بروِيَّة ودراسة متأنية وقفت مليا أمام هذا الموضوع الذي ملأ المنتديات صراخا وعويلا حينا ، وطبلا وزمرا حينا آخر ، وقلبت النظر كرة بعد أخرى في الروايات الواردة فيه ، وكيف علق عليها السادة العلماء وخرجت من ذلك بقناعة مبررة من وجهة نظري ، أرجو الله لها أن تكون وافية وكافية حول هذا الموضوع الذي يستغله المشتبهون لترويج ما يهدفون إليه من إلصاق التهم بديننا وتراثنا بقصد الصدِّ عنه وإيقاف المد الإسلامي الذي يتغلغل داخل المجتمعات غير الإسلامية بدخول الكثيرين في الإسلام عن قناعة ويقين لكن دونهم وما يريدون نجوم السماء.


والأصل في هذا الموضوع قصة إرضاع سهيلة بنت سهل متبناها السابق سالما وهي واردة في الصحيح ففي صحيح مسلم وغيره عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : جَاءَتْ سَهْلَةُ بِنْتُ سُهَيْلٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَرَى فِي وَجْهِ أَبِي حُذَيْفَةَ مِنْ دُخُولِ سَالِمٍ وَهُوَ حَلِيفُهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْضِعِيهِ قَالَتْ وَكَيْفَ أُرْضِعُهُ وَهُوَ رَجُلٌ كَبِيرٌ فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ قَدْ عَلِمْتُ أَنَّهُ رَجُلٌ كَبِيرٌ "


وقد راعيت في الكلام على هذه المسألة الإيضاح والإفصاح وحصر الكلام في نقاط بارزة حيث استقر لدي أن الإشكالية في هذا الموضوع تنحصر في عدة نقاط إذا ما اهتدينا إلى فهمها ووعيها لم يكن ثمت إشكال وهذه مقاربتي في هذا الموضوع:


أولا – هل كشفت امرأة أبي حذيفة ثديها لسالم كي يرضع منه ؟

هذه هي الإشكالية التي يبني عليها المشتبهون كلامهم ، والجواب عن هذا هو النفي القاطع وهذه مبرراتي:

1- هذا الادعاء يتناقض مع خصوصية التركيز على إسدال الخمار على منطقة الصدر في قوله سبحانه: { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِن } ( النور: 31 ) والجيب هو فتحة الثوب من أعلي فكيف تخص الآية هذه المنطقة بالذكر مع أنها داخلة في عموم قوله تعالى قبل ذلك { وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا } ثم يُدَّعى أن سالما كشفها ورضع من سهلة ،لو حدث هذا لتناقض الشرع مع نفسه ولصار للمشركين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولليهود مندوحة يطعنون بها النبي صلى الله عليه وسلم وتشريعه لكن ذلك لم يحدث فدل على أن هذا المُدَّعى لم يقع


2- أخرج ابن سعد في طبقاته عن الواقدي عن محمد بن عبد الله بن أخي الزهري عن أبيه قال كانت تحلب في مسعط أو إناء قدر رضعته فيشربه سالم في كل يوم حتى مضت خمسة أيام فكان بعد يدخل عليها وهي حاسر رخصة من رسول الله صلى الله عليه وسلم لسهلة. فإن قيل:

* إن الواقدي مجروح فالرواية ضعيفة ، قلنا إن هذا الخبر تدعمه أصول الشرع من القرآن والسنة وهي النصوص الملزمة لستر المرأة بدنها عن الأجانب ، وتحريم لمسها ومصافحتها ونحو ذلك ، ثم إنه لم يرد ما يعارضه أي لم يرد خبر أقوى منه ولا مثله ولا حتى أضعف منه يثبت أن سالما رضع من ثدي سهلة مباشرة ، فقط ما يعتمدون عليه في ذلك هو المعنى اللغوي للرضاع والمُعَوَّل عليه شرعا هو الاصطلاح الشرعي أو الحقيقة الشرعية.

3- إن مفهوم الرضاعة شرعا يطلق على وصول اللبن إلى معدة الطفل وأما شكل هذا الوصول فليس له مظهر شرعي يجب مراعاته واعتباره ، يعني المُعَوَّل عليه هو وصول اللبن معدة الرضيع.

ولذلك ناقش الفقهاء حكم اللبن إذا خلط بشيء آخر مشروبا كان أو مأكولا هل يحرم أم لا ؟ فجمهور الفقهاء على التحريم إذن فليس بشرط أن يكون التحريم منوطا بالتقام الثدي لأن الخلط لا يتصور إلا خارج الثدي؟


وهذا ما فهمه العلماء في قصة إرضاع سالم. قال القاضي عياض : ولعل سهلة حلبت لبنها فشربه من غير أن يمس ثديها ، ولا التقت بشرتاهما ، إذ لا يجوز رؤية الثدي ، ولا مسه ببعض الأعضاء .

وقال ابن عبد البر: صفة رضاع الكبير أن يحلب له اللبن ويسقاه ، فأما أن تلقمه المرأة ثديها ، فلا ينبغي عند أحد من العلماء. وما ارتأى علماؤنا ذلك إلا انسجاما مع أصول الشريعة.