[SIZE="5"]بين هجرة المسلمين وهجرة اليهود

ونحن نستقبل العام الهجري الجديد من المهم هنا أن نقارن بين هجرة المسلمين من مكة إلى المدينة قديماً وبين هجرة اليهود من بلاد كثيرة إلى الأراضي الفلسطينية الطاهرة حديثاً، وتتركز المقارنة هنا في أمر يلتقي فيه المسلمون واليهود، وأمور يفترقون عندها.
فأما الذي يلتقون فيه فهو أن الدافع للهجرة كان عقدياً دينياً، فالمسلمون هاجروا من أجل إقامة دين جديد في بلد آمن.
وهاجر اليهود من أوروبا وأميركا وآسيا وأفريقيا مقررين أن يتركوا أرضهم ولغتهم ويحترموا اللغة العبرية من أجل إقامة مملكة الله أو دولة إسرائيل فكلتا الهجرتين باسم الدين والعقيدة.
أما الأمور التي يختلفون فيها فهي:

أولاً :هجرة المسلمين

1 ـ أن هجرة المسلمين كانت بوحي من الله سبحانه وتعالى، وكانت الأسباب من صنعهم وبرغبتهم وتطلعهم إلى ثواب الله. ومهد الله سبحانه وتعالى لها بما قدمناه وسقناه من أدلة في الفصول السابقة. كما أنها كانت تخطيطا وتدبيرا محكما لا يُعفى فيه المسلمون من الجد، والتخطيط اتكالا على نصر يتقاطر عليهم من السماء.
2ـ واللافت للانتباه أنه بعد اجتماع الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بوفد المدينة في بيعة العقبة الثانية وهي من مقدمات الهجرة، قالوا له :
قد سمعنا مقالتك ، فتكلم يا رسول الله فخذ لنفسك ولربك ما أحببت ، وفي رواية خذ لنفسك ما شئت واشترط لربك ما شئت .
فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أشترط لربي عز وجل أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا ، ولنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وآباءكم .
فقال ابن رواحة : فإذا فعلنا فما لنا ؟.
فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لكم الجنة .
قالوا : ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل .
لم تكن صفقة دنيوية إذن، وما كان فيها شيء من مساومة.
وفي رواية أن العباس بن عبادة بن نضلة تكلم مع الأنصار وشد العقدة ، فقال : يا معشر الخزرج هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل ؟ إنكم تبايعونه على حرب الأحمر، والأسود من الناس ـ أي على من حاربه منهم ـ ثم ذكر مثل ما تقدم عن أسعد بن زرارة.
ثم توافقوا على ذلك .
وقالوا: يا رسول الله ما لنا بذلك إن نحن قضينا ؟.
هنا يظهر جوهر الرسالة .
قال: رضوان الله والجنة.
قالوا: رضينا ابسط يدك.
فبسط يده صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فبايعوه .
وأول من بايعه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ البراء بن معرور ، وقيل اسعد بن زرارة ، وقيل أبو الهيثم بن التيهان ، ثم بايعه السبعون كلهم ، وبايعه المرأتان المذكورتان من غير مصافحة ، لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان لا يصافح النساء ، إنما كان يأخذ عليهن ، فإذا أحرزن قال اذهبن فقد بايعتكن .
فلما قدم الأنصار المدينة أظهروا الإسلام إظهارا كليا وتجاهروا به.
وأمر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من كان معه من المسلمين بالهجرة إلى المدينة .

ثانياً :هجرة اليهود

أما هجرة اليهود فقد دبرها لهم غيرهم ومهد لها الانتداب البريطاني على فلسطين•
يقول بنيامين نتنياهوـ رئيس وزراء إسرائيل عام 1996م وعام 2009م ـ في كتابه(مكان تحت الشمس) الذي ترجمه للعربية محمد عوده الدويري وراجعته كلثوم السعدي، ونشرته دار الجيل، عمان، الطبعة الثالثة، 1997م، ص 363: تحت عنوان [استمرار الهجرة اليهودية إلى فلسطين هو الذي يحقق حلم مؤسسي الحركة الصهيونية].
(إن تاريخ الصهيونية هو تاريخ هجرة اليهود إلى"أرض إسرائيل" وهذا هو العنصر الذي سيحسم مستقبل الدولة السكاني؛ لذا فإن المفتاح لمستقبل الدولة والحل لكافة مشاكلها السكانية يكمنان في استمرار هجرة اليهود إلى إسرائيل حتى تصبح مأوى للجماهير اليهودية التي شاهدها مؤسسو الحركة الصهيونية في أحلامهم، ولذا فإن النضال من أجل الهجرة اليهودية هو نضال من أجل استمرار بقاء إسرائيل).

ثالثاً: أن وصف المسلمين الذين تركوا مكة إلى المدينة أطلق عليهم [ المهاجرون] وهو وصف أطلقه رب العزة عليهم، جاءت الآيات الكثيرة التي ترفع من قدرهم، ومنها:

أ ـ قال تعالى:[ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ{20}] التوبة: ٢٠
وقال تعالى:[ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَـئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ{218}] البقرة: ٢١٨.
وقال تعالى:
[ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَاباً مِّن عِندِ اللّهِ وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ{195}] آل عمران: ١٩٥ .

