من اسرار القران

آخـــر الـــمـــشـــاركــــات


مـواقـع شـقــيـقـة
شبكة الفرقان الإسلامية شبكة سبيل الإسلام شبكة كلمة سواء الدعوية منتديات حراس العقيدة
البشارة الإسلامية منتديات طريق الإيمان منتدى التوحيد مكتبة المهتدون
موقع الشيخ احمد ديدات تليفزيون الحقيقة شبكة برسوميات شبكة المسيح كلمة الله
غرفة الحوار الإسلامي المسيحي مكافح الشبهات شبكة الحقيقة الإسلامية موقع بشارة المسيح
شبكة البهائية فى الميزان شبكة الأحمدية فى الميزان مركز براهين شبكة ضد الإلحاد

يرجى عدم تناول موضوعات سياسية حتى لا تتعرض العضوية للحظر

 

       

         

 

 

 

    

 

من اسرار القران

النتائج 1 إلى 10 من 63

الموضوع: من اسرار القران

العرض المتطور

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Nov 2007
    المشاركات
    1,600
    الدين
    الإسلام
    آخر نشاط
    29-11-2014
    على الساعة
    05:10 PM

    افتراضي

    ‏(37)‏ وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين




    هذه الآية الكريمة جاءت في الخمس الأول من سورة فصلت‏,‏ وهي سورة مكية‏,‏ وآياتها أربع وخمسون‏,‏ وقد سميت بهذا الاسم لوصفها القرآن الكريم في مطلعها بأنه كتاب فصلت آياته أي ميزت لفظا ومعني‏,‏ لتناولها كلام الله وهدايته إلي الثقلين بأسلوب معجز في بيانه‏,‏ ونظمه‏,‏ وبلاغته‏,‏ ومحتواه لتناوله قضايا الدين بركائزه الأربع الأساسية‏:‏ العقيدة‏,‏ والعبادة‏,‏ والأخلاق‏,‏ والمعاملات‏..‏ وهي إما من صميم الغيب المطلق الذي لا سبيل للإنسان في الوصول إليه إلا ببيان من الله تعالي‏,‏ بيانا ربانيا خالصا لا يداخله أدني قدر من التصورات البشرية كقضايا العقيدة‏,‏ أو هي أوامر ربانية خالصة كقضايا العبادة‏,‏ والله تعالي يحب أن يعبد بما أمر‏,‏ أو هي ضوابط للسلوك والمعاملات‏,‏ والإنسان كان عاجزا دوما عن أن يضع لنفسه بنفسه ضوابط لسلوكه وتشريعات لمعاملاته‏,‏ ومن هنا كان تميز القرآن الكريم‏.‏
    وتبدأ سورة فصلت بالحرفين المقطعين حم ولذا تسمي أحيانا باسم حم السجدة لأن بها سجدة تلاوة واحدة‏;‏ والحروف المقطعة التي افتتحت بها تسع وعشرون سورة من سور القرآن الكريم‏,‏ والتي تضم نصف أسماء حروف الهجاء الثمانية والعشرين‏,‏ تعتبر سرا من أسرار القرآن الكريم التي لا يعلمها إلا الله‏(‏ تعالي‏).‏

    وبعد هذا الاستفتاح تحدثت السورة عن الوحي بالقرآن الكريم ووصفته بأنه تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون بشيرا ونذيرا‏....‏
    وتؤكد السورة الكريمة هذه الحقيقة في مقام آخر منها يقول فيه الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏ ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته‏...‏ وتشير سورة فصلت إلي كتاب الله في عدد من آياتها‏,‏ مؤكدة أنه كلام الله الخالق‏,‏ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه‏,‏ وتشير إلي كتاب موسي‏(‏ عليه السلام‏)‏ واختلاف قومه فيه‏,‏ وتلفت النظر إلي أن القرآن الكريم هو للذين آمنوا هدي وشفاء‏,‏ وهو في آذان الذين لا يؤمنون به وقر وهو عليهم عمي‏...!!!‏

    وتتحدث السورة عن مواقف المعرضين عن كتاب الله‏,‏ وعن انغلاق قلوبهم دون هدايته‏,‏ ورفض أسماعهم للحق الذي جاء به‏,‏ وعجز طبائعهم عن موافقة دعوته إلي توحيد الله الخالق‏,‏ والاستقامة علي أوامره‏,‏ واجتناب نواهيه‏,‏ والانصياع لتحذيره المتكرر من أخطار الوقوع في الكفر بالله‏(‏ تعالي‏),‏ أو الشرك به‏,‏ أو منع شرائعه‏,‏ وقارنت السورة الكريمة بين الموقف الجاحد لهؤلاء الكفار والمشركين وما سوف ينالهم يوم القيامة من الويل والثبور‏,‏ وبين موقف المؤمنين الذين سوف يعطيهم ربهم أجرا غير ممنون‏.‏
    وفي محاجة ملجمة للكافرين استشهدت سورة فصلت علي وجود الله‏(‏ تعالي‏),‏ وعلي ألوهيته‏,‏ وربوبيته‏,‏ ووحدانيته‏,‏ وعلي طلاقة قدرته بخلق الأرض في يومين‏(‏ أي علي مرحلتين‏);‏ وبخلق الجبال‏,‏ ومباركة الأرض‏,‏ وتقدير أقواتها فيها في أربعة أيام‏(‏ أي أربع مراحل‏)‏ من أجل تهيئتها للعمران‏,‏ والمرحلتان الأوليان داخلتان في المراحل الأربع التالية‏;‏ ثم في مرحلتين تاليتين أتم الله‏(‏ تعالي‏)‏ بناء الكون‏,‏ وجعل السماوات سبعا‏,‏ وزين السماء الدنيا منها بالنجوم وحفظها بها‏.‏

    وبعد استعراض هذه الآيات الكونية المبهرة تنذر السورة جميع المعرضين عن دين الله‏,‏ والكافرين به بعقاب من مثل عقاب أقوام عاد وثمود‏,‏ وعقاب أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس‏,‏ وفصلت السورة شيئا مما حدث لكل منهم‏,‏ وكيف نجي الله المتقين من بينهم‏.‏
    واستشهدت السورة الكريمة ببعض مشاهد العذاب في الآخرة‏,‏ ومن أخطرها أن الله‏(‏ تعالي‏)‏ سوف ينطق سمع‏,‏ وأبصار‏,‏ وجلود أعدائه ليشهدوا عليهم بما كانوا يعملون‏,‏ وتشير السورة إلي ما سوف يدور من حوار بين هؤلاء الخاطئين وجوارحهم التي تشهد علي جرائمهم‏...!!!‏

    وتحذر السورة الكريمة الكافرين من الجحود بآيات الله‏,‏ والانصراف عن الاستماع إلي القرآن الكريم‏,‏ ومحاولة اللغو فيه إذا قرئ عليهم‏,‏ وتهددهم بعذاب شديد‏,‏ يوقفهم موقف الندم والاعتذار‏,‏ ساعة لا ينفع الندم ولا يجدي الاعتذار‏...!!!‏
    وتتحدث سورة فصلت عن شيء من مبشرات المؤمنين الذين آمنوا بالله ربا‏,‏ وبالإسلام دينا‏,‏ وبسيدنا محمد‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ نبيا ورسولا‏,‏ واستقاموا علي منهج الله بتنزل الملائكة عليهم في الدنيا وفي الآخرة‏,‏ وفي لحظات الموت وسكراته‏,‏ وحشرجة الصدر وضيقه‏,‏ مطمئنة إياهم برضا الله عنهم وغفرانه لهم‏,‏ ورحمته بهم‏,‏ وبالنعيم الذي ينتظرهم‏...!!!‏

    وتقارن السورة بين حسن حال المؤمنين في الدنيا والآخرة‏,‏ وسوء حال الكافرين والمشركين في الدارين‏,‏ وتتحدث عن شيء من أخلاق الدعاة إلي الله‏,‏ وأساليبهم في الدعوة إليه‏,‏ وتمايز بين الخير والشر‏,‏ وبين الحسنة والسيئة‏.‏
    وتثبت الآيات رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ بحقيقة أن ما يقال له من الكافرين والمشركين قد قيل للرسل من قبله‏;‏ وأن الله‏(‏ تعالي‏)‏ صاحب المغفرة هو في الوقت نفسه ذو عقاب أليم‏...!!!‏
    وتؤكد السورة أن من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها‏...‏ وأن الله‏(‏ تعالي‏)‏ ليس بظلام للعبيد‏,‏ فهو أحكم الحاكمين‏,‏ وأعدل العادلين‏,‏ وأنه‏(‏ تعالي‏)‏ يرد إليه علم الساعة‏,‏ وعلم كل شيء‏...!!!‏
    وتنتهي السورة إلي الحديث عن شيء من طبائع النفس الإنسانية وتختتم بهذا الوعد الإلهي القاطع بأن الله‏(‏ تعالي‏)‏ سوف يكشف للإنسان‏(‏ في مستقبل بعد زمن الوحي‏)‏ من الحقائق العلمية في آفاق الكون وفي دخائل النفس الإنسانية وفي داخل الجسد البشري ما يؤكد صدق كل ما جاء في كتاب الله من الإشارات إلي الكون ومكوناته وظواهره‏,‏ ـ وإلي كل ما يتعلق بالإنسان ومراحل خلقه‏,‏ وبناء جسده‏,‏ وحديث نفسه‏,‏ وإذا ثبت سبق القرآن بالإشارة إلي تلك الحقائق من قبل أن تصل إلي علم الإنسان بعدد متطاول من القرون‏,‏ وثبت صدق القرآن الكريم في الإشارة إليها بقدر من الدقة والشمول والإحاطة التي لم يصل إليها علم الإنسان بعد في زمن التقدم العلمي والتقني المذهل الذي نعيشه‏...‏ إذا ثبت كل ذلك أصبحت تلك الإشارات الكونية والإنسانية في كتاب الله من أعظم الآيات الدالة علي أنه الحق‏,‏ والدالة علي صدق حديثه عن الغيب‏,‏ وعن الدين بركائزه الأساسية‏,‏ وصدق إخباره عن الأمم السابقة‏,‏ وعن البعث والحساب والميزان والصراط والجنة والنار‏,‏ وكان الشك في إمكان البعث هو أحد الحجج الرئيسية لكفر الكافرين‏,‏ وإعراضهم عن الإيمان بدين الله القويم‏,‏ ولذلك تختتم السورة بقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏

    سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتي يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه علي كل شيء شهيد‏*‏ ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم ألا إنه بكل شيء محيط‏.(‏ فصلت‏:54,53).‏
    ومن الآيات الكونية التي استشهدت بها السورة الكريمة علي طلاقة القدرة الإلهية‏:‏ خلق الأرض في يومين‏(‏ أي علي مرحلتين‏),‏ وخلق الجبال‏,‏ ومباركة الأرض بتهيئتها للعمران‏,‏ وتقدير أقواتها فيها في أربعة أيام‏(‏ أي أربع مراحل‏);‏ وإتمام بناء الكون‏,‏ وجعل السماوات سبعا‏,‏ والأرضين سبعا‏,‏ وتزيين السماء الدنيا بالنجوم‏,‏ وجعلها حفظا لها‏,‏ وتبادل كل من الليل والنهار‏,‏ وحركة كل من الشمس والقمر‏,‏ واهتزاز الأرض وربوها‏(‏ أي انتفاخها وارتفاعها إلي أعلي‏)‏ عند إنزال الماء عليها‏,‏ ودلالة ذلك الإحياء للأرض علي إمكان البعث وإحياء الموتي‏.‏ وكل واحدة من هذه القضايا لا يكفيها مقال منفصل‏,‏ ولذا فإنني سوف أقتصر هنا علي قضية واحدة منها ألا وهي قضية تقدير الأقوات في الأرض علي أربع مراحل متتالة‏,‏ وقبل الدخول في هذا الموضوع لابد من التعرض للدلالة اللغوية لألفاظ الآية ولأقوال المفسرين السابقين فيها‏.‏

    الدلالة اللغوية لألفاظ الآية الكريمة‏:‏
    ‏(1)(‏ بارك‏):(‏ البركة‏)‏ هي ثبوت الخير الإلهي في الشيء بنمائه وزيادته بغير أسباب مدركة‏;‏ و‏(‏المبارك‏)‏ هو ما فيه ذلك الخير الإلهي‏;‏ ولما كان الخير الإلهي يصدر من حيث لا يحس‏,‏ وعلي وجه لا يحصي‏,‏ ولا يحصد قيل لكل ما يشاهد منه زيادة غير محسوسة أنه‏(‏ مبارك‏),‏ وأن فيه‏(‏ بركة‏);‏ و‏(‏بارك‏)‏ الشيء أي أودع فيه الخير الإلهي‏;‏ ويقال‏:(‏ بارك‏)‏ الله لك‏,‏ وفيك‏,‏ وعليك‏,‏ و‏(‏باركك‏)‏ أي أودع خيره فيك‏;‏ و‏(‏تبارك‏)‏ الله أي اختص تعالي بكل خير‏;‏ ويقال‏:(‏ تبرك‏)‏ بالشيء أو بالفرد من البشر أي تيمن به‏.‏

    ‏(2)(‏ قدر‏):‏ يقال في العربية‏(‏ قدر‏)‏ أو‏(‏ قدر‏)‏ الشيء‏(‏ يقدره‏)(‏ تقديرا‏)‏ أي حدد كميته‏;‏ و‏(‏القدر‏)‏ كمية الشيء أو مبلغه‏,‏ و‏(‏مقدار‏)‏ الشيء للشيء المقدر له أو به وقتا كان أو زمنا أو كيلا هو كميته‏;‏ يقال‏:(‏ قدرته‏)‏ و‏(‏قدرته‏).‏ ويقال‏:(‏ قدره‏)‏ أي أعطاه‏(‏ القدرة‏)‏ وذلك من مثل قولك‏:(‏ قدرني‏)‏ الله علي كذا أي قواني عليه‏;‏ و‏(‏تقدير‏)‏ الله الأشياء علي وجهين‏:‏ أحدهما بإعطاء القدرة وذلك من مثل قوله‏(‏ تعالي‏):‏ فقدرنا فنعم القادرون‏(‏ المرسلات‏:23),‏ والثاني بأن يجعلها علي مقدار مخصوص‏,‏ ووجه مخصوص حسبما اقتضت الحكمة‏;‏ وذلك من مثل قوله‏(‏ تعالي‏):‏ قد جعل الله لكل شيء قدرا‏(‏ الطلاق‏:3).‏ وقوله‏:‏ إنا كل شيء خلقناه بقدر‏(‏ القمر‏:49),‏ وقوله‏:...‏ والله يقدر الليل والنهار علم أن لن تحصوه‏...(‏ المزمل‏:20),‏ وقوله‏:‏ من نطفة خلقه فقدره‏(‏ عبس‏:19),‏ وقوله‏:‏ والذي قدر فهدي‏(‏ الأعلي‏:3).‏
    و‏(‏التقدير‏)‏ من الإنسان علي وجهين أحدهما‏:‏ التفكير في الأمر بحسب نظر العقل وبناء الأمر عليه وذلك محمود‏;‏ والثاني أن يكون بحسب التمني والشهوة وذلك مذموم يقول فيه الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏ إنه فكر وقدر فقتل كيف قدر
    ‏(‏المدثر‏:19,18).‏

    ‏(3)(‏ أقوات‏):(‏ القوت‏)‏ هو كل ما‏(‏ يقتات‏)‏ به أو ما يمسك الرمق أي ما يقوم به بدن الإنسان‏(‏ وغيره من الكائنات الحية‏)‏ من الطعام‏,‏ وجمعه‏(‏ أقوات‏);‏ وفعله‏(‏ قات‏)‏ أو‏(‏ قوت‏);‏ فيقال‏:(‏ قاته‏)(‏ يقوته‏)(‏ قوتا‏)‏ أي أطعمه قوته‏;‏ و‏(‏أقاته‏)(‏ يقيته‏)(‏ قوتا‏)‏ أي جعل له ما يقوته‏;‏ و‏(‏استقاته‏)(‏ يستقيته‏)(‏ استقاتة‏)‏ أي سأله‏(‏ القوت‏);‏ ويقال‏:(‏ قته‏)(‏ فاقتات‏);‏ وهو‏(‏ يتقوت‏)‏ بكذا أو‏(‏ يقتات‏)‏ علي كذا‏.‏
    كذلك يقال‏:(‏ أقات‏)‏ علي الشيء اقتدر عليه‏;‏ و‏(‏المقيت‏)‏ هو القائم علي الشيء يحفظه ويقيته‏,‏ وقد يقصد به المقتدر والحافظ والشاهد‏,‏ و‏(‏المقيت‏)‏ من أسماء الله الحسني ومن معانيه خالق الأقوات وموزعها علي الخلائق‏.‏

    ‏(4)(‏ أيام‏):(‏ اليوم‏)‏ في العربية وجمعه‏(‏ أيام‏)‏ الفترة من طلوع الشمس إلي غروبها أو ما يعبر عنه بالنهار وهو فترة النور بين ليلين متتاليين‏;‏ وقد يعبر بلفظة‏(‏ اليوم‏)‏ عن فترتي النهار والليل معا وهو ما يعرف‏(‏ باليوم الكامل‏)‏ أو بيوم الأرض الشمسي ويمثل الفترة التي تتم فيها الأرض دورة كاملة حول محورها أمام الشمس‏,‏ ويعبر عنها بالفترة الزمنية بين شروقين متتاليين أو بين غروبين متتاليين للشمس ويساوي‏(‏ في زماننا‏)‏ أربعا وعشرين ساعة كاملة‏.‏
    ويقال في العربية‏:(‏ من أول يوم‏)‏ أي من أول أيام تاريخ محدد وقد يعبر بلفظ‏(‏ اليوم‏)‏ عن يوم محدد في السنة أو في الشهر أو في الأسبوع‏,‏ وقد يعبر به عن الشدة التي يمر بها الفرد أو الجماعة من الناس وذلك مثل قولهم‏:(‏ يوم كيوم عاد‏)‏ أو‏(‏ يوم‏)‏ من‏(‏ أيام‏)‏ الدهر‏,‏ وقد يعبر به عن واقعة محددة في التاريخ‏(‏ كيوم الفتح‏),‏ أو أيام الآخرة‏,‏ أو أيام الله التي لا يعرف مداها إلا هو‏(‏ سبحانه وتعالي‏).‏ وقد يعبر‏(‏ باليوم‏)‏ عن مدة من الزمان أيا كان طولها‏,‏ أو عن فترة من الفترات أو مرحلة من المراحل بغض النظر عن الزمن الذي استغرقته‏.‏
    وقد استخدمت لفظة‏(‏ يوم‏)‏ في القرآن الكريم بهذه المعاني كلها‏.‏

    ‏(5)‏ سواء‏.‏ أي يعدل في الحكم بين الفرقاء‏,(‏ فالسواء‏)‏ العدل‏,‏ وفعله‏(‏ سوا‏)(‏ يسوي‏)(‏ تسوية‏)‏ و‏(‏سواء‏)‏ أي عدل‏;‏ و‏(‏ساوي‏)(‏ يساوي‏)(‏ تسوية‏)‏ أي عادل وتسوية الشيء جعله سواء‏,‏ فالمساواة هي المعادلة المعتبرة في كل شيء‏;‏ ويقال‏:‏ قسم الشيء بينهما بالسوية أي بالعدل‏;‏ و‏(‏سوي‏)‏ و‏(‏سواء‏)‏ الشيء وسطه أو غيره‏,‏ وتأتي بمعني العدل‏,(‏ كما تأتي بالفتح والكسر والضم للسين‏;‏ فإذا ضممت السين أو كسرتها قصرت‏,‏ وإذا فتحتها مددت‏);‏ يقال‏:‏ مكانا‏(‏ سوي‏)‏ و‏(‏سوي‏)‏ و‏(‏سواء‏)‏ أي عدل ووسط‏;‏ و‏(‏سواك‏)‏ و‏(‏سواك‏)‏ و‏(‏سوائك‏)‏ أي غيرك‏.‏
    يقال‏:‏ هما في الأمر‏(‏ سواء‏)‏ أو‏(‏ سواءان‏),‏ وهم‏(‏ سواء‏)‏ أو‏(‏ أسواء‏)‏ أو‏(‏ سواسية‏).‏

    ويقال‏:(‏ استوي‏)‏ الشيء بمعني اعتدل والاسم‏(‏ السواء‏);‏ و‏(‏السي‏)‏ و‏(‏السوي‏)‏ صفة لكل ما يصان من الإفراط والتفريط من حيث القدر والكيفية وجمعه‏(‏ أسواء‏).‏
    ومكان‏(‏ سوي‏)‏ و‏(‏سوي‏)‏ و‏(‏سواء‏)‏ بمعني وسط أي يستوي طرفاه‏.‏

    أقوال المفسرين في تفسير قوله‏(‏ تعالي‏):‏
    قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين
    ‏[‏ فصلت‏:10,9].‏

    ذكر ابن كثير‏(‏ يرحمه الله‏)‏ ما نصه‏:‏ هذا إنكار من الله تعالي علي المشركين الذين عبدوا معه غيره‏,‏ وهو الخالق لكل شيء‏,‏ المقتدر علي كل شيء‏(‏ قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا‏)..‏ أي نظراء وأمثالا تعبدونها معه‏,(‏ ذلك رب العالمين‏)‏ أي الخالق للأشياء هو رب العالمين كلهم‏,‏ وهذا المكان فيه تفصيل لقوله تعالي‏:(‏ خلق السماوات والأرض في ستة أيام‏)‏ ففصل ههنا ما يختص بالأرض مما اختص بالسماء‏,‏ فذكر أنه خلق الأرض أولا لأنها كالأساس‏,‏ والأصل أن يبدأ بالأساس‏,‏ ثم بعده بالسقف‏,‏ كما قال عز وجل‏:(‏ هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوي إلي السماء فسواهن سبع سماوات‏)‏ الآية‏,‏ فأما قوله تعالي‏:(‏ أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها‏)‏ إلي قوله‏:(‏ والأرض بعد ذلك دحاها أخرج منها ماءها ومرعاها‏),‏ ففي هذه الآية أن دحو الأرض كان بعد خلق السماء‏,‏ فالدحو مفسر بقوله‏:(‏ أخرج منها ماءها ومرعاها‏)‏ وكان هذا بعد خلق السماء‏,‏ فأما خلق الأرض فقبل خلق السماء بالنص‏...,‏ وخلق الأرض في يومين‏,‏ ثم خلق السماء‏,‏ ثم استوي إلي السماء فسواهن في يومين آخرين‏,‏ ثم دحي الأرض‏;‏ ودحيها أن أخرج منها الماء والمرعي‏,‏ وخلق الجبال والرمال والجماد والآكام‏,‏ وما بينهما في يومين آخرين‏,‏ فذلك قوله تعالي‏:(‏ دحاها‏),‏ وقوله‏:(‏ خلق الأرض في يومين‏)‏ فخلق الأرض وما فيها من شيء في أربعة أيام وخلق السماوات في يومين‏....‏

    وذكر صاحبا تفسير الجلالين‏(‏ رحمهما الله‏)‏ ما نصه‏:(‏ قل أئنكم‏)‏ بتحقيق الهمزة الثانية‏,‏ وتسهيلها‏,‏ وإدخال ألف بينهما ـبوجهيهاـ وبين الأولي‏,‏ وتركه‏(‏ لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين‏)..(‏ وتجعلون له أندادا‏)‏ شركاء‏(‏ ذلك رب‏)‏ مالك‏(‏ العالمين‏)‏ جمع عالم وهو ما سوي الله‏,‏ وجمع لاختلاف أنواعه بالياء والنون وتغليبا للعقلاء‏.‏
    ‏(‏وجعل‏)‏ مستأنف ولايجوز عطفه علي صلة‏(‏ الذي‏)‏ للفاصل الأجنبي‏(‏ فيها رواسي‏)‏ جبالا ثوابت تثبتها‏(‏ من فوقها وبارك فيها‏)‏ بكثرةالمياه والزروع والضروع‏(‏ وقدر‏)‏ قسم‏(‏ فيها أقواتها‏)‏

    للناس والبهائم‏(‏ في‏)‏ تمام‏(‏ أربعة أيام‏)‏ أي الجعل وما ذكر معه‏..(‏ سواء‏)‏ منصوب علي المصدر أي استوت الأيام الأربعة استواء لاتزيد ولاتنقص‏(‏ للسائلين‏)‏ عن خلق الأرض بما فيها‏..‏

    وجاء في التعليق بالهامش مايلي‏:‏
    قوله تعالي‏:(‏ في يومين‏),‏ ثم قوله بعد ذلك‏:(‏ في أربعة أيام‏,‏ ثم قوله‏:(‏ فقضاهن سبع سماوات في يومين‏),‏ هذا تفصيل لمثل قوله تعالي في سورة ق‏(‏ ولقد خلقنا السماوات والأرض ومابينهما في ستة أيام ومامسنا من لغوب‏)‏ أي‏:‏ تعب وإعياء‏,‏ فتم خلق الأرض وتقدير أقواتها في مقدار أربعة أيام‏,‏ وتم خلق السماوات في مقدار يومين‏,‏ كل ذلك بلا ترتيب زمني‏,‏ لأن‏(‏ ثم‏)‏ في مثل قوله تعالي‏:(‏ ثم استوي إلي السماء وهي دخان‏)‏ لاتفيد في حق الله تعالي ترتيبا زمنيا‏,‏ لأنه تعالي لايجري عليه زمان‏,‏ فكان خلق السماوات والأرض وما بينهما في مقدار ستة أيام من غير تحديد ولاتعيين علي الصحيح‏....‏
    وذكر صاحب الظلال‏(‏ رحمه الله رحمة واسعة‏)‏ مانصه‏:...‏ إنه يذكر حقيقة خلق الأرض في يومين‏,‏ ثم يعقب عليها قبل عرض بقية قصة الأرض‏,‏ يعقب علي الحلقة الأولي من قصة الأرض‏,(‏ ذلك رب العالمين‏)..‏ وأنتم تكفرون به وتجعلون له اندادا‏,‏ وهو خلق هذه الأرض التي انتم عليها‏,‏ فأي تبجح وأي استهتار وأي فعل قبيح؟‏!‏

    وما هذه الأيام‏:‏ الاثنان اللذان خلق فيهما الأرض‏,‏ والاثنان اللذان جعل فيهما الرواسي وقدر فيهما الأقوات‏,‏ وأحل فيها البركة‏,‏ فتمت بهما الأيام الأربعة؟
    إنها بلا شك أيام من أيام الله التي يعلم هو مداها‏,‏ وليست من أيام هذه الأرض‏..‏ والأيام التي خلقت فيها الأرض أولا‏,‏ ثم تكونت فيها الجبال‏,‏ وقدرت فيها الأقوات‏,‏ هي أيام أخري‏,‏ مقيسة بمقياس آخر‏,‏ لانعلمه‏,‏ ولكننا نعرف أنه أطول بكثير من أيام الأرض المعروفة‏.‏

    وأقرب مانستطيع تصوره وفق ما وصل إليه علمنا البشري أنها هي الأزمان التي مرت بها الأرض طورا بعد طور‏,‏ حتي استقرت وصلبت قشرتها وأصبحت صالحة للحياة التي نعلمها‏....‏
    وبارك فيها وقدر فيها أقواتها‏..‏ وقد كانت هذه الفقرة تنقل الي أذهان اسالفنا صورة الزرع النامي في هذه الأرض وبعض ما خبأه الله في جوف الأرض من معادن نافعة كالذهب والفضة والحديد وما إليها‏..‏ فأما اليوم بعد ماكشف الله للإنسان أشياء كثيرة من بركته في الأرض ومن أقواتها التي خزنها فيها علي أزمان طويلة‏,‏ فان مدلول هذه الفقرة يتضاعف في أذهاننا‏..‏

    وجاء في صفوة البيان لمعاني القرآن‏(‏ علي كاتبه من الله الرضوان‏)‏ مانصه‏:‏
    ‏(‏قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين‏)‏ أي أوجدها في مقدار يومين من أيام الدنيا‏.‏ وقيل‏:‏ اليوم منهما كألف سنة من أيامنا‏.‏
    والآية تنديد بالمشركين‏,‏ لتماديهم في الشرك مع ظهور الدلائل الموجبة للإيمان بوحدانيته تعالي وكمال قدرته‏.(‏ اندادا‏)‏ أمثالا من مخلوقاته تعبدونها‏.(‏ وجعل فيها رواسي‏)‏ جبالا ثوابت‏(‏ من فوقها‏)‏ لئلا تميد وتضطرب‏(‏ وبارك فيها‏)‏ جعلها مباركة قابلة للخير‏,‏ كالإنبات وإخراج ماينفع الناس‏.(‏ وقدر فيها أقواتها‏)‏ جعل أقوات أهلها التي يحتاجون إليها في معايشهم علي مقادير معينة‏,‏ بحيث جعل في كل قطر مايناسب أهله‏,‏ ليكون الناس محتاجا بعضهم الي بعض فيما يرتفقون به‏.‏ وهو سبب عمارة الأرض ونظام العالم‏.(‏ في أربعة أيام‏)‏ أي خلق ما في الأرض في تمام أربعة أيام‏(‏ سواء‏)‏ مستوية كاملة‏.‏ مصدر مؤكد لمضمر هو صفة لـ أيام‏,‏ أي استوت سواء أي استواء‏,‏ وقيدت به لدفع توهم التجوز بإطلاقها علي ما دونها بقليل‏(‏ للسائلين‏)‏ أي قدر فيها أقواتها لأجل الطالبين لها‏,‏ المحتاجين إليها من المقتاتين‏.‏ فمدة خلق كل من الأرض وما فيها مقدار يومين‏.‏ وتمام المدتين أربعة أيام كاملة‏.‏

    وذكر أصحاب المنتخب في تفسير القرآن الكريم جزاهم الله خيرا‏.‏
    مانصه قل ـ ايها الرسول ـ لهؤلاء المشركين‏:‏ عجبا لكم‏!‏ تكفرون بالله الذي خلق الارض في يومين‏,‏ وانتم ـ مع هذا ـ تجعلون له شركاء متساوين معه ذلك الخالق للأرض مالك العوالم كلها ومربيهم‏.‏ وجعل في الأرض جبالا ثابتة من فوقها لئلا تميد بكم‏,‏ وأكثر فيها الخير وقدر فيها أرزاق أهلها‏,‏ حسبما تقتضيه حكمته‏,‏ كل ذلك في يومين‏,‏ وأنتم ـ مع هذا ـ تجعلون له شركاء‏,‏ وقدر كل شئ لانقص فيه ولازيادة‏,‏ هذا التفصيل في خلق الأرض وما عليها بيان للسائلين‏.‏

    وجاء في التعليق الهامشي مايلي‏:‏ وحدات الزمن التي يستخدمها الناس مرتبطة بالأرض ودورانها حول محورها وحول الشمس‏,‏ فإذا ما غادر أحد الأرض إلي جرم سماوي اختلفت هذه الوحدات طولا أو قصرا‏.‏ والآيات الكريمة تشير إلي هذه الحقيقة وإلي ان الزمن نسبي‏..‏
    وذكر صاحب صفوة التفاسير‏(‏ جزاه الله خيرا‏)‏ مانصه‏:(‏ قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين‏)‏ الاستفهام للتوبيخ والتعجب أي كيف تكفرون بالله وهو الإله العلي الشأن القادر علي كل شئ‏,‏ خالق الأرض في يومين؟‏(‏ وتجعلون له أندادا‏)‏ أي تجعلون له شركاء وأمثالا تعبدونها معه‏(‏ ذلك رب العاملين‏)‏ أي ذلك الخالق المبدع هو رب العالمين كلهم‏..(‏ وجعل فيها رواسي من فوقها‏)‏ أي جعل في الأرض جبالا ثوابت لئلا تميد بالبشر‏(‏ وبارك فيها‏)‏ أي أكثر خيرها بما جعل فيها من المياه والزرع والضروع‏(‏ وقدر فيها أقواتها‏)‏ أي قدر أرزاق أهلها ومعاشهم قال مجاهد‏:‏ خلق فيها أنهارها وأشجارها ودوابها‏(‏ في أربعة أيام سواء للسائلين‏)‏ أي في تمام أربعة أيام كاملة مستوية بلا زيادة ولانقصان للسائلين عن مدة خلق الأرض وما فيها‏...‏

    أيام الخلق الست في منظور العلوم الكونية
    يري أهل العلوم المكتسبة مراحل خلق الكون الست حسب الترتيب التالي والله‏(‏ تعالي‏)‏ أعلم بخلقه‏:‏
    ‏(1)‏ مرحلة الرتق‏:‏ وهي مرحلة الجرم الأولي الذي بدأ منه خلق السماوات والأرض

    ‏(2)‏ مرحلة الفتق‏:‏ وهي مرحلة انفجار الجرم الأولي وتحوله الي سحابة من الدخان

    ‏(3)‏ مرحلة تخلق العناصر في السماء الدخانية عبر تكون نويات غازي الايدروجين والهيليوم وبعض نويات الليثيوم‏.‏

    ‏(4)‏ تخلق كل من الأرض وباقي أجرام السماء بانفصال دوامات من السحابة الدخانية الأولي وتكثفها علي ذاتها بفعل الجاذبية‏,‏ وانزال الحديد عليها‏.‏

    ‏(5)‏ مرحلة دحو الارض وتكوين أغلفتها الغازية والمائية والصخرية‏,‏ وتصدع الغلاف الصخري للارض‏,‏ وبدء تحرك الواحة‏,‏ وتكون كل من القارات وقيعان المحيطات‏,‏ والجبال‏,‏ وبدء دورات كل من الماء‏,‏ والصخور‏,‏ وتبادل القارات والمحيطات‏,‏ وشق الأودية والفجاج والسبل‏,‏ والتعرية‏,‏ وتسوية سطح الارض‏,‏ وتكون التربة‏,‏ وخزن المياه تحت السطحية‏.‏

    ‏(6)‏ مرحلة خلق الحياة من أبسط صورها الي خلق الانسان
    ويقدر عمر الكون بما يتراوح بين‏10‏ و‏15‏ بليون سنة بينما يقدر عمر أقدم صخور الأرض بنحو‏4.6‏ بليون سنة وهو نفس العمر الذي تم التوصل اليه بتحليل صخور وتراب سطح القمر والعديد من النيازك التي سقطت علي الأرض والفارق الكبير بين العمرين المقدرين لكل من الأرض والسماء‏(‏ وقد خلقا في لحظة واحدة‏)‏ سببه أن صخور الأرض تدخل في دورات عديدة‏,‏ وأن العمر المقدر لها هو عمر لحظة تيبس قشرتها‏,‏ وليس عمر تكون ذرات عناصرها‏,‏ وعمر تيبس قشرة الأرض لا يشمل أيا من مراحل الأرض الابتدائية‏,‏ ولا مراحل تخلق العناصر التي كونت أرضنا الابتدائية وماتلا ذلك من أحداث‏.‏

    وتشير الآيات القرانية‏(29)‏ من سورة البقرة‏,‏ و‏(9‏ ــ‏12)‏ من سورة فصلت الي سبق خلق الأرض لعملية تسوية السماء الدخانية الأولية الي سبع سماوات‏,‏ ويبدو أن المقصود هنا بالسبق هو خلق عناصر الأرض‏,‏ والذي تلاه تجميع تلك العناصر علي هيئة الارض الابتدائية والتي تم رجمها بوابل من النيازك الحديدية‏,‏ وتمايزها الي سبع أرضين‏,‏ ثم دحوها وتكوين أغلفتها الغازية والمائية والصخرية وتشكيلها الي صورتها الحالية وذلك لان خلق السماوات والارض عمليتان متلازمتان ولايمكن لاحداهما أن تنفصل عن الأخري‏.‏

