جيدا , وإذا الأمر صحيح أكيد قد عمل ذلك الرجس في اسرائيل , فاخرج ذلك الرجل أو تلك المرآة الذي فعل ذلك الأمر الشرير إلى أبوابك الرجل أو المرآة وارجمه بالحجارة حتى يموت , على فم شاهدين أو ثلاثة شهود يقتل الذي يقتل , لا يقتل على فم شاهد واحد , أيدي الشهود تكون عليه أولا لقتله , ثم أيدي جميع الشعب أخيرا فتنزع الشر من وسطك ) .
وجمهور الفقهاء قالوا بوجوب استتابة المرتد قبل تنفيذ العقوبة , بل قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : " هو إجماع الصحابة رضي الله عنهم " . ( حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين ص 555 ) .
والغرض من هذه الإستتابة إعطاؤه فرصة ليراجع نفسه عسى أن تزول عنه الشبهة وتقوم عليه الحجة ويكلف العلماء بالرد على ما في نفسه من شبهة حتى تقوم عليه الحجة إن كان يطلب الحقيقة بإخلاص , وإن كان له هوى أو يعمل لحساب أخرين , فلا ينعقد الحكم حتى تتم إقامة الحجة باستيفاء الشروط وانتفاء الموانع , ومدة الإستتابة حددها الفقهاء استندادا إلى أقوال الصحابة والتابعين بثلاثة أيام أو أقل أو أكثر , وبعضهم قال بل يستتاب أبدا , فالأمر فيه سعة , ولله الحمد والمنة .
وأخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
المفضلات