القرآن والتسيير

(وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين، ولا يزيد الظالمين إلا خسارا) ومن الظالمين من يعتمد على العقل، في فهم حقائق الدين، كل الاعتماد.

والقرآن قد جعل وكده تركيز فهم التسيير في العقول، بالطائفة المستفيضة من آياته، فإذا استقرت مدركات العقول في طوايا الصدور، ظهر أن ليس في القرآن حرف لا يدعو إلى وحدة الفاعل.. فوحدة الفاعل هي أصل التوحيد، وقاعدته، وبتجويد وحدة الفاعل تتبع كل مستويات التوحيد الأخرى. وأمر التسيير هو وحدة الفاعل هذه. فلنستمع إلى طائفة من هذه الآيات (هو الذي يسيركم في البر، والبحر، حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة، وفرحوا بها، جاءتها ريح عاصف، وجاءهم الموت من كل مكان، وظنوا أنهم أحيط بهم، دعوا الله، مخلصين له الدين، لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين * فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق، يأيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم، متاع الحياة الدنيا، ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون.)

هذا أوضح كلام في التسيير الإلهي للناس، وقد أشار إشارة لطيفة إلى علة الغفلة، وهي سعة الحيلة، فإننا إذا احتلنا في أمورنا، ونجعت حيلتنا في حل مشاكلنا، مد لنا هذا النجاح في أسباب الغفلة، فتوهمنا أنا أصحاب إرادة مختارة. والحيلة في البر أوسع منها في البحر، ولذلك قال (هو الذي يسيركم في البر، والبحر) ثم ذهب يفصل أهوال البحر التي تظهر أمامها قلة حيلتنا وعندها (دعوا الله، مخلصين له الدين، لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين) فلما جاءت دعوتهم بلسان حالهم أنجاهم، تبارك وتعالى، ثم قص علينا ما كان من أمرهم فقال (فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق) يعني لما خرجوا من أهوال البحر، ووطئوا البر، واستشعروا القدرة على الحيلة، رجعت إليهم غفلتهم، وادعوا إرادة واختيارا. وهو هنا يذكرنا بأن الذي يسيرنا في البر هو الذي يسيرنا في البحر، فيجب ألا نكون من الغافلين.

وقوله تعالى (إني توكلت على الله، ربي وربكم، ما من دابة الا هو آخذ بناصيتها، إن ربي على سراط مستقيم) وقوله تعالى (أفغير دين الله يبغون، وله أسلم من في السموات والأرض، طوعا وكرها، وإليه يرجعون؟) وقوله تعالى (أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم؟ قل الله خالق كل شئ، وهو الواحد القهار) وقوله تعالى (تسبح له السموات السبع، والأرض، ومن فيهن، وإن من شئ إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم، إنه كان حليما غفورا) وقوله تعالى (والله خلقكم وما تعملون) أي خلقكم وخلق أعمالكم. وقوله تعالى (ما أصاب من مصيبة في الأرض، ولا في أنفسكم، إلا في كتاب، من قبل أن نبرأها، إن ذلك على الله يسير * لكيلا تأسوا على ما فاتكم، ولا تفرحوا بما آتاكم، والله لا يحب كل مختال فخور * الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل، ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد) وفي جميع هذه الآيات حكمة تربوية بالغة، يستفيد منها من استيقن أمر التسيير.



التسيير ما هو؟

أول ما يجب توكيده هو أن الله لا يسير الناس إلى الخطيئة، وإنما يسيرهم إلى الصواب، قال تعالى عن لسان هود (إني توكلت على الله، ربي وربكم، ما من دابة الا هو آخذ بناصيتها، ان ربي على سراط مستقيم.) ومعنى هذا أن الله مسير كل دابة على السراط المستقيم، وكل دابة مهتدية، حالا، ومآلا، ما دامت في طاعة الله، وليس من شئ في الوجود بمفلت عن هذه الطاعة، ولكن الله تبارك وتعالى يريد أن يكون المطيع مدركا لهذه الطاعة، وبهذا وضع خطا فاصلا بين الهدى والضلال، ما دونه ضال، ومن فوقه مهتد، وهنا دخل اعتبار الإيمان والكفر. وليس الاختلاف بين الإيمان والكفر اختلاف نوع، وإنما هو اختلاف مقدار، فالمؤمن علمه أكثر من الكافر.. أو قل أن المؤمن يطيع الله وهو عالم بذلك، والكافر يطيع الله وهو جاهل بذلك، والله تعالى يقول (إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شئ، وهو العزيز الحكيم) هو يعلم ذلك ولكنهم لا يعلمون، وهو يريد لهم أن يعلموا. و (هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟).