    تقدير أقوات الأرض في منظور العلوم الكونية
    الارض هي ثالث الكواكب بعدا عن الشمس وهي تجري حول هذا النجم في فلك بيضاني قليل الاستطالة‏(‏ اهليلجي‏)‏ بسرعة تقدر بنحو‏30‏ كيلو مترا في الثانية لتتم دورتها هذه في سنة شمسية مقدارها‏365.25‏ يوم تقريبا‏,‏ وتدور حول نفسها بسرعة مقدارها نحو‏30‏ كيلومترا في الدقيقة‏,‏ لتتم دورتها هذه في يوم مقداره‏24‏ ساعة تقريبا‏,‏ يتقاسمه ليل ونهار بتفاوت يزيد وينقص حسب الفصول التي تتبادل بسبب ميل محور دوران الارض علي دائرة البروج بزاوية مقدارها‏66.5‏ درجة تقريبا‏,‏ ويعزي للسبب نفسه هبوب الرياح‏,‏ وهطول الأمطار‏,‏ وفيضان الأنهار‏,‏ وتتابع الدورات الزراعية‏.‏
    ويقدر متوسط المسافة بين الأرض والشمس بنحو‏150‏ مليون كيلو متر وهذه المسافة التي حددتها كتلة الأرض بتقدير من الخالق‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ تلعب دورا مهما في تقدير الأقوات في الأرض وذلك لان كمية الطاقة التي تصل من الشمس الي كل كوكب في مجموعتها تتناسب تناسبا عكسيا مع بعد الكوكب عن الشمس‏,‏ وكذلك تتناسب سرعة جريه في مداره حولها‏,‏ والشمس هي المصدر الوحيد لجميع صور الطاقة الارضية ومن هنا تتضح الحكمة البالغة من تحديد كل من كتلة الأرض ومتوسط بعدها عن الشمس‏,‏ فقد قدرت الطاقة التي تشعها الشمس من كل سنتيمتر مربع علي سطحها بنحو عشرة أحصنة ميكانيكية يصل الي الارض منها جزء من بليوني جزء من هذه الطاقة الهائلة التي تشكل مصدرا مهما من مصادر أقوات الأرض بالقدر المناسب لنوعية الحياة الأرضية‏.‏

    فلو كانت الأرض أقرب قليلا الي الشمس لكانت كمية الطاقة التي تصلها محرقة لجميع صور الحياة علي سطحها ومبخرة لمياهها ومخلخلة لغلافها الغازي‏,‏ ولو كانت أبعد قليلا لتجمدت مياهها ولتوقفت الحياة علي سطحها‏.‏ ويتربط ببعد الأرض عن الشمس بقية أبعاد هذا الكوكب‏,‏ ويقدر حجم الأرض بنحو مليون كيلو متر مكعب‏,‏ ومتوسط كثافتها بنحو‏5.52‏ جم‏/‏سم‏3,‏ وعلي ذلك تقدر كتلتها بنحو ستة آلاف مليون مليون مليون طن‏,‏ وهذه الأبعاد قد حددها ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ بدقة بالغة‏,‏ فلو كانت أكبر قليلا أو أصغر قليلا ما كانت صالحة للحياة الأرضية‏.‏
    وللأرض مجال جاذبية مكنها من الاحتفاظ بغلافها الغازي‏,‏ ولو فقدته ولو جزئيا لاستحالت الحياة علي الأرض‏,‏ وقد بدأت الأرض بكومة من الرماد ثم رجمت بوابل من النيازك الحديدية‏(‏ والتي تحتوي العناصر من الحديد إلي أعلي العناصر وزنا ذريا‏)‏ والنيازك الحديدية الصخرية والصخرية‏,‏ والتي لاتزال تصل إلي الأرض بملايين الأطنان سنويا‏,‏ وهذه العناصر وإنزالها إلي الأرض بأقدار معلومة من تقدير الأقوات فيها‏.‏

    ثم مرت الأرض بمرحلة الدحو وهو إخراج كل من أغلفتها المائية والهوائية والصخرية‏,‏ وغمرتها المياه بالكامل‏.‏
    وبدأت عملية الدحو بتصدع الغلاف الصخري للأرض واندفاع الصهارة الصخرية بملايين الأطنان عبر تلك الصدوع‏,‏ وعبر فوهات البراكين‏,‏ ومن ثم بدأت عملية تحرك ألواح الغلاف الصخري للأرض والتي نتج عنها تكون الجزر البركانية في وسط ذلك المحيط الغامر‏,‏ ثم أخذت تلك الجزر البركانية في التدافع تجاه بعضها البعض لتكون اليابسة بسلاسلها الجبلية الناتجة عن تصادم تلك الالواح الصخرية وبدأت دورة التعرية تفتت صخور الأرض لتكون التربة‏,‏ وبدأت دورات الصخور‏,‏ والمياه‏,‏ وتكون القارات وتفتتها حتي أصبحت الأرض مهيأة لاستقبال الحياة‏.‏

    وبما أن عمر أقدم صخور الأرض يقدر بنحو‏4.600‏ مليون سنة‏,‏ وأن أقدم أثر للحياة الأرضية يقدر عمره بنحو‏3.800‏ مليون سنة‏,‏ فإن إعداد الأرض لاستقبال الحياة قد استغرق مالايقل عن ثمانمائة مليون سنة‏.‏
    وقد خلق الله تعالي الحياة الباكرة في مياه البحار والمحيطات لأنها كانت الوسط المليء بالأملاح المذابة التي حملتها الأمطار والسيول والأنهار من اليابسة إلي قيعان البحار والمحيطات‏,‏ وفي هذه الأثناء كانت صخور الأرض تفتت لتكوين التربة‏,‏ وكانت مياه الأمطار تختزن فيها في تهيئة حكيمة لاستقبال الحياة الأرضية‏.‏

    ومن حكمة الله البالغة في الخلق ان النبات كان سابقا في وجوده علي الحيوان لأن الله‏(‏ تعالي‏)‏ قد أعطاه القدرة علي صناعة غذائه بعملية التمثيل الضوئي مستفيدا من طاقة الشمس وغازات الجو ومياه ومعادن الأرض‏,‏ أما الحيوان فيعتمد في غذائه علي النبات أو علي افتراس غيره من الحيوان إذا كانت له القدرة علي ذلك‏.‏
    وأقدم أثر للحياة علي اليابسة لايتعدي عمره‏450‏ مليون سنة وقد بدأ بالنباتات الأرضية التي عمرت الأرض وسادت سيادة هائلة مما ساعد علي تكوين راقات الفحم من بقاياها في عصر سمي باسم عصر الفحم وامتد إلي نحو‏300‏ مليون سنة مضت‏,‏ واستمرت الحياة الأرضية في الازدهار حتي اكتملت بخلق الملايين من أنواع الحياة النباتية والحيوانية‏,‏ ولعب كل نوع منها دورا مهما في استقبال المراحل التالية عليه‏,‏ كما لعبت بقاياها دورا أهم في تكوين النفط والغاز‏,‏ ولعبت عوامل التعرية والحركات البانية للجبال دورها في تمهيد الأرض وتهيئتها لاستقبال هذا المخلوق المكرم المعروف باسم الانسان‏,‏ والذي لا يكاد أقدم أثر له علي الأرض يتعدي المائة ألف من السنين‏.‏

    فسبحان الذي خلق الأكوان‏,‏ ومنها الأرض‏,‏ وهيأها لاستقبال هذا المخلوق المكرم بهذه المراحل المتطاولة وهو القادر علي أن يقول للشيء كن فيكون‏.‏
    وسبحان الذي بارك الأرض‏,‏ وقدر فيها أقواتها في أربع مراحل متتالية‏:‏ هي الرتق‏,‏ الفتق‏,‏ الدحو‏,‏ وإرساء الجبال فقال‏(‏ عز من قائل‏)‏ معاتبا الكافرين والمشركين من عباده‏:‏ قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين‏*‏ وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين‏*.‏
    ‏(‏فصلت‏:10,9)‏



    صفحة الأحاديث النبوية

    http://www.facebook.com/pages/الاحاد...01747446575326

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Nov 2007
    المشاركات
    1,600
    الدين
    الإسلام
    آخر نشاط
    29-11-2014
    على الساعة
    05:10 PM

    افتراضي

    38)‏ فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال




    هذا النص القرآني جاء قبل منتصف سورة الرعد بقليل‏,‏ وهي سورة مكية‏/‏ مدنية‏,‏ عدد آياتها ثلاث وأربعون‏,‏ وبها سجدة تلاوة واحدة‏,‏ وقد سميت باسم هذه الظاهرة الجوية الرعد لإشارتها إلي حقيقة تخفي علي كل الغافلين من الخلق المكلفين‏,‏ وهي أن الرعد كغيره من الظواهر الكونية هو صورة من صور تسبيح تلك الظواهر لله الخالق الذي أنزل في محكم كتابه قوله الحق‏:...‏ وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لاتفقهون تسبيحهم‏..(‏ الاسراء‏:44)‏ ومحور سورة الرعد الأساسي هو قضية العقيدة بتفاصيلها من توحيد الألوهية‏,‏ والربوبية‏,‏ والدينونة لله الخالق وحده‏(‏ بغير شريك ولا شبيه ولا منازع‏)‏ والإيمان بملائكته‏,‏ وكتبه‏,‏ ورسله‏,‏ وبخاتمهم أجمعين سيدنا محمد بن عبدالله‏(‏ صلي الله وسلم وبارك عليه وعلي آله وصحبه ومن تبع هداه‏,‏ ودعا بدعوته إلي يوم الدين‏)‏ والإيمان بحتمية البعث‏,‏ وبضرورة الحساب‏,‏ وبالخلود في حياة قادمة إما في الجنة أبدا‏,‏ أو في النار أبدا‏..!!‏
    وتبدأ سورة الرعد بأربعة حروف مقطعة المر والحروف المقطعة التي جاءت في مطلع تسع وعشرين سورة من سور القرآن الكريم‏,‏ التي تضم أسماء نصف عدد حروف الهجاء العربية الثمانية والعشرين‏,‏ تعتبر من الأسرار التي لم تكتشف بعد في كتاب الله‏.‏

    تؤكد السورة لرسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ أن القرآن الكريم الذي أنزل إليه من ربه هو الحق ولكن أكثر الناس لايؤمنون ثم تعرض لعدد من آيات الله في الكون الدالة علي طلاقة القدرة الإلهية المبدعة في الخلق‏,‏ وذلك في مقام الاستشهاد علي قدرته‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ في إفناء خلقه‏,‏ وإعادة بعثهم من جديد‏,‏ وبعث الكون كله من حولهم‏,‏ وذلك لأن حجة الكافرين في كفرهم كانت ولا تزال هي عجزهم عن فهم إمكانية البعث بعد تحلل الأجساد وتحولها إلي تراب‏,‏ ناسين أو متناسين أن الله علي كل شيء قدير‏.‏ وتعرض الآيات لعقاب المكذبين بالبعث يوم القيامة‏,‏ وذلك لان الكفر بالبعث كفر بالله‏(‏ تعالي‏)‏ وتكذيب لكتبه ورسله‏..!!‏ وتعجب من استعجال الكافرين لعذاب الله‏,‏ بدلا من سؤال رحمته وهدايته‏,‏ وكأنهم لم يعتبروا بما حصل للامم من قبلهم‏,‏ وتؤكد ان الله‏(‏ تعالي‏)‏ لذو مغفرة للناس علي ظلمهم‏,‏ وانه لشديد العقاب‏..‏
    وتذكر الآيات أن الكافرين كانوا يستعجلون نزول المعجزات الحسية‏,‏ وكأن القرآن الكريم مع عظم قدره ـ لم يكن كافيا لإقناعهم‏!!‏ وتؤكد لرسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ أن هذا الموقف من الكفار لايضيره لأنه قد أرسل لقومه منذرا وهاديا‏,‏ كما أرسل من قبله من رسل الله لأقوامهم‏,‏ وأن الله يعلم كل شيء‏,‏ وهو‏(‏ تعالي‏)‏ علام الغيوب‏,‏ وأن كل شيء عنده بمقدار‏,‏ وأنه‏(‏ سبحانه‏)‏ هو الذي يحفظ خلقه‏,‏ فقد أوكل بكل عبد من عباده ملائكة يحفظونه إلي أن يأتي أمر الله الذي لا يغير مابقوم حتي يغيروا ما بأنفسهم‏,‏ وأنه لا راد لأمره‏,‏ وأن له دعوة الحق‏,‏ بينما دعاء الكافرين في ضلال‏!!‏

    وتؤكد الآيات أن كل ما في الكون يسجد لله‏(‏ تعالي‏)‏ طوعا وكرها‏,‏ وحتي ظلالهم ـ في تحركها بالغدو والآصال ـ تمثل صورة من صور الخضوع لله بالطاعة والامتثال لأوامره‏!!‏
    وتأمر الآيات رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ بسؤال الكافرين عن رب السموات والارض‏,‏ ويأتي الجواب صريحا قاطعا‏:‏ الله رب السماوات والأرض وتعيب علي الكافرين اتخاذهم أولياء من دون الله‏,‏ لايملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا‏,‏ ولم يخلقوا شيئا والله خالق كل شيء وهو الواحد القهار‏,‏ وتتساءل الآيات‏:‏ هل يستوي الأعمي والبصير؟ أم هل تستوي الظلمات والنور؟ وتشبه باطل الكافرين بالزبد الطافي علي وجه الماء المتدفق في الأودية أثناء السيل‏,‏ أو علي وجه مايصهر من خامات المعادن الفلزية النفيسة والنافعة‏,‏ وتشبه الحق الذي أنزله الله تعالي بما يمكث في مجاري السيل وتحت خبث الفلزات من نفيس المعادن ونافعها‏,‏ وتتحدث عن مصير كل من المؤمنين والكافرين يوم القيامة‏,‏ وتعرض لشيء من صفات كل منهم‏,‏ وتؤكد أن الله‏(‏ تعالي‏)‏ يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر‏,‏ وأنه يعطي الدنيا لمن يحب ولمن لايحب‏,‏ فلا يتخيل الكافر أو المشرك الذي أعطي في الدنيا حظا وفيرا أن هذا يمكن أن يكون شاهدا له أنه علي الحق‏,‏ وتؤكد الآيات أن فرح الكافرين والمشركين بالحياة الدنيا هو مجرد غرور لأنها متاع مؤقت إذا قورنت بالخلود في الآخرة‏!!*‏

    وتكرر الآيات تساؤل الكافرين عن المعجزات الحسية التي كانوا يرون ضرورة تنزلها تأييدا لرسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ وترد عليهم بأن الله‏(‏ تعالي‏)‏ يضل من يشاء ممن أراد الضلالة‏,‏ ويهدي من يشاء ممن طلب الهداية‏,‏ وأن المؤمنين تطمئن قلوبهم بذكر الله‏,‏ لأن القلوب المؤمنة لاتطمئن إلا بذكره‏..!‏
    وتخاطب الآيات رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ مؤكدة أن الله‏(‏ تعالي‏)‏ قد أرسله في أمة قد خلت من قبلها أمم ليتلو عليهم الذي أوحي إليه‏,‏ وتدعوه أن يعلن إيمانه بالتوحيد الخالص لله تعالي‏,‏ والتوكل الكامل عليه وحده‏,‏ والإيمان الصادق بأن إليه عود ورجوع كل موجود‏!!‏ وتذكر أنه لو ان كتابا إذا تليت آياته تحركت بها الجبال عن مواضعها وتصدعت بها الأرض وغارت عن مناسيبها وخوطب بها الموتي فأجابوا من داخل قبورهم‏..‏ لكان هو القرآن الكريم‏..‏ وعلي الرغم من ذلك فإن كثيرا من الكفار والمشركين في صد عنه‏,‏ وعناد له‏,‏ وتآمر عليه وعلي أهله وخاصته‏,‏ ولله الأمر جميعا‏!‏

    وتطمئن الآيات الذين آمنوا بأن الله‏(‏ تعالي‏)‏ لو يشاء لهدي الناس جميعا‏,‏ وأنه‏(‏ سبحانه‏)‏ يعاقب الذين كفروا في الدنيا قبل الآخرة‏,‏ فلا يزالون ـ بأعمالهم ـ تصيبهم القوارع الشديدة أو تنزل قريبا منهم‏..‏ حتي يأتي أمر الله‏,‏ والله لا يخلف الميعاد‏.‏
    وتثبت الآيات رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ بأن الرسل من قبله قد استهزيء بهم‏,‏ كما استهزأ الكافرون والمشركون بما يدعو إليه من الحق‏,‏ وأن الله‏(‏ تعالي‏)‏ قد أخذ الذين استهزأوا برسله أخذا وبيلا‏,‏ وأن عذابهم في الآخرة أشد وأبقي‏,‏ وأن ليس لهم من واق من عذاب الله‏.‏

    ولضلال الكافرين‏,‏ ومكرهم‏,‏ وشركهم بالله‏(‏ تعالي‏)‏ أضلهم الله‏,‏ وأكد أن عقباهم النار‏,‏ وهو القائم علي كل نفس بما كسبت‏,‏ والمجازي كلا بما يستحق‏!!‏ وفي المقابل‏:‏ تعرض الآيات لشيء من أوصاف الجنة التي وعد الله بها المتقين‏,‏ وتؤكد أنه علي الذين أوتوا علم الكتب المنزلة من قبل أن يفرحوا بما أنزل إلي خاتم الأنبياء والمرسلين لأنه الصورة النهائية التي تكاملت فيها كل رسالات السماء السابقة‏,‏ وإن كفر بذلك عدد من الأحزاب المنكرة للدين‏,‏ أو الجاحدة لما أنزل علي خاتم الأنبياء والمرسلين‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏).‏
    وتشير الآيات إلي أن إنزال القرآن الكريم حكما عربيا‏,‏ ومعجزة خالدة‏,‏ وباقية إلي يوم الدين‏,‏ هو معجزة هذا النبي الخاتم‏,‏ الذي يحذره ربه من اتباع أهواء الكافرين بعد الذي جاءه من العلم‏,‏ وانه ما كان لرسول أن يأتي بمعجزة الا بإذن الله‏,‏ وان لكل أجل كتابا‏,‏ وأن الله‏(‏ تعالي‏)‏ يمحو ما يشاء‏,‏ ويثبت وأن عنده أم الكتاب

    وتشير الآيات إلي إنقاص الأرض من أطرافها كإحدي الحقائق الكونية الشاهدة علي طلاقة القدرة الإلهية‏,‏ وأن الله‏(‏ تعالي‏)‏ يحكم لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب‏,‏ كما تشير إلي مكر الأمم السابقة‏,‏ وتؤكد ان لله المكر جميعا فهو‏(‏ تعالي‏)‏ يعلم ماتكسب كل نفس وسوف يعلم الكفار لمن عقبي الدار‏,‏ وتختتم السورة الكريمة بخطاب لرسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ بأنه إذا كان الكافرون ينكرون بعثته الشريفة فالله‏(‏ تعالي‏)‏ يشهد بصدقها كما يشهد بها كل من عنده علم الكتاب‏,‏ ويكفيه ذلك عن كل شاهد‏:‏ ويقول الذين كفروا لست مرسلا قل كفي بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب‏.‏
    ‏(‏الرعد‏:43)‏

    ومن الآيات الكونية التي استعرضتها سورة الرعد مايلي‏:‏
    ‏(1)‏ رفع السماوات بغير عمد مرئية
    ‏(2)‏ تسخير الشمس والقمر‏,‏ كل يجري لأجل مسمي
    ‏(3)‏ مد الأرض‏,‏ وخلق كل من الرواسي والأنهار فيها

    ‏(4)‏ خلق الثمار في زوجية واضحة
    ‏(5)‏ اغشاء الليل بالنهار
    ‏(6)‏ توزيع البركات في الأرض علي قطع متجاورات‏,‏ وجنات من أعناب‏,‏ وزرع ونخيل‏,‏ صنوان وغير صنوان‏,‏ يسقي بماء واحد‏,‏ ويفضل الله بعضها علي بعض في الأكل‏.‏
    ‏(7)‏ علم الله تعالي بما تحمل كل أنثي‏,‏ وما تغيض الأرحام وما تزداد‏,‏ وكل شيء عنده بمقدار

    ‏(8‏ـ‏)‏ تقسيم الكون إلي عالم الغيب وعالم الشهادة‏,‏ وكله امام علم الله واحد‏,‏ لأن الغيب المكنون الذي لا تدركه عيون البشر وحواسهم مكشوف لعلم الله الذي لاتخفي عليه خافية في الأرض ولا في السماء‏..‏
    ‏(9)‏ عدد من الظواهر الكونية المبهرة كالرعد‏.,‏ والبرق‏,‏ والصواعق
    ‏(10)‏ إنشاء السحاب الثقال وإنزال المطر منه

    ‏(11)‏ سجود كل من في السماوات والأرض لله‏(‏ تعالي‏)‏ طوعا وكرها‏,‏ وظلالهم بالغدو والآصال‏.‏
    ‏(12)‏ الإقرار بأن الله‏(‏ تعالي‏)‏ هو خالق كل شيء
    ‏(13)‏ إنقاص الارض من أطرافها

    ‏(14)‏ تشبيه الباطل بزبد السيل أو زبد الفلزات المصهورة‏,‏ وتشبيه الحق بما يمكث في الأرض مترسبا من ماء السيل من مثل الجواهر والمعادن النفيسة والنافعة‏,‏ أو يبقي بعد صهر الفلزات الثمينة والمفيدة مع عدد من المواد لتخليصها مما قد يكون فيها من شوائب علي هيئة الخبث‏(‏ الزبد‏).‏
    كل قضية من هذه القضايا تحتاج إلي مقال خاص بها‏,‏ ولكني سوف أركز هنا فقط علي قول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):[‏ أنزل من السماء ماء فسالت اودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال‏(‏ الرعد‏:17)‏
    ولكن قبل ذلك لابد من استعراض الدلالة اللغوية لبعض ألفاظ الآية الكريمة‏,‏ ولأقوال عدد من المفسرين السابقين فيها‏.‏

    الدلالة اللغوية لبعض ألفاظ الآية الكريمة
    من الألفاظ الواردة في الآية الكريمة والتي تحتاج إلي بيان دلالتها اللغوية ما يلي‏:‏
    ‏(1)‏ الزبد‏:(‏ الزبد‏)‏ في العربية مثل‏(‏ زبد الماء‏),‏ و‏(‏زبد البعير‏),‏ و‏(‏زبد الذهب أو الفضة‏)‏ وغيرها‏,‏ هو فقاعات هوائية بها قليل من بخار الماء وبعض الجسيمات الصلبة علي هيئة الرغوة‏:‏ وتنشأ عن التحريك الشديد للسوائل أو غليها أو تخمرها‏,‏ وعن صهر الفلزات وغليانها‏,‏ والزبد‏(‏ الخبث‏)‏ في الحالة الأخيرة قد يتصلب ويجمد ولكنه يبقي مشابها لغثاء السيل في امتلائه بالفراغات والقاذورات‏,‏ ولذلك تطلق لفظة‏(‏ الزبد‏)‏ علي كل أمر تافه حقير‏,‏ لأن هذا‏(‏ الزبد‏)‏ عادة لا قيمة له‏,‏ ولا فائدة منه‏.‏
    و‏(‏الزبد‏)‏ عادة ما يعلو سطح الماء عند اشتداد حركته ويسمي الغثاء‏(‏ من مثل غثاء السيل‏),‏ ويعلو سطح ما بقدر من السوائل أو الجوامد عند غليانها علي هيئة الرغوة ويسمي الوضر أو الخبث ويقال‏:(‏ أزبد‏)‏ الشراب أي صار ذا‏(‏ زبد‏)‏ إذا تخمر ويقال‏:‏ بحر‏(‏ مزبد‏)‏ أي مائج يقذف‏(‏ بالزبد‏),‏ و‏(‏الزبد‏)‏ اشتق اسمه من‏(‏ الزبد‏)‏ لمشابهته اياه في اللون‏,‏ ويقال‏:(‏ زبده‏)‏ أي أطعمه‏(‏الزبد‏)‏ كما يقال‏:(‏ زبدته‏)(‏ زبدا‏)‏ أي أعطيته مالا وفيرا كالزبد كثرة‏,‏ أو أطعمته‏(‏ الزبد‏),‏ وفي الحديث الشريف‏:‏ إنا لا نقبل زبد المشركين‏,‏ و‏(‏الزباد‏)‏ نور يشبه الزبد بياضا‏.‏

    ‏(2)‏ جفاء‏:(‏ الجفاء‏)‏ في العربية هو القطيعة وكل ما هو ضد البر‏,‏ ولذا يقال‏:(‏ جفوته‏)(‏ أجفوه‏)(‏ جفوة‏)‏ و‏(‏جفاء‏)‏ أي هجرته وقطعت كل صلة لي به‏,‏ وهو بالنسبة لي‏(‏ مجفو‏),‏ ويقال‏:(‏ تجافي‏)‏ جنبه عن الفراش أي نبا عنه‏,‏ و‏(‏استجفاه‏)‏ أي عده‏(‏ جافيا‏,‏ كما يقال‏:(‏ جفت‏)‏ القدر و‏(‏أجفت‏)‏ و‏(‏أجفأت زبدها‏(‏ إجفاء‏)‏ أي ألقته إلي خارجها‏,‏ و‏(‏أجفأت‏)‏ الأرض أي أصبحت قاحلة‏(‏ كالجفاء‏)‏ بذهاب خيرها‏.‏
    ‏(3)‏ مكث‏:(‏ المكث‏)‏ بضم الميم وكسرها اللبث والثبات والانتظار‏,‏ يقال‏:(‏ مكث‏)(‏ مكثا‏)‏ ومكثا‏)‏ و‏(‏تمكث‏)‏ أي بقي وتلبث فهو‏(‏ ماكث‏)‏ وهم‏(‏ ماكثون‏),‏ والأمر‏(‏ امكثوا‏)‏ أي ابقوا وتلبثوا‏.‏

    أقوال المفسرين
    في تفسير قوله تعالي‏:[‏ أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال‏.‏
    ‏(‏الرعد آية‏17).‏

    ذكر ابن كثير‏(‏ يرحمه الله‏)‏ مانصه‏:‏ اشتملت هذه الآية الكريمة علي مثلين مضروبين للحق في ثباته وبقائه‏,‏ والباطل في اضمحلاله وفنائه‏,‏ فقال تعالي‏:(‏ أنزل من السماء ماء‏)‏ أي مطرا‏,(‏ فسالت أودية بقدرها‏)‏ أي أخذ كل واد بحسبه‏,‏ فهذا كبير وسع كثيرا من الماء وهذا صغير وسع بقدره‏..(‏ فاحتمل السيل زبدا رابيا‏),‏ أي فجاء علي وجه الماء الذي سال في هذه الأودية زبد عال عليه‏,‏ هذا مثل‏,‏ وقوله‏:(‏ ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية او متاع‏)‏ الآية‏,‏ هذا هو المثل الثاني وهو ما يسبك في النار من ذهب أو فضة‏(‏ ابتغاء حلية‏)‏ أي ليجعل حلية‏,‏ أو نحاسا أو حديدا فيجعل متاعا فإنه يعلوه زبد منه‏,‏ كما يعلو ذلك زبد منه‏(‏ كذلك يضرب الله الحق والباطل‏),‏ أي إذا اجتمعا لا ثبات للباطل ولا دوام له‏,‏ كما أن الزبد لا يثبت مع الماء‏,‏ ولا مع الذهب والفضة مما يسبك في النار‏,‏ بل يذهب ويضمحل‏,‏ ولهذا قال‏:(‏ فأما الزبد فيذهب جفاء‏)‏ أي لا ينتفع به‏,‏ بل يتفرق ويتمزق ويذهب في جانبي الوادي‏,‏ ويعلق بالشجر وتنسفه الرياح‏,‏ وكذلك خبث الذهب والفضة والحديد والنحاس يذهب ولا يرجع منه شيء ولا يبقي إلا الماء وكذلك الذهب ونحوه ينتفع به‏,‏ ولهذا قال‏:(‏ واما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال‏)..‏

    وجاء في الجلالين ـ رحم الله تعالي كاتبيه ـ ما نصه‏:‏ ثم ضرب مثلا للحق والباطل فقال‏:(‏ أنزل‏)‏ تعالي‏(‏ من السماء ماء‏)‏ مطرا‏(‏ فسالت أودية بقدرها‏)‏ بمقدار ملئها‏(‏ فاحتمل السيل زبدا‏)(‏ رابيا‏)‏ عاليا عليه‏,‏ والزبد هو ما علي وجهه من قذر ونحوه‏(‏ ومما توقدون‏)‏ بالتاء والياء‏(‏ عليه في النار‏)‏ من جواهر الأرض كالذهب والفضة والنحاس‏(‏ ابتغاء‏)‏ طلب‏(‏ حلية‏)‏ زينة‏(‏ أو متاع‏)‏ ينتفع به كالأواني إذا أذيبت ـ أي انصهرت ـ‏(‏ زبد مثله‏)‏ أي‏:‏ مثل زبد السيل‏,‏ وهو خبثه الذي ينفيه الكير‏(‏ كذلك‏)‏ المذكور‏(‏ يضرب الله الحق والباطل‏)‏ أي يضرب مثلهما‏(‏ فأما الزبد‏)‏ من السيل ومما أوقد عليه من الجواهر والمعادن‏(‏ فيذهب جفاء‏)‏ باطلا مرميا به‏,‏ وهذا مثل الباطل‏(‏ وأما ما ينفع الناس‏)‏ من الماء والجواهر والمعادن‏(‏ فيمكث‏)‏ يبقي‏(‏ في الأرض‏)‏ زمانا‏,‏ وهذا مثل الحق‏,‏ كذلك الباطل يضمحل وينمحق وإن علا علي الحق في بعض الأوقات‏,‏ والحق ثابت باق‏(‏ كذلك‏)‏ المذكور‏(‏ يضرب‏)‏ يبين‏(‏ الله الأمثال‏).‏
    وجاء في تفسير الظلال ـ رحم الله تعالي كاتبه رحمة واسعة ـ ما نصه‏:‏ ثم نمضي مع السياق‏,‏ يضرب مثلا للحق والباطل‏,‏ للدعوة الباقية والدعوة الذاهبة مع الريح‏,‏ للخير الهاديء والشر المنتفخ‏,‏ والمثل المضروب هنا مظهر لقوة الله الواحد القهار‏,‏ ولتدبير الخالق المدبر المقدر للأشياء‏,‏ وهو من جنس المشاهد الطبيعية التي يمضي في جوها السياق‏:(‏ أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا‏..)‏ الآية‏.‏

    وإنزال الماء من السماء حتي تسيل به الوديان يتناسق مع جو البرق والرعد والسحاب الثقال في المشهد السابق‏,‏ ويؤلف جانبا من المشهد الكوني العام الذي تجري في جوه قضايا السورة وموضوعاتها وهو كذلك يشهد بقدرة الواحد القهار‏..‏
    وأن تسيل هذه الأودية بقدرها‏,‏ كل بحسبه‏,‏ وكل بمقدار طاقته ومقدار حاجته يشهد بتدبير الخالق عز وجل وتقديره لكل شيء‏..‏ وهي إحدي القضايا التي تعالجها السورة‏..‏ وليس هذا أو ذلك بعد إلا إطارا للمثل الذي يريد الله تعالي ليضربه للناس من مشهود حياتهم الذي يمرون عليه دون انتباه‏.‏

    إن الماء لينزل من السماء فتسيل به الأودية‏,‏ وهو يلم في طريقه غثاء فيطفو علي وجهه في صورة الزبد حتي ليحجب الزبد الماء في بعض الأحيان‏,‏ هذا الزبد نافش راب منتفخ‏.‏ ولكنه بعد غثاء‏,‏ والماء تحته سارب ساكن هاديء‏..‏ ولكنه هو الماء الذي يحمل الخير والحياة‏..‏ كذلك يقع في المعادن التي تذاب ـ تصهر ـ لتصاغ منها حلية كالذهب والفضة‏,‏ أو آنية أو آلة نافعة للحياة كالحديد والرصاص‏,‏ فإن الخبث يطفو وقد يحجب المعدن الأصيل‏,‏ ولكنه بعد خبث يذهب ويبقي المعدن في نقاء‏.‏
    ذلك مثل الحق والباطل في هذه الحياة‏,‏ فالباطل يطفو ويعلو وينتفخ ويبدو رابيا طافيا ولكنه بعد زبد أو خبث‏,‏ ما يلبث أن يذهب جفاء مطروحا لا حقيقة له ولا تماسك فيه‏,‏ والحق يظل هادئا ساكنا‏,‏ وربما يحسبه بعضهم قد انزوي أو غار أو ضاع أو مات‏,‏ ولكنه هو الباقي في الارض كالماء المحيي والمعدن الصريح ينفع الناس‏(‏ كذلك يضرب الله الأمثال‏)‏ وكذلك يقرر مصائر الدعوات‏,‏ ومصائر الاعتقادات‏,‏ ومصائر الأعمال والأقوال‏..‏ وهو الله الواحد القهار‏,‏ المدبر للكون والحياة‏,‏ العليم بالظاهر والباطن‏,‏ والباقي والزائل‏.‏

    وذكر صاحب صفوة البيان لمعاني القرآن ـ رحمة الله تعالي رحمة واسعة ـ ما نصه‏:(‏ أنزل من السماء ماء‏)‏ ضرب الله مثلين للحق هما الماء الصافي‏,‏ والجوهر الصافي‏,‏ اللذان ينتفع بهما‏,‏ ومثلين للباطل‏:‏ هما زبد الماء‏,‏ وزبد الجوهر‏,‏ اللذان لا نفع فيهما‏(‏ فسالت أودية بقدرها‏)‏ فسالت المياه في الأودية بمقدارها الذي عينه الله تعالي‏,‏ واقتضته حكمته في نفع الناس‏,‏ أو بمقدارها قلة وكثرة بحسب صغر الأودية وكبرها‏,‏ والأودية جمع واد وهو الموضع الذي يسيل فيه الماء بكثرة‏,‏ ويطلق علي الفرجة بين الجبلين‏.(‏ فاحتمل السيل‏)‏ أي فحمل الماء السائل في الأودية‏(‏ زبدا‏)‏ وهو ما يعلو علي وجه الماء عند اشتداد حركته ويسمي الغثاء‏,‏ وما يعلو علي القدر عند الغليان كالرغوة ويسمي الوضر والخبث‏.(‏ رابيا‏)‏ عاليا مرتفعا فوق الماء‏,‏ طافيا عليه‏,‏ وهنا تم المثل الأول‏,‏ ثم ابتدأ في الثاني فقال‏(‏ ومما يوقدون عليه في النار‏)‏ أي ومن الذي يفعلون عليه الإيقاد في النار كالذهب والفضة والنحاس والرصاص وغيرها من المعادن‏,(‏ ابتغاء حلية‏)‏ اي لأجل اتخاذه حلية للزينة والتجمل كالأولين‏(‏ أو متاع‏)‏ أو لأجل اتخاذه متاعا يرتفق به كالآخرين‏.(‏ زبد مثله‏)‏ أي مثل ذلك الزبد في كونه رابيا فوقه‏,‏ فقوله‏(‏ زبد‏)‏ مبتدأ مؤخر خبره‏(‏ مما يوقدون‏),(‏ كذلك يضرب الله الحق والباطل‏)‏ اي يضرب مثلهما للناس للاعتبار‏,(‏ فأما الزبد فيذهب جفاء‏)‏ فأما الزبد الذي من كل من السيل ومما يوقدون عليه في النار فيذهب مرميا به مطروحا‏,‏ يقال جفأ الماء بالزبد أي إذا قذفه ورمي به‏,‏ وجفأت القدر‏:‏ رمت بزبدها عند الغليان‏,‏ وأجفأت به وأجفأته‏.‏

    وذكر أصحاب المنتخب في تفسير القرآن الكريم جزاهم الله تعالي خيرا ـ مانصه‏:‏
    فهو الذي أنزل عليكم الأمطار من السحاب‏,‏ فتسيل بها الأنهار والوديان كل بالمقدار الذي قدره الله تعالي لإنبات الزرع وإثمار الشجر‏,‏ والأنهار في جريانها تحمل ما لا نفع فيه ويعلو علي سطحها‏,‏ فيكون فيها ما فيه نفع فيبقي‏,‏ وما لا نفع فيه يذهب‏,‏ ومثل ذلك الحق والباطل‏,‏ فالأول يبقي والثاني يذهب‏,‏ ومن المعادن التي يصهرونها بالنار مايتخذون منها حلية كالذهب والفضة ومنافع ينتفعون بها كالحديد والنحاس‏,‏ ومنها ما لا نفع فيه يعلو السطح‏,‏ وأن ما لا نفع فيه يرمي وينبذ‏,‏ وما فيه النفع يبقي‏,‏ كذلك الأمر في العقائد‏:‏ ما هو ضلال يذهب‏,‏ وما هو صدق يبقي‏,‏ وبمثل هذا يبين الله سبحانه الحقائق‏,‏ ويمثل بعضها ببعض لتكون كلها واضحة بينة‏.‏

    وجاء في الهامش‏:‏ بين الله شبيهين للحق هما الماء الصافي والمعدن الصافي ينتفع بهما وبين شبيهين للباطل هما زبد الماء وزبد المعادن المذابة‏(‏ المنصهرة‏)‏ لا نفع منها فقال‏:‏ أنزل من السحاب مطرا فسالت مياه أودية بمقدارها في الصغر والكبر فحمل الماء السائل زبدا عاليا علي وجه الماء يسمي غثاء‏,‏ ومن بعض المعادن التي يوقد الناس عليها في النار كالذهب والفضة والنحاس والرصاص طالبين عمل حلية أو متاع ينتفع به كالأواني وغيره‏.‏ا زبد مثل زبد الماء في كونه عاليا فوق سوائل ـ منصهر ـ المعادن يسمي خبثا كهذا المذكور من الماء وزبده والمعدن وزبده‏,‏ بين الله عزوجل للناس الحق والباطل‏,‏ فالحق كالماء الصافي والمعدن الصافي والباطل كالزبد الذي لاينتفع به‏.‏
    فأما الزبد الناشيء عن السيل والمعادن فيذهب مرميا به‏,‏ وأما ما ينفع الناس من الماء والمعادن فيبقي في الأرض للنفع كهذين المثلين في الجلاء والوضوح يبين الله عزوجل الأمثال للناس فيبصرهم بالخير والشر‏.‏