وقال تعالى:
[ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ{41}] النحل: ٤١ - ٤٢
وقال تعالى:
[ وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رَّحِيماً{100}]
النساء: 100
وهذا اللقب أطلق عليهم لأنه لم يكن لهم على ظهر الأرض من نصير، فقد كانت الدنيا كلها ضدهم: مشركون ونصارى ويهود.
أما المشركون فلأن القرآن عاب الأصنام وحقر الأوثان وهدم تقاليد الجاهلية.. وأما المسيحية فإن الإسلام كان في مكة ينكر بحرارة أن يكون لله ولد، وذلك في سورة الكهف ومريم وغيرهما من السور المكية...وأما اليهود ـ وهم عدو ثالث ـ فإن القرآن لم يترك من أمرهم شيئاً، فقد فضح عقائدهم وعرى صفاتهم الخبيثة المتعددة فلم يكن بد لهؤلاء جميعاً ـ وقد عالنهم القرآن بصفاتهم وخباياهم ـ أن يغتاظوا ويغضبوا ويزداد كرههم للإسلام وحقدهم للمسلمين، ومن هنا لم يكن للمسلمين في الهجرة يد تحميهم إلا يد الله، ولا كنف يأوون إليه إلا كنف الله•
من ناحية أخرى كانت الجماعة المسلمة في ذلك الوقت ضعيفة من حيث العدد والعدة، وكان أعداؤهم يملكون عناصر القوة وأسباب الاضطهاد ورغم ذلك فقد نجحوا في بناء مدينة تأتي دونها في الوصف المدينة الفاضلة التي تعشقها الفلاسفة وتخيلوا فيها الكمال وأثبتوا أن الإيمان الناضج يحيل البشر إلى خلائق تباهي الملائكة سناء ونضارة.

رابعاً: بينما كانت حال اليهود مباينة لذلك من كل جانب فلقد تعهدت إنجلترا ـ الدولة الأولى في العالم يومئذ ـ ما بين عامي ( 1917 – 1948) أن تكيف الظروف في فلسطين لاستقبالهم وكان الحاكم الإنجليزي في فلسطين يذل العرب ويعطش أرضهم حتى لا ينبت فيها زرع فيبيعها الفلسطينيون بأبخس ثمن أو بأغلاه، ولم تتعهد إنجلترا وحدها بذلك إنما تولى إصر ذلك معها أميركا وروسيا وفرنسا، كذلك ملوك العرب بخيانتهم وخذلانهم•
يقول بنيامين نتنياهو في كتابه مكان تحت الشمس ص 104 : لم تكن بريطانيا الدولة الوحيدة التي وعدت اليهود بوطن قومي في فلسطين، بل إن عصبة الأمم التي انتدبت بريطانيا على فلسطين ضمت وعد بلفور (إلى كتاب الانتداب كجزء لا يتجزأ منه)، وفيه( يكون صاحب الانتداب مسئولا عن أن تسود في الدولة ظروف سياسية وإدارية واقتصادية تضمن إنشاء الوطن القومي اليهودي). ص104 .
من ناحية أخرى كان اليهود وأعوانهم غاية في القوة والاقتدار، ومع ذلك فإننا نرى اليوم ما يحدث على أرض الرسالات من رعب وهلع لليهود، فلا يتمتعون بأمن ولا ينعمون باستقرار، ومصيرهم حتماً إلى الزوال بمنطق القرآن والسنة والتاريخ والواقع•

خامساً: أن المسلمين الذين هاجروا كانوا دعاة توحيد لله وإصلاح للأرض كانوا يعلمون الدنيا أن الله رب العالمين لا شريك له وأن الناس يجب أن يسلموا وجوههم إليه ويحيوا على الأرض وفق المنهج الذي ارتضاه الله لهم، فترفعت عن المآرب هممهم، وأخلصوا لله طواياهم، وذهلوا عن متاع الدنيا، واستهوتهم مثل عليا لا مثيل لها في الأولين والآخرين•
بينما كانت صلة اليهود بالله مغشوشة، والدوافع التي جاءت بهم، وإن كانت دينية إلا أن ما فيها من باطل أضعاف ما فيها من حق، وما يكتنفها من ظلم ليست معه شائبة عدل، من أجل هذا كله كان البون شاسعاً والفرق واسعاً بين هجرة المسلمين وهجرة اليهود•
إن المسلمين – في قضية الهجرة – إنما يقيمون على أرضهم بتأشيرة إقامة إلهية باسم الإسلام، فإذا فقدوا هذه التأشيرة أو تنازلوا عنها لم يكن لهم أرض ولا وطن ولا هجرة.
أما اليهود فيقيمون على أرض فلسطين بتأشيرة إقامة من بلفور والبون واسع بين التأشيرتين.[/
SIZE]