ارضاع الكبير بين المسيحية والإسلام
كثيرا ما يتشدق النصارى الجهلة ومعهم بعض اشباه علماء المسلمين المأجورين بما يسمى برضاع الكبير فى الإسلام ، وأن الإسلام قد وصل إلى حد الإسفاف بفتوى النبى صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لصحابى كبير بالغ أن يرضع من امرأة أجنبية عنه حتى تحرم عليه ليتسنى له أ​ن يعيش فى بيتها كأحد أبنائها الذين ربتهم ، وكثيرا ما نرى نصراني عربيد يصول ويجول ويثور ويخور حول هذه المسألة ، مع أن كتبهم وأدبياتهم لا تخلو من الحث على إرضاع الكبير كما سنرى.
وواقع الأمر فالقصة بخلاف ذلك..
إذ أنها نتاج الآثار التي ترتبت على حكم تحريم التبني..

(مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ ۚ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ ۚ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ۚ ذَٰلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ ۖ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ* ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ ۚ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ ۚ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَٰكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ ۚ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا) الأحزاب: 4-5
تبين الآية القرآنية حقيقة لا مفر منها، وهي أن المتبنى ليس ابنا صلبيا، ولا حقيقيا؛ بل هو دعيّ فقط؛ "فالأدعياء جمع الدعيّ، وهو الذي يدعى ابنا لغير أبيه، أو يدّعي غير أبيه، والمصدر الدِّعوة بالكسر، فأمر الله تعالى بدعاء الأدعياء إلى آبائهم الصُلُب"[ القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج14/ ص121.].
فلا ينشئ التبني علاقة دم أو قرابة أو مصاهرة أو رضاع، هذه العلاقات التي لها دور في تحريم بعض الأنكحة، وفي نشوء وثبوت بعض الحقوق.
بالإضافة إلى ذلك فالتبني يشوه ويخرب هذه العلاقات التي تنشئها آصرة النسب، وعلى أساس عقد الزواج بين رجل وامرأة، حيث إن ضوابط عقد النكاح في الشريعة الإسلامية أساس نشوء أواصر القرابة والمصاهرة والرضاع، وحفظ النسب هو قواعد البناء؛ فالأسرة بجميع شبكاتها وأواصرها من (القرابة، والمصاهرة، والرضاع) تنبني على أساس عقد الزواج، والنسب يرتفع بها بناءً متكامل البنيان.
وفي التبني دخول عنصر غريب وشاذ عن البناء الأسري، مما يكون سببا في هدم البناء كله، فتنحل روابط الشبكة، وتنهدم القواعد الضابطة للزواج (المحرمات بالنسب، والمصاهرة ، والرضاع).
كما تضيع مقاصد تشريع التوارث بالتنازع بين العنصر الدخيل (الدعيّ) وبين العناصر الحقيقية للأسرة؛ حيث إن نظام التبني في الجاهلية كان لا يمانع في ميراث المتبنى من متبنيه، فجاءت الشريعة الإسلامية بتحريم هذا النظام، ولم تترك الإرث مطية لكل راكب؛ بل حددت أسبابه وضبطت موانعه، قال تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا مِن بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَٰئِكَ مِنكُمْ ۚ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) الأنفال: 75، وأصبحت أسباب الميراث هي الزوجية والقرابة.
وفي سياق تحريم بعض الأنكحة جاء تحريم نكاح زوجة الابن الصلبي، لا المتبنى؛ ففي إبطال نظام التبني أبطلت كذلك أحكامه، ومنها تحريم الزواج بزوجة الدعيّ، فجاءت حكمته تعالى بإبطال ذلك وجعلها حليلة، قال رب العزة: ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُوا دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا) (النساء: 23).
إذا وقفنا وقفة متأملة عند هذه النقطة، وهي تحريم العرب في الجاهلية الزواج من حليلة الابن الدعي، نصل إلى نتيجة هي غاية في الخطورة، وهي عظم المكانة التي كان يحتلها المتبنى في قلب متبنيه؛ هذا الابن الذي لا يعرف له أب، وهذه حقيقة أولى .
أما الحقيقة الثانية والتي تقف مقابلة لتلك، وفي الوقت نفسه تناقضها تمام المناقضة؛ هي مدى اعتزاز العرب بالنسب آنذاك؛ بين هذا وذاك تناقض صارخ كان يعيشه المجتمع الجاهلي، مما يوحي بمدى الاهتزاز والضعف الذي كان يميز المجتمع؛ فلهذا جاء تحريم نظام التبني لغرض إعادة التماسك للمجتمع، وإعادة بناء روابط وإحكامها بضوابط لا تنخرم لأنها شرعت من قبل العلي القدير القائل: (وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ)الأحزاب :4 ؛ لأن القول بأن المتبنى ابن هو قول الفم فقط؛ أما قوله تبارك وتعالى فهو الحق، وما عداه باطل؛ فإنشاء علاقة أبوة أو بنوة بهذه الطريقة مما لا يمكن عقلا وشرعا؛ فليس من السهولة إنشاء علاقة بناء على قول بالفم؛ بل إن هذه العلاقات قوامها متين ودعائمها صلبة، فلا تتأسس إلا بقاعدة شرعية هي حديث الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" الولد للفراش" [متفق عليه]، فالابن هو المتولد من اختلاط الأمشاج (ماء الرجل وماء المرأة)؛ فقوله تبارك وتعالى هو القول الحق في إلغاء نظام كامل لأنه نظام بني على الغرر والزيف والكذب.