    مفهوم الآية الكريمة في ضوء المعارف الحديثة
    يقول ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏ أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ماينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال‏.‏
    ‏(‏الرعد‏:17).‏

    هذا المثل القرآني الرائع يشبه الباطل الدنيا بالزبد الذي يطفو فوق أسطح السيول المتدفقة بالماء في الأودية الضيقة والواسعة علي حد سواء‏,‏ أو بما يشبهه من الزبد الذي يطفو فوق أسطح المعادن الفلزية النفيسة والنافعة حينما يتم صهرها مع بعض المواد لتنقيتها من الشوائب العالقة بها‏,‏ وفي الحالتين يتضح أن الزبد الذي يحمله السيل‏(‏ غثاء السيل‏),‏ والزبد الذي يطفو فوق أسطح الفلزات المصهورة‏(‏ خبث الفلزات‏)‏ لاقيمة لهما‏,‏ ولا فائدة في أي منهما‏,‏ وكلاهما نهايته النبذ والإلقاء‏..‏ وكذلك الباطل‏...!!‏
    وفي المقابل يشبه هذا المثل القرآني الحق بما يمكث في الأرض مما ينتفع به الناس في الحالتين‏:‏ ففي حالة السيول الجارية في الأودية ينتفع الناس بمائها ـ والماء سر من أسرار الحياة ـ كما ينتفعون بما يحمله السيل من ثروات معدنية كبيرة تترسب بالتدريج علي طول الوادي الذي يندفع فيه السيل‏,‏ وذلك مع تباطؤ سرعة جريان الماء المتدفق في الأودية وتناقص قدرته علي الحمل‏,‏ فتترسب هذه المعادن كل حسب حجم حبيباته وكثافته النوعية‏:‏ الأثقل فالأقل كتلة بالتدريج حتي يتم تمايز حمولة تلك السيول من المعادن‏,‏ وتركيز كل منها في مناطق محددة من مجاري السيول‏,‏ وتعرف هذه الترسيبات المعدنية باسم رسوبيات القرارة‏(PlacerDeposits),‏ وكثير من الثروات الأرضية تتجمع بمثل هذه الطريقة لوجودها أصلا بنسب ضئيلة في صخور الأرض‏,‏ ويتم ذلك بتكرار هذه العملية لمرات عديدة عبر آلاف السنين إن لم يكن عبر آلاف بل عشرات الآلاف من القرون‏,‏ وهذه حقيقة لم تكن معروفة وقت تنزل القرآن الكريم‏,‏ ولا لقرون متطاولة من بعد نزوله‏,‏ ولذلك ركز الأقدمون من المفسرين علي أن ما يمكث في الأرض بعد ذهاب غثاء السيل‏(‏ أي زبده‏)‏ جفاء هو الماء‏,‏ وما يستفاد به منه في حياة الناس من شرب‏,‏ وسقيا للحيوانات‏,‏ وري للنباتات والمزروعات‏..‏

    وفي حالة خامات الفلزات النفيسة منها كالذهب والفضة والبلاتين‏,‏ والمفيدة كالحديد والنحاس والرصاص والقصدير وغيرها فإنه يضاف إلي تلك الخامات بعض المواد التي تساعد علي انصهارها‏,‏ وعلي تنقيتها مما فيها من شوائب‏,‏ وهذه المواد المساعدة من مثل الحجر الجيري‏,‏ والرمل‏,‏ وثاني أكسيد المنجنيز وغيرها تتحد مع ما بتلك الفلزات من شوائب عند صهرها وتطفو بها فوق سطح الفلز المنصهر مكونة مايعرف باسم خبث الفلزات‏,‏ وهذا الخبث ينفصل تماما عن الفلز المنصهر الصافي‏,‏ وحينما يترك ليتبرد يتجمد علي هيئة طبقة زجاجية سوداء‏,‏ مليئة بالفقاعات الهوائية‏,‏ تشبه إلي حد بعيد غثاء السيل وما يحمل معه من شوائب‏,‏ وبانفصال طبقة الخبث يصبح الفلز في درجة عالية من الصفاء والنقاء‏,‏ وبهذا يشبه القرآن الكريم الحق في صفائه ونقائه‏.‏
    والتشبيه في الحالتين‏:‏ تشبيه الباطل بالزبد الجافي‏,‏ وتشبيه الحق بما يمكث في الأرض فينتفع به الناس جاء علي قدر من الدقة اللغوية والعلمية‏,‏ والإحاطة والشمول بالمعني المقصود لم تكن متوافرة لأحد من الخلق وقت تنزل القرآن الكريم ولا لأكثر من عشرة قرون بعد تنزله‏..‏ مما يقطع بأن القرآن الكريم هو كلام الله الخالق‏,‏ ويشهد بالنبوة والرسالة للنبي الخاتم والرسول الخاتم الذي تلقاه‏(‏ صلي الله عليه وسلم وبارك عليه وعلي آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلي يوم الدين‏).‏

    فمن الأمور الثابتة اليوم أن دورا من الأدوار المنوطة بماء الأرض ـ والماء أصلا هو سر من أسرار الحياة ـ منذ اللحظة الأولي لانبثاقه من داخل الأرض إلي خارجها‏(‏ خلال فترة دحوها‏)‏ وبدأ دورته حول الأرض هو شق المجاري المائية والأودية‏,‏ وتسوية سطح الأرض‏,‏ والتعاون علي تعرية الصخور ونحتها‏,‏ وتفتيت مكوناتها‏,‏ وإذابة مايقبل الذوبان من تلك المكونات وحمله إلي مياه البحار والمحيطات‏,‏ وترك الباقي علي هيئة تربة الأرض‏,‏ أو حمله أيضا إلي البحار والمحيطات والبحيرات والمنخفضات علي هيئة الرسوبيات التي تتضاغط تدريجيا لتكون الصخور الرسوبية‏.‏
    ومن المعروف أن صخور الأرض تتكون من المعادن‏,‏ وأن تلك المعادن تتباين في تركيبها الكيميائي‏,‏ وفي صفاتها الفيزيائية‏(‏ الفطرية‏)‏ فمنها مايتحمل عمليات التعرية ويقاومها فيبقي لفترة طويلة‏,‏ ومنها ما لايقوي علي ذلك فيبلي بسرعة فائقة‏,‏ ومنها ما هو عالي الكثافة فيرسب في الماء‏,‏ ومنها ما هو أقل كثافة من الماء فيحمله الماء إلي مسافات بعيدة ويظل عالقا به لفترات طويلة‏,‏ وحينما تحمل السيول الجارفة هذا الفتات الصخري منحدرة به من قمم الجبال الشاهقة إلي سفوحها الهابطة والسهول المحيطة بها‏,‏ قد تنتهي به إلي قيعان البحار والمحيطات أو إلي دالات داخلية في قلب السهول والسهوب الصحراوية‏,‏ وتقوي السيول علي حمل الفتات الصخري طالما كانت مندفعة بسرعات عالية‏,‏ ولكن حينما تضعف سرعة التيار المائي تتناقص قدرته علي حمل الفتات الصخري فيبدأ في ترسيبه في مجري الوادي الذي يتحرك فيه السيل بالتدريج حسب كتلة مايحمل من فتات‏,‏ وبهذه الطريقة يتمايز هذا الفتات الصخري حسب حجم حبيباته‏,‏ والكثافة النوعية لكل منها‏,‏ فالمعادن ذات الكثافة العالية والحبيبات الخشنة تترسب أولا‏,‏ ويليها بالتدريج المعادن ذات الكثافة الأقل وحجم الحبيبات الأدق‏,‏ وتؤدي
    عملية التمايز إلي تركيز عدد من جواهر الأرض كالألماس والياقوت والزمرد‏,‏ والزبرجد والعقيق والفيروز وغيرها وعدد من الخامات الفلزية النفيسة من مثل الذهب والفضة والبلاتين وغيرها والنافعة من مثل الحديد والنحاس والرصاص والقصدير والزنك والمنجنيز والكروم والنيكل وغيرها‏,‏ علي هيئة تجمعات رسوبية في قيعان الأودية التي مرت بها تلك السيول‏,‏ ولعل هذا هو من دلالات قول الحق تبارك وتعالي‏:....‏ وأما ماينفع الناس فيمكث في الأرض‏..‏ وليس الماء فقط كما تصور السابقون من المفسرين‏..‏
    كذلك في قول الحق‏(‏ سبحانه وتعالي‏):..‏ فسالت أودية بقدرها‏..‏ نري أنه بالإضافة إلي حجم الوادي ضيقا وسعة‏(‏ وبالتالي قلة في كم الماء المندفع فيه وكثرة‏)‏ لعل من المقصود أيضا هو الطريق الذي يسلكه الماء مارا بمناطق ممعدنة أو غير ممعدنة؟ وبأي نوع وقدر من التمعدن؟ لأن هذا من تقدير الله كما نوعا‏..‏

    أما المواد الخفيفة والغثائية التي تحملها فقاقيع الهواء المتكونة بسبب سرعة اندفاع الماء في الوادي علي هيئة زبد السيل أو غثائه‏,‏ فيتكون من الأتربة الدقيقة‏,‏ وبقايا المعادن المسحوقة أو الرقيقة‏,‏ والقش‏,‏ وغيره من فتات النباتات‏,‏ مما لا قيمة له‏,‏ ولا نفع منه‏,‏ ولذا يجمع تحت اسم غثاء السيل ويعبر به عن كل تافه وحقير‏.‏
    ويحمل السيل غثاءه فوق سطح مائه حتي يلقي به علي جوانب الوادي أو دلتاه الداخلية أو في عرض البحر فلا يكاد يبقي له من أثر‏..!!‏

    وعلي ذلك فإن عوامل التعرية ـ وبخاصة الماء‏(‏ سائلا ومتجمدا‏)‏ ـ قد لعبت‏,‏ ولا تزال تلعب‏,‏ دورا مهما في تهيئة الأرض لكي تكون صالحة للعمران‏,‏ ومن أهم هذه الأدوار ـ بالإضافة إلي كون الماء مصدرا من مصادر الحياة وسرا من أسرار الله فيها ـ هو دور الماء في تفتيت الصخور‏,‏ وتكوين التربة والرسوبيات المختلفة‏,‏ وفرز ما فيها من معادن غير قابلة للذوبان في الماء‏,‏ ومقاومة لعمليات البري والتفتيت‏,‏ وتركيزها عبر نقلها من مكنوناتها في داخل الصخور بعد تفتيتها‏,‏ وحملها بواسطة السيول‏,‏ وترسيبها في مجاري الأودية والأنهار ودالاتها‏,‏ وعلي شواطئ البحار وفي مستنقعاتها‏,‏ مع تباطؤ سرعة جريان السيل‏,‏ وتناقص قدرة الماء علي الحمل‏,‏ ومن هنا كانت تسمية تلك الرسوبيات باسم رسوبيات القرارة‏,‏ أما علي شواطئ البحار فتقوم عمليات المد والجزر بحمل الخفيف من المعادن وتركيز الثقيل منها علي الشواطئ تحت مسمي الرمال السوداء‏.‏
    ويعد كل من الذهب والفضة والقصدير من الثروات الأرضية المهمة التي تركز في رسوبيات القرارة‏,‏ وتستخرج من رواسب الأودية‏,‏ ومن قيعان ودالات بعض الأنهار‏,‏ ولذا تعتبر رسوبيات القرارة من المصادر التعدينية الهامة والميسرة علي وجه الأرض‏.‏

    وقد قامت السيول المائية في القديم ـ ولاتزال تقوم ـ بإزالة ما بطريقها من نباتات‏,‏ وحملها إلي عدد من البحيرات الداخلية‏,‏ والمستنقعات‏,‏ وشواطئ البحار‏,‏ حيث تم طمرها بالرسوبيات‏,‏ وتفحمها بمعزل عن الهواء مكونة طبقات من الفحم ذات القيمة الاقتصادية العالية‏,‏ وبزيادة الحرارة علي تلك الطبقات الفحمية في بعض المناطق تحولت إلي الغاز الطبيعي‏,‏ وهو أيضا ذو قيمة اقتصادية عالية‏.‏
    كذلك فإن العديد من صور الحياة الهائمة والسابحة في مياه البحار وفي دالات الأنهار‏,‏ تهبط حين تموت إلي قيعان البحار حيث تطمر بالرسوبيات‏,‏ وتدفن في الأعماق‏,‏ فتتحلل تلك البقايا مكونة كلا من النفط والغاز المصاحب له‏,‏ واللذين لا تخفي أهميتهما اليوم علي عاقل‏.‏

    أما ما يحمل ماء السيول من عناصر ومركبات مذابة فيه فإنها تترسب أيضا بالتفاعلات الكيميائية في مجاري الأودية والأنهار ودالاتها‏,‏ وفوق قيعان البحار والبحيرات علي هيئة عدد من الركازات المعدنية المهمة التي منها‏:‏ الحجر الجيري‏,‏ الفوسفات‏,‏ البوتاس‏,‏ الكبريت‏,‏ الملح‏,‏ الجبس‏,‏ الأنهيدرايت‏,‏ البوكسايت‏(‏ ثالث أكسيد الألومنيوم‏),‏ الماجنيزايت‏(‏ كربونات المغنيسيوم‏)‏ وغيرها‏.‏
    ولعل هذا كله مما يمكن ضمه تحت مدلول النص القرآني المعجز‏..‏ وأما ماينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال‏.‏

    هذه الدقة في التعبير‏,‏ والشمول والإحاطة في الدلالة علي عدد من العمليات الأرضية التي لم يصل الإنسان إلي فهمها إلا بعد مجاهدة استغرقت عشرات الآلاف من العلماء لمئات السنين‏..‏ ورودها في كتاب الله الذي أنزل من قبل ألف وأربعمائة من السنين بهذا الأسلوب المعجز ـ وقد جاءت في مقام التشبيه مما يشهد للقرآن الكريم بأنه كلام الله الخالق الذي أنزله بعلمه‏..‏
    ويشهد للنبي الخاتم الذي تلقاه بأنه كان موصولا بالوحي‏,‏ ومعلما من قبل خالق السماوات والأرض‏..‏ فصلي الله وسلم وبارك عليه وعلي آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلي يوم الدين والحمد لله رب العالمين‏.‏


    صفحة الأحاديث النبوية

    http://www.facebook.com/pages/الاحاد...01747446575326

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Nov 2007
    المشاركات
    1,600
    الدين
    الإسلام
    آخر نشاط
    29-11-2014
    على الساعة
    05:10 PM

    افتراضي

    39)‏ الله الذي جعل لكم الأرض قرارا‏..*‏




    هذا النص القرآني المعجز جاء في الربع الأخير من سورة غافر وهي سورة مكية‏,‏ عدد آياتها‏85,‏ وقد سميت بهذا الاسم الجليل غافر الذي هو صفة من صفات الله العلا لوروده في مطلع السورة‏,‏ وفي ثناياها بصيغة الغفار وهو من أسماء الله الحسني‏.‏
    ويدور محور سورة غافر حول قضيتي الإيمان والكفر‏,‏ وصراع أهليهما عبر التاريخ‏,‏ ومحاولات أهل الباطل للعلو‏,‏ في الأرض‏,‏ والتجبر علي الخلق بغير الحق ــ تماما كما تفعل الولايات المتحدة الأمريكية وذنبها الأعوج المسمي إسرائيل‏,‏ وحلفاؤهما اليوم ــ وترد آيات السورة الكريمة باستعراض لبأس الله الذي يأخذ المتجبرين في الأرض أخذ عزيز مقتدر‏,‏ وتشير إلي عدد من مصارع الغابرين الذين طغوا وبغوا في الأرض بغير الحق‏,‏ فكان جزاؤهم من الله الإفناء الكامل‏,‏ وماذلك علي الله بعزيز‏...!!‏

    وتبدأ سورة غافر بالحرفين المقطعين حم وبهما تبدأ سبع سور من سور القرآن الكريم وتسمي بالحواميم أو بــ آل حم والحروف المقطعة التي تفتتح بها تسع وعشرون سورة من سور القرآن الكريم‏,‏ والتي تضم أسماء نصف حروف الهجاء العربية الثمانية والعشرين تعتبر من أسرار القرآن التي لم يتم اكتشافها بعد‏,‏ وإن بذلت محاولات عديدة من أجل ذلك‏.‏
    ويلي هذا الاستفتاح بيان من الله‏(‏ تعالي‏)‏ بأن القرآن الكريم هو تنزيل من الله العزيز العليم الذي وصف ذاته العلية بقوله‏:‏ غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير‏*‏ والغفر هو الستر والمحو والتكفير‏,‏ و‏(‏الطول‏)‏ هو الفضل والإنعام عن غني وسعة واقتدار‏.‏

    وتخاطب الآيات خاتم الانبياء والمرسلين سيدنا محمد بن عبد الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ بالحقيقة الواقعة‏:‏ أنه لا يجادل في آيات الله بغير علم إلا الذين كفروا‏,‏ وأنه لا يجوز ان يحزنه تقلب الكافرين في البلاد بشئ من السلطان والبطش‏(‏ كما ينقلب الأمريكان والإسرائيليون وأعوانهم اليوم‏)‏ فإن ذلك استدراج لهم‏,‏ حتي إذا ما بالغوا في جرائمهم أخذهم الله بذنوبهم أخذ من سبقوهم من الأمم الكافرة والمشركة من أمثال قوم نوح والأحزاب الذين أفسدوا في الأرض إفسادا كبيرا‏,‏ فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر‏,‏ وتؤكد السورة أن مصيرهم إلي جهنم وبئس المصير‏...!!‏
    وتحدثت السورة عن حملة العرش وعمن حولهم من الملائكة الذين يسبحون بحمد الله ويؤمنون به‏,‏ ويستغفرون للمؤمنين من أهل الأرض‏,‏ ويدعون للذين تابوا منهم بالنجاة من عذاب الجحيم‏,‏ ويسألون الله‏(‏ تعالي‏)‏ لهم‏,‏ ولمن صلح من آبائهم‏,‏ وأزواجهم‏,‏ وذرياتهم جنات عدن‏,‏ وأن يقيهم السيئات‏,‏ كما تعرض لشئ من أحوال الكافرين والمشركين يتذللون بين يدي الله يوم القيامة في انكسار واضح وهم يقولون‏:‏ ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلي خروج من سبيل‏*.‏

    وتستشهد السورة بالعديد من آيات الله في الكون‏,‏ وتوصي المؤمنين بالثبات علي التوحيد الخالص لله ولو كره الكافرون‏,‏ وتصفه‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ بأنه‏:‏ رفيع الدرجات ذو العرش يلقي الروح من أمره علي من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق‏*‏ وهو يوم التقاء الخلق في المحشر‏,‏ وهو يوم عصيب‏,‏ يبرز فيه الخلق امام الله‏(‏ تعالي‏)‏ لا يخفي علي الله منهم شئ‏,‏ وينادي فيهم المنادي‏:‏ لمن الملك اليوم؟ ويأتي الجواب حاسما‏,‏ جازما قاطعا‏:‏ لله الواحد القهار و‏(‏الروح‏)‏ هنا هي الوحي والنبوة لأن القلوب تحيا بهما كما تحيا الاجساد بأرواحها‏...!!‏
    ويأتي القرار الإلهي‏:‏ اليوم تجزي كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب‏.‏

    وتحذر الآيات من أهوال يوم القيامة‏:‏ إذ القلوب لدي الحناجر كاظمين ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع وتؤكد أن الله‏(‏ تعالي‏)‏ يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور‏*‏ والله يقضي بالحق والذين يدعون من دونه لا يقضون بشئ إن الله هو السميع البصير‏*.‏
    وتعتب الآيات علي الذين لم يعتبروا بمصارع الأمم البائدة والذين‏...‏ كانوا هم أشد منهم قوة وآثارا فأخذهم الله بذنوبهم‏,‏ وما كان لهم من الله من واق‏*‏ وتعرض السورة لقصة سيدنا موسي‏(‏ عليه السلام‏)‏ مع كل من فرعون وهامان وقارون‏,‏ ومحاولة فرعون القضاء علي الحق وجنده وأتباعه‏,‏ قمعا للإيمان‏,‏ ونشرا للشرك والكفر والطغيان‏(‏ تماما كما يفعل الأمريكان وحلفاؤهم اليوم‏)‏ وتشير إلي مؤمن آل فرعون الذي كان يخفي إيمانه‏,‏ وحديثه إلي قومه‏,‏ وتحذيره إياهم من مصائر الغابرين من أقوام نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم ومن أهوال يوم التناد‏,‏ ومن إهمالهم دعوة يوسف‏(‏ عليه السلام‏)‏ من قبل‏,‏ ومن أغترارهم بالدنيا ومتاعها الزائل بينما الآخرة هي دار القرار‏,‏ وذلك كله بشئ من اللطف والحذر‏.‏

    وتتحدث الآيات عن كيف زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل فحاق بآل فرعون سوء العذاب في الدنيا‏(‏ بغرقه في اليم هو وجنده وأعوانه ونجاة رسول الله موسي ومن آمن معه‏),‏ وفي قبورهم‏,‏ كما تؤكد الآيات‏,‏ ويوم تقوم الساعة حيث يلقون أشد العذاب‏.‏
    وتعرض الآيات للحوار بين الذين اتبعوا والذين اتبعوا وهم في النار‏,‏ ورجاؤهم في مذلة بادية إلي خزنة جهنم كي يدعوا الله تعالي أن يخفف عنهم يوما من العذاب‏....!!‏

    وتؤكد الآيات أن الله تعالي ينصر رسله والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد‏,‏ وتعرض لشئ من أخبار سيدنا موسي‏(‏ عليه السلام‏)‏ مع بني إسرائيل‏,‏ وتأمر المصطفي‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ بالصبر والاستغفار والتسبيح بحمد الله بالعشي والإبكار‏,‏ والاستعاذة بالله من الكبر الكاذب الذي يتخفي وراءه الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم‏.‏
    وكما لا يستوي الأعمي والبصير لا يستوي المسيئون والصالحون‏,‏ وتجزم الآيات بأن الساعة أتية لا ريب فيها‏,‏ وتطالب المؤمنين بالتوجه إلي الله تعالي بالدعاء‏,‏ فيستجيب لهم‏,‏ لأن الدعاء هو قمة الخضوع لله بالطاعة‏,‏ وأن الذين يستكبرون عن الدعاء سوف يدخلون جهنم داخرين‏...‏

    وتصف الآيات شيئا من أحوال المكذبين بكتب الله ورسله من الكفار والمشركين‏,‏ وتوصي رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ بالثبات علي التوحيد الخالص لله‏,‏ والصبر علي ما يلقي من عناد الكافرين‏,‏ وتؤكد أن وعد الله حق‏,‏ وأن الله‏(‏ تعالي‏)‏ قد أرسل رسلا من قبل‏,‏ قص شيئا من أخبار بعضهم عليه‏,‏ ولم يقصص عن البعض الآخر‏,‏ وأنه ما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله‏,‏ فإذا جاءت الآية‏...‏ وجحد بها المكذبون‏..!‏ استحقوا حينئذ عقاب رب العالمين فخسروا خسرانا مبينا‏...!!‏
    وتختتم السورة بعتاب للمرة الثانية علي الذين لم يعتبروا بمصارع الأمم البائدة من قبلهم والذين كانوا أكثر منهم عددا‏,‏ وأشد منهم قوة وأثارا في الأرض‏,‏ فما أغني عنهم ما كانوا يكسبون‏,‏ لأنهم كذبوا رسل الله إليهم‏,‏ واستعلوا عليهم بما كان عندهم من العلم فحاق بهم ما كانوا به يستهزؤون‏,‏ فلما رأوا عقاب الله محيطا بهم قالوا‏:‏ آمنا بالله وحده‏,‏ وكفرنا بما كنا به مشركين‏,‏ ولكن ما كان ينفعهم هذا الإيمان الاضطراري بعد أن رأوا العذاب واقعا بهم‏,‏ وهي سنة الله التي قد خلت في عباده‏,‏ وخسر هنالك الكافرون‏...!!‏

    ومن الآيات الكونية التي استشهدت بها السورة علي توحيد الألوهية‏,‏ والربوبية‏,‏ وتنزيه الاسماء والصفات لهذا الخالق العظيم‏,‏ والاستدلال علي طلاقة قدرته في إبداعه لخلقه ما يلي‏:‏

    ‏(1)‏ إنزال الرزق من السماء‏.‏
    ‏(2)‏ تضاؤل خلق الناس ــ علي عظمته ــ بجوار خلق السماوات والأرض‏.‏
    ‏(3)‏ حتمية الآخرة‏.‏
    ‏(4)‏ تخصيص الليل لراحة وسكون العباد وجعل النهار مبصرا‏.‏
    ‏(5)‏ حقيقة الخلق ووحدانية الخالق‏.‏
    ‏(6)‏ أن الله‏(‏ تعالي‏)‏ قد جعل الأرض قرارا‏,‏ والسماء بناء‏.‏
    ‏(7)‏ وأنه‏(‏ تعالي‏)‏ قد صور بني الإنسان فأحسن صورهم‏,‏ ورزقهم من الطيبات‏.‏
    ‏(8)‏ أن الله‏(‏ تعالي‏)‏ خلق الناس من تراب‏,‏ ثم من نطقة‏,‏ ثم من علقة‏,‏ ثم يخرجهم طفلا‏,‏ تم يبلغوا أشدهم‏,‏ ثم ليكونوا شيوخا‏,‏ حتي يبلغوا أجلا مسمي‏,‏ فيتوفاهم الله ومنهم من يتوفي من قبل‏.‏
    ‏(9)‏ أن الله‏(‏ تعالي‏)‏ هو الذي يحيي ويميت‏,‏ فإذا قضي أمرا فإنما يقول له كن فيكون‏.‏
    ‏(10)‏ خلق الله‏(‏ تعالي‏)‏ الأنعام ليركب الناس منها‏,‏ ومنها يأكلون‏.‏
    ‏(11)‏ مكن الله‏(‏ تعالي‏)‏ بقدرته مياه البحار أن تحمل الفلك بقوانين الطفو حتي تكون وسيلة لنقل الناس وحمل أمتعتهم‏.‏
    وكل قضية من هذه القضايا تحتاج إلي أكثر من مقال لاستيعابها‏,‏ ولذلك فسوف أقصر الحديث هنا علي جعل الأرض قرارا وأبدأ بدلالة تلك اللفظة في اللغة العربية‏.‏

    مدلول اللفظة‏(‏ قرارا‏)‏ في اللغة العربية



    مركز ثقل الارض فى قلبها
    يقال في العربية‏(‏ قر‏)‏ في مكانه‏(‏ يقر‏)(‏ قرارا‏)‏ إذا ثبت ثبوتا جامدا‏,‏ وأصله من‏(‏ القر‏)‏ وهو البرد لأنه يقتضي السكون‏,‏ والحر يقتضي الحركة‏,‏ و‏(‏القرار‏)‏ المستقر من الأرض‏,‏ و‏(‏القرار‏)‏ في المكان‏(‏ الاستقرار‏)‏ فيه تقول‏:(‏ قررت‏)‏ بالمكان بالكسر‏(‏ أقر‏)(‏ قرارا‏),‏ و‏(‏قررت‏)‏ أيضا بالفتح‏(‏ قرارا‏)‏ و‏(‏قرورا‏),‏ و‏(‏استقر‏)‏ فلان إذا تحري‏(‏ القرار‏),‏ و‏(‏الإقرار‏):‏ إثبات الشئ‏.‏
    قال‏(‏ تعالي‏):‏ الله الذي جعل لكم الأرض قرارا‏...‏ أي مستقرا تعيشون فيها‏,‏ ويسأل‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ سؤال التبكيت للكافرين بقوله‏:‏ أمن جعل الأرض قرارا‏...(‏ النمل‏:61)‏ أي مستقرا‏,‏ وقال‏(‏ تعالي‏)‏ في صفة الآخرة‏:‏ وإن الآخرة هي دار القرار‏*(‏ غافر‏:39).‏

    وقال في أصحاب الجنة‏:‏
    أصحاب الجنة يؤمئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا‏*(‏ الفرقان‏:24)‏
    وقال سبحانه وتعالي‏:‏ خالدين فيها حسنت مستقرار ومقاما‏*(‏ الفرقان‏:76)‏
    وقال في وصف النار‏:‏ إنها ساءت مستقرا ومقاما‏*(‏ الفرقان‏:66)‏
    وقال‏(‏ عز من قائل‏):‏ جهنم يصلونها وبئس القرار‏*(‏ إبراهيم‏:29)‏
    وقال‏(‏ سبحانه وتعالي‏):...‏ ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلي حين‏*‏
    ‏(‏البقرة‏:36‏ والأعراف‏24)‏
    وقال‏(‏ جل شأنه‏):‏ وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع‏..*(‏ الانعام‏:98).‏

    أقوال المفسرين
    في تفسير قوله‏(‏ تعالي‏):‏ الله الذي جعل لكم الأرض قرارا‏...(‏ غافر‏:64)‏
    ذكر أبن كثير‏(‏ يرحمه الله‏)‏ ما نصه‏:....‏ أي جعلها لكم مستقرا‏,‏ تعيشون عليها وتتصرفون فيها‏,‏ وتمشون في مناكبها‏...‏
    وذكر صاحبا تفسير الجلالين‏(‏ رحمهما الله رحمة واسعة‏)‏ ما نصه‏:‏ اي مكانا لاستقراركم وحياتكم‏.‏

    وجاء في الظلال‏:(‏ رحم الله كاتبها رحمة واسعة‏)‏ ما نصه‏:....‏ والأرض قرار صالح لحياة الإنسان بتلك الموافقات الكثيرة التي أشرنا إلي بعضها إجمالا‏....‏
    وجاء في صفوة البيان لمعاني القرآن‏(‏ علي كاتبه من الله الرضوان ما نصه‏:(‏ الأرض قرارا‏)‏ مستقرا تعيشون فيها‏..‏

    وجاء في المنتخب في تفسير القرآن الكريم‏(‏ جزي الله المشاركين في كتابته خير الجزاء‏)‏ ما نصه‏:‏ الله ــ وحده ــ الذي جعل لكم الأرض مستقرة صالحة لحياتكم عليها‏.....‏
    وجاء في صفوة التفاسير جزي الله كاتبها خير الجزاء ما نصه‏:‏ أي جعلها مستقرا لكم في حياتكم وبعد مماتكم‏,‏ قال ابن عباس‏:‏ جعلها منزلا لكم في حال الحياة وبعد الموت‏....‏

    الله الذي جعل لكم الأرض قرارا‏...‏
    في مفهوم العلوم المكتسبة‏.‏
    جاء ذكر هذه الحقيقة في كتاب الله مرتين‏:‏ أولاهما في سورة النمل حيث يقول ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
    أمن جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزا أءلة مع الله بل أكثرهم لا يعلمون‏*(‏ النمل‏61)‏

    وتكرر هذا السؤال‏:‏ أءله مع الله؟ خمس مرات في خمس آيات متتاليات من سورة النمل استنكارا لشرك المشركين بالله‏...!!‏
    ويأتي الجواب قاطعا جازما حاسما في كل مرة‏:‏
    بل هم قوم يعدلون‏(‏ النمل‏:60)‏
    بل أكثرهم لا يعلمون‏(‏ النمل‏:61)‏
    قليلا ما تذكرون‏(‏ النمل‏:62)‏
    تعالي الله عما يشركون‏(‏ النمل‏:63)‏
    قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين
    ‏(‏النمل‏:64).‏

    وتسبق هذه الآيات الخمس بالحقيقة القاطعة التي يقررها ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ لذاته العلية علي لسان هدهد سليمان بقوله الحق‏:‏ الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم‏*(‏ النمل‏:26).‏
    والمرة الثانية التي جاءت فيها الإشارة إلي جعل الأرض قرارا هي الأية التي نحن بصددها من سورة غافر والتي يقول فيها الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏

    الله الذي جعل لكم الأرض قرارا والسماء بناء وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات ذلكم الله ربكم فتبارك الله رب العالمين‏*(‏ غافر‏:64)‏
    وواضح من دلالة اللغة‏,‏ ومن شروح المفسرين أن التعبير جعل الأرض قرارا تعني مستقرا في ذاتها‏,‏ وقرار للحياة علي سطحها‏,‏ وهما قضيتان مختلفتان ولكنهما متصلتان اتصالا وثيقا ببعضهما علي النحو التالي‏:‏

    أولا‏:‏ جعل الأرض قرارا



    بمعني مستقرة بذاتها
    الأرض ثالثة الكواكب السيارة الداخلية جريا حول الشمس‏,‏ ويسبقها من هذه الكواكب الداخلية قربا من الشمس كل من عطارد والزهرة علي التوالي‏,‏ ويليها إلي الخارج أي بعدا عن الشمس بالترتيب‏:‏ المريخ‏,‏ المشتري‏,‏ زحل يورانوس نبتيون‏,‏ وبلوتو‏,‏ وهناك مدار لمجموعة من الكويكبات بين كل من المريخ والمشتري يعتقد بأنها بقايا لكوكب عاشر انفجر منذ زمن بعيد‏,‏ كما أن الحسابات الفلكية التي قام بها عدد من الفلكيين الروس تشير إلي أحتمال وجود كوكب حادي عشر لم يتم رصده بعد اطلقوا عليه اسم بروسوبينا أو بريينا‏.‏
    وبهذا يصبح عدد كواكب المجموعة الشمسية أحد عشر كوكبا‏,‏ وهنا يبرز التساؤل عن إمكانية وجود علاقة ما بين هذه الحقيقة الفلكية ــ التي لم تكتمل معرفتها إلا في أواخر القرن العشرين ــ وبين رؤيا سيدنا يوسف‏(‏ علي نبينا وعليه من الله السلام‏)‏ التي يصفها الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ في محكم كتابه بقوله‏:‏

    إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين‏*.(‏ يوسف‏:4)‏
    وإن كان ظاهر الأمر في السورة الكريمة أن المقصود هو ما تحقق بالفعل بعد تلك الرؤيا بسنين عديدة من سجود إخوة يوسف الأحد عشر وأبويه له عند قدومهم إلي مصر من بادية الشام‏,‏ وعلي الرغم من ذلك فإن هذه العلاقة لايمكن استبعادها‏,‏ وهذا السبق القرآني بالإشارة إليها لايمكن تجاهله‏....!!‏

    والأرض عبارة عن كوكب صخري‏,‏ شبه كروي له الأبعاد التالية‏:‏
    متوسط قطر الأرض‏=12,742‏ كيلو متر
    متوسط محيط الأرض‏=40,042‏ كيلو متر
    مساحة سطح الأرض‏=510,000,000‏ كيلو متر مربع منها‏:‏
    ‏149‏مليون كم‏2‏ يابسة
    ‏361‏ مليون كم‏2‏ ماء
    حجم الأرض‏=108,000,000‏ كيلو متر مكعب
    متوسط كثافة الأرض‏=5,52‏ جرام‏/‏للسنتيمتر المكعب
    كتلة الأرض‏=5520‏ مليون مليون مليون طن
    متوسط كثافة الصخور في قشرة الأرض‏=2,5‏ جرام‏/‏للسنتيمتر المكعب
    متوسط كثافة الصخور الجرانيتية المكونة لكتل القارات‏=2,7‏ جرام‏/‏للسنتيمتر المكعب
    متوسط كثافة الصخور البازلتية المكونة لقيعان المحيطات‏=2,9‏ جرام‏/‏للسنتيمتر المكعب
    أمن جعل الأرض قرارا
    وبمقارنة متوسط كثافة الصخور المكونة لقشرة الأرض والتي تتراوح بين‏2,9,2,5‏ جرام للسنتيمتر المكعب مع متوسط كثافة الأرض ككل والمقدرة بحوالي‏5,52‏ جرام للسنتيمتر المكعب ثبت أن كثافة المادة المكونة للأرض تزداد باستمرار من سطحها في اتجاه مركزها حيث تتراوح الكثافة من‏10‏ إلي‏13,5‏ جرام للسنتيمتر المكعب ويفسر ارتفاع متوسط الكثافة بالقرب من مركز الأرض بوجود نسبة عالية من الحديد‏,‏ وغيره من العناصر الثقيلة في قلب الأرض‏,‏ وتناقص نسبة هذه العناصر الثقيلة بالتدريج في اتجاه قشرة الأرض‏.‏
    وتقدر نسبة الحديد في الأرض بحوالي‏35,9%‏ من مجموع كتلة الأرض المقدرة بحوالي‏5520‏ مليون مليون مليون طن‏,‏ وعلي ذلك فإن كمية الحديد في الأرض تقدر بحوالي الألف وخمسمائة مليون مليون مليون طن‏,‏ ويتركز هذا الحديد في قلب الأرض علي هيئة كرة ضخمة من الحديد‏(90%)‏ والنيكل‏(9%)‏ وبعض العناصر الخفيفة من مثل السيليكون‏,‏ والكربون والفوسفور والكبريت والتي لاتشكل في مجموعها أكثر من‏1%‏ مما يعرف باسم لب الأرض‏,‏ والذي تشكل كتلته‏31%‏ من كتلة الأرض‏,‏ ويمثل طول قطره حوالي‏55%‏ من طول قطر الأرض‏,‏ أما باقي الحديد في الأرض‏(5,9%‏ من كتلة الأرض‏)‏ فيتوزع علي باقي كتلة الأرض‏(‏ وشاح الأرض وغلافها الصخري‏)‏ بسمك يقدر بحوالي ثلاثة آلاف كيلو متر‏(2895‏ كيلو مترا‏)‏ في تناقص مستمر يصل بنسبة الحديد في الغلاف الصخري للأرض إلي‏5,6%.‏
    وتركيز هذه الكتلة الهائلة من الحديد وغيره من العناصر الثقيلة في قلب الأرض من وسائل جعله جرما مستقرا في ذاته‏.‏