إن إرادة الله لا تعصى، ولكن الله يريد أن ينقل الخلائق من طاعة ما يريد، إلى طاعة ما يرضى، فإنه سبحانه وتعالى أراد شيئا لم يرضه. فهو تعالى يقول (إن تكفروا فإن الله غني عنكم، ولا يرضى لعباده الكفر، وإن تشكروا يرضه لكم.) فكأنه يقول، إن تكفروا فإنكم لم تكفروا مغالبة لله، وإنما كفرتم بإرادته، ولكنه لا يرضى لكم ما أراده لكم. والرضا هو الطرف الرفيع من الإرادة. أو هو قمة هرم قاعدته الإرادة، فالإرادة في مرتبة (الثنائية)، والرضا في مرتبة (الفردانية)، ففي الإرادة يدخل الكفر والإيمان، ولكن بالرضا لا يدخل إلا الإيمان.

والأمر التكويني أعلى من الإرادة. فقمته رضا وقاعدته إرادة فهو هرم مكتمل، وتفصيل ذلك يجئ في آخر يس حيث يقول جل من قائل (إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون). والأمر التشريعي يمثل قمة هرم الأمر التكويني، حين تكون قاعدته إرادة، والله تعالى حين قال (وإذا أردنا أن نهلك قرية، أمرنا مترفيها، ففسقوا فيها، فحق عليها القول فدمرناها تدميرا) إنما أراد بالأمر هنا الأمر التكويني في مستوى قاعدة هرمه، وهو إرادة. وحين قال (وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا، والله أمرنا بها، قل إن الله لا يأمر بالفحشاء، أتقولون على الله ما لا تعلمون؟) إنما أراد الأمر التشريعي ومعنى (إن الله لا يأمر بالفحشاء) إن الله لا يرسل رسلا، ويؤيدهم بالمعجزات، ثم تكون شرائعهم داعية إلى الفحشاء (ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم، والنبوة، ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله، ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب، وبما كنتم تدرسون * ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا، أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون؟).

فالأمر التشريعي دعوة لإخراج الناس من إرادة الله إلى رضاه تعالى، ومن اجل ذلك أرسل الرسل، وأنزل الكتب، وقال فيها (ان الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون)..

ومع أن الأمر التشريعي وحدة، إذا ما قورن بالإرادة، فإنه، لدى النظر الدقيق، ذو شكل هرمي أيضا، قاعدته الشريعة الجماعية، وقمته الشريعة الفردية، وقمة هرم الأمر التشريعي هذه، تكون لقمة هرم الأمر التكويني قاعدة، وهذا الأخير قمته عند الله، حيث لا حيث. وإلى هذه القمة الدقيقة، الممعنة في الدقة، الإشارة بقوله تعالى (إنا كل شئ خلقناه بقدر، وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر) وهكذا يظهر بوضوح هرم الكائنات، قمته التنزل الأول إلى مرتبة الاسم، وهو مرتبة الشريعة الفردية وقاعدته التنزل الأخير إلى مرتبة الفعل، وهو مرتبة التعدد، في الأحياء والعناصر، وأسفل السافلين فيها هو الدخان، وهو بخار الماء ومنه خلقت الأشياء، والأحياء. قال تعالى: (ثم استوى إلى السماء وهي دخان، فقال لها وللأرض إئتيا طوعا أو كرها، قالتا أتينا طائعين * فقضاهن سبع سموات في يومين، وأوحى في كل سماء أمرها، وزينا السماء الدنيا بمصابيح، وحفظا، ذلك تقدير العزيز العليم) وأدنى من ذلك إلى قاعدة هرم الخليقة قوله تعالى عن هذا الدخان (أولم ير الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما، وجعلنا من الماء كل شئ حي، أفلا يؤمنون؟) وحين كانت قمة هذا الهرم عند الله فقد كانت القاعدة بعيدة عنه، وليس البعد هنا بعد مسافة، وإنما هو بعد درجة. فقمة هرم الخليقة، وهي مرتبة الشريعة الفردية، في عالم الملكوت. وقاعدة الهرم في عالم الملك، وعالم الملكوت مهيمن على عالم الملك، حتى أن عالم الملك بمثابة الظلال لعالم الملكوت، فعالم الملك هو عالم الظاهر، وعالم الملكوت هو عالم الباطن، أو قل عالم الملك هو العالم المحسوس، حيث التعدد، وعالم الملكوت هو عالم المعاني، حيث الوحدة، وليس معنى هذا أن ليس في عالم الملكوت محسوس، ولكن معناه أن محسوسه هو من اللطف بحيث لا يحس إلا بالحاسة السابعة.. وسلطان العاشقين، ابن الفارض إنما عنى هذا اللطف اللطيف حين قال:

ولطف الأواني في الحقيقة تابع للطف المعاني والمعاني بها تنمو