قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِياًّ) 46 مريم
فصلت جملة :...لوقوعها في المحاورة كما تقدم في قوله تعالى :
{ قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها } سورة البقرة ( 30 ).
والإستفهام للإنكار إنكـاراً لتجافي إبراهيم عن عبادة أصنامهم . وإضافة الآلهة إلى ضمير نفسه إضافة ولاية وانتساب إلى المضاف
لقصد تشريف المضاف إليه .
وقد جاء في جوابه دعوة إبنه بمنتهى الجفاء والعُنجهية بعكس ما في كلام إبراهيم من الـلّين والرقة , فدلّ ذلك على أنّه كان قاسي
القلب , بعيد الفهم , شديد التصلّب في الكفر .
وجملة أراغب أنت جملة إسمية مركبة من مبتدأ وفاعل سدّ مسدّ الخبر على اصطلاح النجاة طرداً لقواعد التّركيب اللـفظي ,
ولكنهم اعتبروا الإسم الواقع ثانيا بعد الوصف فاعلا سـادّاً مسدّ الخبر فقد أثبتوا لذلك الإسم حكم المسند إليه وصار للوصف
المبتدأ حكم المسند .
فمن أجل ذلك كان المصير إلى مثل هذا النظم في نظر البلغاء هو مقتضى كون المقام يتطلّب جملة إسمية للدلالة على إثبات المسند
إليه ويتطلّب الإهتمام بالوصف دون الإسم لغرض يوجب الإهتمام به , فيلتجىء البليغ إلى الإتيان بالوصف أولا و الإتيان بالإسم ثانيا.
ولمـا كان الوصف له عملُ فعله تعين على النجاة اعتبار الوصف مبتدأ لأن للمبتدأ عراقة في الأسـماء , واعتباره مع ذلك متطلّباً
فاعلا , وجعلوا فاعله سادّا مسدّ الخبر , فصار للتركيب شبهـان . والتحقيقُ أنه في قوة خبر مقدم ومبتدأ مؤخر.
ولهذا نظر الزمخشري في الكشاف إلى هذا المقصد فقال : قُدم الخبر على المبتدأ في قوله : أراغب أنت عن آلهتي لأنه كان أهمّ
عنده وهو به أعنى أه . ولله دره , وإن ضاع بين أكثر النـاظرين دُرّ ُه .
فدل النظم في هذه الآية على أن أبا إبراهيم ينكر على إبراهيم تمكن الرغبة عن آلهتهم من نفسه , ويهتم بأمر الرغبة عن الآلهة
لأنهـا موضع عـَجب .
والنداء في قوله يا إبراهيم تكملة لجملة الإنكار والتعجب , لأنّ المتعجب من فعله مع حضوره يقصد بندائه تنبيه على سوء فعله ,
كأنه في غيبة عن إدراك فعله , فالمتكلم ينزله منزلة الغائب فيناديه لإرجاع رشده إليه , فينبغي الوقف على قوله يا إبراهيم.
وجملة لئن لم تنته لأرجمنك مستأنفة .
والــلام موطئة للقسم تأكيداً لكونه راجمه إن لم ينته عن كفره بآلهتهم .
والرجم : الرمي بالحجارة , وهو كناية مشهورة في معنـى القتل بذلك الرمي . وإسناد أبي إبراهيم ذلك لنفسه يحتمل الحقيقة ;
إمـا لأنه كان من عادتهم أن الوالد يتحكم في عقوبة إبنه , وإمـا لأنه كان حاكما في قومه .
ويحتمل المجاز العقلي إذ لعله كان كبيراً في دينهم فيرجم قومـُه إبراهيمَ استناداً لحكمه بمروقه عن دينهم .
وجملة واهجرني مليـا عطف على جملة لئن لم تنته لأرجمنك ; وذلك لأنه هدّده بعقوبة آجلة إن لم يقلع عن كفره بآلهتم , وبعقوبة
عاجلة وهي طرده من معاشرته وقطع مكالمته .
والهجر : قطع المكالمة وقطع المعاشرة , وإنما أمر أبو إبراهيم إبنـَه بهجرانه ولم يخبره بأنه هو يهجره ليدلّ على أن هذا هو
الهجران في معنى الطرد والخـَلع إشعارا بتحقيره .
ومليـا: طويلا , وهو فعيل , ولا يعرف له فعل مجرد ولا مصدر . فمليّ مشتق من مصدر مُمـات , وهو فعيل بمعنى فاعل لأنه يقال:
أملى له , إذا أطال له المدة , فيأتون بهمزة التعدية , فمليا صفة لمصدر محذوف منصوب على المفعولية المطلقة , أي هجراً مَليّـاً,
ومنه الملاوة من الدهر للمدة المديدة من الزمان , وهذه المادة تدلّ على كثرة الشـيء.
ويجوز أن ينتصب على الصفة لظرف محذوف , أي زمانا طويلا , بناء على أن المـَلا مقصوراً غالب في الزمـان فذكره يغني عن
ذكر موصوفه كقوله تعالى :
{ وحملناه على ذات الواح ^قال } القمر :13 , أي سفينة ذات ألواح .[/color] إنتهى
تفسير التحرير والتنوير / ابن عاشور ( ت1393هـ ) مصنف ولم يتم تدقيقه بعد .
أرجوا أن أكون قد وفّقت في النّقل , وبارك الله بكم جمـيعـاً
المفضلات