    وهنا تأتي الإشارة القرآنية إلي تلك الحقيقة سبقا يشهد للقرآن الكريم بأنه كلام الله الخالق‏,‏ ويشهد للنبي الخاتم والرسول الخاتم الذي تلقاه بالنبوة وبالرسالة لأن أحدا في زمانه ولا لقرون متطاولة من بعده لم يكن له علم بهذه الحقيقة التي لم يكتشفها الإنسان إلا في القرن العشرين‏,‏ وفي ذلك يقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
    إذا زلزلت الأرض زلزالها‏*‏ وأخرجت الأرض أثقالها‏*(‏ الزلزلة‏:2,1)‏
    ولو أن الزلزال المقصود هنا هو زلزال الآخرة عند نفخة البعث‏,‏ إلا أن الحقيقة المصاحبة للهزة الأرضية تبقي واحدة‏,‏ ولو أن المفسرين السابقين قد رأوا في أثقال الأرض إشارة ضمنية إلي أجساد الموتي‏(‏ بما تحمل من أوزار‏)‏ والتي تلفظها الأرض من داخل بطنها بسبب هذا الزلزال الأخير‏,‏ تلفظهم أحياء للحساب والجزاء‏,‏ وإن كان رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ قد وصف لبعث الأموات صورة مغايرة لذلك‏.‏

    والأثقال جمع ثقل‏(‏بكسر فسكون‏)‏ وهو الحمل الثقيل‏,‏ أو جمع ثقل‏(‏ بالتحريك‏)‏ وهو كل نفيس مصون‏.‏
    وفي الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه يروي عن رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ قوله‏:‏تلقي الأرض أفلاذ كبدها أمثال الاسطوانة من الذهب والفضة‏,‏ فيجيء القاتل فيقول في هذا قتلت‏,‏ ويجيء القاطع فيقول في هذا قطعت رحمي‏,‏ ويجيء السارق فيقول في هذا قطعت يدي‏,‏ ثم يدعونه فلا يأخذون منه شيئا‏.‏

    وهذا الحديث الشريف يؤكد أن المقصود بأثقال الأرض في سورة الزلزلة هو الأحمال الثقيلة كما أثبتت الدراسات العلمية الحديثة‏,‏ وليست أجساد الموتي فقط كما تخيل العديد من المفسرين السابقين‏,‏ وهذا سبق علمي قرآني ونبوي معجز لأن أحدا من البشر لم يكن له علم بأن أثقال الأرض في جوفها حتي القرن العشرين‏.‏
    ويقدر متوسط المسافة بين الأرض والشمس بحوالي مائة وخمسين مليونا من الكيلومترات‏,‏ وهذه المسافة قد حددتها بتقدير من الله الخالق‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ كتلة الأرض تطبيقا لقوانين الجاذبية‏,‏ والتي تنادي بأن قوة الجذب بين جسمين تتناسب تناسبا طرديا مع كتلة كل منهما‏,‏ وتناسبا عكسيا مع مربع المسافة بينهما حسب المعادلة التالية‏:‏

    قوة الجاذبية بين كتلتين م‏1,‏ م‏2=‏ ثابت الجاذبية‏*‏ م‏1*‏م‏2/‏مربع المسافة بينهما
    وهذا يعني أنه كلما زادت كتلة أي من الجسمين زادت قوة الجذب بينهما‏,‏ وكلما زادت المسافة بينهما قلت قوة الجاذبية‏.‏

    والاتزان بين قوة جذب الشمس للأرض‏,‏ والقوة النابذة المركزية التي دفعت بالأرض الأولية من الشمس هو الذي حدد‏(‏ بمشيئة الله الخالق‏)‏ بعد الأرض عن الشمس‏.‏
    والارتباط الوثيق بين كل من كتلتي الأرض والشمس بطريقة منتظمة بمعني أنه كلما تغيرت كتلة أحدهما تغيرت كتلة الآخر بنفس المعدل‏,‏ هو من الأمور التي تعمل علي تثبيت بعد الأرض عن الشمس‏,‏ وجعلها مستقرة في دورانها حول محورها‏,‏ وفي جريها حول الشمس في مدار محدد مما يؤدي إلي تثبيت كمية الطاقة الشمسية التي تصل إلي الأرض وهي من عوامل تهيئتها لاستقبال الحياة واستقرارها‏,‏ وذلك لأن كمية الطاقة التي تصل من الشمس إلي كل كوكب من كواكبها تتناسب تناسبا عكسيا مع بعد الكوكب عن الشمس‏,‏ وكذلك تتناسب سرعة جري الكوكب في مداره حول الشمس‏.‏

    والأرض كوكب فريد في صفاته الفيزيائية والكيميائية والفلكية مما أهله بجدارة إلي أن يكون مهدا للحياة الأرضية بكل مواصفاتها النباتية‏,‏ والحيوانية‏,‏ والإنسية‏.‏
    فقد أثبتت دراسات الفيزياء الأرضية أن الأرض مبنية من عدد من النطق المتمركزة حول كرة مصمطة من الحديد والنيكل تعرف باسم لب الأرض الصلب أو اللب الداخلي للأرض‏,‏ وتقسم هذه النطق الأرضية علي أساس من تركيبها الكيميائي أو علي أساس من صفاتها الميكانيكية علي النحو التالي‏:‏

    ‏(1)‏ قشرة الأرض‏:‏ وتتكون من صخور نارية ومتحولة صلبة تتغطي بسمك قليل من الصخور الرسوبية أو الرسوبيات‏(‏ التربة‏)‏ في كثير من الأحيان‏,‏ وتغلب الصخور الحامضية وفوق الحامضية علي كتل القارات وذلك من مثل الجرانيت والصخور الجرانيتية‏(‏ بمتوسط كثافة‏2,7‏ جرام‏/‏للسنتيمتر المكعب‏)‏ ويغلب علي قيعان البحار والمحيطات الصخور القاعدية وفوق القاعدية من مثل البازلت والجابرو‏(‏بمتوسط كثافة‏2,9‏ جرام‏/‏ للسنتيمتر المكعب‏).‏
    ويتراوح متوسط سمك القشرة الأرضية في كتل القارات من‏35‏ إلي‏40‏ كيلو مترا‏,‏ وإن تجاوز ذلك تحت المرتفعات الأرضية من مثل الجبال‏.‏
    ويتراوح متوسط سمك القشرة الأرضية المكونة لقيعان البحار والمحيطات من‏5‏ إلي‏8‏ من الكيلو مترات‏.‏

    ‏(2)‏ الجزء السفلي من الغلاف الصخري للأرض‏:‏ ويتكون من صخور صلبة تغلب عليها الصخور الحامضية وفوق الحامضية في كتل القارات بسمك يصل إلي‏85‏ كيلو مترا‏,‏ بينما تغلب عليها الصخور القاعدية وفوق القاعدية تحت البحار والمحيطات بسمك في حدود‏60‏ كيلو مترا‏.‏
    ويفصل هذا النطاق عن قشرة الأرض سطح انقطاع للموجات الاهتزازية يعرف باسم الموهو‏(TheMohoDiscontinuity).‏

    ‏(3)‏ الجزء العلوي من وشاح الأرض‏(‏ نطاق الضعف الأرضي‏):‏
    وتوجد فيه الصخور في حالة لدنة‏,‏ شبه منصهرة‏(‏ أو منصهرة انصهارا جزئيا في حدود‏1%),‏ ويتراوح سمك هذا النطاق بين‏280‏ كيلو مترا‏,335‏ كيلو مترا‏,‏ وهو مصدر للعديد من نشاطات الأرض من مثل الزلازل‏,‏ والبراكين‏,‏ وتحرك ألواح الغلاف الصخري للأرض‏,‏ وتكون الجبال والسلاسل الجبلية‏.‏
    ‏(4)‏ الجزء الأوسط من وشاح الأرض‏:‏ ويتكون من مواد صلبة‏,‏ كثيفة‏,‏ ويقدر سمكه بحوالي‏270‏ كيلو مترا‏,‏ ويحده من أسفل ومن أعلي مستويات من مستويات انقطاع الموجات الاهتزازية الناتجة عن الزلازل يقع أحدهما علي عمق‏400‏ كيلومتر من سطح الأرض‏,‏ ويقع الآخر علي عمق‏670‏ كيلو مترا من سطح الأرض‏.‏

    ‏(5)‏ الجزء السفلي من وشاح الأرض‏:‏ ويتكون من مواد صلبة تعلو لب الأرض السائل‏,‏ ويحده من أعلي أحد مستويات انقطاع الموجات الاهتزازية الناتجة عن الزلازل علي عمق‏670‏ كيلو مترا من سطح الأرض‏,‏ ويحده من أسفل نطاق انتقالي شبه منصهر يفصله عن لب الأرض السائل علي عمق‏2885‏ كيلو مترا من سطح الأرض‏,‏ ولذا يقدر سمك هذا النطاق بحوالي‏2215‏ كيلو مترا‏.‏
    ‏(6)‏ لب الأرض السائل‏(‏ الجزء الخارجي من لب الأرض‏):‏
    وهو نطاق سائل يحيط بلب الأرض الصلب‏,‏ وله نفس تركيبه الكيميائي تقريبا‏,‏ ويقدر سمكه بحوالي‏2275‏ كيلو مترا‏(‏ من عمق‏2885‏ كيلو مترا إلي عمق‏5160‏ كيلو مترا تحت سطح الأرض‏),‏ وتفصله عن النطاقين الأعلي والأسفل منطقتان انتقاليتان شبه منصهرتين‏,‏ أضخمهما المنطقة السفلي والتي يقدر سمكها بحوالي‏450‏ كيلو مترا‏.‏

    ‏(7)‏ لب الأرض الصلب‏(‏ اللب الداخلي للأرض‏):‏ وهو عبارة عن كرة ضخمة من الحديد‏(90%)‏ والنيكل‏(9%)‏ مع القليل من العناصر الخفيفة من مثل السيليكون‏,‏ الكربون‏,‏ الكبريت‏,‏ الفوسفور والتي لاتكاد نسبتها أن تتعدي‏1%.‏
    وهذا هو نفس تركيب النيازك الحديدية تقريبا‏,‏ والتي تصل الأرض بملايين الأطنان سنويا‏,‏ ويعتقد بأنها ناتجة عن انفجار بعض الأجرام السماوية‏.‏

    وهذه البنية الداخلية للأرض تدعمها دراسة النيازك التي تهبط علي الأرض‏,‏ كما تؤيدها قياسات الجاذبية الأرضية والاهتزازات الناتجة عن الزلازل‏.‏
    ولولاهذه البنية الداخلية للأرض‏,‏ ماتكون لها مجالها المغناطيسي‏,‏ ولا قوتها الجاذبية‏,‏ ولولا جاذبية الأرض لهرب منها غلافها الغازي والمائي‏,‏ ولاستحالت الحياة‏,‏ ولولا المجال المغناطيسي للأرض لدمرتها الأشعة الكونية المتسارعة من الشمس ومن بقية نجوم السماء‏.‏

    والأرض تجري حول الشمس في فلك بيضاني قليل الاستطالة‏,‏ بسرعة تقدر بحوالي‏30‏ كيلو مترا في الثانية‏,‏ لتتم دورتها في سنة شمسية مقدارها‏365.25‏ يوم تقريبا وتدور حول محورها بسرعة تقدر اليوم بحوالي‏30‏ كيلو مترا في الدقيقة عند خط الاستواء فتتم دورتها هذه في يوم مقداره‏24‏ ساعة تقريبا‏,‏ يتقاسمه ليل ونهار‏,‏ بتفاوت يزيد وينقص حسب الفصول السنوية‏,‏ والتي تنتج بسبب ميل محور دوران الأرض علي دائرة البروج بزاوية مقدارها‏66,5‏ درجة تقريبا‏.‏
    كذلك فإن حركات الأرض العديدة ومنها حركتها المحورية‏,‏ والمدارية‏,‏ وترنحها في دورانها حول محورها‏,‏ وتذبذبها‏(‏نودانها أو ميسانها‏),‏ وقربها وبعدها من الشمس في حركتها المدارية‏,‏ والتغير التدريجي في توازن حركاتها مع حركات القمر حولها‏,‏ ومع باقي كواكب المجموعة الشمسية ومع الشمس حول مركز المجرة‏,‏ وباتجاه كوكبة الجاتي‏,‏ ومع المجرة‏,‏ حول مركز التجمع المجري‏,‏ وكلها حركات تحتاج إلي ضبط وإحكام حتي تصبح الأرض مستقرة بذاتها‏,‏ وقرارا للحياة علي سطحها‏.‏

    وتكفي في ذلك الإشارة إلي دور الجبال في تثبيت الأرض والتقليل من ترنحها في دورتها حول محورها تماما كما تقوم قطع الرصاص التي توضع حول إطارات السيارات في التقليل من معدلات ترنحها أثناء جري السيارة‏.‏

    ثانيا‏:‏ جعل الأرض قرارا بمعني قرارا لسكانها
    ومن معاني جعل الأرض قرارا لسكانها هو جعل الظروف العامة للأرض مناسبة للحياة علي سطحها‏,‏ ومن أولها مقدار جاذبية الأرض الذي يمسك بكل من غلافها المائي والغازي وبالأحياء علي سطحها‏,‏ والماء هو سر الحياة علي الأرض‏,‏ ولذا جعل ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ كوكب الأرض أغني الكواكب التي نعرفها في المياه حتي ليسميه العلماء بالكوكب الأزرق أو الكوكب المائي‏,‏ وتقدر كمية المياه علي سطح الأرض بحوالي‏1360‏ مليون كيلو متر مكعب‏,‏ ويغطي الماء حوالي‏71%‏ من مساحة الأرض بينما لاتتعدي مساحة اليابسة اليوم‏29%‏ من مساحة الأرض‏.‏
    كذلك فإن غاز الأوكسجين يشكل سرا من أسرار الحياة الراقية علي الأرض فجعل الله‏(‏ تعالي‏)‏ لها غلافا غازيا تقدر كتلته بحوالي خمسة آلاف مليون مليون طن‏,‏ ويقدر سمكه بعدة آلاف من الكيلو مترات فوق مستوي سطح البحر حيث يصل ضغطه إلي حوالي الكيلو جرام علي السنتيمتر المربع‏,‏ ويتناقص مع الارتفاع إلي واحد من مليون من ذلك الضغط في أجزائه العليا‏.‏

    ويضم الجزء السفلي من هذا الغلاف الغازي‏(‏ من‏6‏ إلي‏20‏ كيلومترا فوق مستوي سطح البحر‏)‏ حوالي‏66%‏ من كتلته‏,‏ ويتكون من غازات النيتروجين‏(‏ بنسبة‏78,1%‏ بالحجم‏)‏ والأوكسجين‏(‏ بنسبة‏21%‏ بالحجم‏)‏ والأرجون‏(‏ بنسبة‏0,93%‏ بالحجم‏),‏ وثاني أكسيد الكربون‏(‏ بنسبة‏0,03%‏ بالحجم‏)‏ بالإضافة إلي نسب ضئيلة من بخار الماء وغازات أخري‏.‏ ولولا هذا التركيب للغلاف الغازي ما استقامت الحياة علي الأرض‏.‏
    كذلك فإن كتلة وأبعاد الأرض‏,‏ ومسافتها من الشمس قدرت كلها بدقة بالغة‏,‏ فلو كانت الأرض أصغر قليلا لاندفعت بعيدا عن الشمس ولفقدت الكثير من طاقتها‏,‏ ولما كان بمقدورها الاحتفاظ بغلافها المائي والغازي‏,‏ وبالتالي لاستحالت الحياة‏,‏ ولو كانت أكبر قليلا لاندفعت الي مسافة أقرب من الشمس ولأحرقتها حرارتها‏,‏ ولزادت قدرتها علي جذب الأشياء زيادة ملحوظة مما يعوق الحركة‏,‏ ويحول دون النمو الكامل للأحياء‏,‏ ويخل بالميزان الحراري علي سطحها‏.‏

    وكذلك يعتمد طول السنة الأرضية علي بعد الأرض من الشمس‏,‏ ويعتمد طول يوم الأرض علي سرعة دورانها حول محورها‏,‏ وكل ذلك مرتبط بأبعاد الأرض‏,‏ وكذلك يعتمد تبادل الفصول المناخية علي ميل محور دوران الأرض علي دائرة البروج فلو لم يكن مائلا ماتبادلت الفصول‏,‏ ولاختل نظام الحياة علي الأرض‏.‏
    ولولا تصدع الغلاف الصخري للأرض‏,‏ وتحرك ألواحه متباعدة عن بعضها البعض ومصطدمة ببعضها البعض لما تكونت الجبال‏,‏ ولا ثارت البراكين‏,‏ ولاحدثت الهزات الأرضية‏,‏ وكلها من صور ديناميكية الأرض‏,‏ ووسائل تجديد وتثبيت غلافها الصخري‏,‏ وإثرائها بالمعادن‏,‏ وتكوين التربة وتحرك دورة الماء حول الأرض ودورة الصخور‏,‏ وبناء القارات وهدمها‏,‏ وتكون المحيطات واتساعها ثم اغلاقها وزوالها‏,‏ وهذه الحركات الأرضية‏(‏ وغيرها كثير‏)‏ لعبت وـ لاتزال تلعب ـ أدوارا أساسية في جعل الأرض كوكبا مهيئا لاستقبال الحياة الأرضية وصالحا للعمران‏.‏

    هذه بعض آيات الله في جعل الأرض كوكبا مستقرا في ذاته علي الرغم من حركاته العديدة‏,‏ وجريه في فسحة الكون‏,‏ وفي تهيئته ليكون مستقرا للحياة التي أراد الله أن تزدهر علي سطحه‏,‏ علي الرغم من المخاطر العديدة المحيطة به‏,‏ حتي يؤمن الناس بقدر الرعاية الإلهية التي يحيطنا الله بها في هذا الكون‏,‏ ويستشعرون حاجتهم إلي هذا الخالق العظيم وإلي رحمته وعنايته في كل وقت وفي كل حين لأننا لوتركنا لأنفسنا طرفة عين أو أقل من ذلك لهلكنا‏...‏
    وسبحان الذي أنزل من قبل ألف وأربعمائة سنة قوله الحق‏:‏
    الله الذي جعل لكم الأرض قرارا والسماء بناء وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات ذلكم الله ربكم فتبارك الله رب العالمين‏(‏ غافر‏:64)‏

    وعاتب الكافرين والمشركين والمتشككين بقوله الحق‏:‏
    أمن جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزا أءله مع الله بل أكثرهم لايعلمون‏(‏ النمل‏:61)‏
    صفحة الأحاديث النبوية

    http://www.facebook.com/pages/الاحاد...01747446575326

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Nov 2007
    المشاركات
    1,600
    الدين
    الإسلام
    آخر نشاط
    29-11-2014
    على الساعة
    05:10 PM

    افتراضي

    40)‏ ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر‏....*)‏




    هذا النص القرآني المعجز جاء في مطلع الثلث الأخير من سورة فصلت وهي سورة مكية‏,‏ وآياتها أربع وخمسون‏,‏ ويدور محورها الرئيسي حول القرآن الكريم وعن كونه هدي وشفاء للمؤمنين‏,‏ علي الرغم من صد المشركين والكافرين عنه‏,‏ وعن دعوته الرئيسية إلي توحيد الله والاستقامة علي هديه‏.‏
    وقد استهلت السورة بقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏

    حم‏*‏ تنزيل من الرحمن الرحيم‏*‏ كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون‏(‏ فصلت‏:1‏ ــ‏3)‏
    وحم من الحروف المقطعة التي افتتحت بها تسع وعشرون سورة من سور القرآن الكريم‏,‏ والتي تضم أسماء نصف عدد حروف الهجاء الثمانية والعشرين‏,‏ والتي تعتبر من أسرار القرآن علي الرغم من المحاولات العديدة التي بذلت من أجل تفسير دلالاتها‏.‏

    وبعد هذا الاستهلال‏,‏ تحدثت السورة عن أن القرآن الكريم هو تنزيل من الله الرحمن الرحيم‏,‏ وأنه كتاب فصلت آياته أي‏:‏ ميزت لفظا ومعني‏,‏ وأنه أنزل بلسان عربي ليخاطب العرب في المقام الأول‏,‏ وليحمله العرب إلي غيرهم من الأمم‏,‏ وقد يحتج نفر من غير العرب علي إنزاله بالعربية‏,‏ ولو أنه أنزل بأية لغة أخري لأثير نفس التساؤل‏:‏ لماذا أنزل بهذه اللغة دون غيرها؟
    ويرد عليهم ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ في نفس السورة بقوله‏(‏ عز من قائل‏):‏

    ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته‏...‏
    وتركز السورة علي القرآن الكريم مؤكدة أنه كلام الله الذي أنزله بشيرا ونذيرا‏,‏ ووصفه بقوله‏:..‏ وإنه لكتاب عزيز‏*‏لايأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد
    ‏(‏فصلت‏41‏ و‏42)‏

    وبينت السورة موقف كل من المؤمنين والمشركين من هذا الكتاب العزيز‏,‏ وأمرت رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ بالتأكيد علي بشريته‏,‏ واصطفائه للنبوة وللرسالة ولتلقي الوحي من الله‏,‏ وتبليغه للناس كافة في دعوة سماوية إلي التوحيد الخالص لله الخالق‏(‏ بغير شريك ولاشبيه ولامنازع‏)‏ والتحذير من الوقوع في جريمة الشرك بالله‏,‏ والتأكيد علي عواقبها الوخيمة في الدنيا والآخرة‏,‏ واستشهدت السورة الكريمة بعدد من آيات الله في الكون علي تفرد الخالق‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ بالألوهية والربوبية والوحدانية‏,‏ وعلي طلاقة قدرته في إبداع خلقه‏,‏ ووظفت كل ذلك في إثبات قدرته‏(‏ تبارك اسمه‏)‏ علي الإفناء وإعادة الخلق والبعث من جديد‏.‏
    وتنذر سورة فصلت المعرضين عن دين الله بعقاب من مثل عقاب قوم عاد وثمود‏,‏ وعقاب غيرهم من الأمم التي قد خلت من قبلهم من كل من الجن والإنس‏,‏ وتذكر ببعض مشاهد العذاب في الآخرة‏,‏ ومن أخطرها حوار الخاطئين مع جوارحهم التي سوف تشهد عليهم وعلي جرائمهم التي ارتكبوها في حياتهم الدنيا‏,‏ وحوار المشركين مع من أشركوا بهم‏.....!!‏

    كما تتحدث السورة الكريمة عن عدد من المبشرات للمؤمنين الذين آمنوا بالله ربا‏,‏ وبالإسلام دينا‏,‏ وبسيدنا محمد‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ نبيا ورسولا‏,‏ واستقاموا علي منهج الله‏,‏ ومنها أن الملائكة تتنزل عليهم في الحياة الدنيا وفي الآخرة‏,‏ وفي لحطات الموت وسكراته‏,‏ وفي أثناء حشرجة الصدر‏,‏ وخروج الروح‏:‏ مطمئنة إياهم برضاء الله عنهم‏,‏ ومغفرته لهم‏,‏ ورحمته بهم‏,‏ ومبشرة بالنعيم المقيم الذي ينتظرهم إن شاء الله تعالي‏.‏
    وتقارن السورة الكريمة بين أحوال كل من المؤمنين والكافرين في الدنيا والآخرة‏,‏ وتتحدث عن شيء من أخلاق الدعاة إلي الله‏,‏ وأساليبهم في الدعوة إليه‏,‏ كما تمايز بين كل من الخير والشر‏,‏ والحسنة والسيئة‏,‏ وتؤكد أنهما لايستويان أبدا‏,‏ وتثبت رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ بأن من قبله من الأنبياء والمرسلين قد جوبهوا بمثل ماقوبل به من الكفار والمشركين‏,‏ وتطمئنه بأن الله‏(‏ تعالي‏)‏ هو صاحب المغفرة وهو في الوقت نفسه ذو عقاب أليم‏....,‏ وأن من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها‏..‏ وأن الله‏(‏ تعالي‏)‏ ليس بظلام للعبيد‏,‏ وأنه‏(‏ تعالي‏)‏ يرد إليه علم الساعة‏,‏ وعلم كل شيء‏,‏ وهو‏(‏ سبحانه‏)‏ علام الغيوب‏,‏ وتخلص إلي الحديث عن شيء من طبائع النفس الإنسانية‏,‏ وتختتم بهذا الوعد الإلهي القاطع‏:‏

    سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتي يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه علي كل شيء شهيد‏*‏ ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم ألا إنه بكل شيء محيط‏(‏ فصلت‏:53‏و‏54)‏
    وفي هاتين الآيتين الكريمتين من التأكيد القاطع بأن مستقبل الإنسانية سوف يري من آيات الله في الآفاق وفي الأنفس مايشهد علي صدق القرآن الكريم‏,‏ وأن جدل الكافرين حول قضية البعث وشكهم في إمكانية وقوعه نابع من سقوطهم في خطأ القياس علي الله‏(‏ تعالي‏)‏ بقدرات الإنسان المحدودة مما دفعهم إلي ما هم فيه من كفر وضلال‏...!!‏

    ومن الآيات الكونية التي استشهدت بها سورة فصلت مايلي‏:‏
    ‏(1)‏ خلق الأرض في يومين‏(‏ أي علي مرحلتين‏).‏
    ‏(2)‏ خلق الجبال‏.‏

    ‏(3)‏ مباركة الأرض بتهيئتها للعمران‏,‏ وتقدير أقواتها فيها في أربعة أيام‏(‏ أي‏:‏ أربع مراحل شاملة المرحلتين السابقتين‏).‏
    ‏(4)‏ إتمام بناء الكون بجعل السماوات سبعا‏,‏ كما أن الأراضين سبع‏,‏ وتزيين السماء الدنيا بالنجوم‏,‏ وجعلها حفظا لها‏.‏

    ‏(5)‏ عقاب الكافرين من قوم عاد بريح صرصر عاتية‏.‏
    ‏(6)‏ عقاب الكافرين من قوم ثمود بالصاعقة والطاغية‏.‏

    ‏(7)‏ شهادة كل من سمع وأبصار وجلود الكافرين علي جرائمهم التي ارتكبوها في الحياة الدنيا‏.‏
    ‏(8)‏ قدرة الله‏(‏ تعالي‏)‏ علي إنطاق كل شيء‏.‏

    ‏(9)‏ تبادل كل من الليل والنهار مما يشير إلي دوران الأرض حول محورها‏.‏
    ‏(10)‏ حركات كل من الشمس والقمر‏.‏

    ‏(11)‏ اهتزاز الأرض وربوها‏(‏ أي انتفاخها وارتفاعها إلي أعلي‏)‏ بمجرد نزول الماء عليها‏,‏ وذلك لكي ترق رقة شديدة فتنشق لتفسح طريقا سهلا آمنا للنبتة الطرية‏(‏ السويقة‏)‏ المنبثقة من داخل البذرة النابتة‏,‏ وتشبيه هذا الإحياء للأرض بإحياء الموتي‏,‏ وإنبات كل من عجب ذنبة كما تنبت البقلة من حبتها طبقا لحديث رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏).‏
    ‏(12)‏ رد علم الساعة وعلم كل شيء إلي الله تعالي‏.‏

    ‏(13)‏ الوعد المستقبلي بأن الله‏(‏ تعالي‏)‏ سوف يري الإنسان من آيات الخلق في الآفاق والأنفس مايشهد بصدق كل ماجاء بالقرآن الكريم‏.‏
    ‏(14)‏ التأكيد علي أن من أسباب كفر الكافرين شكهم في إمكانية حدوث البعث لقياسهم علي الله‏(‏ تعالي‏)‏ بمقاييس البشر‏,‏ والتأكيد علي أن الله محيط بكل شيء‏.‏
    وسوف أقصر حديثي هنا علي تبادل كل من الليل والنهار وأبدأ بأقوال المفسرين السابقين في تلك القضية‏.‏

    أقوال المفسرين
    في قول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏



    أـ صورة من سفينة الفضاء جاليليو لكل من الأرض والقمر فى وسط ظلمة الكون ويرى نصف كل منهما المواجه للشمس منيرا والنصف الآخر غارقا فى ظلام دامس
    ب ـ أحد رواد الفضاء يسبح فى ظلمة الكون ويرى طبقة نور النهار على سطح الأرض خطا رفيعا ازرق ( 200 كم )
    ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لاتسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون‏(‏ فصلت‏:37)‏
    ذكر ابن كثير‏(‏ يرحمه الله‏)‏ مانصه‏:‏ يقول تعالي منبها خلقه علي قدرته العظيمة‏,‏ وأنه الذي لانظير له وأنه علي مايشاء قدير‏:(‏ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر‏)‏ أي أنه خلق الليل بظلامه‏,‏ والنهار بضيائه‏(‏ نوره‏),‏ وهما متعاقبان لايفتران‏,‏ والشمس وإشراقها والقمر وضياءه‏(‏ ونوره‏)‏ وتقدير منازله في فلكه‏,‏ واختلاف سيره في سمائه‏,‏ ليعرف باختلاف سيره وسير الشمس مقادير الليل والنهار‏,‏ والشهور والأعوام‏,‏ ويتبين بذلك حلول أوقات العبادات والمعاملات‏,‏ ثم لما كانت الشمس والقمر أحسن الأجرام المشاهدة‏...,‏ نبه تعالي علي أنهما مخلوقان عبدان من عبيده‏,‏ تحت قهره وتسخيره فقال‏:(‏ لاتسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون‏)‏ أي‏:‏ ولاتشركوا به فما تنفعكم عبادتكم له مع عبادتكم لغيره‏,‏ فإنه لايغفر أن يشرك به‏....‏

    وذكر صاحب الظلال‏(‏ رحمه الله رحمة واسعة‏)‏ مانصه‏:‏ وهذه الآيات معروضة للأنظار‏,‏ يراها العالم والجاهل‏,‏ ولها في القلب البشري روعة مباشرة‏,‏ ولو لم يعلم الإنسان شيئا عن حقيقتها العلمية‏.‏ فبينها وبين الكائن البشري صلة أعمق من المعرفة العلمية‏,‏ بينها وبينه هذا الاتصال في النشأة‏,‏ وفي الفطرة‏,‏ وفي التكوين‏,‏ فهو منها وهي منه‏,‏ تكوينه تكوينها‏,‏ ومادته مادتها‏,‏ وفطرته فطرتها‏,‏ وناموسه ناموسها‏,‏ وإلهه إلهها‏..‏ فهو من ثم يستقبلها بحسه العميق في هزة وإدراك مباشر لمنطقها العريق‏!!‏
    لهذا يكتفي القرآن غالبا بتوجيه القلب إليها‏,‏ وإيقاظه من غفلته عنها‏,‏ هذه الغفلة التي ترد عليه من طول الألفة تارة‏,‏ ومن تراكم الحواجز والموانع عليه تارة‏,‏ فيجلوها القرآن عنه‏,‏ لينتفض جديدا حيا يقظا يعاطف هذا الكون الصديق‏,‏ ويتجاوب معه بالمعرفة القديمة العميقة الجذور‏.‏

    وصورة من صور الانحراف تلك التي تشير إليها الآية هنا‏.‏ فقد كان قوم يبالغون في الشعور بالشمس والقمر شعورا منحرفا ضالا فيعبدونهما باسم التقرب إلي الله بعبادة أبهي خلائقه‏!!‏ فجاء القرآن ليردهم عن هذا الانحراف‏,‏ ويزيل الغبش عن عقيدتهم المدخولة ويقول لهم‏:‏ إن كنتم تعبدون الله حقا فلا تسجدوا للشمس ولا للقمر‏(‏ واسجدوا لله الذي خلقهن‏)‏ فالخالق هو وحده الذي يتوجه إليه المخلوقون أجمعون‏.‏ والشمس والقمر مثلكم يتوجهان إلي خالقهما فتوجهوا معهم إلي الخالق الواحد الذي يستحق أن تعبدوه‏,‏ ويعيد الضمير عليهما مؤنثا مجموعا‏(‏ خلقهن‏)‏ باعتبار جنسهما وأخواتهما من الكواكب والنجوم‏,‏ ويتحدث عنهن بضمير المؤنث العاقل ليخلع عليهن الحياة والعقل‏,‏ ويصورهن شخوصا ذات أعيان‏!!.‏
    وجاء في صفوة البيان لمعاني القرآن‏(‏ علي كاتبه من الله الرضوان‏)‏ أن في هذه الآية الكريمة ردا قاطعا علي عبدة الشمس والقمر‏,‏ كالصابئة الذين يعبدون الكواكب‏.‏

    وجاء في صفوة التفاسير‏(‏جزي الله كاتبه خيرا‏)‏ مانصه‏:...‏ ومن علاماته الدالة علي وحدانيته وقدرته تعاقب الليل والنهار‏,‏ وتذليل الشمس والقمر‏,‏ مسخرين لمصالح البشر‏!.‏

    الليل والنهار في القرآن الكريم
    جاء ذكر الليل في القرآن الكريم اثنتين وتسعين مرة‏,‏ منها ثلاثة وسبعون بلفظ‏(‏ الليل‏),‏ ومرة واحدة بلفظ‏(‏ ليل‏),‏ وثماني مرات بلفظ‏(‏ ليلة‏),‏ وخمس مرات بلفظ‏(‏ ليلا‏),‏ وثلاث مرات بلفظ‏(‏ ليال‏),‏ ومرة واحدة بكل من اللفظين‏(‏ ليلها‏)‏ و‏(‏ليالي‏).‏
    وفي المقابل جاء ذكر النهار في القرآن الكريم سبعة وخمسين مرة منها أربع وخمسون بلفظ‏(‏ النهار‏),‏ وثلاث مرات بلفظ‏(‏ نهارا‏),‏

    كما وردت ألفاظ‏(‏ الصبح‏)‏ و‏(‏الإصباح‏),‏ و‏(‏الفلق‏),‏ و‏(‏بكرة‏)‏ ومشتقاتها بمدلول النهار في آيات أخري عديدة‏,‏ كما جاءت كلمة‏(‏ يوم‏)‏ أحيانا بمعني النهار في عدد من آيات القرآن الكريم
    وفي هذه الآيات يمن علينا ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ بتبادل الليل والنهار ويعتبرهما من آياته الكبري لأن في ذلك استقامة للحياة علي الأرض‏,‏ وعونا للإنسان علي تحديد الزمن‏,‏ والتأريخ للأحداث المتتالية‏...,‏ وبدون هذا التبادل بين الليل المظلم والنهار المنير تتوقف الحياة علي الأرض‏,‏ ويتلاشي إحساس الإنسان بمرور الزمن‏,‏ وتتوقف قدرته علي متابعة الأحداث والتأريخ لها‏.‏

