قَوْله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ) فِيهِ الْحَلِف فِي الْخَبَر مُبَالَغَة فِي تَأْكِيده .
قَوْله: ( لَيُوشِكَن ) بِكَسْرِ الْمُعْجَمَة أَيْ لَيَقْرَبَن أَيْ لَا بُدّ مِنْ ذَلِكَ سَرِيعًا .
قَوْله: ( أَنْ يَنْزِل فِيكُمْ [ابْنُ مَرْيَمَ] ) أَيْ فِي هَذِهِ الْأُمَّة، " فَإِنَّهُ خِطَاب لِبَعْضِ الْأُمَّة مِمَّنْ لَا يُدْرِك نُزُوله .
قَوْله: ( حَكَمًا ) أَيْ حَاكِمًا، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَنْزِل حَاكِمًا بِهَذِهِ الشَّرِيعَة فَإِنَّ هَذِهِ الشَّرِيعَة بَاقِيَة لَا تُنْسَخ، بَلْ يَكُون عِيسَى حَاكِمًا مِنْ حُكَّام هَذِهِ الْأُمَّة .
قَوْله: ( فَيَكْسِر الصَّلِيب وَيَقْتُل الْخِنْزِير ) أَيْ يُبْطِل دِين النَّصْرَانِيَّة بِأَنْ يَكْسِر الصَّلِيب حَقِيقَة وَيُبْطِل مَا تَزْعُمهُ النَّصَارَى مِنْ تَعْظِيمه، وَيُسْتَفَاد مِنْهُ تَحْرِيم اِقْتِنَاء الْخِنْزِير وَتَحْرِيم أَكْله وَأَنَّهُ نَجَس، لِأَنَّ الشَّيْء الْمُنْتَفَع بِهِ لَا يُشْرَع إِتْلَافه.
قَوْله: ( وَيَضَع الْحَرْب ) فِي رِوَايَة الْكُشْمِيهَنِيِّ " الْجِزْيَة "، وَالْمَعْنَى أَنَّ الدِّين يَصِير وَاحِدًا فَلَا يَبْقَى أَحَد مِنْ أَهْل الذِّمَّة يُؤَدِّي الْجِزْيَة ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ أَنَّ الْمَال يَكْثُر حَتَّى لَا يَبْقَى مَنْ يُمْكِن صَرْف مَال الْجِزْيَة لَهُ فَتُتْرَك الْجِزْيَة اِسْتِغْنَاء عَنْهَا . وَقَالَ عِيَاض: يُحْتَمَل أَنْ يَكُون الْمُرَاد بِوَضْعِ الْجِزْيَة تَقْرِيرهَا عَلَى الْكُفَّار مِنْ غَيْر مُحَابَاة ، وَيَكُون كَثْرَة الْمَال بِسَبَبِ ذَلِكَ . وَتَعَقَّبَهُ النَّوَوِيّ وَقَالَ : الصَّوَاب أَنَّ عِيسَى لَا يَقْبَل إِلَّا الْإِسْلَام . قُلْت : وَيُؤَيِّدهُ أَنَّ عِنْد أَحْمَد مِنْ وَجْه آخَر عَنْ أَبِي هُرَيْرَة " وَتَكُون الدَّعْوَى وَاحِدَة ". قَالَ النَّوَوِيّ: وَمَعْنَى وَضْع عِيسَى الْجِزْيَة مَعَ أَنَّهَا مَشْرُوعَة فِي هَذِهِ الشَّرِيعَة أَنَّ مَشْرُوعِيَّتهَا مُقَيَّدَة بِنُزُولِ عِيسَى لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ هَذَا الْخَبَر، وَلَيْسَ عِيسَى بِنَاسِخِ لِحُكْمِ الْجِزْيَة بَلْ نَبِيّنَا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْمُبَيِّن لِلنَّسْخِ بِقَوْلِهِ هَذَا، قَالَ اِبْن بَطَّال: وَإِنَّمَا قَبِلْنَاهَا قَبْل نُزُول عِيسَى لِلْحَاجَةِ إِلَى الْمَال بِخِلَافِ زَمَن عِيسَى فَإِنَّهُ لَا يَحْتَاج فِيهِ إِلَى الْمَال فَإِنَّ الْمَال فِي زَمَنه يَكْثُر حَتَّى لَا يَقْبَلهُ أَحَد ، وَيُحْتَمَل أَنْ يُقَال إِنَّ مَشْرُوعِيَّة قَبُولهَا مِنْ الْيَهُود وَالنَّصَارَى لِمَا فِي أَيْدِيهمْ مِنْ شُبْهَة الْكِتَاب وَتَعَلُّقهمْ بِشَرْعِ قَدِيم بِزَعْمِهِمْ، فَإِذَا نَزَلَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام زَالَتْ الشُّبْهَة بِحُصُولِ مُعَايَنَته فَيَصِيرُونَ كَعَبَدَةِ الْأَوْثَان فِي اِنْقِطَاع حُجَّتهمْ وَانْكِشَاف أَمْرهمْ ، فَنَاسَبَ أَنْ يُعَامَلُوا مُعَامَلَتهمْ فِي عَدَم قَبُول الْجِزْيَة مِنْهُمْ . هَكَذَا ذَكَرَهُ بَعْض مَشَايِخنَا اِحْتِمَالًا وَاَللَّه أَعْلَم .
قَوْله: ( وَيَفِيض الْمَال ) بِفَتْحِ أَوَّله وَكَسْر الْفَاء وَبِالضَّادِ الْمُعْجَمَة أَيْ يَكْثُر ، وَفِي رِوَايَة عَطَاء بْن مِينَاء الْمَذْكُور " وَلَيَدْعُوَنّ إِلَى الْمَال فَلَا يَقْبَلهُ أَحَد " وَسَبَب كَثْرَته نُزُول الْبَرَكَات وَتَوَالِي الْخَيْرَات بِسَبَبِ الْعَدْل وَعَدَم الظُّلْم وَحِينَئِذٍ تُخْرِج الْأَرْض كُنُوزهَا وَتَقِلّ الرَّغَبَات فِي اِقْتِنَاء الْمَال لِعِلْمِهِمْ بِقُرْبِ السَّاعَة .
قَوْله: ( حَتَّى تَكُون السَّجْدَة الْوَاحِدَة خَيْرًا مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا ) أَيْ إِنَّهُمْ حِينَئِذٍ لَا يَتَقَرَّبُونَ إِلَى اللَّه إِلَّا بِالْعِبَادَةِ ، لَا بِالتَّصَدُّقِ بِالْمَالِ ، وَقِيلَ : مَعْنَاهُ أَنَّ النَّاس يَرْغَبُونَ عَنْ الدُّنْيَا حَتَّى تَكُون السَّجْدَة الْوَاحِدَة أَحَبّ إِلَيْهِمْ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا .
(راجع: فتح الباري بشرح صحيح البخاري, لابن حجر العسقلاني رحمه الله)