والشارع الحكيم هو المبين للطريق السوي في بناء الأسرة وبشبكاتها المختلفة، فهو(يهدي السبيل)، وسبيله هو الأحق بالاتباع.وهو المبيّن في الآية نفسها، فقد قال تعالى: (ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ ۚ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ ۚ )الأحزاب:4.
ومعنى الآية واضح في إرشاده تبارك وتعالى المؤمنين إلى إلحاق نسب المتبنى بوالده الذي ولد على فراشه، ففي حفظ نسبه لأبيه هو العدل والحق؛ وفي حفظ النسب عموما حفظ لحق الأب وحق الأم وحق الابن نفسه، فمن العدل إلحاق نسب الابن بأبيه لتقوم الحقوق بينهما، الحقوق الأسرية بجميع أنواعها.
أما في حال تعذر معرفة الأب، فإن المتبنى يُرعى ويُكفل على اعتبار أنه أخ في الدين، ولا ندعه وشأنه لأن في هذا مضيعة له وقد كان يدعى ابنا، ودعوة الشارع الحكيم في اتخاذه أخا "هي علاقة أدبية شعورية لا تترتب عليها التزامات محددة كالتزام التوارث والتكافل في دفع الديات، ووجوب النفقات، وتحريم المحرمات، لأنها التزامات النسب بالدم".[ قطب، سيد: في ظلال القرآن، ط 11، (بيروت: دار الشروق، 1985)، ج5/ص2826.].
ففي إلغاء نظام التبني إلغاء لالتزاماته التي من شأنها أن تثير حفيظة باقي أفراد الأسرة على العنصر الدخيل؛ فعدّه أخا في الدين، لا يثير أية شبهة مما يمكن أن تهز روابط ومقومات البناء الأسري.وهذا الإرشاد الرباني لم يكن ليعرف له طريقا إلى قلوب المسلمين بيسر وسهولة، فقد يقع الحرج في قلوب الكثيرين، مما لا يمكن أن يزيله التحريم المؤبد والذي لم يأت منجما متدرجا فيه، فالفطرة الإنسانية قد تشوبها بعض الشوائب من رواسب الجاهلية.
والقرآن الكريم لم يغفل هذه الحقائق الوجدانية، فالتشريع القولي للتحريم رافقه تشريع عملي، "حتى لا يبقى أدنى أثر من الحرج ، في عمل سيد الخلق أجمعي الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فهو أقدر شخص على حمل هذه المسؤولية. [ ابن عاشور، التحرير والتنوير، ج22/ ص39؛ أنظر أيضا: الرازي، تفسير الفخر الرازي، مج 13/ ج25/ ص 193-195.].

وهذه سورة الأحزاب أشارت إلى كل المراحل التي مر بها التشريع العملي الفعلي للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ قال تعالى:(لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) (الأحزاب:21)، وقوله تبارك وتعالى: (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ ۖ فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا ۚ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا) الأحزاب: 37.
وقال أيضا:{ (مَّا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ ۖ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ ۚ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا) الأحزاب: 38.
وقال رب العزة: ( مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَٰكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ۗ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) الأحزاب: 40 [ راجع تفصيل زواج الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من زينب بنت جحش رضي الله عنها زوجة وحليلة متبنيه ( قبل نزول تحريم التبني) زيد بن حارثة رضي الله عنه، عند : الرازي، تفسير الرازي، مج13/ ج 25/ ص 213-215؛ ابن العربي، أحكام القرآن، ج3/ص 1492؛ ابن عاشور، التحرير والتنوير، ج22/ ص39؛ قطب، في ظلال القرآن، ج5/ص 2864-2871.].
وكفالة اليتيم ، قربة من أجل القربات ، لما يترتب عليها من الأجر العظيم والثواب الكبير ، ولما فيها من الرحمة والإحسان والرعاية لهذا اليتيم .
وأما التبني فمحرم تحريما ظاهرا ؛ لقوله تعالى : ( وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ ) الأحزاب/4، 5
وعن أبي ذر رضي الله عنه أنه سمع النبي صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول : ( ليس من رجل ادّعى لغير أبيه وهو يعلمه إلا كفر ، ومن ادَّعى قوما ليس له فيهم نسب فليتبوأ مقعده من النار ) رواه البخاري (3317) ومسلم (61).