    والليل والنهار آيتان كونيتان عظيمتان من آيات الله في الخلق تشهدان علي دقة بناء الكون‏,‏ وعلي انتظام حركة الأرض حول محورها المائل بقدر محدد‏,‏ وبدقة فائقة‏,‏ في مدار محدد حول الشمس‏,‏ وما يستتبعه ذلك من تحديد لسنة الأرض‏,‏ وتبادل للفصول المناخية‏,‏ ومرور للشهور‏,‏ والأسابيع‏,‏ والأيام‏,‏ وتعاقب الليل والنهار علي نصفي الأرض‏.‏
    ويحدد سنتنا دورة كاملة للأرض في مدارها حول الشمس‏,‏ ويقسمها إلي إثني عشر شهرا دورة القمر حول الأرض دورة كاملة في كل شهر‏,‏ كما يمكن تحديد كل شهر من تلك الشهور بواسطة البروج التي تتراءي للناظر من فوق سطح الأرض مع جريها في مدارها حول الشمس‏,‏ كما تحدد منازل القمر كلا من الأسابيع‏,‏ والأيام بدقة فائقة‏,‏ ويحدد اليوم تعاقب كل من الليل والنهار بانتظام دقيق‏,‏ وإحكام بالغ‏,‏ وتحدد المزولة أوقات اليوم من طلوع الشمس إلي غروبها‏.‏ علي ذلك فإن السنة الهجرية‏(‏ الإسلامية‏)‏ هي سنة شمسية قمرية‏,‏ ويشير إلي ذلك قول ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
    ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر‏....‏
    ‏(‏ فصلت‏:37)‏

    تبادل الليل والنهار في منظور العلوم الكونية
    إن التبادل المنتظم بين الليل المظلم والنهار المنير علي نصفي الكرة الأرضية هو من الضرورات اللازمة للحياة الأرضية‏,‏ ولاستمرارية وجودها بصورها المختلفة حتي يرث الله‏(‏ تعالي‏)‏ الأرض ومن عليها‏,‏ فبهذا التبادل بين الظلمة والنور يتم التحكم في توزيع مايصل إلي الأرض من الطاقة الشمسية‏,‏ وبالتالي يعين علي التحكم في درجات الحرارة‏,‏ والرطوبة‏,‏ وكميات الضوء في مختلف البيئات الأرضية‏,‏ كما يعين علي التحكم في العديد من الأنشطة الحياتية وغير الحياتية من مثل التنفس والأيض في كل من الإنسان والحيوان‏,‏ وعمليات النتح والتمثيل الضوئي في النباتات‏,‏ كما يتم ضبط التركيب الكيميائي للغلافين الغازي والمائي المحيطين بالأرض‏,‏ وضبط الكثير من دورات النشاط الأرضي من مثل دورة الماء بين الأرض والطبقات الدنيا من غلافها الغازي‏,‏ وحركات الرياح والسحاب في هذا الغلاف‏,‏ وتوزيع نزول المطر منه‏(‏ بتقدير من الله‏),‏ كما تتم دورة تعرية الصخور بتفتيتها‏,‏ ونقل هذا الفتات أو إبقائه في مكانه‏,‏ من أجل تكوين التربة‏,‏ أو الرسوبيات والصخور الرسوبية ومابها من خيرات أرضية‏.‏

    وبالإضافة إلي ذلك فإن في اختلاف الليل المظلم والنهار المنير تقسيما لليوم الأرضي إلي فترة للحركة والعمل والنشاط‏,‏ وفترة للراحة والاستجمام والسكون‏,‏ فالإنسان ــ علي سبيل المثال ـ محتاج إلي السكينة بالليل كي يخلد فيه إلي شيء من الراحة النفسية بالعبادة والتفكر‏,‏ والراحة البدنية بالاسترخاء والنوم والإغفاء حتي يستعيد كلا من نشاطه البدني والذهني‏,‏ ويستجمع قواه فيتهيأ للعمل بالنهار التالي وما يتطلبه ذلك من القيام بواجبات الاستخلاف في الأرض‏,‏ وقد ثبت علميا أن أفضل النوم يكون بالليل‏,‏ وأقله فائدة هو نوم النهار‏(‏فيما عدا فترة القيلولة‏),‏ كما ثبت أن كثرة النوم بالنهار تؤثر في نشاط الدورة الدموية في جسم الإنسان‏,‏ وتتهدده بالتيبس في العضلات‏,‏وتؤدي إلي تراكم الدهون‏,‏ وزيادة الوزن‏,‏ وإلي العديد من صور التوتر العصبي والقلق النفسي‏,‏ وربما كان من مبررات التوجيه الرباني بالنوم بالليل والنشاط بالنهار‏,‏ أن طبقات الحماية التي أوجدها ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ في الغلاف الغازي للأرض‏,‏ ومن أهمها النطق المتأينة‏(
    Ionospheres)‏
    ومابها من أحزمة الإشعاع‏(
    RadiationBelts)‏
    تتمدد بالنهار فتزداد قدراتها علي حماية الحياة الأرضية مما يسمح للانسان بالحركة والنشاط دون مخاطر‏,‏ وهذه النطق تنكمش انكماشا ملحوظا بالليل مما يقلل من قدراتها علي الحماية فينصح الإنسان بالركون إلي النوم والراحة حماية له من تلك المخاطر‏,‏ وفي ذلك يقول ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏

    وجعلنا الليل لباسا‏*‏ وجعلنا النهار معاشا‏(‏ النبأ‏:11,10)‏
    وقال‏(‏ عز من قائل‏):‏
    فالق الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم
    ‏(‏الأنعام‏:96)‏
    وقال‏(‏تبارك اسمه‏):‏
    هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون
    ‏(‏يونس‏:67)‏
    وقال‏(‏ سبحانه‏):‏
    ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصرا إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون
    ‏(‏النمل‏:86)‏
    وقال‏(‏ تعالي‏):‏
    قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلي يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون‏*‏ قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلي يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون‏*‏ ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون‏(‏ القصص‏:71‏ ـــ‏73(‏

    وقال‏(‏ سبحانه وتعالي‏):‏
    الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا إن الله لذو فضل علي الناس ولكن أكثر الناس لايشكرون‏*(‏ غافر‏:61)‏
    ثم إن التبادل بين الليل المظلم‏,‏ والنهار المنير‏,‏ يحدد لنا يوم الأرض‏,‏ ويعيننا علي إدراك الزمن‏,‏ وعلي تحديد الأوقات بدقة وانضباط ضروريين للقيام بمختلف الأعمال‏,‏ ولأداء كل العبادات‏,‏ وإنجاز كافة المعاملات‏,‏ والوفاء بمختلف العهود والمواثيق والعقود‏,‏ وغير ذلك من النشاطات الإنسانية‏,‏ وإن هذه النعمة لهي بحق من نعم الله‏(‏ تعالي‏)‏ علي الإنسان في هذه الحياة‏,‏ وعلي كافة الأحياء الأرضية من حوله‏,‏ لأنه بدونها لاتستقيم الحياة علي الأرض‏,‏ ولايستطيع الإنسان أن يميز ماضيا من حاضر أو مستقبل‏,‏ وبالتالي فإنه بدونها لابد وان تتوقف مسيرة الحياة‏....!!!‏
    من هنا كان التدبر في ظاهرة تعاقب الليل والنهار دعوة إلي الخلق كافة للإيمان بالله‏,‏ وإدراك شيء من بديع صنعه في هذه الحياة‏,‏ ومن هنا أيضا جاءت الآية الكريمة التي نحن بصددها‏,‏ وغيرها من الآيات التي تشير إلي تبادل الليل والنهار في صياغة معجزة ــ شأنها في ذلك شأن كل آيات القرآن الكريم ـــ ومن جوانب ذلك الإعجاز إشارتها إلي أعداد من الحقائق الكونية التي لم تكن معروفة وقت تنزل القرآن الكريم‏,‏ ولا لقرون متطاولة من بعد ذلك مما يجزم بأنه لايمكن أن يكون صناعة بشرية‏,‏ بل هو كلام الله الخالق الذي لايأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه‏,‏ ويشهد للنبي الخاتم والرسول الخاتم الذي تلقاه بالنبوة الحقة‏,‏ والرسالة الخاتمة‏.‏

    الشواهد العلمية المستقاة من تبادل الليل والنهار
    ‏(1)‏ التأكيد علي كروية الأرض‏:‏ فإن تبادل الليل والنهار علي نصفي الارض وتعاقبهما وإيلاج كل منهما في الآخر‏,‏ واختلافهما‏,‏ وتقليبهما‏,‏ وإدبار أحدهما وسفور الآخر‏,‏ واغشاء نور النهار بحلكة الليل‏,‏ وتجلية حلكة الليل بنور النهار‏,‏ وتكوير الليل علي النهار‏,‏ وتكوير النهار علي الليل‏,‏ كل ذلك إشارات ضمنية رقيقة إلي كروية الأرض‏,‏ فلو لم تكن الأرض كرة ما أمكن حدوث شيء من ذلك أبدا‏,‏ وأبسطه تبادل الليل والنهار علي نصفي الأرض‏.‏
    هذه الحقيقة العلمية جاء بها القرآن الكريم من قبل ألف وأربعمائة من السنين في وقت ساد فيه الاعتقاد باستواء الأرض كل الناس‏,‏ علي الرغم من اثبات عدد من قدامي المفكرين غير ذلك‏.‏
    ونزول الآيات القرآنية العديدة بهذه الحقيقة الكونية الثابتة في الجزيرة العربية التي كانت ــ في ذلك الوقت القديم ـــ بيئة بدوية بسيطة‏,‏ ليس لها أدني حظ من المعرفة العلمية ومناهجها ولا بالكون ومكوناته لمما يقطع بأن القرآن الكريم لايمكن أن يكون صناعة بشرية‏,‏ بل هو كلام الله الخالق الذي أبدع هذا الكون بعلمه وحكمته وقدرته‏,‏ والذي هو أدري بصنعته من كل من هم سواه‏,‏ وأن سيدنا ونبينا محمدا‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ كان موصولا بالوحي‏,‏ ومعلما من قبل خالق السماوات والأرض‏.‏

    ‏(2)‏ التأكيد علي دوران الأرض حول محورها أمام الشمس‏:‏
    فلو لم تكن الأرض كروية‏,‏ ولو لم تكن تلك الكرة تدور حول محورها أمام الشمس ما تبادل الليل والنهار‏,‏ وهذا الدوران عبرت عنه الآيات القرآنية في أكثر من عشرين آية صريحة‏,‏ بتعبيرات ضمنية رقيقة‏,‏ ولكنها مصاغة صياغة علمية دقيقة‏,‏ تبلغ من الدقة والشمول والكمال مالم يبلغه العلم الحديث منها‏:‏
    إيلاج الليل في النهار‏,‏ وإيلاج النهار في الليل‏,‏ واختلافهما‏,‏ وتعاقبهما‏,‏ وتقليبهما‏,‏ وإدبار أحدهما وإقبال الآخر‏,‏ وإغشاء النهار بالليل‏,‏ وتجلية الليل بالنهار‏,‏ وتكوير الليل علي النهار‏,‏ وتكوير النهار علي الليل‏,‏ وجعل كل منهما خلفة للآخر‏,‏ وسريان الليل وعسعسته‏,‏ بعد إظلامه وسجوه‏,‏ وإسفار الصبح وتنفسه وطلوع ضحاه وتجليه بعد إغشاء الليل وإظلامه‏(‏آل عمران‏:27,‏ الرعد‏:3,‏ الحج‏:61,‏ المؤمنون‏:80,‏ النور‏:44,‏ الفرقان‏:62,‏ لقمان‏:29,‏ الجاثية‏:3‏ــ‏5,‏ الحديد‏:6,‏ المدثر‏:33‏ــ‏35,‏ التكوير‏:17‏ ــ‏19,‏ الفجر‏:4,‏ الليل‏:2,1,‏ الضحي‏:2,1)‏
    وقد أنزلت هذه الآيات مؤكدة حقيقة دوران الأرض حول محورها في وقت ساد فيه الاعتقاد بثبات الأرض ورسوخها‏,‏ بمعني عدم دورانها أو تحركها‏,‏ وهو أمر معجز للغاية‏.‏

    ‏(3)‏ التأكيد علي أن سرعة دوران الأرض حول محورها أمام الشمس في المراحل الأولي لخلق الكون كانت أعلي من سرعتها الحالية‏:‏
    وهذه الحقيقة لم يتوصل العلم المكتسب من إدراكها إلا في العقود المتأخرة من القرن العشرين‏,‏ وقد سبقها القرآن الكريم بأكثر من أربعة عشر قرنا وذلك بالاشارة إلي هذه الحقيقة في قول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏

    إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوي علي العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين‏(‏ الأعراف‏:54)‏
    وإغشاء النهار بالليل جاء في القرآن الكريم أربع مرات‏(‏ الأعراف‏:54,‏ الرعد‏:3,‏ الشمس‏:1‏ــ‏4,‏ الليل‏:2,1),‏ والمرة الوحيدة التي جاءت فيها الصفة‏:‏يطلبه حثيثا أي سريعا‏,‏ هي هذه الآية الرابعة والخمسين من سورة الأعراف لأنها تتحدث عن بداية خلق السماوات والأرض‏,‏ وهي حقيقة مدونة في هياكل الحيوانات‏,‏ وأخشاب النباتات بدقة بالغة‏,‏ ولم يكن لأحد من الخلق إلمام بأية فكرة عنها إلا في العقود المتأخرة من القرن العشرين حين اكتشف العلماء أن تبادل الليل والنهار كان يتم في العقود الجيولوجية القديمة بسرعة فائقة جعلت من عدد الأيام في السنة عند بدء الخلق أكثر من ألفي يوم‏,‏ وجعلت من طول الليل والنهار معا أقل من أربع ساعات‏,‏ وكان إبطاء سرعة دوران الأرض حول محورها بمعدل جزء من الثانية في كل قرن من الزمان آية من آيات الله في إعداد الأرض لاستقبال الحياة‏,‏ لأن صور الحياة ــ وفي مقدمتها الإنسان ـــ ماكان ممكنا أن تتلاءم مع هذه السرعات الفائقة لدوران الأرض ولا لقصر طول كل من الليل والنهار‏.‏

    ‏(4)‏ التأكيد علي سبح الأرض في مدارها حول الشمس‏:‏
    يعبر القرآن الكريم عن الأرض في عدد من آياته بالليل والنهار كما جاء في قول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
    وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون‏*(‏ الأنبياء‏:33)‏
    وفي قوله‏(‏ عز من قائل‏):‏
    لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون‏(‏ يس‏:40)‏

    وذلك لأن كلا من الليل والنهار عبارة عن ظرف زمان‏,‏ وليس جسما ماديا‏,‏ ولابد للزمان من مكان يظهر فيه‏,‏ والمكان في هذه الحالة هو كوكب الأرض الذي يقتسم الليل نصفه‏,‏ والنهار النصف الآخر في حركة دائبة‏,‏ وتبادل مستمر‏,‏ ولو لم تكن الأرض كروية‏,‏ ولو لم تكن تدور حول محورها أمام الشمس لما تبادل سطحها الليل والنهار في تعاقب مستمر‏,‏ ولولا جري الأرض في مدارها حول الشمس ماتغيرت البروج‏,‏ ولو لم تكن الأرض مائلة بمحور دورانها علي دائرة البروج بزاوية مقدارها‏66,5‏ درجة تقريبا ماتبادلت الفصول‏,‏ ولولا علم الله بجهل الناس لتلك الحقائق في الأزمنة السابقة لأنزل الحقيقة الكونية بلغة صادعة‏,‏ قاطعة‏,‏ ولكن لكي لايفزع الخلق في وقت تنزل القرآن الكريم أشار إلي جري الأرض في مدارها المحدد لها حول الشمس يسبح كل من الليل والنهار‏,‏ والسبح لايكون إلا للأجسام المادية في وسط أقل كثافة منها‏,‏ فالسبح في اللغة هو الانتقال السريع للجسم المادي بحركة ذاتية فيه من مثل حركات كل من الأرض والقمر والشمس وغيرها من أجرام السماء كل في مداره وحول جرم أكبر منه‏,‏ ويؤكد هذا الاستنتاج صيغة الجمع كل في فلك يسبحون التي جاءت في الآيتين‏,‏ لأنه لو كان المقصود بالسبح الشمس والقمر فحسب لجاء التعبير بالتثنية وكلاهما يسبحان‏.‏

    ‏(5)‏ التأكيد علي الرقة الشديدة لطبقة النهار في الغلاف الغازي لنصف الأرض المواجه للشمس‏:‏
    وهي حقيقة لم يدركها الإنسان إلا بعد ريادة الفضاء‏,‏ في منتصف الخمسينات وأوائل الستينات من القرن العشرين‏,‏ وقد سبق القرآن الكريم هذا الكشف العلمي بأربعة عشر قرنا وذلك في قول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
    وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون‏(‏ يس‏:37)‏

    وهذه الآية الكريمة تؤكد أن الأصل في الكون الظلام‏,‏ وأن طبقة النهار في الغلاف الغازي المحيط بنصف الأرض المواجه للشمس‏,‏ والتي تتحرك باستمرار لتحل محل ظلام الليل بإشراق الفجر‏,‏ هي طبقة بالغة الرقة لايكاد سمكها أن يتعدي المائتي كيلو متر فوق مستوي سطح البحر‏,‏ وإذا نسبنا هذا السمك إلي المسافة بين الأرض والشمس وهي مقدرة بحوالي المائة وخمسين مليون كيلو متر كانت النسبة واحدا إلي سبعمائة وخمسين ألفا تقريبا
    ‏(200‏كم‏/150,000,000‏كم‏=750,000/1‏ تقريبا‏)‏

    وإذا نسبناه إلي نصف قطر الجزء المدرك من الكون و‏,‏المقدر بأكثر من اثني عشر بليون‏(‏ ألف مليون‏)‏ سنة ضوئية أختفت هذه النسبة تماما أو كادت‏,‏ ومن هنا تتضح ضآلة سمك الطبقة التي يعمها نور النهار‏,‏ كما يتضح عدم استقرارها لانتقالها باستمرار من نقطة إلي أخري علي سطح الأرض مع دورانها حول محورها أمام الشمس‏,‏ ويتضح كذلك أن تلك الطبقة الرقيقة من نور النهار تحجب عنا ظلام الكون الخارجي‏,‏ لأن الذين تعدوا طبقة النهار من رواد الفضاء رأوا الشمس في منتصف النهار قرصا أزرق في صفحة سوداء‏,‏ وبهذه المعلومات التي اكتشفت منذ أقل من نصف قرن تتضح روعة تشبيه القرآن الكريم انسلاخ نور النهار عن ظلمة كل من الليل والكون بسلخ جلد الذبيحة الرقيق عن كامل بدنها‏,‏ وهذا يؤكد أن الظلمة هي الأصل في هذا الكون‏,‏ وأن النهار ليس إلا ظاهرة‏,‏ نورانية‏,‏ عارضة‏,‏ رقيقة جدا‏,‏ لا تظهر إلا في الطبقات الدنيا من الغلاف الغازي في نصفه المواجه للشمس‏,‏ وبواسطة دوران الأرض حول محورها أمام ذلك النجم ينسلخ النهار تدريجيا أمام ظلمة ليل الأرض‏,‏ والتي تلتقي بظلمة السماء‏.‏
    وتجلي النهار علي الجزء السفلي من الغلاف الغازي للأرض بهذا النور الأبيض المبهج هو من نعم الله الكبري علي عباده‏,‏ ويفسرها تشتت ضوء الشمس بانعكاساته المتكررة علي هباءات الغبار وعلي جزيئات كل من بخار الماء والهواء العالقة بالغلاف الغازي القريب من الأرض‏(‏والتي تثيرها الرياح من سطح الأرض‏)‏ وبعد تجاوز المائتي كيلو متر فوق سطح البحر يبدأ الهواء في التخلخل لتضاؤل تركيزه‏,‏ وتناقص كثافته باستمرار مع الارتفاع‏,‏ وندرة كل من جسيمات الغبار‏,‏ وبخار الماء فيه حتي تتلاشي ولذلك تبدو شمسنا كما يبدو غيرها من نجوم السماء الدنيا بقعا زرقاء باهتة‏,‏ في بحر غامر من ظلمة الكون‏.‏

    ‏(6)‏ التأكيد علي دقة الحساب الزمني بواسطة كل من الليل والنهار والشمس والقمر‏:‏
    من المعروف أن السنة الهجرية هي سنة شمسية‏/‏قمرية‏,‏ لأن هذه السنة تحددها دورة الأرض حول الشمس دورة كاملة تتمها في‏365.25‏ يوما تقريبا‏,‏ وأن هذه السنة تقسم إلي اثني عشر شهرا بواسطة دوران القمر حول الأرض‏,‏ كما يقسم الشهر إلي أسابيع وأيام وليال بنفس الواسطة‏,‏ وقد تقسم الشهور بواسطة البروج التي تمر بها الأرض في أثناء جريها في مدارها حول الشمس‏,‏ كما تدرك الأيام بتبادل كل من الليل والنهار‏,‏ ويقسم النهار إلي وحدات أصغر بواسطة المزولة الشمسية‏,‏ ومن هنا كان القسم القرآني بالليل والنهار والشمس والقمر في خمس آيات‏(‏ الأنعام‏:96,‏ إبراهيم‏:33,‏ النحل‏:12,‏ الأنبياء‏:33,‏ فصلت‏:37).‏

    ‏(7)‏ الإشارة إلي أن ليل الأرض كان في بدء الخلق ينار بعدد من الظواهر الكونية‏:‏
    وفي ذلك يقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
    وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب وكل شيء فصلناه تفصيلا‏(‏ الإسراء‏:12)‏

    ويستشف من هذه الآية أن ظاهرة الشفق القطبي وأطيافه‏(
    AuroraandAuroralSpectra)
    والتي تعرف أيضا باسم ظاهرة الأنوار القطبية‏(
    Polarlights)‏
    أو باسم ظاهرة فجر الليل القطبي‏(
    PolarNight‏ ص‏sDawn),‏
    وهي ظاهرة نورانية تري بالليل في سماء المناطق القطبية وحول القطبية‏,‏ وتتكون نتيجة لارتطام الأشعة الكونية الأولية التي تملأ فسحة الجزء المدرك من الكون‏(‏ علي هيئة الجسيمات الأولية للمادة‏)‏ بالغلاف الغازي للأرض مما يؤدي إلي تأينه‏,‏ وإصدار أشعة كونية ثانوية‏,‏ ونتيجة لذلك تتصادم الأشعات بشحناتها الكهربية المختلفة مع كل من أحزمة الإشعاع ونطق التأين في الغلاف الغازي للأرض وتفريغ شحناتها فتوهجها‏,‏ والجسيمات الأولية للمادة متناهية في الدقة‏,‏ وتحمل شحنات كهربية عالية‏,‏ وتتحرك بسرعات تقترب من سرعة الضوء ولم تكتشف إلا في سنة‏1936‏ م‏.‏
    والأشعة الكونية تتحرك بمحاذاة خطوط المجال المغناطيسي للأرض والتي تنحني لتصب في قطبي الأرض المغناطيسين فتؤدي إلي تأين الغلاف الغازي للأرض‏,‏ ومن ثم إلي توهجه‏,‏

    ومن الثابت علميا أن نطق الحماية المتعددة في الغلاف الغازي للأرض من مثل نطاق الأوزون‏,‏ ونطق التأين‏,‏ وأحزمة الإشعاع‏,‏ والنطاق المغناطيسي للأرض لم تكن موجودة في بدء خلق الأرض‏,‏ ولذلك فقد كانت الأشعة الكونية تصل إلي المستويات الدنيا من الغلاف الغازي للأرض فتؤدي إلي توهجه ليلا حول كافة الأرض‏,‏ وبعد تكون نطق الحماية المختلفة أخذت هذه الظاهرة في التضاؤل التدريجي حتي اختفت‏,‏ فيما عدا مناطق محدودة حول القطبين‏,‏ تبقي شاهدة علي أن ليل الأرض في المراحل الأولي من خلقها كان يضاء بوهج لايقل في شدته عن نور الفجر الصادق فسبحان الذي أنزل من قبل أربعة عشر قرنا قوله الحق علي لسان نبيه الخاتم‏:‏
    وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل‏,‏ وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب‏(‏ الإسراء‏:12)‏

    هذه الشواهد العلمية المستقاة من تبادل الليل والنهار بدءا بتأكيد كروية الأرض‏,‏ ثم دورانها حول محورها‏,‏ وتباطؤ هذا الدوران مع الزمن‏,‏ وجريها في مدارها المحدد حول الشمس‏,‏ والرقة الشديدة لطبقة النهار‏,‏ والدقة الفائقة لحساب الزمن بواسطة تتابع كل من الليل والنهار والشمس والقمر‏,‏ وأن ليل الأرض كان يضاء في بدء الخلق بوهج لايقل في شدته عن نور الفجر الصادق‏,‏ وأن من بقايا هذا الوهج القديم ظاهرة الفجر القطبي‏.‏
    هذه الشواهد لم يصل الإنسان إلي إدراكها إلا في العقود المتأخرة من القرن العشرين‏,‏ وورودها في كتاب الله الذي أنزل علي نبي أمي‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ في أمة كانت غالبيتها الساحقة من الأميين‏,‏ ومن قبل أربعة عشر قرنا لمما يقطع بأن القرآن الكريم هو كلام الله الخاتم والخالد‏,‏ وأن النبي والرسول الخاتم الذي تلقاه كان موصولا بالوحي‏,‏ ومعلما من قبل خالق السماوات والأرض‏,‏ ولذلك وصفه ربه‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ بقوله‏:‏
    وما ينطق عن الهوي‏*‏إن هو إلا وحي يوحي‏*‏ علمه شديد القوي‏(‏ النجم‏:3‏ ـــ‏5(‏
    صفحة الأحاديث النبوية

    http://www.facebook.com/pages/الاحاد...01747446575326

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Nov 2007
    المشاركات
    1,600
    الدين
    الإسلام
    آخر نشاط
    29-11-2014
    على الساعة
    05:10 PM

    افتراضي

    ‏(41)...‏ ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما
    ‏ يخلق ما يشاء والله علي كل شئ قدير
    بقلم الدكتور‏:‏ زغـلول النجـار
    هذا النص القرآني المعجز جاء في السبع الأول من سورة المائدة وهي سورة مدنية آياتها مائة وعشرون‏,‏ وقد سميت بهذا الاسم لورود ذكر المائدة التي طلبها الحواريون من نبي الله عيسي‏(‏ علي نبينا وعليه من الله السلام‏)‏ في ختام السورة‏.‏
    ويدور المحور الرئيسي لسورة المائدة حول التشريعات اللازمة لإقامة الدولة الاسلامية‏,‏ وتنظيم مجتمعاتها علي أساس من الإيمان بوحدانية الخالق‏(‏ سبحانه وتعالي‏),‏ وربوبيته‏,‏ وألوهيته‏,‏ وتفرده بالسلطان في ملكه‏,‏ بغير شريك‏,‏ ولا شبيه ولا منازع‏..‏ ومن ثم فلابد وأن تتلقي هذه الدولة الاسلامية دستور حياتها‏,‏ وجميع تشريعاتها‏,‏ ونظمها‏,‏ وقيمها من وحي السماء كما تكامل في بعثة النبي الخاتم والرسول الخاتم الذي تعهد ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ بحفظه فحفظ‏,‏ وأول بنود هذا الدستور الاسلامي عقد الايمان بالله ربا وبالاسلام دينا‏,‏ وبسيدنا محمد‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ نبيا ورسولا‏,‏ وهو العقد الذي تقوم عليه سائر العقود في حياة الناس‏:‏ أفرادا ومجتمعات‏...‏ من عقيدة‏,‏ وعبادة‏,‏ ودستور أخلاق‏,‏ وتشريعات للمعاملات‏..‏ أي يقوم عليه الدين بتفاصيله الربانية‏,‏ بمعني كل الضوابط السلوكية‏,‏ والعقائد الغيبية‏,‏ والشرائع التعبدية كما قررها الله تعالي‏,‏ ومن ذلك نصت السورة الكريمة علي بيان الحلال والحرام في قضايا عديدة من مثل قضايا الذبائح‏,‏ والمطاعم‏,‏ والمشارب‏,‏ والزواج وغيرها‏,‏ وعلي شرح العقيدة الصحيحة‏:‏ وتوضيح علاقات المسلمين ب
    غيرهم من أصحاب الملل والنحل المنحرفة‏,‏ أفرادا‏,‏ وجماعات‏,‏ وأمما‏,‏ وتحذرهم من الافتتان بهؤلاء الكافرين عن بعض ما أنزل الله‏,‏ ومن الحيود عن العدل تحت ضغوط المشاعر الشخصية‏,‏ حتي تصل الي هذا الحكم الالهي القاطع‏:‏
    ‏...‏ اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لاثم فإن الله غفور رحيم‏(‏ المائدة‏:3)‏ وتعرض السورة الكريمة للصلاة‏,‏ ولأحكام الطهارة لها‏,‏ ويكل الله‏(‏ تعالي‏)‏ الانسان في ذلك كله إلي التقوي‏,‏ وتأمر الآيات المؤمنين أن يكونوا‏:‏ قوامين لله شهداء بالقسط وتبشرهم بالمغفرة والأجر العظيم‏,‏ وتتهدد الذين كفروا وكذبوا بآيات الله أن مصيرهم إلي الجحيم‏,‏ كما تستعرض مواقف بعض أهل الكتاب من مواثيقهم‏,‏ وما أحل بالكافرين منهم من دمار نتيجة نقضهم لمواثيقهم من مثل أتباع كل من موسي وعيسي‏(‏ عليهما السلام‏),‏ وتنادي علي أهل الكتاب بنداء يتكرر عدة مرات يقول فيه ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏

    يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم علي فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير والله علي كل شيء قدير‏(‏ المائدة‏:19)‏
    ثم تعرض السورة الكريمة لعدد من الأحكام المتعلقة بحماية النفس‏,‏ والمال‏,‏ والملكيات الفردية‏,‏ والمجتمعات الانسانية‏,‏ وصيانتها‏,‏ والسلطة وحقوقها‏,‏ وتقدم لهذا كله بقصة ولدي آدم كرمز للصراع بين الحق والباطل في هذه الحياة‏..!!‏
    ثم تعرج السورة الكريمة إلي شيء من مواساة رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ في مواجهته لكفر الكافرين‏,‏ وكذبهم‏,‏ وأكلهم السحت‏,‏ وتنتقل الي قضية الحكم بما أنزل الله‏,‏ وجريمة الخروج علي ذلك‏,‏ لأن حق التشريع بالحل والحرمة هو لله وحده ولذلك كان قبول شرع الله‏,‏ والرضي بحكمه هو إقرار لله بالألوهية‏,‏ والربوبية‏,‏ والوحدانية‏,‏ والقوامة علي خلقه بغير شريك ولا شبيه ولا منازع‏.‏ وتؤكد سورة المائدة قضية الولاء والبراء علي أنها من الوسائل النفسية الأساسية للتربية الاسلامية‏,‏ ولضبط سلوك الأفراد والجماعات المسلمة‏,‏ وتعرج السورة إلي عدد من الأحكام الشرعية في الايمان‏..‏ وتؤكد تحريم كل من الخمر‏,‏ والميسر‏,‏ والأنصاب‏,‏ والأزلام‏,‏ وتضع ضوابط للصيد‏,‏ ومنها تحريمه والعبد في إحرامه‏,‏ وتدعو الي تعظيم الكعبة المشرفة والأشهر الحرم‏,‏ كما تعرض لانحراف أهل الكتاب عما قد أنزل إليهم‏,‏ وتأمر بطاعة الله ورسوله‏,‏ وتنهي عن مخالفتهما خشية عذاب الله‏,‏ وتذكر بحتمية الآخرة‏.‏
    وتلمح السورة الكريمة لعدد من الضوابط التربوية الأخري في حياة المسلمين‏:‏ أفرادا وجماعات‏,‏ ومنها عدم الانبهار بكثرة الخبيث‏,‏ وآداب التعامل مع الله ورسوله‏,‏ وإبطال ما كان قد بقي من تقاليد الجاهلين المبتدعة‏,‏ وحكم الاشهاد علي الوصية في حالة السفر وغير ذلك من التشريعات التي ربطتها كلها بمراقبة الله وتقواه ومخافة معصيته‏...‏ ومن الأحكام التي تناولتها سورة المائدة ما يلي‏:‏ أحكام العقود‏,‏ الذبائح‏,‏ الصيد‏,‏ الإحرام‏,‏ زواج الكتابيات‏,‏ حد الردة‏,‏ أحكام الطهارة‏,‏ حد السرقة‏,‏ حد البغي والإفساد في الأرض‏,‏ أحكام الخمر والميسر‏,‏ كفارة اليمين‏,‏ تحريم قتل الصيد في الاحرام‏,‏ أحكام الوصية عند الموت‏,‏ أحكام البحيرة والسائبة‏,‏ حكم من ترك العمل بشريعة الله‏,‏ وأحكام الولاء والبراء‏.‏ ـ

    وتختتم السورة الكريمة بذكر يوم القيامة الذي يجمع الله تعالي فيه كل الخلق ـ وفي مقدمتهم الأنبياء والمرسلون‏.‏ وذلك للحساب والجزاء‏,‏ وبالاشارة إلي عدد من المعجزات التي أيد الله‏(‏ تعالي‏)‏ بها عبده ورسوله عيسي بن مريم‏,‏ ومنها إنزال المائدة من السماء‏,‏ ثم إلي تبرئة السيد المسيح‏(‏ علي نبينا وعليه السلام‏)‏ وتبرئة أمه الصديقة مما ألصق بهما من دعاوي الألوهية الكاذبة فالله واحد أحد‏,‏ فرد صمد‏,‏ لا منازع له في سلطانه‏,‏ ولا شريك له في ملكه‏...‏

    ومن الآيات العلمية المعجزة في هذه السورة الكريمة ما يلي‏:‏
    ‏1‏ ـ تحريم كل من الميتة‏,‏ والدم‏,‏ ولحم الخنزير‏,‏ وما أهل لغير الله به‏,‏ والمنخنقة‏,‏ والموقوذة‏,‏ والمتردية‏,‏ والنطيحة‏,‏ وما أكل السبع الا ما ذكي‏.‏

    ‏2‏ ـ التأكيد علي أن لله ملك السموات والأرض وما بينهما في موضعين متتابعين من السورة‏(18,17),‏ وما فيهن‏(120).‏

    ‏3‏ ـ التأكيد علي أن اليهود قد حرفوا دينهم‏(41).‏

    ‏4‏ ـ وأنهم سماعون للكذب أكالون للسحت‏(42).‏

    ‏5‏ ـ وأن كثيرا من الناس لفاسقون‏(49).‏

    ‏6‏ ـ وأن كثيرا من اليهود يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت‏..(62)‏

    ‏7‏ ـ وأن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا‏,‏ وأن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصاري‏..(82).‏

    ‏8‏ ـ تحريم كل من الخمر‏,‏ والميسر‏,‏ والأنصاب‏,‏ والأزلام‏(90).‏

    ‏9‏ ـ جعل الكعبة المشرفة قياما للناس‏(97).‏

    ‏10‏ ـ التأكيد علي إنزال المائدة التي طلبها حواريو عيسي‏(‏ عليه السلام‏)‏ من السماء‏(115,114).‏

    ‏11‏ ـ التأكيد علي معجزات السيد المسيح‏(‏ عليه السلام‏)(111,110),‏ وعلي بشريته الكاملة‏(117).‏

    وكل قضية من هذه القضايا تحتاج إلي معالجة مستقلة في مقال أو أكثر من مقال‏,‏ ولكني سوف أقصر الكلام هنا علي قضية واحدة وصفها القرآن الكريم بما بين السماوات والأرض‏.‏

    التعبير بـ رب السماوات والأرض وما بينهما في القرآن الكريم ورد التعبير القرآني رب السماوات والأرض وما بينهما في عشرين موضعا من القرآن الكريم علي النحو التالي‏:‏
    ‏(1)‏ لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله علي كل شيء قدير‏.(‏ المائدة‏:17)‏

    ‏(2)‏ وقالت اليهود النصاري نحن أبناء الله وأحباؤه‏,‏ قل فلم يعذبكم بذنوبكم‏,‏ بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ولله ملك السموات والارض وما بينهما واليه المصير‏(‏ المائدة‏18)‏

    ‏(3)‏ وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما الا بالحق وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل‏(‏ الحجر‏:85)‏

    ‏(4)‏ وما تتنزل الا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا رب السماوات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا‏(‏ مريم‏:65,64)‏

    ‏(5)‏ تنزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العلي الرحمن علي العرش استوي له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثري‏(‏ طه‏:4‏ ـ‏6).‏

    ‏(6)‏ وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين‏(‏ الأنبياء‏:16)‏

    ‏(7)‏ الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوي علي العرش الرحمن فاسأل به خبيرا‏(‏ الفرقان‏:59)‏

    ‏(8)‏ ـ قال فرعون ومارب العالمين قال رب السماوات والأرض ومابينهما إن كنتم موقنين
    ‏(‏الشعراء‏:23‏ ـ‏24)‏

    ‏(9)‏ أو لم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما الا بالحق وأجل مسمي وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون‏(‏ الروم‏:8)‏

