بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

لماذا أنزلت الأديــــان؟

من كتاب كابوس الكفر للدكتور يحيي هارون



لقد أودع الله في أصل فطرة الإنسان ومنذ لحظة خلقه ميلا إلى إدراك وجود الله وذلك باستخدام ما عنده من ملكات الوعي والحكمة. إن من الحقائق الجلية أن كل شيء في الكون من أكبر ما فيه من موجودات إلى أصغرها، هو من خلق وتدبير الله. ففي كل شيء يحيط بنا آية وبرهان على وجود الله. فقد خلق الله الطير الذي يحلق في جو السماء والأسماك التي تسبح في قيعان البحار والإبل التي تجوب الصحراء وطيور البنغوين التي تعمر الدائرة القطبية الجنوبية للكرة الأرضية والبكتريا التي تتخذ من أجسادنا سكنا والتي لا ترى بالعين المجردة والثمار والنباتات والغيوم والكواكب والمجرات العظيمة في أكمل هيئة وأحسن تقويم وزودها جميعا بأنظمة وأجهزة حساسة ومزايا راقية.

وبالمثل، كل النظم التي تعين على استمرار الحياة في الأرض مرسومة وفق توازن دقيق. فحدوث أدنى اختلال أو انحراف في هذه التوازنات، ولو قيس بالمليمتر، من شأنه أن يجعل الحياة على وجه الأرض مستحيلة. وإن التأمل في هذه التوازنات ليكشف عما تنطوي عليه من حساب دقيق رائع وخطة بديعة. فلو تراجعت سرعة دوران الأرض حول الشمس عن معدلها الحالي لأسفر ذلك عن فروق هائلة في درجات الحرارة بين الليل والنهار، كما ستؤدي الزيادة في سرعة دوران الأرض حول الشمس إلى حدوث أعاصير وفيضانات مما يشكل تهديدا خطيرا للوجود على كوكب الأرض.




كما توجد توازنات أخرى دقيقة تجعل الحياة ممكنة على ظهر كوكبنا الأرضي. لهذا يستحيل عقلا القول بأن هذه التوازنات الدقيقة الرائعة هي وليدة المصادفة العمياء. فكاميرا التصوير أو السيارة تدل الإنسان على وجود صانع حاذق واع، وبالمثل يتعين على المرء أن يستنتج أن الكون وما فيه من شبكة نظم مترابطة ليس كيانا مستقلا بذاته خالقا لها. وتتكرر في القرآن الآيات التي يلفت الله فيها أنظارنا إلى أدلة وجوده وآيات حكمته المبثوثة في الكون: " هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُون " (النحل: 10-13) وفي قوله تعالى: " أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُون " (النحل: 17)

حري بمن يتأمل الآيات سالفة الذكر أن يقر، ولو كان مجردا تماما من المعارف الدينية، بوجود الله وأن ينبهر من قدرة الله وحوله. إن نظر الإنسان في جسده، ذلك الكيان الذي يموج بمنظومات معقدة ومترابطة، كفيل بجعل الإنسان يقر بجلال خلق الله. وكذلك بمقدور الشخص الذي لم يطلع على كتاب الله الموحى أن يهتدي إلى خالقه بملاحظة وتأمل ما يحيط به من مخلوقات. فالكون يزخر بالأدلة على وجود الله لكن لا يقف على هذه الأدلة إلا الذين أوتوا قرائح متقدة: "إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَاب الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ " (آل عمران: 190-191)

وهنا، أي بعد الإقرار بوجود الله، تتجلى الحاجة إلى الدين أكثر. وذلك ببساطة لأن الشخص الذي يقر بوجود الله سيرغب حتما في التقرب إليه، ومعرفة المزيد عنه والبحث عن سبل لاكتساب حبه ورحمته، والسبيل الوحيدة إلى هذه الغايات تكمن في فهم قيم القرآن كلام الله الخالد ودستور الإسلام السماوي، دين الحق.

القرآن يزود الإنسان بكل المعارف الضرورية له
لم يخل عصر من العصور من كتب منزلة ورسل مرسلون إلى بني الإنسان، كل ذلك لأجل أن يعرّف الله نفسه للإنسان وليعلمه أنماط السلوك والقيم الأخلاقية وأسلوب الحياة الذي يريد له العيش وفقه وهيئه له. لقد أرشدت تلك الكتب وتلك الرسل الإنسان إلى المعاني الحقيقية لمفاهيم الخير والشر والخطأ والصواب، ولفتت نظره إلى ما سيقفو الموت من حياة أخروية يثاب فيها المحسن ويعاقب فيها المسيء.

وبهذه الكيفية بيّن الله كل ما يحتاج الإنسان إلى معرفته على امتداد حياته عن طريق الأديان السماوية، فلم تغادر هذه الأديان كبيرة ولا صغيرة فيما يتصل بكيفية تحقيق حياة قيمة وطيبة في هذه الدنيا وفي الآخرة إلا جاءت بها. وقد وردت الإشارة إلى الغاية الأولى من خلق الإنسان وإرسال الرسل وإنزال الديانات في آيات كثيرة من آي الذكر الحكيم : " وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَـؤُلاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِين "(النحل: 89)، " وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا "(الإسراء: 105)، " ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِيَ أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ "(الأنعام: 154)