    ‏(10)‏ الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوي علي العرش مالكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون
    ‏(‏السجدة‏:4).‏

    ‏(11)‏ إن إلهكم لواحد‏,‏ رب السماوات والأرض وما بينهما ورب المشارق‏(‏ الصافات‏:5,4).‏

    ‏(12)‏ أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب‏,‏ أم لهم ملك السماوات والأرض وما بينهما فليرتقوا في الأسباب‏(‏ ص‏:10,9).‏

    ‏(13)‏ وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار‏(‏ ص‏:27)‏

    ‏(14)‏ رب السماوات والأرض وما بينهما العزيز الغفار‏(‏ ص‏:66).‏

    ‏(15)‏ وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله وهو الحكيم العليم‏.‏ وتبارك الذي له ملك السماوات والأرض وما بينهما وعنده علم الساعة وإليه ترجعون‏(‏ الزخرف‏:85,84).‏

    ‏(16)‏ رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين‏(‏ الدخان‏:7).‏

    ‏(17)‏ وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما الا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون‏(‏ الدخان‏:38).‏

    ‏(18)‏ ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمي والذين كفروا عما أنذروا معرضون‏(‏ الأحقاف‏:3)‏

    ‏(19)‏ ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب
    ‏(‏ق‏:38).‏

    ‏(20)‏ رب السماوات والأرض وما بينهما الرحمن لا يملكون منه خطابا‏(‏ النبأ‏:37).‏
    ‏(‏ بين‏)‏ في اللغة العربية بالتخفيف ظرف مكان أو زمان بمعني وسط‏,‏ أو موضوع للخلالة بين الشيئين أو الزمنين‏,‏ ووسطهما‏,‏ يقال‏,‏ لقد تقطع بينكم أي ما‏(‏ بينكم‏)‏ علي الحذف فإن جعلته اسما فاعلا أعربته تقول‏:‏ لقد تقطع‏(‏ بينكم‏)‏ أي وصلكم‏,‏ فـ‏(‏ البين‏)‏ هو الوصل‏,‏ وهو‏(‏ البينونة‏)‏ أيضا الفراق لأنه من الأضداد‏,‏ و‏(‏ البون‏)‏ و‏(‏البين‏)‏ هو الفضل والمزية أو البعد‏,‏ يقال‏:‏ بينهما‏(‏ بون‏)‏ أو‏(‏ بين‏)‏ بعيدا‏,‏ والواو أفصح‏;‏ فأما بمعني البعد فيقال‏:‏ إن بينهما‏(‏ بينا‏)‏ لا تميد‏.‏

    ما بين السماوات والأرض في أقوال المفسرين
    في قوله‏(‏ تعالي‏):‏
    لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله علي كل شيء قدير‏*‏ وقالت اليهود والنصاري نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما وإليه المصير‏*‏
    ‏(‏ المائدة‏18,17)‏

    جاء التعبير القرآني‏,‏ ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما مرتين قال ابن كثير‏(‏ رحمه الله‏)‏ في تفسير الأولي منهما‏:‏ أي جميع الموجودات ملكه وخلقه‏,‏ وفي تفسير الثانية قال‏:‏ أي الجميع ملكه‏,‏ وتحت قهره وسلطانه‏...‏ وقال صاحب الظلال‏(‏ رحمه الله رحمة واسعة‏):‏ أي أن الله هو المالك لكل شيء‏.‏
    وذكر صاحب صفوة التفاسير‏(‏ جزاه الله خيرا‏)‏ في الأولي‏:‏ أي من الخلق والعجائب وفي الثانية‏:‏ أي الجميع ملكه وتحت قهره وسلطانه وفي التعليق علي نص مشابه‏(‏ في الآية‏59‏ من سورة الفرقان ذكر أصحاب المنتخب في تفسير القرآن الكريم ما نصه أن هذا النص يشير الي سائر أجرام السماء من نجوم وكواكب وأقمار وأتربة كونية وغازات وطاقات يتألف الكون منها‏.‏ والحقيقة ان هناك آيتين من آيات القرآن الكريم تلقيان بعض الضوء علي دلالة ما بين السماوات والأرض‏,‏ في أولاهما يقول ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏

    إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون‏*(‏ البقرة‏:164)‏
    ومن هذه الآية الكريمة يفهم أن السحاب هو مما بين السماء والأرض‏.‏

    وفي الآية الثانية يقول ربنا‏(‏ سبحانه وتعالي‏):‏
    الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله علي كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما‏*(‏ الطلاق‏:12)‏
    ومن هذه الآية الكريمة يفهم أن الأمر الإلهي هو مما يتنزل بين السماوات السبع والأرضين السبع‏.‏

    وفي الحديث المروي عن رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ يقول فيه‏(‏ عليه الصلاة والسلام‏):‏ سبحان الله عدد ما خلق في السماء‏,‏ سبحان الله عدد ما خلق في الأرض‏,‏ سبحان الله عدد ما خلق بينهما‏,‏ سبحان الله عدد ما هو خالق‏...‏
    ويقول‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ في حديث آخر‏:‏ أطت السماء أطا وحق لها أن تئط‏...‏ ما من أربع أصابع إلا وفيها ملك قائم أو راكع أو ساجد يعبد ربه‏...‏ لو علمتم ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا‏...‏

    ما بين السماوات والأرض في العلوم المكتسبة
    وصل معظم المفسرين ـ من القدامي والمعاصرين ـ إلي أن من دلالات قوله‏(‏ تعالي‏):‏ رب السماوات والأرض وما بينهما أنه‏(‏ تعالي‏)‏ هو رب العوالم علويها وسفليها‏,‏ فلا ربوبية لغيره‏,‏ ولا شريك له في ملكه‏;‏ وهذا صحيح‏,‏ ولكنه لا يفسر لنا ماهية الموجود بين السماوات والأرض‏,‏ الذي تشير الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة والعلوم المكتسبة إلي أنه يشمل‏:‏
    ‏(1)‏ المكان والزمان في حدود نطاق يفصل بين السماوات والأرض‏.‏

    ‏(2)‏ المادة والطاقة في هذا النطاق‏.‏

    ‏(3)‏ السحاب المسخر بين السماء والأرض في هذا النطاق‏.‏

    ‏(4)‏ الملائكة وغيرهم من الخلائق في هذا النطاق‏.‏

    ‏(5)‏ الأوامر الالهية المتنزلة في هذا النطاق وعبره‏.‏

    والسؤال الذي يفرض نفسه هنا هو‏:‏ لماذا اعتبر القرآن الكريم أن هناك فاصلا بين السماوات والأرض؟ وماذا تقول العلوم المكتسبة عن هذا الفاصل؟
    تجمع العلوم المكتسبة في مجالي علم الفلك والفيزياء الفلكية علي أن خلق كل من المكان والزمان والمادة والطاقة قد تزامن مع عملية الانفجارالعظيم‏;‏ فلا يوجد في الكون الذي نعرفه مكان بلا زمان‏,‏ ولا زمان بلا مكان‏,‏ كما لا يوجد مكان وزمان بغير مادة وطاقة‏.‏

    فالمادة والطاقة موجودتان بين كل من الأرض والشمس‏,‏ وبينهما وبين كافة أجرام المجموعة الشمسية‏,‏ ليس هذا فقط بل بين النجوم وحولها‏,‏ وبين المجرات وحولها‏,‏ بل في الجزء المدرك من الكون كله‏.‏

    وعلماء الفلك والطبيعة الفلكية يتحدثون اليوم عن المادة حول الكواكب‏
    (Circum-Planetarymatter),
    وبين الكواكب‏
    (Inter-Planetarymatter)‏
    وحول النجوم‏
    (Cirlum-SyellarMarrer)‏
    وبينها‏
    (Inter-StellarMatter)‏
    وحول المجرات‏
    (Circum-galacterMatter)‏
    وبينها‏
    (Inter-galacticmatter),
    وبين كل تجمع سماوي مهما تعاظم حجمه وفسحة السماء‏,‏ وذلك لأن تحرك كل من المادة والطاقة بين أجرام السماء وبين المكان والزمان والمحيطين بهما من الأمور التي أكدتها الدراسات الفلكية مؤخرا‏,‏ ومن أثقلتها تخلق النجوم من الدخان الكوني وعودتها اليه في دورة حياة النجوم‏,‏ ومن أمثلة المادة المنتشرة بين الأرض والسماء ما يلي‏:‏
    ‏(1)‏ المادة بين الكواكب‏
    (TheInter-PlanetaryMatter)
    وهي عبارة عن خليط من الغازات والجسيمات الصلبة المتناهية في دقة الحجم‏(‏ من‏0,001‏ من الملليمتر إلي‏0,1‏ من المليمتر في القطر وإن كانت أقطار تلك الجسيمات الصلبة قد تصل في حالات نادرة إلي أقطار كل من النيازك والكويكبات‏)‏ وتنتشر مادة ما بين الكواكب بين الأرض والشمس‏,‏ وبينهما وبين بقية كواكب المجموعة الشمسية‏,‏ وتتراوح كثافة تلك المادة بين‏(10-21)‏ و‏(10-23)‏ جراما للسنتيمتر المكعب‏,‏ وتقدير كميتها في مدار الأرض بحوالي واحد من مائة مليون من كتلة الأرض‏(10-8)‏ من كتلة الأرض‏)‏ وتتكون هذه المادة أساسا من غاز الإيدروجين المتأين‏(‏ أي من البروتونات والإليكترونات‏)‏ ومن نوي ذرات الهيليوم‏.‏
    ويقدر ما يصل إلي الأرض من مادة الشهب والنيازك بحوالي عشر الطن إلي مائة طن في اليوم الواحد‏,‏ وتختلف حركة الجسيمات الصلبة في مادة ما بين الكواكب حسب اختلاف أقطارها وحسب قوانين الميكانيكا السماوية‏.‏

    وفي نفس الوقت يتصاعد من فوهات البراكين الأرضية كميات هائلة من الغازات والأبخرة التي يغلب علي تركيبها بخار الماء‏(‏ حوالي‏70%)‏ بالإضافة إلي أخلاط من الغازات المختلفة التي تترتب حسب نسبة كل منها علي النحو التالي‏:‏ ثاني أكسيد الكربون‏,‏ الإيدروجين‏,‏ أبخرة حمض الكلور‏,‏ النيتروجين‏,‏ فلوريد الإيدروجين‏,‏ ثاني أكسيد الكبريت‏,‏ كبريتيد الإيدروجين‏,‏ غازات الميثان والأمونيا وغيرها‏,‏ بالإضافة إلي بعض الجسيمات الصلبة‏.‏
    الغلاف الغازي للأرض‏:‏ باختلاط ما يتصاعد من فوهات البراكين مع ما حول الأرض من مادة ما بين الكواكب تكون الغلاف الغازي للأرض وهو خليط من كل من مادة الأرض ومادة السماء الدنيا‏,‏ ومن هنا كان حديث القرآن الكريم عن السماوات والأرض وما بينهما‏.‏

    وتقدر كتلة الغلاف الغازي للأرض بأكثر من خمسة آلاف مليون طن‏(5,2*10-15‏ من الأطنان‏),‏ ويقدر سمكه بعدة آلاف من الكيلو مترات فوق مستوي سطح البحر‏,‏ ويتناقص ضغطه من نحو الكيلو جرام علي السنتيمتر المربع عند هذا المستوي إلي واحد من المليون من ذلك في أجزائه العليا‏.‏

    ويقسم الغلاف الغازي للأرض إلي قسمين رئيسيين علي النحو التالي‏:‏
    ‏(‏أ‏)‏ الجزء السفلي من الغلاف الغازي للأرض‏:‏ ويتكون أساسا من خليط من جزئيات النيتروجين والأوكسجين وعدد من الغازات الأخري ويعرف باسم النطاق المتجانس ويقسم الي ثلاثة نطيقات متميزة من أسفل إلي أعلي علي النحو التالي‏:‏

    ‏(1)‏ نطيق التغيرات الجوية‏(‏ نطيق الطقس أو الرجع‏)
    (TheTroposphere)‏
    وهو الملامس للأرض مباشرة ويمتد من مستوي سطح البحر إلي ارتفاع حوالي‏17‏ كم فوق خط الاستواء‏,‏ متناقصا في السمك الي ما بين‏6‏ كم‏,8‏ كم فوق القطبين‏,‏ ويختلف سمكه فوق خطوط العرض الوسطي باختلاف ظروفها الجوية‏,‏ فينكمش إلي ما دون السبعة كيلو مترات في مناطق الضغط المنخفض ويمتد إلي حوالي‏13‏ كم في مناطق الضغط المرتفع‏.‏
    ويضم هذا النطيق حوالي ثلثي كتلة الغلاف الغازي للأرض‏(66%),‏ وتتناقص درجة الحرارة فيه باستمرار مع الارتفاع بمعدل ستة درجات مئوية كل كيلو متر ارتفاع في المتوسط حتي تصل إلي ستين درجة مئوية تحت الصفر في قمة هذا النطيق المعروفة باسم مستوي الركود الجوي
    ‏(TheTropopause)
    وذلك لتناقص الضغط فيه إلي حوالي عشر الضغط الجوي عند سطح البحر‏.‏

    ويحدث ذلك نتيجة للبعد عن سطح الأرض وهو مصدر التدفئة الصاعدة إلي هذا النطاق بعد امتصاص جزء من حرارة الشمس في كل نهار وإعادة إشعاعه إلي جو الأرض‏.‏ ويتكثف بخار الماء الصاعد من الأرض في نطيق الثغيرات الجوية‏,‏ وتتكون السحب فيه‏,‏ ويهطل كل من المطر والبرد والثلج منه‏,‏ وتحدث ظواهر الرعد والبرق‏,‏ والعواصف‏,‏ والدوامات‏,‏ وتيارات الحمل الهوائية وغير ذلك من حركات الرياح فيه ولذا يقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ في محكم كتابه‏:‏
    ‏...‏ والسحاب المسخر بين السماء والأرض‏...(‏ البقرة‏:164)‏ ويتركب هذا النطيق أساسا من جزيئات كل من غازات النيتروجين‏(‏ بنسبة‏78.1%‏ بالحجم‏)‏ والأوكسجين‏(‏ بنسبة‏21%‏ بالحجم‏),‏ والأرجون‏(‏ بنسبة‏0,93%‏ بالحجم‏),‏ وثاني أكسيد الكربون‏(‏ بنسبة‏0,03%‏ بالحجم‏),‏ بالإضافة إلي نسب ضئيلة من بخار الماء‏,‏ وآثار طفيفة من كل من غازات الميثان‏,‏ وأكاسيد النيتروجين‏,‏ وأول أكسيد الكربون‏,‏ والإيدروجين‏,‏ والهيليوم‏,‏ والأوزون‏,‏ وبعض الغازات الخاملة مثل الأرجون‏.‏

    ‏(2)‏ نطيق التطبق‏
    (Thestratosphere)‏
    ويمتد من فوق مستوي الركود الجوي إلي قرابة الخمسين كيلو مترا فوق مستوي سطح البحر‏(‏ ويتراوح سمكه بين‏44,33‏ كيلو مترا‏)‏ وينتهي بمستوي الركود الطبقي‏,
    (Thestratospause)‏
    وترتفع درجة الحرارة في هذا النطيق من حوالي الستين مئوية تحت الصفر عند قاعدته إلي نحو الثلاث درجات مئوية فوق الصفر عند قمته‏,‏ ويرجع ذلك إلي امتصاص قدر من الأشعة فوق البنفسجية القادمة مع أشعة الشمس بواسطة جزيئات الأوزون المنتشرة فيما يسمي باسم حزام الأوزون‏
    (TheozoneBelrortheozonosphere)‏
    الموجود في الجزء السفلي من هذا النطيق‏(‏ بين ارتفاعي‏30,18‏ كم فوق مستوي سطح البحر‏)‏ ويتركز غاز الأوزون في هذا الحزام بنسبة‏0,001%‏ ولكنها علي ضآلتها تعتبر نسبة كافية لحماية الحياة علي الأرض من أضرار الأشعة فوق البنفسجية وهي أشعة حارقة ومدمرة لكافة الخلايا الحية‏,‏ ولولا هذه الحماية الربانية والعديد غيرها من صور الحماية التي وضعها الخالق سبحانه وتعالي بين السماء والأرض والتي لا يتسع المقام لسردها لاستحالت الحياة علي سطح الأرض‏,‏ ويستمر الضغط الجوي في الانخفاض في نطيق التطبق من قاعدته إلي قمته حتي يصل إلي واحد من الألف من الضغط الجوي عند سطح البحر‏.‏

    ‏(3)‏ النطيق المتوسط‏
    (theMesosphere):‏
    ويمتد من مستوي الركود الطبقي إلي ارتفاع‏80‏ ـ‏90‏ كم فوق مستوي سطح البحر‏(‏ فيتراوح سمكه بين‏40,30‏ كم‏)‏ وتنخفض درجة الحرارة في هذا النطيق بمعدل ثلاث درجات لكل كيلو متر ارتفاع تقريبا حتي تصل إلي نحو مائة درجة مئوية تحت الصفر عند حده العلوي والمعروف باسم مستوي الركود الأوسط
    ‏(theMesopause)
    وإن كانت درجة الحرارة تلك‏.‏ تتغير باستمرار مع تغير الفصول المناخية‏.‏
    كذلك يستمر الضغط في الانخفاض مع الارتفاع حتي يصل في قمة هذا النطيق إلي أربعة من المليون من الضغط الجوي عند سطح البحر‏.‏

    ‏(‏ب‏)‏ الجزء العلوي من الغلاف الغازي للأرض‏.‏
    وهذا الجزء من الغلاف الغازي للأرض يختلف اختلافا كليا عن جزئه السفلي ولذا يعرف باسم غلاف التباين‏
    (TheHeterosphere)‏
    وتبدأ جزئيات مكوناته في التفكك إلي ذراتها وأيوناتها بفعل كل من أشعة الشمس والأشعة الكونية‏,‏ كذلك تسود فيه ذرات الغازات الخفيفة مثل الإيدروجين والهيليوم علي حساب الذرات الكثيفة نسبيا مثل الأوكسجين والنيتروجين‏.‏

    وتواصل درجات الحرارة الارتفاع في هذا الجزء حتي تصل إلي أكثر من ألفي درجة مئوية‏,‏ ويواصل الضغط في الانخفاض حتي يصل في قمته إلي أقل من واحد في المليون من الضغط الجوي علي سطح الأرض‏,‏ ويحوي هذا الجزء من الغلاف الغازي للأرض علي نطيقين متميزين هما من أسفل إلي أعلي كما يلي‏:‏
    ‏(1)‏ نطيق الحرارة‏
    (TheThermosphere)‏
    ويمتد من مستوي الركود المتوسط إلي عدة مئات من الكيلو مترات في مستوي سطح البحر‏(‏ ويقدر سمكه عدة كيلومترات‏),‏ وتواصل درجة الحرارة في الارتفاع فيه من نحو مائة درجة مئوية إلي مابين‏500,227‏ درجة مئوية عند ارتفاع مائة وعشرين كيلو مترا فوق مستوي سطح البحر‏,‏ وتبقي درجة الحرارة ثابتة تقريبا عند درجة‏500‏ م إلي ارتفاع يتراوح بين‏400,300‏ كم‏.‏
    فوق مستوي سطح البحر‏,‏ ثم تقفز بعد ذلك إلي مابين‏2000,1500‏ درجة مئوية في نهاية النطيق وتزيد عن ذلك في فترات النشاط الشمسي‏.‏

    ‏(2)‏ النطيق الخارجي‏
    (TheExosphere):
    ويعلو النطاق الحراري مباشرة‏,‏ وتثبت فيه درجة الحرارة نسبيا‏,‏ ولذا يطلق عليه أحيانا اسم نطاق التساوي الحراري‏
    (theIsothermalsphere),
    ويتضاءل الضغط فيه وتتمدد الغازات بشكل كبير وتتحرك ذراتها بحرية كاملة في مساراتها فتقل فرص التلاقي بينها بعد ارتفاع يطلق عليه اسم الارتفاع الحرج أو خط ركود الضغط الجوي أو قاعدة العوالم الخارجية عن الأرض‏.‏ وعند هذا الحد يبدأ الغلاف الغازي للأرض في الالتحام بقاعدة السماء الدنيا أو ما يطلق عليه اسم المادة بين السماء والأرض‏.‏
    وهنا تتضاءل سيطرة الجاذبية الأرضية علي ذرات الجزء العلوي من هذا النطيق الخارجي مما يزيد من قدرات تلك الذرات علي الانفلات من قيود الجاذبية الأرضية والهروب بعيدا عن الأرض‏.‏

    وفي المنطقة من قمة النطاق المتوسط إلي أقصي الحدود العلوية للغلاف الغازي للأرض تتأين ذرات الغازات بفعل كل من الأشعة فوق البنفسجية والسينية القادمة مع أشعة الشمس‏,‏ وبعض جسيمات كل من الأشعة الشمسية والكونية‏.‏
    ويطلق علي هذا السمك اسم نطاق التأين‏
    (TheIonosphere)‏
    والمنطقة التي تفوق فيها طاقة الأيونات الطاقة الحرارية فإنها تتحرك بين خطوط قوي مجال الجاذبية الأرضية مكونة منطقة تعرف باسم النطاق المغناطيسي للأرض‏
    (TheMagnelosphere)‏
    وتمتد إلي نهاية الغلاف الغازي للأرض‏.‏ وقد تتداخل في نطاق المادة بين الكواكب‏.‏

    كذلك تم اكتشاف زوجين من الأحزمة الإشعاعية‏
    (TheradiationBelrs)‏
    التي تحيط بالأرض علي هيئة هلالية مزدوجة تزيد في السمك عند خط الاستواء وترق رقة شديدة عند القطبين‏,‏ وفيها تحتبس الأيونات واللينات الأولية للمادة التي يقتنصها المجال المغناطيسي للأرض فتتحرك عبر ذلك المجال من أحد قطبي الأرض إلي الآخر وبالعكس في حركة دائبة‏.‏
    وهذه الحقائق لم يدركها العلماء إلا في بداية الستينات من القرن العشرين‏,‏ وهي تمثل فاصلا حقيقيا بين الأرض والسماء‏,‏ ومن هنا تأتي الإشارات القرآنية بقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏ رب السماوات والأرض وما بينهما في أكثر من عشرين موضعا من كتاب الله سبقا علميا يقطع بأن القرآن الكريم هو كلام الله الخالق ويشهد بالنبوة وبالرسالة للنبي الخاتم والرسول الخاتم الذي تلقاه فصلي الله وسلم وبارك عليه والحمد لله رب العالمين
    صفحة الأحاديث النبوية

    http://www.facebook.com/pages/الاحاد...01747446575326

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Nov 2007
    المشاركات
    1,600
    الدين
    الإسلام
    آخر نشاط
    29-11-2014
    على الساعة
    05:10 PM

    افتراضي

    ‏(42)‏ وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض وإنا علي ذهاب به لقادرون‏*‏
    بقلم ‏:‏ د. زغـلول النجـار
    هذه الآية الكريمة جاءت في نهاية السدس الأول من سورة‏(‏ المؤمنون‏),‏ وهي سورة مكية‏,‏ وآياتها مائة وثماني عشرة آية‏,‏ ويدور محورها الرئيسي حول قضية الإيمان‏,‏ وصفات المؤمنين‏,‏ ودلالات ومؤشرات ذلك‏,‏ ومقارنته باضداده من الكفر بالله أو الشرك به‏(‏ تعالي الله عن ذلك علوا كبيرا‏).‏
    وقد استهلت السورة الكريمة بإثبات الفلاح للمؤمنين‏,‏ واستعراض جانب من صفاتهم‏,‏ وإثبات ميراث جنات الفردوس لهم خالدين فيها أبدا‏,‏ وتابعت بالإشارة إلي عدد من آيات الله في الأنفس والآفاق‏,‏ تشهد له‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ بكمال الألوهية‏,‏ والربوبية‏,‏ والوحدانية‏,‏ وبطلاقة القدرة المبدعة في الخلق مما يثبت له‏(‏ سبحانه‏)‏ القدرة علي الافناء والبعث‏,‏ وقد كانا دوما من حجج الكافرين والمتشككين والمعاندين‏.‏

    واستمرت سورة‏(‏ المؤمنون‏)‏ بعد ذلك في تأكيد حقيقة الإيمان كما دعا إليها رسل الله أجمعين ومنهم الصفوة من لدن سيدنا نوح‏(‏ عليه السلام‏)‏ إلي خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد بن عبد الله‏(‏ صلي الله وسلم عليه وعليهم أجمعين‏),‏ وعرضت السورة لشئ من قصص هؤلاء الأنبياء والمرسلين‏(‏ صلوات الله وسلامه عليهم أجمعون‏)‏ الذين حملوا لأممهم الأمر الإلهي بالإيمان بالله‏(‏ تعالي‏)‏ ربا‏,‏ وتوحيده‏,‏ وتنزيهه عن كل ما لا يليق بجلاله‏,‏ والخضوع له بالطاعة والعبادة والحرص علي المطعم الحلال الطيب‏,‏ والعمل الصالح المفيد‏,‏ وتأكيد وحدة الإنسانية‏,‏ ووحدة الدين‏,‏ هذه الإنسانية التي خالقها واحد‏,‏ وأصلها واحد‏,‏ ودينها واحد‏,‏ وإلي هذا الخالق العظيم الذي له ملك السماوات والأرض ومن فيهن يرجع الجميع ويعودون ليحاسبوا علي أعمالهم في حياتهم الدنيا بالإحسان إحسانا‏,‏ وبالإساءة عقابا أو غفرانا حسب مشيئة رب العالمين وأمره‏.‏
    وتابعت السورة الكريمة باستعراض عدد من شبهات المكذبين لدين الله الحق‏,‏ الضالين عن هدايته‏,‏ المحاربين لرسله وأنبيائه وأوليائه إلي الحد الذي يدفع الرسل والأنبياء‏,‏ والأولياء إلي الاستنصار بربهم فيهلك الله المكذبين‏(‏ من أمثال الصهاينة المجرمين الذين يعيثون اليوم فسادا في أرض فلسطين‏,‏ بدعم من الإدارة الأمريكية الفاجرة الكافرة‏,‏ وصمت من بقية المشركين والكافرين والمتخاذلين‏),‏ ومن سنن الله التي لا تتوقف‏,‏ ولا تتخلف أن يهلك المكذبين الكافرين الفجرة‏,‏ وأن ينجي عباده المؤمنين‏,‏ كما سيحدث إن شاء الله‏(‏ تعالي‏)‏ علي أرض فلسطين‏,‏ وفي كل أرض محاصرة‏,‏ وإلي أن يرث الله الأرض ومن عليها‏.‏

    وتمضي السورة في استعراض اختلاف الناس بعد الرسل‏,‏ مؤكدة مرة أخري وحدة الرسالة السماوية‏,‏ ووحدة الجنس البشري‏,‏ وإن افترقوا إلي مؤمن وكافر‏,‏ وتكرر ذكر شئ من صفات كل من هاتين المجموعتين من البشر‏,‏ وتشير إلي مصير كل منهم في الآخرة‏,‏ وتؤكد أن المدد لنفر من الكافرين والمشركين في هذه الحياة الدنيا هو من قبيل استدراجهم‏,‏ وليس دليل خير فيهم‏,‏ فالمدد بالمال والبنين‏,‏ والعلو الكاذب في الأرض‏,‏ كما هو الحال مع كل من الأمريكيين والصهاينة الغاصبين لا يمكن أن يكون الا غضبا من الله تعالي عليهم من قبيل استدراجهم حتي إذا أخذهم لم يفلتهم إن شاء الله تعالي‏....!!!.‏
    وتستنكر سورة‏(‏ المؤمنون‏)‏ المواقف المعادية من المشركين لرسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ في القديم كما تستنكره في الحديث دون أدني مبرر واحد‏,‏ وتشير إلي تعلل المشركين والكافرين بتشككهم في إمكانية البعث بعد الموت لجهلهم بطلاقة القدرة الإلهية‏,‏ وقياسهم علي الله‏(‏ تعالي‏)‏ ظلما بمعايير الناس‏.‏

    وتسأل سورة‏(‏ المؤمنون‏)‏ الناس عددا من الأسئلة المنطقية حتي يجيبوا بفطرتهم‏,‏ وينطقوا ما يؤكد تفرد الله‏(‏ تعالي‏)‏ بالألوهية‏,‏ والربوبية والوحدانية‏,‏ وأنه تعالي قيوم السماوات والأرض ومن فيهن‏,‏ المنزه عن الشريك والصاحبة والولد وأنه‏(‏ تعالي‏)‏ بيده ملكوت كل شئ‏,‏ وهو الذي يجير ولايجار عليه‏...‏
    ويأمر الله‏(‏ تعالي‏)‏ رسوله الكريم في هذه السورة المباركة‏(‏ والأمر بالتالي لكل المسلمين‏)‏ أن يدفع بالتي هي أحسن‏,‏ وأن يستعيذ بالله من همزات الشياطين‏.‏

    وتختتم السورة بمشهد من مشاهد الآخرة يهان فيه كل كافر ومشرك‏,‏ ويؤاخذ علي مواقفه الخاطئة في الدنيا‏,‏ وتنتهي بإقرار التوحيد الخالص لله‏(‏ تعالي‏),‏ وبالتوجيه بضرورة طلب الرحمة والمغفرة منه لأنه‏(‏ تعالي‏)‏ هو أرحم الراحمين‏..‏
    والإشارات الكونية التي استشهدت بها سورة‏(‏ المؤمنون‏)‏ علي ما ورد فيها من حق إشارات عديدة منها ما يلي‏:‏

    ‏(1)‏ خلق السماوات والأرض بالحق‏.‏
    ‏(2)‏ اختلاف الليل والنهار‏.‏
    ‏(3)‏ إنزال الماء من السماء بقدر وإسكانه في الأرض‏.‏
    ‏(4)‏ خلق الحياة بمختلف صورها‏.‏
    ‏(5)‏ خلق الإنسان بمراحله المختلفة‏(‏ الجنينية وما بعد الجنين‏)‏ حتي يكتمل خلقه‏,‏ ويتم ميلاده‏,‏ ويستمر في مراحل نموه حتي وفاته‏,‏ ثم بعثه وحسابه‏,‏ وخلوده في حياة ابدية مقبلة إما في الجنة أبدا أو في النار أبدا‏.‏
    ‏(6)‏ خلق السمع والبصر والأفئدة للإنسان‏,‏ وبث جنسه في مختلف بقاع الأرض‏.‏
    ‏(7)‏ تبادل الموت والحياة‏.‏

    أقوال المفسرين

    في تفسير قوله‏(‏ تعالي‏):‏
    وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض‏,‏ وإنا علي ذهاب به لقادرون‏*.‏
    ‏(‏ المؤمنون‏:18).‏

    ذكر ابن كثير‏(‏ يرحمه الله‏)‏ ما نصه‏:‏ يذكر الله تعالي نعمه علي عبيده التي لا تعد ولا تحصي في إنزاله القطر من السماء بقدر‏,‏ أي بحسب الحاجة‏,‏ لا كثيرا فيفسد الأرض والعمران‏,‏ ولا قليلا فلا يكفي الزرع والثمار‏,‏ بل بقدر الحاجة إليه من السقي والشرب والانتفاع به‏,...‏ فسبحان اللطيف الخبير الغفور‏,‏ وقوله‏:(‏ فأسكناه في الأرض أي جعلنا الماء إذا نزل من السحاب يخلد في الأرض‏,‏ وجعلنا في الأرض قابلية إليه‏,‏ تشربه‏,‏ ويتغذي به ما فيها من الحب والنوي‏,‏ وقوله‏:(‏ وإنا علي ذهاب به لقادرون‏)‏ أي‏:‏ لو شئنا ألا تمطر لفعلنا‏,‏ ولو شئنا أذي لصرفناه عنكم إلي السباخ والبراري والقفار لفعلنا‏,‏ ولو شئنا لجعلناه أجاجا لا ينتفع به لشرب ولا لسقيا لفعلنا‏,‏ ولو شئنا لجعلناه إذا نزل فيها يغور إلي مدي لا تصلون إليه ولا تنتفعون به لفعلنا‏,‏ ولكن بلطفه ورحمته ينزل عليكم المطر من السحاب عذبا فراتا زلالا‏,‏ فيسكنه في الأرض‏,‏ ويسلكه ينابيع في الأرض‏,‏ فيفتح العيون والأنهار‏,‏ ويسقي به الزروع والثمار‏,‏ تشربون منه ودوابكم وانعامكم‏,‏ وتغتسلون منه‏,‏ وتتطهرون منه وتتنظفون‏,‏ فله الحمد والمنة‏.‏
    وجاء في باقي التفاسير كلام مشابه تماما لما ذكره ابن كثير‏,‏ فيما عدا المنتخب في تفسير القرآن الكريم‏(‏ جزي الله كاتبيه خيرا‏)‏ والذي أشار في هامشه إلي شئ من ارتباط هذه الآية الكريمة بدورة الماء حول الأرض وأضاف‏:‏ وتشير هذه الآية إلي الحكمة العالية في توزيع الماء بقدر أي‏:‏ بتقدير لائق حكيم‏,‏ لاستجلاب المنافع ودفع المضار‏..‏ ثم معني آخر للآية الكريمة يفيد أن مشيئة الخالق ــ جل وعلا ــ اقتضت أن تسكن في الأرض كمية معلومة من المياه في محيطاتها وبحارها تكفي لحدوث التوازن الحراري المناسب في هذا الكوكب‏,‏ وعدم وجود فروق عظيمة بين درجات حرارة الصيف والشتاء لا تلائم الحياة‏,‏ كما في بعض الكواكب والتوابع كالقمر‏...‏ كما أن مياه الأرض أنزلت بقدر معلوم‏,‏ لا يزيد فيغطي كل سطحها‏,‏ ولا يقل فيقصر دون ري الجزء البري منها‏.‏

    وفي الحقيقة أن هذا السبق القرآني بالإشارة إلي أن أصل الماء الذي يمكن أن يستفيد به الإنسان من تحت سطح الأرض هو ماء المطر يعتبر جانبا من جوانب الإعجاز العلمي في كتاب الله‏,‏ لأن السائد عن ذلك الماء تحت السطحي في كل الحضارات السابقة علي البعثة المحمدية‏(‏ علي صاحبها أفضل الصلاة وأزكي التسليم‏)‏ من مثل الحضارة اليونانية القديمة أنه مندفع إلي داخل القارات من ماء البحار والمحيطات عبر هوة سحيقة تخيلوها وأسموها تاتار‏
    (Tatare).‏

    أما أرسطو فقد افترض أن بخار ماء التربة يتكاثف في التجاويف وقد استمرت هذه الافتراضات الخاصة سائدة حتي النصف الأخير من القرن التاسع عشر الميلادي‏(1877‏ م‏),‏ ولم تتبلور العلاقة بين ماء المطر والماء تحت سطح الأرض إلا أخيرا جدا مع بدايات القرن العشرين‏,‏ وإن كان برنارد باليسي‏
    BernardPalissy‏
    قد أشار إلي شئ من ذلك في أواخر القرن السادس عشر الميلادي‏(1580‏ م‏)‏ وكذلك ديكارت في منتصف القرن الثامن عشر الميلادي‏.‏

    دلالة الآية الكريمة في ضوء المعارف العلمية المكتسبة
    الماء سائل شفاف‏,‏ وهو في نقائه لا لون له ولا طعم ولا رائحة‏,‏ ويتركب جزيء الماء من ذرتين من الهيدروجين وذرة من الأكسجين‏,‏ وترتبط هذه الذرات الثلاث مع بعضها البعض برابطتين تساهميتين تشكلان زاوية مقدارها‏105‏ درجات‏,‏ مماجعل لجزيء الماء قطبين كهربيين يحمل احدهما شحنة موجبة والآخر شحنة سالبة‏.‏
    والماء من أهم ضرورات الحياة‏,‏ فبدونه لا تقوم‏,‏ ولذلك كان خلق الحياة الباكرة في الماء‏,‏ وظلت الحياة في الماء منذ‏3,8‏ بليون سنة مضت وإلي يومنا الراهن‏,‏ وحتي يرث الله الأرض ومن عليها‏,‏ بينما لا يتعدي عمر الحياة الأرضية علي اليابسة أربعمائة مليون سنة‏.‏ وأجساد الكائنات الحية كلها يغلب علي تركيبها الماء الذي تتراوح نسبته في جسم الانسان بين‏93%‏ بالنسبة للجنين في أشهره الأولي‏(‏ الثلاثة إلي الأربعة أشهر الأولي من حياة الجنين‏)‏ إلي‏71%‏ في الانسان البالغ‏,‏ هذا بالاضافة إلي أن جميع الأنشطة الحياتية من مثل عمليات تصنيع الغذاء‏,‏ وهضمه‏,‏ وتمثيله‏,‏ وإخراجه‏,‏ وعمليات الأكسدة والاختزال‏,‏ والانقسام‏,‏ والنمو‏,‏ والتكاثر‏,‏ وغيرها لا يمكن لها أن تتم في غيبة الماء‏,‏ فالنبات علي سبيل المثال يأخذ غذاءه من التربة عن طريق العناصر والمركبات الذائبة في ماء التربة والذي يمتصه ومحاليله بواسطة الشعيرات الجذرية‏,‏ وترتفع هذه العصارة الغذائية في الأوعية الخشبية للنبات بالقدرة التي أعطاها الله تعالي للماء علي الارتفاع بالخاصية الشعرية‏,‏ وقدرته علي خاصية التوتر السطحي‏,‏ كذلك فان عمليات التمثيل الضوئي لا يمكن أن تتم في غيبة
    الماء‏,‏ وبعد الاستفادة بالقدر الكافي من الماء في بناء خلاياه وأزهاره وثماره يطلق النبات الماء الزائد عن حاجته إلي الجو بعمليات عديدة منها النتح والتبخر‏.‏
    وبالمثل فإن كلا من الانسان والحيوان يأخذ القدر اللازم له من الماء عن طريق الطعام والشراب‏,‏ ويفقد الزائد منه عن حاجته بواسطة العديد من العمليات من مثل التنفس‏,‏ والعرق‏,‏ والدموع‏,‏ والاخراج‏,‏ وغيرها من الافرازات الجسدية‏.‏

    من الصفات الطبيعية المميزة للماء
    من الصفات الطبيعية التي خص الله‏(‏ تعالي‏)‏ بها الماء والتي جعل لها أهمية قصوي للحياة مايلي‏:‏

    ‏(1)‏ البناء الجزيئي ذو القطبية المزدوجة‏:‏ يتكون جزيء الماء من ذرتي هيدروجين تحملان شحنة كهربية موجبة وترتبطان بذرة أكسجين تحمل شحنة كهربية سالبة بواسطة رابطتين تساهميتين تشكلان زاوية مقدارها‏105‏ درجات وهذا البناء الجزيئي المميز جعل للماء من الصفات الطبيعية والكيميائية مايميزه عن غيره من السوائل والمركبات الهيدروجينية‏.‏
    ‏(2)‏ درجتا التجمد والغليان‏:‏ يتجمد الماء عند درجة‏4‏ مئوية‏,‏ ويغلي عند درجة مائة مئوية‏,‏ ولهاتين الخاصيتين أهمية قصوي لاستمرارية الحياة إذ يبقي الماء سائلا في درجات حرارة أجساد كل الكائنات الحية لتساعد علي إتمام جميع الأنشطة الحيوية ومنها التغذية‏,‏ وتمثيل الغذاء ونقله الي الخلايا والأنسجة المختلفة وإتمام عملية الأكسدة والاختزال وإخراج الفضلات والنمو والتكاثر وغيرها‏.‏

    ‏(3)‏ الحرارة النوعية‏:‏ ويقصد بها كمية الحرارة اللازمة لرفع درجة حرارة جرام واحد من الماء عند درجة‏4‏ مئوية بمقدار درجة مئوية واحدة‏.‏ وهي حرارة نوعية مرتفعة ممايمكن جسم الانسان وأجساد غيره من الكائنات الحية من مقاومة التغيرات الجوية المختلفة بدرجة كبيرة‏.‏
    ‏(4)‏ الحرارة الكامنة‏:‏ والحرارة الكامنة لتبخر الماء هي الحرارة اللازمة لتبخير جرام واحد من الماء دون أن تتغير درجة حرارته‏,‏ وتبلغ‏540‏ سعرا حراريا‏,‏ وكذلك فإن الحرارة الكامنة لانصهار الماء المتجمد‏(‏ الجليد‏)‏ أي‏:‏ كمية الحرارة اللازمة لصهر جرام واحد منه دون أن تتغير درجة حرارته تبلغ‏80‏ سعرا حراريا‏.‏

    وارتفاع قيم الحرارة الكامنة للماء يكسبه مقاومة كبيرة في التحول من الحالة الصلبة إلي السائلة إلي الغازية‏,‏ وهذه الخاصية تجعل من الماء واحدا من أفضل السوائل المستخدمة في إطفاء الحرائق إذ يستهلك كمية كبيرة من الحرارة‏.‏ من الوسط الذي يحترق قبل أن ترتفع درجة حرارته‏,‏ مما يعين علي خفض درجة الحرارة وإلي إطفاء الحرائق‏.‏
    ‏(5)‏ اللزوجة والتوتر السطحي‏:‏ وتعرف لزوجة السائل بمقاومته للحركة‏,‏ أما التوتر السطحي فهو خاصية من خصائص السوائل الساكنة‏,‏ وفيه يكون السطح الحر للسائل مشدودا ليأخذ أقل مساحة ممكنة‏,‏ ويتميز الماء بلزوجة عالية نسبيا بسبب انجذاب جزيئاته إلي بعض بفعل الرابطة الهيدروجينية وتزيد هذه اللزوجة بانخفاض درجة حرارة الماء لزيادة قرب جزيئات الماء من بعضها البعض حتي درجة‏4‏ مئوية حين تبدأ في التباعد‏,‏ وتتسبب الرابطة الهيدروجينية في زيادة التوتر السطحي للماء مقارنة بالسوائل الشبيهة‏.‏

    وهاتان الخاصيتان تساعدان علي مزيد من التماسك بين مواد الخلية الحية‏,‏ وعلي إكساب الخلايا شكلها الخاص وتساعدان علي امتصاص العصارة الغذائية بواسطة الشعيرات الجذرية وعلي رفعها مقاومة الجاذبية الأرضية إلي الفروع والأوراق وحتي القمم النامية في أعلي النبات بارتفاع يفوق الارتفاع الذي يحدثه الضغط الجوي‏(‏ حوالي عشرة أمتار‏),‏ ويعين علي ذلك فقدان الماء من الأوراق بواسطة عمليات النتح والتبخر حيث يصل الضغط المائي أضعاف الضغط الجوي وان كان ذلك يختلف حسب نوع النبات وظروفه البيئية وذلك لكي يستمر ارتفاع العصارة الغذائية من الشعيرات الجذرية عبر السيقان والفروع إلي الأوراق والزهور والثمار‏.‏
    وتساعد لزوجة الماء وتوتره السطحي أيضا علي إبطاء عملية فقدان الماء من الأوراق عبر ثغورها‏,‏ ومن أجساد الانسان والحيوان عبر مسام الجلد‏,‏ وإذا خرج الماء الزائد يبقي علي سطح كل من الأوراق والجلد برهة حيث يتبخر فيبردهما ويكسبهما شيئا من الرطوبة في الجو الحار‏.‏

    وتساعد خاصيتا اللزوجة والتوتر السطحي المرتفعتان نسبيا للماء في حماية السفن والبواخر المحملة بالأحمال الثقيلة من الغوص في الأعماق وذلك بدفعها إلي أعلي وزيادة قدرتها علي الطفو‏.‏
    ‏(6)‏ قلة كثافة الماء عند تجمده‏:‏ من الثابت علميا أن قوة الرابطة الهيدروجينية تتلاشي بين جزيئات الماء بارتفاع درجة حرارته مما يجعل جزيئات الماء منفردة في حالة التبخر‏,‏ ومزدوجة أو ثلاثية في حالة السيولة حسب درجة الحرارة‏,‏ وفي حالة رباعية في حالة الجليد الرخو‏
    (Snow)‏
    وفي حالة ثمانية في حالة الجليد الصلب‏
    (Ice)‏
    وفي الحالة الأخيرة يزداد الحيز المكاني الذي تشغله ثماني جزيئات مما يقلل من كثافة الجليد وهي خاصية ينفرد بها الماء لأنها لازمة لحياة الكائنات الحية في المناطق المتجمدة‏.‏

    من الصفات الكيميائية المميزة للماء
    نظرا لتركيبه الجزيئي الفريد فإن الماء يتميز بعدد من الصفات الكيميائية الفريدة‏,‏ ومن الصفات الكيميائية المميزة التي خص الله تعالي بها الماء مايلي‏:‏
    ‏(1)‏ مقاومة جزيء الماء للتحلل إلي ذراته‏:‏ فنظرا للرابطة الهيدروجينية القوية لجزيء الماء‏,‏ ولوجود الذرات في داخل الجزيء بشكل مائل فإن هذا الجزيء يصعب تحلله إلي ذراته إلا بنسب ضئيلة‏(11%)‏ وفي درجات حرارة مرتفعة‏(2700‏ درجة مئوية‏),‏ وهذه الخاصية تعين المحاليل الحيوية المختلفة علي البقاء في أجساد الكائنات الحية‏.‏

    ‏(2)‏ قدرة الماء الفائقة علي إذابة العديد من المواد الصلبة والسائلة والغازية‏:‏ إن البناء الجزيئي للماء بميل ذراته‏,‏ وثنائية قطبيته‏,‏ وروابطه الهيدروجينية جعلت من الماء أعظم مذيب يعرفه الانسان خاصة بالنسبة للمواد المؤينة من مثل الأملاح والقواعد والأحماض ولذلك أطلق عليه اسم المذيب العالمي‏.‏
    ويذيب الماء ثاني أكسيد الكربون مكونا حمض الكربون بينما يذوب الأكسجين في الماء متخللا جزيئاته‏,‏ وفي الحالة الأولي تسهل عملية نقل ثاني أكسيد الكربون للاستفادة به في عملية التمثيل الضوئي التي تقوم حياة النباتات عليها‏,‏ كما تسهل عملية التخلص منه في كل من الانسان والحيوان والنبات‏,‏ وفي الحالة الثانية يعتبر ذوبان الأكسجين في الماء من ضرورات الحياة للاستفادة به في عمليات التنفس بالنسبة للكائنات التي تعيش في الماء‏.‏

    ‏(3)‏ قدرة الماء علي الأكسدة والاختزال‏:‏ يدخل الماء في العديد من عمليات الأكسدة والاختزال‏,‏ وفي الأولي تفقد العناصر إليكترونا أو أكثر‏,‏ بينما تكسب ذلك في الثانية‏,‏ وهي عمليات أساسية في تفتيت الصخور‏,‏ وتكوين التربة وتركيز الخامات‏,‏ وإعداد الغذاء لكل من النبات والحيوان والإنسان‏,‏ وفي أكسدة الدم واختزاله‏,‏ والدم يتكون أساسا من الماء‏.‏
    ‏(4)‏ قدرة الماء الفائقة علي التفاعل مع المركبات‏:‏ يتحد الماء مع أكاسيد الفلزات مكونا إيدروكسيداتها ومطلقا الحرارة‏,‏ ومع أكاسيد اللافلزات مكونا أحماضا‏,‏ وهي عمليات مهمة في تفتيت صخور الأرض‏,‏ وتكوين التربة‏,‏ وتكوين العديد من الثروات الأرضية وتركيزها‏.‏

    ‏(5)‏ قدرة الماء المحدودة علي التأين‏:‏ يتأين الماء بصعوبة إلي أيون الهيدروكسيل السالب‏,‏ وأيون الهيدروجين الموجب‏,‏ ويساعد هذا التأين علي إتمام العديد من العمليات الكيمائية اللازمة لاستمرارية الحياة‏.‏
    ‏(6)‏ قدرة الماء علي تصديع التربة وشقها‏:‏

    تتكون التربة أساسا من المعادن الصلصالية‏,‏ وهذه تتكون من صفائح رقيقة جدا أعطاها الله‏(‏ تعالي‏)‏ القدرة علي التشبع بالماء‏(‏ التميؤ‏)‏ فتتمدد إلي عشرات مرات أطوالها‏,‏ ويؤدي ذلك إلي تباعد أسطحها عن بعضها البعض‏,‏ فتهتز وتربو إلي أعلي‏,‏ وترق رقة شديدة حتي تنشق لتفسح طريقا سهلا للسويقة الطرية المنبثقة من داخل البذرة النابتة‏,‏ ولولا هذه الخاصية ما أنبتت الأرض‏,‏ ولا كانت صالحة للعمران وتتمدد صفائح الصلصال بالتميؤ لحملها شحنات كهربية سالبة علي أسطحها‏,‏ تمكنها من الاتحاد مع الشحنات الموجبة علي جزيء الماء مما يؤدي إلي جذب تلك الصفائح متباعدة عن بعضها البعض‏.‏ والعكس من ذلك يحدث عند الجفاف حيث تتلاشي الروابط الكهربية بين شحنات صفائح الصلصال وشحنات جزيء الماء عند جفافه فتتشقق الأرض لشقوق سداسية أو قريبة من السداسية مما يعين علي شيء من تهوية التربة

    توزيع الماء الأرضي
    يعتبر كوكب الأرض أغني كواكب المجموعة الشمسية بالماء ولذا يسميه علماء الأرض باسم الكوكب المائي أو الكوكب الأزرق‏,‏ وتقدر كمية الماء الأرضي بحوالي‏1337‏ مليون كيلو متر مكعب‏,‏ ويوجد في الحالات السائلة والغازية والصلبة موزعا في البحار والمحيطات‏,‏ والبحيرات والأنهار والجداول‏,‏ وغيرها من المجاري المائية‏,‏ كما يوجد علي هيئة جليد فوق القطبين وعلي قمم الجبال‏,‏ وعلي هيئة مخزون مائي تحت سطح الأرض‏,‏ كما يوجد علي هيئة قدر من الرطوبة في كل من التربة والغلاف الغازي للأرض‏,‏ويغطي الماء السائل أكثر قليلا من‏71%‏ من مساحة الأرض‏,‏ بينما يغطي الجليد نحو‏9%‏ من مساحتها ويتعذر في الطبيعة وجود ماء نقي تماما‏,‏ غير أن ماء الأمطار والثلوج المتساقطة تعد من أنقي حالات الماء الطبيعي‏,‏ ولكنه ما ان يصل الي سطح الأرض حتي يبدأ في إذابة جزء من املاح صخورها ويتوزع الماء الأرضي علي النحو التالي‏:‏

    دورة الماء حول الأرض
    ثبت أخيرا أن كل الماء الموجود علي سطح الأرض قد اندفع إلي سطحها أصلا من داخل الأرض عبر ثورات البراكين‏,‏ وقد سبق القرآن الكريم بثلاثة عشر قرنا علي الأقل بالإشارة إلي تلك الحقيقة التي يصفها الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ في محكم كتابه بقوله‏(‏ عز من قائل‏):‏
    والأرض بعد ذلك دحاها‏*‏ أخرج منها ماءها ومرعاها‏*(‏ النازعات‏:30‏ ـ‏31)‏

    وعندما بدأ هذا البخار في التصاعد من فوهات البراكين الي الغلاف الغازي للأرض وجد أن الله‏(‏ تعالي‏)‏ قد هيأ له سطحا باردا يتكثف عليه في الأجزاء العليا من نطاق التغيرات الجوية‏(‏ نطاق الرجع‏)‏والذي يتميز بتبرده مع الارتفاع حتي تصل درجة حرارته الي ستين درجة مئوية تحت الصفر فوق خط الاستواء‏,‏ وذلك اساسا نتيجة للبعد عن سطح الأرض الذي يمتص حرارة الشمس ويعيد إشعاعها الي غلافها الغازي‏.‏
    وعند انخفاض درجة حرارة الهواء المحمل ببخار الماء مع الارتفاع فوق مستوي سطح البحر فان رطوبته النسبية ترتفع نظرا لانخفاض كثافته وبالتالي انخفاض ضغطه‏,‏ وعندما تبلغ رطوبته النسبية‏100%‏ فإن ضغطه يساوي ضغط بخار الماء‏,‏ وتسمي درجة الحرارة تلك باسم نقطة الندي
    ‏(DewPoint)‏
    أو درجة حرارة التشبع ببخار الماء‏.‏

    وانخفاض درجة حرارة الهواء المشبع ببخار الماء بارتفاعه في نطاق التغيرات الجوية الي مادون نقطة الندي يؤدي مباشرة إلي تكثف قطرات الماء منه وانفصالها عنه فتتكون السحب وهي مجموعة من قطيرات الماء المتناهية الضآلة في الحجم‏(‏ نحو عشرة ميكرون في القطر‏),‏ وتبدأ في التكون ابتداء من‏2‏ كيلو متر فوق مستوي سطح البحر الي نحو‏8‏ كيلو مترات فوق مستوي سطح البحر او أكثر من ذلك‏.‏
    والهواء المحمل ببخار الماء يتبرد بارتفاعه الي المستويات العليا من نطاق التغيرات الجوية‏(7‏ الي‏16‏ كيلو مترا فوق مستوي سطح البحر‏)‏ او باصطدامه بقمم الجبال الشاهقة‏,‏ أو بالتقائه مع موجة هوائية باردة‏.‏

    والهواء الجاف يتبرد بمعدل عشر درجات مئوية لكل كيلو متر ارتفاعا فوق مستوي سطح البحر‏,‏ ويتناقص هذا المعدل الي ست درجات مئوية مع كل كيلو متر ارتفاع في حالة الهواء الرطب‏,‏ نظرا لتأثير الحرارة الكافية علي تبخر جزء من الماء المحمول مع الهواء الرطب هذا بالاضافة الي ان ارتفاع الهواء الي اعلي يؤدي الي تمدده لوجوده تحت ضغط منخفض‏,‏ ويؤدي هذا التمدد الي مزيد من الانخفاض في درجة الحرارة تبعا لقوانين تمدد الغازات‏.‏
    بالاضافة الي انخفاض درجة حرارة الهواء المشبع ببخار الماء الي مادون درجة الندي فإن سقوط ماء المطر يتطلب تكون نويات من البرد‏(‏ الثلج‏)‏ او وجود بعض هباءات من الغبار او الاملاح القابلة للذوبان في الماء وهذه تسهم في مزيد من تجميع قطيرات الماء الي بعضها البعض وبالتالي تؤدي الي هطول الأمطار لعجز الهواء عن حمل القطيرات الكبيرة الحجم نسبيا من الماء‏(‏ من عشري ملليمتر الي نصف ملليمتر في القطر‏)‏ فتبدأ بالتساقط علي الأرض بفعل الجاذبية

    وبسقوط الماء علي سطح الأرض‏,‏ وعودته إليها ليجري علي سطحها سيولا جارفة‏,‏ تفتت الصخور‏,‏ وتشق الفجاج والسبل‏,‏ وتكون الأودية ومجاري الأنهار والجداول‏,‏ وتكون التربة‏,‏ وتركز عددا من ثروات الأرض‏,‏ ثم تفيض إلي المنخفضات مكونة البحيرات‏,‏ والبحار والمحيطات‏,‏ كما يتجمد جزء من هذا الماء علي هيئة طبقات الجليد فوق قطبي الأرض‏,‏ وفي قمم الجبال العالية‏,‏ ويتسرب بعض هذا الماء كذلك غير ظاهر‏(‏ منكشف‏)‏ الطبقات المسامية والمنفذة الي تحت سطح الأرض‏,‏ علي هيئة عدد من التجمعات المائية المختزنة في صخور القشرة الأرضية‏,‏ ويبقي بعضه عالقا بالتربة علي هيئة رطوبة أو بالغلاف الغازي للأرض علي هيئة بخار الماء‏.‏
    ومن هنا بدأت دورة الماء حول الأرض في ثبات واستقرار يشهدان لله الخالق بطلاقة القدرة‏,‏ وعظيم الصنعة‏,‏ وإتقان الخلق‏,‏ فبفعل حرارة الشمس يتبخر سنويا‏380.000‏ كيلو متر مكعب من الماء من الأرض إلي الجزء السفلي من غلافها الغازي‏,‏ منها‏320.000‏ كيلو متر مكعب يتبخر من أسطح البحار والمحيطات‏,‏ ويتبخر الباقي‏(60.000‏ كيلو متر مكعب‏)‏ من أسطح اليابسة‏(‏ من الأنهار وغيرها من المجاري المائية‏,‏ ومن البحيرات‏,‏ ومن النتح والبخر من أسطح النباتات‏,‏ وتنفس كل من الانسان والحيوان‏,‏ والبخر من الخزانات المائية تحت سطح الأرض‏,‏ ومن رطوبة التربة‏,‏ وهذا البخار المائي تحمله الرياح وترفعه إلي الأجزاء العليا من نطاق التغيرات الجوية‏(7‏ ـ‏16‏ كم فوق مستوي سطح البحر‏)‏ حيث يتكثف مابه من بخار الماء ويعود مرة أخري إلي الأرض مطرا‏,‏ أو ثلجا‏,‏ أو بردا‏,‏ أو ضبابا أو ندي‏,‏ ليعاود الكرة مرة أخري ليتم دورة الماء حول الأرض‏.‏

    ومن سمات أحكام تلك الدورة أن مجموع كمية المطر النازلة علي أسطح البحار والمحيطات سنويا‏(284.000‏ كيلو متر مكعب‏)‏ يقل عما يتبخر منها بحوالي‏36.000‏ كم‏3,‏ ومجموع كمية المطر الساقطة علي اليابسة سنويا‏(96.000‏ كم‏3)‏ تزيد بنفس الكمية‏(36.000‏ كم‏3),‏ عن مجموع كمية البخر من سطح اليابسة‏(60.000‏ كم‏3)‏ وهذه الزيادة تفيض إلي البحار والمحيطات حتي يبقي سطح الماء بها ثابتا في الفترة الزمنية الواحدة‏,‏ ولولا دورة الماء حول الأرض لفسد كل ماء الأرض‏,‏ ولتعرض كوكبنا لحرارة قاتلة بالنهار‏,‏ ولبرودة مجمدة بالليل‏.‏

    خزانات الماء تحت سطح الأرض‏.‏
    تنقسم خزانات الماء تحت سطح الأرض إلي نوعين رئيسيين كما يلي‏:‏
    ‏(1)‏ خزانات ماء مالح أو شديد الملوحة‏:‏ وهذا الماء محتبس بين مسام الصخور الرسوبية المتجمعة في البحار القديمة التي كانت تغمر مساحات كبيرة من يابسة اليوم وانحسرت عنها‏,‏ وبقي هذا الماء المالح بل الشديد الملوحة في بعض الأحيان محصورا بين حبيبات تلك الصخور الترسيبية القديمة لملايين السنين حيث تزداد ملوحته باستمرار تعرضه لشيء من التفاعلات الكيميائية‏(‏ من مثل إذابة المزيد من الأملاح‏)‏ والفيزيائية‏(‏ من مثل البخر‏).‏

    وهذاالماء المالح عادة ما يوجد علي أعماق بعيدة نسبيا من سطح الأرض‏,‏ ومن أمثلته الماء المصاحب للنفط في مكامنه‏.‏

    ‏(2)‏ خزانات ماء قليل الملوحة إلي متوسط الملوحة‏.‏
    وهو ماء متجمع من ماء المطر النازل من السماء‏(‏ بمتوسط ملوحة دون‏20‏ جزءا في المليون‏)‏ علي طبقات من الصخور المسامية والمنفذة فيتحرك ماء المطر فيها بفعل الجاذبية الأرضية أولا متجها إلي الأسفل أي‏:‏ الي مستويات أدني من سطح الأرض حيث تزداد ملوحته بالتدريج‏,‏ وتستمر هذه الحركة الرأسية للماء حتي تتضاءل المسامية والنفاذية‏,‏ وهنا يبدأ ماء المطر في التحرك جانبيا فوق طبقات قليلة المسامية والنفاذية‏(‏ أو عديمتهما‏)‏ لتكون خزانا مائيا تحت سطح الأرض‏,‏ وإن كانت الطبقات مائلة فإن الماء يتحرك في اتجاه ميل الطبقات حتي يصل الي الماء المالح المحصور بين حبيبات الرسوبيات التي تجمعت في البحار القديمة السابقة التي انحسرت عن الأرض منذ ملايين السنين‏,‏ فيتجمع الماء القليل الملوحة طافيا فوق الماء المالح والشديد الملوحة للفرق بين كثافة الماءين‏.‏

    ولولا مسامية ونفاذية بعض صخور الأرض‏,‏ ما تجمع ماء المطر‏,‏ ولا أسكن في الأرض‏,‏ ولولا التغيرات الرأسية والجانبية في كل من المسامية والنفاذية ما أمكن خزن أي من ماء المطر‏,‏ ولا أمكن اسكانه في صخور الأرض علي هيئة مكامن مائية لآلاف بل لعشرات الآلاف من السنين إن لم يكن لملايين السنين في بعض الأحوال‏,‏ حتي يستفيد به أجيال من الخلق خزنه الله‏(‏ تعالي‏)‏ لهم بعلمه وقدرته وحكمته‏...!!!‏
    ولولا حفظ هذه المكامن المائية من أخطار الحركات الأرضية من مثل الخسوف والتصدعات الأرضية‏,‏ والثورات البركانية‏,‏ والمتداخلات النارية ما بقيت تلك المكامن المائية بل دمرت بالكامل‏,‏ ولذلك قال ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
    ‏...‏ وإنا علي ذهاب به لقادرون‏(‏ المؤمنون‏:18)‏

    وقال‏(‏ عز من قائل‏):‏ قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين‏(‏ الملك‏:30)‏
    وقد يغور الماء المخزون في صخور القشرة الأرضية بتكون الصدوع والخسوف الأرضية‏,‏ كما قد يغور بالضخ المفرط الزائد عن معدل تدفق الماء إلي البئر‏,‏ وفي الحالتين لا يحفظ الماء في صخور الأرض أو يعوضه إذا غار الا رب العالمين‏.‏ ويخرج الماء من تحت سطح الأرض بقوة وعنف اذا كان واقعا تحت ضغوط عالية‏,‏ وقد يخرج بطريقة طبيعية علي هيئة العيون والينابيع الطبيعية‏,‏ التي قد تشارك في تغذية بعض الأنهار أو البحيرات ولكن اذا كان الماء تحت سطح الأرض تحت ضغوط منخفضة فإنه لا يمكن الوصول اليه الا بتشقق الأرض عنه أو بالحفر عليه‏.‏

    ويصف القرآن الكريم هاتين الحالتين بقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):...‏ وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار‏,‏ وإ ن منها لما يشقق فيخرج منه الماء‏...(‏ البقرة‏:74)‏
    وتتراوح مسامية الصخور الخازنة للماء تحت سطح الأرض بين‏20%‏ و‏30%‏ وإن تدنت في بعض الحالات إلي‏5%‏ أو زادت الي‏60%,‏ وتختلف درجة اتصال هذه الفراغات مع بعضها البعض باختلاف الصخور‏,‏ وتعرف هذه الخاصية باسم النفاذية‏,‏ ويستدل بها علي قدرة الصخور في إنفاذ السوائل من خلالها‏,‏ علما بأن حركة السوائل في الصخور بطيئة بصفة عامة‏,‏ وإن كانت في حركة دائبة‏.‏ ولولا هذا الاعداد المتقن لصخور الأرض‏,‏ وتمايزها في مساميتها ونفاذيتها‏,‏ وظهور تلك الطبقات المنفذة علي سطح الأرض‏,‏ وتبادلها مع طبقات مصمتة أو غير منفذة‏,‏ ولولا الأحكام الشديد في دورة الماء حول الأرض‏,‏ ولولا اخراج هذا الماء أصلا من داخل الأرض ما أمكن لهذا الكوكب أن يكون صالحا للحياة من أي شكل ولون‏,‏ ولذلك يمن علينا ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ بقوله‏(‏ عز من قائل‏):‏

    وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض وإنا علي ذهاب به لقادرون‏.(‏ المؤمنون‏:18)‏
    وهي حقائق تشهد للقرآن الكريم بأنه كلام الله الخالق‏,‏ كما تشهد للنبي الخاتم الذي تلقاه بالنبوة وبالرسالة‏,‏ لأنه لم يكن لأحد في زمن البعثة المحمدية الشريفة ولا لقرون متطاولة من بعدها إلمام بأي من تلك الحقائق‏,‏ فسبحان منزل القرآن بعلمه‏,‏ والصلاة والسلام علي خاتم أنبيائه ورسله‏,‏ وعلي كل من تبع هداه ودعا بدعوته‏,‏ واستن بسنته‏,‏ والحمد لله رب العالمين
    صفحة الأحاديث النبوية

    http://www.facebook.com/pages/الاحاد...01747446575326

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Nov 2007
    المشاركات
    1,600
    الدين
    الإسلام
    آخر نشاط
    29-11-2014
    على الساعة
    05:10 PM

    افتراضي

    ‏(43)‏ أفرأيتم الماء الذي تشربون‏*
    أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون‏*
    لونشاء جعلناه أجاجا فلولا تشكرون‏*‏
    بقلم الدكتور‏:‏ زغـلول النجـار
    هذه الآيات الكريمة جاءت قبل بداية الربع الأخير من سورة الواقعة مباشرة‏,‏ وهي سورة مكية‏,‏ وعدد آياتها ست وتسعون‏,‏ ويدور محورها الرئيسي حول قضية البعث والرد علي منكريه‏,‏ وسميت باسم الواقعة لاستهلالها بذكر وقوع القيامة بما فيها من أهوال‏,‏ والتأكيد علي حتمية وقوعها والإشارة إلي عدد من الأحداث الجسام المصاحبة لها‏,‏ ومنها تبديل أقدار الناس برفع أفراد منهم‏,‏ وخفض آخرين‏,‏ ومنها زلزلة الأرض زلزلة شديدة‏,‏ وبس الجبال وتفتيتها‏,‏ وذرو فتاتها‏,‏ وغير ذلك من أحداث جسام‏...!!!‏
    وعقبت الآيات بأن الخلق في ذلك اليوم الرهيب منقسمون إلي سابقين وهم ندرة نادرة‏,‏ وأهل يمين وهم قلة قليلة‏,‏ وأهل شمال وهم كثرة كاثرة‏,‏ واصفة جزاء كل صنف منهم هذا الجزاء المتباين بين التكريم لكل من السابقين وأهل اليمين تكريما يتناسب وماقدموه في الحياة الدنيا من إيمان وأعمال صالحة‏,‏ وجزاؤهم الخلود في جنات النعيم بمنازلها المتعددة‏,‏ وبين إهانة وتحقير يتناسبان مع أعمال أهل الشمال وكفرهم‏,‏ وعصيانهم‏,‏ وإنكارهم للبعث‏,‏ وتجبرهم علي الخلق مما أوجب لهم العذاب الشديد الذي سيخلدون به في جهنم أبدا‏...!!‏

    وهذا الاستعراض القرآني بوصف كل من أهل الجنة وأهل النار يؤكد حتمية مصائر الموصوفين كما وصفهم بأسلوب يجعل الآخرة هي الواقع القائم‏,‏ ويجعل الدنيا كأنها الماضي الفائت‏...‏احتقارا لشأنها‏,‏ وتهوينا من أمرها‏,‏ وتأكيدا أن الزمن من خلق الله‏,‏ والمخلوق لايحد الخالق أبدا‏,‏ هذا الخالق العظيم الذي يقع كل من الماضي والحاضر والمستقبل منه‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ موقف الحاضر القائم‏,‏ فلا يغيب شيء عن علمه‏....!!‏
    وأشارت السورة الكريمة إلي عدد من آيات الله في السموات والأرض‏,‏ وفي خلق الإنسان وإماتته‏,‏ وذلك في مقام إقناعه بحتمية البعث‏,‏ والشهادة لله الخالق‏,‏ المحيي المميت‏,‏ الباعث‏,‏ الشهيد بطلاقة القدرة‏,‏ وبالألوهية‏,‏والربوبية‏,‏ والوحدانية‏,‏وبعبودية خلقه له‏(‏ سبحانه وتعالي‏),‏ وخضوعهم لأوامره‏,‏ والمداومة علي عبادته‏,‏ وطاعته‏,‏ وتسبيحه‏,‏ وتمجيده‏,‏ وتقديسه‏,‏ وتنزيهه‏(‏ جل وعلا‏)‏ عن كل وصف لايليق بجلاله‏(‏ من قبيل ما وقع فيه الخاطئون من نسبة الولد أو الزوجة‏,‏ أو الشريك أو الشبيه أو المنازع له في سلطانه‏,‏ وكلها صفات بشرية تتنافي مع جلال الربوبية وعظمة الألوهية‏).‏

    وعلي ذلك تقسم الآيات الكريمة بمواقع النجوم ـــ وهو قسم بالقطع عظيم‏,‏ وإن كان أغلب الناس لايدركون قدره ـــ علي أن القرآن كتاب كريم‏,‏ مصون بأمر الله تعالي لايمسه إلا المطهرون‏,‏ أنزله الله بعلمه‏,‏ وحفظه بقدرته هداية للعالمين‏...!!‏
    وتنعي سورة الواقعة علي كل من الكافرين والمشركين تكذيبهم لوحي القرآن الكريم‏,‏ ورفضهم التسليم بأنه كلام رب العالمين‏,‏ مما دفع بهم إلي الإعراض عنه‏,‏ وعن هدايته الربانية‏,‏ وفي مقام التحذير من ذلك‏,‏ تذكر السورة بمصائر الخلق يوم القيامة‏,‏والذي استهلت به مطلعها‏...‏ فتعاود تذكير الناس بمشهد الاحتضار‏,‏ وحشرجة الصدر‏,‏ وبلوغ الروح الحلقوم‏,‏ والأهل والأصدقاء حول المحتضر‏,‏ لايملكون له شيئا‏,‏ ولايستطيعون لكربه كشفا‏,‏ولا لموته دفعا‏..‏ والله‏(‏ تعالي‏)‏ مطلع علي المحتضر وعليهم‏,‏ عالم بأحواله وأحوالهم‏,‏ وهو أقرب إليه منهم‏,‏ ولكنهم لايدركون ذلك ولايحسونه‏..!!‏

    وفي مشهد الاحتضار هذا يبشر الصالحون‏,‏ ويتوعد الكفار والمشركون كل بمصيره في الآخرة‏..‏ فأما إن كان من السابقين المقربين فله من الله‏(‏ تعالي‏)‏ كل راحة هنيئة‏,‏ ورحمة واسعة‏,‏ وبشري بالخلود في جنات النعيم التي يطلعه الله تعالي علي منزلته فيها لحظة نزعه‏,‏ وأما إن كان من أصحاب اليمين فتسلم عليه الملائكة وتبشره بأنه من أهل اليمين‏.‏ وأما إن كان من المكذبين الضالين‏..‏ فله الوعيد الحق بالخلود في نار جهنم‏,‏ في نزل من حميم‏,‏ وتصلية جحيم إلي أبد الآبدين‏...!!‏
    وتختتم السورة الكريمة بالتأكيد أن كل ما ورد فيها من أمور هو حق مطلق‏,‏ ويقين ثابت‏,‏ لايداخله أدني شك‏,‏ لأنه كلام رب العالمين الذي أنزله بعلمه‏,‏ وحفظه بحفظه‏,‏ والذي لايأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه‏,‏ وتقفل السورة الكريمة بأمر من الله‏(‏ تعالي‏)‏ إلي خاتم أنبيائه ورسله‏(‏ وهو أمر للخلق كافة‏)‏ أن يداوم علي تسبيح الله‏,‏ وذكر اسمه العظيم بالتمجيد والتقديس مع التنزيه عن كل نقص‏,‏ وكل وصف لايليق بجلال ربوبيته‏,‏ وألوهيته‏,‏ ووحدانيته‏,‏ وتفرده بالسلطان في ملكه‏,‏ بغير شريك‏,‏ ولاشبيه‏,‏ ولامنازع‏,‏ وهذا هو معني التسبيح وهو الذكر الدائم لجلال الله بكل اسم‏,‏ ووصف‏,‏ وفعل نسبه‏(‏تعالي‏)‏ لذاته العليه‏,‏ وهو من صور الشكر لله علي عظيم نعمائه‏.‏

    والآيات الكونية التي استشهدت بها سورة الواقعة آيات عديدة نختار منها‏:‏
    ‏(1)‏ إيجاد الإنسان من العدم‏,‏ وخلقه من مني يمني في مراحل متتابعة أثناء نشأته الجنينية‏,‏ حتي ميلاده‏,‏ ونموه‏,‏ ووفاته ثم بعثه للخلود في حياة أبدية قادمة‏.‏

    ‏(2)‏ حتمية الموت علي جميع المخلوقين‏,‏ وتسلسل الخلق من بعدهم إلي يوم الدين مما يؤكد حتمية البعث‏.‏

    ‏(3)‏ إنبات الأرض بمختلف الزروع‏,‏ وهو صورة من صور إنشاء الحياة بيد القدرة الإلهية المبدعة‏,‏ وإنبات الأرض أمر معجز‏,‏ ولو شاء الله‏(‏ تعالي‏)‏ ألا تنبت ما أنبتت‏,‏ ولو شاء أن تنبت ولاتثمر ما أثمرت‏,‏ ولو شاء أن تنبت وتثمر وألا يمكن الخلق من ثمارها لفعل بتهشيم النبات وإفنائه قبل نضج الثمار‏.‏

    ‏(4)‏ إنزال الماء من السحاب المشبع ببخار الماء‏..‏ عذبا‏,‏ زلالا‏,‏ طيبا‏,‏ ولو شاء لأنزله مالحا أجاجا‏,‏ لايستساغ له طعم‏,‏ ولاتصلح به حياة‏.‏

    ‏(5)‏ إعطاء الشجر الأخضر إمكانية خزن جزء من طاقة الشمس علي هيئة عدد من الروابط الكيميائية التي تشكل كل صور الوقود للإنسان علي سطح الأرض وفي داخلها‏,‏ والوقود هو مصدر النار‏,‏ والنار مصدر من مصادر الطاقة‏.‏

    ‏(6)‏ الإشارة إلي المسافات الشاسعة التي تفصل النجوم عنا وعن بعضها البعض تعبيرا عن عظمة الكون‏,‏ وتأكيدا للحقيقة القاطعة التي لم تدرك إلا في القرن العشرين‏,‏ والتي مؤداها ان الإنسان لايمكن له ان يري النجوم من مكانه علي الأرض أبدا نظرا لضخامة أبعادها عنا‏,‏ وسرعة تحركها في أفلاكها‏,‏ ولكنه يري مواقع مرت بها تلك النجوم‏.‏

    ‏(7)‏ عجز الخلق أجمعين عن إنقاذ محتضر يعاني سكرات الموت‏.‏
    وكل قضية من هذه القضايا تحتاج إلي معالجة خاصة بها‏,‏ وسوف أناقش هنا النقطة الرابعة فقط ألا وهي إنزال الماء من السحاب المشبع ببخار الماء عذبا‏,‏ زلالا‏,‏ طيبا‏...!!(‏ الآيات‏:68‏ ـ‏70‏ من سورة الواقعة‏)‏ وقبل الخوض في ذلك أعرض لأقوال عدد من المفسرين في شرح دلالة تلك الآيات الكريمة‏.‏

    أقوال المفسرين في تفسير قوله تعالي‏:‏
    أفرأيتم الماء الذي تشربون‏*‏ أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون‏*‏ لو نشاء جعلناه أجاجا فلولا تشكرون‏*‏ الواقعة‏:68‏ ـ‏70‏
    ذكر ابن كثير رحمه الله مانصه‏:(‏ أفرأيتم الماء الذي تشربون‏*‏ أأنتم أنزلتموه من المزن‏,‏ يعني السحاب‏,(‏ أم نحن المنزلون‏),‏ يقول بل نحن المنزلون‏,(‏ لو نشاء جعلناه أجاجا‏)‏ أي زعافا مرا لايصلح لشرب ولا لزرع‏,(‏ فلولا تشكرون‏)‏ أي فهلا تشكرون نعمة الله عليكم في إنزاله المطر عليكم عذبا زلالا‏,(‏ لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون‏)‏ روي ابن أبي حاتم‏,‏ عن جابر‏,‏ عن أبي جعفر‏,‏ عن النبي ـ صلي الله عليه وسلم ـ أنه كان إذا شرب الماء قال‏:‏ الحمد لله الذي سقانا عذبا فراتا برحمته‏,‏ ولم يجعله ملحا أجاجا بذنوبنا
    وذكر باقي المفسرين كلاما مشابها لا أري داعيا لتكراره‏.‏

    الماء في القرآن الكريم
    وردت كلمة ماء في القرآن الكريم ثلاثا وستين مرة‏,‏ وهي لفظة تدل علي المفرد والجمع معا‏,‏ هذا عدا خمس مرات وردت فيها لفظة ماء بمعني النطفة‏.‏ أو ماء التناسل‏.‏وتشير الآيات‏(68‏ ـ‏70)‏ من سورة الواقعة إلي حقيقتين مائيتين مهمتين‏:‏ أولاهما إنزال ماء المطر من المزن‏[‏ جمع مزنة وهي السحابة البيضاء أي المشبعة بقطيرات الماء أو المضيئة أي المليئة بالبرق أو الممطرة‏].‏
    وثانيتهما‏:‏ إنزال ماء المطر عذبا زلالا‏,‏ ولو شاء الله تعالي لجعله ملحا أجاجا أي مالحا مرا‏,‏ والعباد لا يشكرون الله علي نعمائه‏...!!‏

    والماء هو سر من أسرار الحياة‏,‏ وأصل من أصولها التي لايمكن لها أن توجد بدونه‏,‏ وهكذا قدر الخالق العظيم‏,‏ فجعل الأرض أغني الكواكب المعروفة لنا ثراء بالماء‏,‏ فأنشأه من عناصره وأخرجه من داخلها‏,‏ ليتكثف ويعود إليها مطرا‏,‏ وبردا‏,‏ وثلجا‏,‏ يفتت صخورها‏,‏ ويشق الفجاج والسبل فيها‏,‏ ويكون تربتها‏,‏ وصخورها الرسوبية‏,‏ ويركز أعدادا من الثروات المعدنية فيها‏,‏ ويجري علي سطحها سيولا جارفة‏,‏ وأنهارا متدفقة‏,‏ وجداول جارية لينتهي به المطاف إلي منخفضات الأرض مكونا البحيرات والبحار والمحيطات‏,‏ كما يتسرب إلي ما دون قشرة الأرض ليكون عددا من الخزانات المائية تحت سطح الأرض‏,‏ أو يرطب كلا من تربتها والأجزاء الدنيا من غلافها الغازي‏,‏ أو يتجمع علي هيئة سمك متفاوت من الجليد علي قطبي الأرض وفوق قمم الجبال الشاهقة‏.‏
    وقد اقتضت مشيئة الخالق‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ أن يسكن في الأرض كمية محدودة من الماء في محيطاتها‏,‏ وبحارها‏,‏ وبحيراتها‏,‏ وأن يجري هذا الماء في أنهارها وجداولها‏,‏ وأن يختزن بعضه في الطبقات المسامية والمنفذة من قشرتها‏,‏ وفي بعض الصخور المتشققة من صخور تلك القشرة الأرضية‏,‏ ليخرجه علي هيئة العيون والينابيع‏,‏ وأن يحتبس جزءا آخر علي هيئة الجليد فوق القطبين وفي قمم الجبال وهذا كله بالقدر المناسب بغير زيادة ولا نقصان‏,‏ والكافي لمتطلبات الحياة علي الأرض بالضبط‏,‏ وهذا التوازن الحراري المناسب في غلافها الغازي القريب من سطحها‏,‏ وعدم وجود فروق كبيرة بين درجات حرارة كل من الشتاء والصيف بما يلائم مختلف صور الحياة الأرضية‏,‏ وهذا القدر الموزون من الماء لا يزيد عن حجم معين‏(1337‏ مليون كيلومتر مكعب‏)‏ فيغطي كل سطح الأرض‏,‏ ولا ينقص عن ذلك فيقصر دون متطلبات الحياة علي سطحها‏.‏

    كذلك اقتضت إرادة الخالق‏(‏ تبارك اسمه‏)‏ أن يحرك هذا الماء كله في دورة معجزة كي لا يفسد‏,‏ فتبخر حرارة الشمس منه في كل عام‏380,000‏ كيلومتر مكعب منها‏320,000‏ كم‏3‏ من أسطح البحار والمحيطات‏,60,000‏ كم‏3‏ من الكتل المائية علي اليابسة ومن تنفس وعرق وإخراج كل من الإنسان والحيوان‏,‏ ونتح النباتات‏.‏
    وهذا البخار يتصاعد في نطاق التغيرات الجوية المحيط بالأرض والذي جعل له الخالق‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ خاصية التبرد بالارتفاع حتي تصل درجة حرارته إلي ستين درجة مئوية تحت الصفر فوق خط الاستواء‏,‏ فيتكثف بخار الماء فيه‏,‏ ويعود للأرض مطرا‏,‏ وهكذا دواليك‏...!!‏

    وينزل علي الأرض في كل سنة‏380,000‏ كم‏3‏ من ماء المطر‏,284,000‏ كم‏3‏ علي البحار والمحيطات‏,‏ و‏96,000‏كم‏3‏ علي اليابسة والفارق بين كمية المطر وكمية البخر علي اليابسة يفيض إلي البحار والمحيطات للمحافظة علي منسوب الماء فيها في كل فترة زمنية محددة‏,‏ ونزول المطر من السحب لايزال أمرا غيبيا‏,‏ يصعب تفسيره من الناحية العلمية‏,‏ وذلك بسبب الاعتقاد السائد بأنه يتم بواسطة عدد من التفاعلات الطبيعية غير المعروفة بالتحديد‏,‏ من بينها حركات الرياح الأرضية‏,‏ وإمكانية إثارتها لقدر من الغبار الدقيق من سطح الأرض‏,‏ والذي يبقي‏(‏ لدقته المتناهية‏)‏ عالقا في نطاق التغيرات المناخية المحيط بالأرض لفترات طويلة‏,‏ ومن بينها الشحنات الكهربية في السحابة الواحدة أو في السحب المتصادمة‏,‏ ومنها اختلاف درجات الحرارة ونسب الرطوبة في تلك السحب المتصادمة‏,‏ ومن بينها أثر الرياح الشمسية علي أجواء الأرض‏,‏ وغير ذلك من التفاعلات‏.‏ وتحتوي السحب علي حوالي‏2%‏ فقط من الماء الموجود في الغلاف الجوي للأرض‏(‏ والذي يقدر بحوالي‏15,000‏ كم‏3)‏ ويوجد علي هيئة قطيرات متناهية الضآلة في أحجامها‏(‏ في حدود المايكرون الواحد في أقطارها‏),‏ وتلتصق هذه القطيرات الدقيقة بالهواء للزوجتها‏,‏ وذلك في السحب غير الممطرة أي السحب العادية التي تحملها الرياح ولا تسقط مطرا علي الأرض إلا إذا تم تلقيحها بامتزاجها بسحابة تختلف عنها في درجة حرارتها‏(‏ إحداهما ساخنة والأخري باردة‏),‏ أو بواسطة عدد من الجسيمات الدقيقة بهباءات الغبار التي تثيرها الرياح من فوق سطح الأرض وتلقح بها السحب فتعين بإذن الله علي إنزال الماء منها‏...!!‏ وعلي ذلك فإن إنزال المطر يبقي ـ في الحقيقة ـ سرا من أسرار الكون لايعلمه‏,‏ ولا يرتبه إلا الله‏,‏ وإن جاهد العلماء في محاولة فهم كيفية إنزال المطر من السحب المحملة بقطيرات الماء‏...‏ ولفهم ذلك لابد أولا من فهم كيفية إنشاء السحب بصفة عامة‏,‏ والسحب الممطرة بصفة خاصة‏,‏ وهي عملية خارجة تماما عن طاقة القدرة الإنسانية مهما تطورت معارف الإنسان وارتقت تقنياته‏.‏

    تفسير العلوم المكتسبة لكيفية إنشاء السحب الممطرة‏(‏ المزن‏)‏
    المزن‏(‏ أو السحب المزينة‏)‏ جمع مزنة وهي السحابة البيضاء أي المشبعة بقطيرات الماء‏,‏ ويطلق التعبير كذلك علي السحابة المضيئة أي المصاحبة بالبرق‏,‏ وكلاهما من السحب الممطرة مما جعل ذلك وصفا للمزن‏,‏ وذلك لأنه ليست كل السحب ممطرة‏.‏ وتري العلوم المكتسبة أن إنشاء السحب يتم بإذن الله كنتيجة لتكثيف بخارالماء المتصاعد من الأرض إلي مختلف مستويات نطاق الرجع‏(‏ نطاق التغيرات الجوية الذي يرتفع لمسافة فوق مستوي سطح البحر تتراوح بين‏7‏ كم‏,‏ و‏16‏ كم‏)‏ خاصة في الأجزاء العليا منه‏,‏ وذلك علي هيئة قطيرات دقيقة جدا من الماء يتمكن الغلاف الغاري للأرض في هذا النطاق من حملها لضآلة كتلتها‏.‏ وتلعب الرياح دورا مهما في تكوين السحب‏,‏ والرياح ظاهرة جوية مرتبطة بالتفاعل بين الكتل الهوائية المختلفة‏,‏ وهي دافئة ورطبة فوق المحيطات المدارية‏,‏ وحارة جافة فوق الصحاري‏,‏ وباردة جافة فوق المناطق القطبية‏,‏ وتتداخل هذه الكتل الهوائية مع بعضها البعض بفعل حركة الرياح‏,‏ وبذلك تتكون السحب والأعاصير وغير ذلك من المظاهر الجوية‏.‏
    هذا علي المستوي الشمولي لكوكب الأرض‏,‏ الا أن التضاريس المحلية تعقد من تلك الصورة بعض الشيء‏.‏

    وعندما يسخن الهواء في منطقة ما بملامسته لسطح الأرض بحيث يصبح أدفأ من كتل الهواء المحيطة به‏,‏ فإنه يتمدد وبتمدده تقل كثافته ويتناقص ضغطه فيرتفع إلي أعلي‏,‏ ومع الارتفاع يتناقص ضغطه أكثر‏,‏ وتنخفض درجة حرارته‏(‏ لبعده عن مصدر الدفء وهو سطح الأرض الذي يمتص حرارة الشمس ويعاود إشعاعها‏),‏ ويزداد تبرد كتلة الهواء بازدياد ارتفاعها في نطاق التغيرات الجوية‏(‏ الرجع‏)‏ مما يصل برطوبتها الي درجة التشبع فتتكثف وبتكثفها تتكون السحب‏,‏ وقد تسقط الأمطار والثلوج‏.‏
    كذلك فإن الفرق في درجات الحرارة بين اليابسة والماء يؤدي إلي تسخين كتل الهواء فوق اليابسة في فصل الصيف‏,‏ وبالتالي يعينها علي الارتفاع إلي أعلي كي تحل محلها كتل باردة من فوق ماء البحر‏(‏ نسيم البر والبحر‏)‏ لتكون دورة أفقية للهواء تنتج عنها السحب علي طول السهل الساحلي للبحر وكذلك الحال في اختلافات درجة الحرارة بين التضاريس الأرضية المتعددة‏(‏ كدورة الرياح بين الجبال والأودية والأغوار‏)‏ وهذه الرياح الأفقية قد تعترضها دفقات رأسية بفعل تيارات الحمل مما قد يؤدي إلي حدوث دوامات اضطراب تكون سحبا موجية غير منتظمة قد تصحبها رياح عاصفة ومدمرة في بعض الأحيان‏.‏

    والمكونات الأساسية للسحب هي الهواء الرطب‏,‏ والتبرد‏,‏ والرياح التي تحمل مزيدا من الهواء الرطب للسحب المكونة‏,‏ وتوفر عددا من نويات التكثف‏,‏ وهي هباءات دقيقة من الغبار أو من بعض المركبات الكيمائية التي لها جاذبية لبخار الماء من نقل كبريتات النوشادر‏,‏ أو بعض دقائق الأملاح المتصاعدة مع بخار الماء‏,‏ وبغياب أي من هذه الشروط لا تتكون السحب‏,‏ وتبقي الرياح عقيمة‏,‏ أو تتكون السحب ولكنها تكون سحبا غير ممطرة‏,‏ وبذلك يتضح أن تكون السحب وهطول الأمطار من الأمور الخارجة عن نطاق القدرة الإنسانية‏,‏ وللسحب أنواع عديدة‏,‏ ولكن القليل منها هو الممطر‏(‏ المزن‏)‏ ومن هذه الأنواع مايلي‏:‏
    ‏(1)‏ السحب الركامية وهي سحب رأسية ذات قمم سامقة علي هيئة السلاسل الجبلية وتتميز بسمك كبير قد يصل الي أكثر من‏15‏ كم‏,‏ وتشبه في هيئتها جبال الأرض‏,‏ وقد تتطور الي مايعرف بالسحب الركامية المزنية‏(‏ أي الممطرة‏)‏ وهي النوع الوحيد المعروف بين السحب بمصاحبة ظواهر حدوث كل من الرعد والبرق وتكون البرد‏,‏ وذلك بسبب سمكها الكبير‏,‏ وبرودتها الشديدة‏.‏
    والسحاب الركامي‏(‏ المركوم‏)‏ هو السحاب المتراكم بعضه علي بعض‏,‏ ويتكون بفعل الرياح التي تسوق قطعا من السحب الصغيرة الي مناطق محددة تلتقي وتتجمع فيها مما يؤدي إلي زيادة ركمها أفقيا ورأسيا وبالتالي تؤدي إلي زيادة سمكها وإلي تكديس كميات كبيرة من بخار الماء فيها‏,‏ وزيادة قدرتها علي إنزال المطر‏,‏ بإذن الله ومن المشاهد أنه عندما تلتحم سحابتان أو أكثر فإن تيار الهواء الصاعد داخل السحابة يزداد بصفة عامة‏,‏ مما يساعد علي جذب مزيد من بخار الماء إلي قلب السحابة من قاعدتها‏,‏ وهذا بدوره يزيد من الطاقة الكامنة لتكثف بخار الماء والتي تساعد هي الأخري علي زيادة سرعة التيار الهوائي الصاعد دافعا بهذا التجمع المركوم الي ارتفاعات أعلي‏,‏ خاصة وسط التجمع حيث تكون التيارات الصاعدة أقوي ماتكون فتظهر كالنافورة المتدفقة الي أعلي بالماء‏,‏ أو كالبركان الثائر الذي يدفع بزخات الحمم والدخان الي مئات الأمتار فوق فوهته‏.‏

    وفي السحب الركامية الشاهقة الارتفاع تتساقط حبات المطر من قاعدة السحابة‏,‏ بينما ـ يتجمع في وسطها خليط من الماء شديد البرودة وحبات البرد المتفاوتة الجرم‏,‏ وفي قمتها تغلب بللورات الثلج والبرد‏.‏
    وهذا هو السحاب الركامي المزني الذي يصاحب عادة بحدوث كل من الرعد والبرق‏,‏ وتنزل زخات مطر من الماء أو البرد أو كليهما معا‏,‏ عندما تصبح كتل تلك القطيرات فوق حدود احتمال السحابة‏,‏ وتصبح الرياح الرأسية غير قادرة علي الاستمرار في دفعها الي اعلي خاصة ان بعض حبات البرد قد تصل الي حجم البرتقالة المتوسطة الحجم‏.‏

    ‏(2)‏ السحب الطباقية‏:‏ وهي سحب أفقية منبسطة تمتد علي هيئة طبقة أو عدد من الطبقات القليلة السمك نسبيا‏,‏ وقد تمتد أفقيا إلي مئات الكيلومترات‏,‏ ورأسيا إلي عدة مئات الأمتار‏,‏ وهي غير مصاحبة بمظاهر الرعد والبرق‏,‏ ولا يتكون فيها البرد نظرا لانتشارها الافقي الكبير‏,‏ وقلة سمكها‏,‏ وضعف التيارات الرافعة فيها‏.‏
    وهذا النوع من السحب غالبا مايتكون بفعل التقاء جبهات الكتل الهوائية‏,‏ أو بارتطامها بكتل السلاسل الجبلية حيث تقوم الجبال برفع تلك الرياح الأفقية المحملة ببخار الماء إلي أعلي بمعدلات خفيفة ولكنها واسعة الانتشار‏,‏ حيث تتبرد‏,‏ ويبدأ بخار الماء في التكثف علي هيئة قطيرات دقيقة حول نوي التكثف‏,‏ وقد يحدث شيء من الركم في أثناء هذه العمليات ولكنه لايصل في السمك او الارتفاع الي مستوي السحب الركامية‏.‏

    وإذا نمت قطيرات الماء الي الحجم الذي يسمح لها بالهطول مطرا من هذا النوع من السحب سمي باسم المزن الطباقية وسميت أمطارها باسم الأمطار التضاريسية إذا كانت ناتجة عن الاصطدام بالسلاسل الجبلية‏,‏ أو باسم الأمطار الجبهية إذا كانت ناتجة عن اختلاط جبهات الكتل الهوائية وكلاهما من أغزر الأمطار هطولا وأطولها مدة‏.‏
    وبتكون قطرات الماء في داخل السحابة الطباقية تبدو رمادية اللون معتمة‏,‏ واذا بدأ المطر في الهطول منها تتعرج قاعدة تلك المزن الطباقية وتبدو اسفنجية المظهر لتفرق أماكن نزول المطر منها‏,‏ وقد يؤدي ذلك الي تفرق السحابة ذاتها الي كتل تتباعد عن بعضها البعض علي هيئة سحاب طبقي متوسط أو إلي أجزاء متناثرة من ذلك حتي تتلاشي السحابة بالكامل‏.‏

    وكما تقسم المزن‏(‏ السحب الممطرة‏)‏ علي أساس من شكلها‏(‏ أو هيئتها‏)‏ الي مزن ركامية ومزن طباقية فإنه يمكن أن تقسم علي أساس من العوامل الفاعلة في إنشائها وتكوينها إلي‏:‏ مزن جبهية‏,‏ ومزن تضاريسية ومزن حملية‏,‏ كما يمكن تصنيف تلك الأنواع علي أساس من ارتفاعها فوق مستوي سطح البحر إلي مزن منخفضة‏,‏ مزن متوسطة الارتفاع ومزن عالية ويمكن دمج كل هذه التقسيمات معا‏,‏ كما يمكن تقسيم السحب غير الممطرة علي نفس المنوال‏,‏ وإن كانت السحب العالية يطلق عليها أحيانا اسم سمحاق وهناك السمحاق الركامي والسمحاق الطبقي وأي من هذه الأنواع إذا كان كثيف المطر سمي معصرا
    وهذه المعصرات وصفها القرآن الكريم بقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
    وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا‏(‏ النبأ‏:14)‏

    وكل من السحب الركامية الممطرة‏,‏ والطباقية الممطرة والمعصرات يجمع تحت مسمي المزن أو السحب الممطرة‏,‏ وفي ذلك يقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
    أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون
    ‏(‏الواقعة‏:69)‏

    إنزال ماء المطر من المزن
    تتكون المزن أو السحب الممطرة بارتفاع الهواء المحمل ببخار الماء إلي الأجزاء العليا من نطاق الرجع‏(‏ نطاق التغيرات الجوية‏),‏ وهذا النطاق تثرية دورة الماء حول الأرض باستمرار ببخار الماء المتصاعد من فوهات البراكين‏,‏ ومن تبخر الماء بواسطة أشعة الشمس من أسطح البحار‏,‏ والمحيطات‏,‏ والبحيرات‏,‏ والأنهار‏,‏ وغير ذلك من التجمعات والمجاري المائية الأخري‏,‏ ومن نتح النباتات وتنفس كل من الإنسان والحيوان وإفرازاتهما‏:‏
    وبصعود هذا البخار إلي الطبقات العليا من نطاق الرجع حيث تتناقص درجة الحرارة باستمرار‏,‏ وبتناقص الضغط يتكثف هذا البخار علي هيئة قطيرات دقيقة جدا من الماء وتتكون السحب‏,‏ وتتابع هذه العملية بتكثيف مزيد من بخار الماء علي القطيرات التي سبق تكونها مما يؤدي إلي زيادتها حجما وكتلة حتي تسقط علي هيئة زخات من المطر‏.‏

    وتلعب الرياح دورا مهما في عملية تجميع قطيرات الماء في السحب وذلك حسب درجة رطوبتها‏,‏ ودرجة حرارتها‏,‏ وقوة اندفاعها‏,‏ وكم نوي التكثف فيها من هباءات الغبار‏,‏ ودقائق الأملاح‏,‏ وبلورات الثلج الدقيقة‏.‏

    ومن العوامل المساعدة علي إنزال الأمطار من المزن ما يلي‏:‏
    أولا‏:‏ درجة الرطوبة في الجو‏:‏ ويعبر عنها بأي من التعبيرات التالية‏:‏
    ‏1‏ـ الرطوبة المطلقة‏:‏ وهي كتلة بخار الماء في وحدة حجم من الهواء‏.‏

    ‏2‏ـ الرطوبة النوعية‏:‏ وهي كتلة بخار الماء في كتلة من الهواء‏.‏

    ‏3‏ـ الرطوبة النسبية‏:‏ وهي النسبة المئوية بين كمية بخار الماء الموجودة في حيز معين من الهواء وبين الكمية اللازمة لتشبعه ببخار الماء عند نفس درجة الحرارة والضغط في هذا الحيز‏.‏
    وعند تشبع الهواء ببخار الماء عند درجة حرارة وضغط معينين فإنه لا يستطيع حمل مزيد من هذا البخار عند نفس درجة الحرارة والضغط‏.‏

    ولكن كلما زاد ارتفاع درجة الحرارة زادت قدرة الهواء علي مزيد من التشبع ببخار الماء‏,‏ وكلما انخفضت درجة الحرارة قلت قدرة الهواء علي التشبع ببخار الماء‏.‏

    ثانيا‏:‏ إنشاء السحب‏:‏ يعرف السحاب بأنه كتلة من الهواء المشبع ببخار الماء إلي حد تكثيف بعض هذا البخار علي هيئة تجمعات دقيقة لقطيرات الماء أو بلورت الثلج أو منهما معا‏,‏ وإذا تجمع ذلك بالقرب من سطح الأرض سمي ضبابا عند ارتفاع الهواء المحمل ببخار الماء إلي المستويات العليا من نطاق الرجع‏(7‏ ـ‏16‏كم فوق مستوي سطح البحر‏)‏ تنخفض درجة حرارته‏,‏ ويزداد تخلخله‏,‏ فيقل ضغطه‏,‏ وبالتالي تقل قدرته علي التشبع ببخار الماء‏,‏ فينفصل البخار الزائد عن درجة التشبع علي هيئة قطيرات من الماء تظل تنمو حجما وكتلة بتكثف مزيد من البخار عليها بالتدريج حتي تسقط مطرا‏.‏ وذلك لأن كلا من الانخفاض في درجة الحرارة والضغط يرفع من الرطوبة النسبية للهواء‏,‏ وعندما تصل تلك الرطوبة النسبية إلي‏100%‏ فإن ضغط هذا الهواء المشبع ببخار الماء يساوي ضغط بخار الماء عند نفس درجة الحرارة والضغط‏,‏ وتسمي درجة الحرارة في هذه الحالة باسم نقطة الندي‏
    (DewPoint)
    أو باسم درجة حرارة التشبع
    ‏(SaturationPointtemperature)
    وأي انخفاض في درجة الحرارة الجوية إلي ما دون تلك النقطة يؤدي إلي تكثف قطيرات الماء من جسم السحابة وانفصالها عما بالسحابة من هواء‏.‏
    وكما سبق وأن أشرنا فإن للسحب بناء دقيقا‏,‏ جعل منها نسقا يمكن التعرف عليها‏,‏ وأنواعا محددة منها‏,‏ فالسحب الطباقية
    ‏(Stratiformorlayeredclouds)
    التي تتكون من راقات تمتد لمئات من الكيلومترات المربعة تعكس الارتفاع المنتظم للهواء المشبع ببخار الماء عبر مساحات كبيرة‏,‏ بينما السحب الركامية
    ‏(cumuliformorheapclouds)
    المتجمعة علي هيئة أكوام مكدسة فوق بعضها البعض بما يشبه سلاسل الجبال المفصولة بالأودية والأخاديد تعكس الارتفاعات المتعددة للهواء المشبع ببخار الماء من أماكن متفرقة‏,‏ واستمرار تدفق الهواء المشبع ببخار الماء إلي أعلي يؤدي إلي زيادة إرتفاع منسوب تجمع السحب‏,‏ وإلي زيادة إمكانية تكثف بخار الماء فيها‏,‏ ومن ثم زيادة إمكانية هطول المطر منها‏,‏ وعلي ذلك فإن من الملاحظ أن أغزر الأمطار‏,‏ وأوسعها انتشارا‏(‏ وكذلك الحال مع نزول الجليد‏)‏ يكون عادة من السحب الطباقية‏,‏ وأن الزخات الخفيفة من أي من المطر أو البرد تكون عادة من السحب الركامية‏,‏ وباستثناء السحب الليلية
    ‏(Nacreousandnoctilucentlouds)
    وهي حالات نادرة ـ فإن تكون الغالبية الساحقة من السحب يقتصر علي نطاق الرجع‏(‏ نطاق التغيرات الجوية‏),‏ ويندر تكون السحب في الأجزاء السفلي من نطاق التطبق
    ‏(stratosphere)‏
    الذي يعلوه نظرا لجفافه الشديد‏.‏

    ثالثا‏:‏ توفير نوي التكثف في داخل السحابة‏:‏ يحمل الهواء في نطاق الرجع عددا من الجسيمات الصلبة التي يتراوح تركيزها بين أقل من مائة وأكثر من مليون جسيم في السنتيمتر المكعب‏,‏ وبعض هذه الدقائق الصلبة له قابلية عالية لامتصاص الرطوبة والاحتفاظ بها‏,‏ وهذه الهباءات تعين علي تكثف بخار الماء من السحب حتي قبل أن تصل رطوبتها النسبية إلي نقطة تكون الندي‏.‏
    ومن نوي التكثف في السحب جسيمات دقيقة من الملح المتصاعد مع بخار البحار والمحيطات‏(‏ تتراوح كتلها بين واحد من الألف مليون مليون من الجرام واحد من البليون من الجرام‏),‏

    ومنها هباءات دقيقة من الغبار أو الرماد‏,‏ ومنها بلورات دقيقة جدا من الثلج‏,‏ وبتكثف بخار الماء علي هذه النوي كلما برد‏,‏ ويؤدي هذا التكثف إلي تكون قطيرات من الماء أقطارها في حدود واحد من مائة من الملليمتر‏(10‏ ميكرون‏),‏ وتركيزها في حدود بضع مئات في السنتيمتر المكعب من مادة السحاب‏.‏
    ويعتقد بأن نوي التكثف الكبيرة نسبيا ينتج عنها قطيرات قليلة من الماء يعاد تدويرها لانتاج القطرات المائية الكبيرة التي قد تتراوح أقطارها بين‏4‏ و‏8‏ من الملليمترات في بعض الحالات النادرة وهذه تتكون عادة في السحب المتوسطة البرودة حيث لا يتكون الثلج‏,‏ وإن كانت أقطار حبيبات المطر تتراوح عادة بين الملليمتر والملليمترين والنصف‏(1‏ ـ‏2.5‏ مم‏)‏ والإنسان لا يستطيع ان ينشيء سحابا ولا أن يكثف هذا السحاب‏,‏ وإذا تم له ذلك بواسطة الاستمطار الاصطناعي فإنه لا يستطيع التحكم في مكان ولا زمان إنزال المطر ولا كميته‏,‏ ومع توفر كل هذه العوامل قد لا ينزل المطر علي الاطلاق‏,‏ وذلك علي الرغم من أن معدلات المطر المقاسة علي نطاقات واسعة وعلي فترات سنوية عديدة يعتبر دقيقا‏,‏ وكذلك الحال في تقسيم الأرض إلي مناطق مناخية كبيرة خاصة تلك التي تقع تحت تأثير العوامل الموسمية وكذلك الحال مع‏..‏ حدوث العواصف الرعدية والأعاصير المدمرة فلا يمكن التنبؤ بحدوثها في بقعة محددة من الأرض وفي وقت محدد من المستقبل ولن يتمكن الإنسان من توقع نزول المطر حيث أن هناك عوامل عديدة لا يمكنه التنبؤ بها‏,‏ وفي ذلك يروي عن المصطفي‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ قوله‏:.
    ..‏ ولا يعلم متي يأتي المطر أحد إلا الله‏..(‏ فتح الباري‏375/8‏ حديث رقم‏4697),‏ وفي الحديث القدسي‏:...‏ فأما من قال‏:‏ مطرنا بفضل الله وبرحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب‏,‏ وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب‏.(‏ البخاري‏:‏ حديث رقم‏801,‏ أبو داود‏:‏ حديث رقم‏3906)‏

    لو نشاء جعلناه أجاجا فلولا تشكرون
    يقدر متوسط تركيز الأملاح في ماء البحار والمحيطات بحوالي‏(34.481)‏ جزءا في المليون‏,‏ تضم أربعين نوعا من ذرات العناصر المتأينة‏(‏ الأيونات‏)‏ التي يزيد تركيز كل منها عن جزء واحد في المليون بالإضافة إلي آثار طفيفة جدا من أيونات العناصر الأخري التي يقل تركيزها عن ذلك‏.‏
    ويتراوح تركيز تلك الأملاح السائدة في ماء البحار والمحيطات بين‏(32.000)‏ جزء في المليون‏,(42.000)‏ جزء في المليون‏,‏ وقد يزيد عن ذلك في البحار المغلقة خاصة في المناطق الجافة من مثل البحر الميت الذي تصل الملوحة فيه إلي‏(285.000)‏ جزء في المليون‏.‏

    وملوحة ماء البحار والمحيطات تختلف باختلاف الظروف المناخية المحيطة بها‏,‏ خاصة درجة الحرارة‏,‏ وقدر الانغلاق‏,‏ ومعدل سقوط الأمطار‏,‏ وكمية الماء العذب المتدفق إلي هذا الوسط المائي‏,‏ وحركة الماء فيه‏.‏
    ويعتبر ماء المطر والثلوج المتساقطة من السماء أنقي أنواع الماء الطبيعي قاطبة‏,‏ وعلي الرغم من ذلك فإن به قدرا من الأملاح الذائبة لا يتجاوز العشرين جزءا في المليون مما يجعله عذبا زلالا‏,‏ وما أن يصل إلي الأرض‏,‏ ويجري علي سطحها حتي يبدأ في إذابة بعض من الأملاح القابلة للذوبان في الماء والمنتشرة في صخور قشرة الأرض والتربة التي تغطيها فتزداد ملوحته بالتدريج حتي تصل إلي الألف في المليون فيما يعرف بالماء العذب‏,‏ وعشرة آلاف في المليون فيما يعرف بالماء المويلح‏(‏ أو قليل الملوحة‏)‏ وإلي مائة ألف في المليون أو أكثر من ذلك في الماء الأجاج‏(‏ أو عالي الملوحة‏).‏

    ولو كان في مقدور أملاح الماء البحري أن تتصعد مع بخار الماء بنسب أعلي من المقدر لها حاليا‏,‏ أو لو تغير تركيب الغلاف الغازي للأرض قليلا عن تركيبه الحالي لنزل ماء المطر أجاجا أي مالحا مرا زعافا‏,‏ لا يحيي به زرع‏,‏ ولا يروي به عطش‏,‏ والماء العذب هو صنو الحياة‏,‏ ونهرها الدافق في جسد كل كائن حي‏,‏ والإنسان علي سبيل المثال إذا فقد أكثر من‏10%‏ من الماء الموجود في جسمه أشرف علي الهلاك المحقق‏,‏ ولذلك روي عن رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ أنه كان إذا شرب الماء قال‏:‏ الحمد لله الذي سقانا عذبا فراتا برحمته‏,‏ ولم يجعله ملحا أجاجا بذنوبنا رواه ابن أبي حاتم‏,‏ عن جابر‏,‏ عن أبي جعفر‏.‏
    هذا السبق القرآني بالإشارة إلي عجز الإنسان عن إنزال المطر من المزن والتحكم في مكان وكميات ووقت نزوله‏,‏ وإلي إمكانية نزول هذا الماء مالحا مرا زعافا لولا رحمة الله بعباده وبلاده وبهائمه‏...‏ وبكافة صور الحياة علي الأرض لهو من السبق العلمي في كتاب الله الذي أنزله بعلمه‏,‏ والذي يشهد للقرآن الكريم بأنه كلام الله الخالق‏,‏ ويشهد للنبي الخاتم الذي تلقاه بالنبوة وبالرسالة فصلي الله وسلم وبارك عليه وعلي آله وصحبه وعلي من تبع هداه ودعا بدعوته إلي يوم الدين والحمد لله رب العالمين‏.‏
    صفحة الأحاديث النبوية

    http://www.facebook.com/pages/الاحاد...01747446575326

من اسرار القران

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. اسرار القران (138)
    بواسطة طالب عفو ربي في المنتدى منتديات الدكتور / زغلول النجار
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 26-12-2009, 01:11 PM
  2. اسرار القران(137)
    بواسطة طالب عفو ربي في المنتدى منتديات الدكتور / زغلول النجار
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 26-12-2009, 01:10 PM
  3. اسرار القران (136)
    بواسطة طالب عفو ربي في المنتدى منتديات الدكتور / زغلول النجار
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 26-12-2009, 01:08 PM
  4. اسرار القران (135)
    بواسطة طالب عفو ربي في المنتدى منتديات الدكتور / زغلول النجار
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 26-12-2009, 01:07 PM
  5. اسرار القران (119)
    بواسطة طالب عفو ربي في المنتدى منتديات الدكتور / زغلول النجار
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 20-12-2009, 10:48 PM

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  

من اسرار القران

من اسرار القران