وبالمثل ينتقد عِبْس الآيات التالية من سورة "الزُّمَر": "وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) وَسِيقَ الَّذينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74) وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)" قائلا: "هذه الآيات هى فى رأيى من الروائع لولا أن فيها عيبين شوها جمالها كفتاة رائعة الجمال نبت الشعر فى شاربها وذقنها. لكن دوران الألسنة بهذه الآيات طويلا أخفى التشويه كما تخفى المساحيق عيوب وجه الحسناء: فهناك عدم توازٍ بين الآيات التى تصف دخول الذين كفروا إلى جهنم ودخول الذين اتَّقَوْا. فعندما سيق الذين كفروا إلى جهنم ووصلوا إليها فُتِحَتْ لهم أبوابها. فالوصول أدى إلى فتح الأبواب. أى لقد جاءت المقدمة: "الوصول"، وتبعتها النتيجة فى الحال. ولكن ذلك لم يحدث ما يوازيه للذين اتَّقَوْا، فالآيات التى تصف وصول هؤلاء هى، فى الظاهر على الأقل، مجموعةُ مقدماتٍ بلا نتيجة، وإن كانت النتيجة معروفة بالاستنتاج: النتيجة فى الآيات الأولى معروفة لفظا واستنتاجا، وأما فى الآيات المتبقية فالنتيجة معروفة استنتاجا فقط. وبعبارة أكثر تبسيطا نجد فى آية المتقين "واو العطف" زائدة شوهت المشهد كله حتى ليظن الإنسان أن هذه الآية لا جواب لها. فى الآية الأولى يأتى الجواب فى الحال: "حتى إذا جاؤوها فُتِحَتْ أبوابها"، بينما لا جواب فى الآية الثانية لدخول حرف العطف: "حتى... وفُتِحَتْ". فكيف انزلقت هذه الواو الثقيلة هنا؟ يقولون إنها زائدة. ولكنها زيادة على حساب أهل الجنة المتلهفين لمعرفة مصيرهم! فإذا فعلتُ ذلك أنا وأنت عُدَّ تقصيرا منا، ولكنْ إذا فعله القرآن فهو إعجاز. مسكينان أنا وأنت!" (ص160- 161).
وأولا نتوقف لدن دعواه بأن فى الآيات "عيبين شوها جمالها كفتاة رائعة الجمال نبت الشعر فى شاربها وذقنها. لكن دوران الألسنة بهذه الايات طويلا أخفى التشويه كما تخفى المساحيق عيوب وجه الحسناء" لنلفت النظر إلى ما فيها من مغالطة، إذ يزعم أن طول الزمن وكثرة التلاوة قد غطا على عيب الآية، متناسيا بسلامته أن الآية قد استُعْذِبَتْ واعتقد المعتقدون أنها من عند الله بمجرد أن سمعوها ولم ينتظروا كل هذا الزمن الطويل حتى تصقلها ألسنتهم فى المحاريب كما يزعم الملاحدة من قديم، وإلا فكيف آمنوا بها؟ أَوَكانوا يؤمنون بها لو أحسوا فيها هذا الخطأ الذى يدعيه ذلك الأحمق؟
ثانيا يقول الأحمق إن هذه الواو قد عاقت أهل الجنة عن معرفة مصيرهم الذى كانوا يتلهفون إليه (يقصد فتح الأبواب)، مع أن هذه الواو قد قربت إليهم الأمر وأراحتهم من اللهفة لمعرفته، إذ ها هى ذى الأبواب قد فُتِحَْتْ وانتهى الأمر، فيما كان يظن الظانون، قياسا على ما حدث مع أهل جهنم، أنها لم تفتح بعد. أما أين جواب "إذا جاؤوها" فقد تركه القرآن لإثارة الخيال كى يسرح فى كل واد ويتصوره كل إنسان على النحو الذى يحب. وهذا معروف فى كل اللغات، إذ يأتى الراوى عند مفترق الطرق فيسكت كى يثير المستمع بل يشعل رغبته إشعالا. أما الأحمق فيظن أن الجواب هو "فتحت أبوابها" رغم مجىء الواو قبله، وهو ما يقول إنه يحيره. وأما نحن فنقول إن "فتحت أبوابها" معطوفة على "جاؤوها" باعتبار أن انفتاح أبواب الجنة أمر مفروغ منه، وأن المهم ليس الأبواب، بل ما بداخل تلك الأبواب، وهو ما سكتت عنه الآية عمدا كى تترك للخيال المنادح واسعة إلى غاية مداها. وذلك كقول الشاعر عبد مناف الهذلى مثلا فى ختام قصيدته:
وَلِلقِسِيِّ أَزاميلٌ وَغَمْغَمَةٌ * حِسَّ الجَنوبِ تَسوقُ الماءَ وَالبَرَدا
كَأَنَّهُم تَحتَ صَيْفِيِّ لَهُ نَحَمٌ * مُصَرِّحٍ طَحَرَت أَسناؤُهُ القَرِدا
حَتّى إِذا أَسلَكوهُم في قُتائِدَةٍ * شَلاًّ كَما تَطرُدُ الجَمّالَةُ الشُّرُدا
وكما أن هناك من يقول بزيادة "الواو" فهناك كذلك من يرى أن"إذا" فى الآية زائدة حسبما نقرأ فى كتاب "الصاحبى فى اللغة" لابن فارس: "تكون "إذا" شرطا فِي وقت مؤقت. تقول: "إذا خرجتَ خرجتُ". وزعم قوم أن "إذا" تكون لغواً وفضلاً. وذكروا قوله جلّ ثناؤه: "إذا السماء انشقت". قالوا: تأويله: "انشقت السماء" كما قال: "اقتربت الساعة" و"وأتى أمر الله". قالوا: وَفِي شعر العرب قوله:
حَتَّى إذا أسلكوهم فِي قتائدَةٍ * شلاًّ كما تطرد الجمَّالةُ الشُّرُدا
المعنى: حَتَّى أسلكوهم. وأنكر ناسٌ هذا وقالوا: "إذا السماء انشقت" لها جوابٌ مُضْمَر. وقول القائل: "حَتَّى إذا أسلكوهم" فجوابه قوله: "شَلاًّ". يقول: "إذا أسلكوهم شَلّوهم شلاًّ". وقولهم: إذا فعلت كذا".
وليس فى الآية من جهة "الواو" أو "إذا" زيادة ولا يحزنون، بل هكذا يجرى المصطلح ليس إلا. ولكننى لا أحب مع هذا استخدام مثل ذلك المصطح تجنبا للاصطدام بغباء الكاتب وأشباهه ممن طُمِسَت أبصارهم وبصائرهم فهم لا يعقلون، فيذهبون يشنعون على النصوص العبقرية لأنها لا تجرى حسبما يريد أفقهم الضيق! ولها ترانى أقول إن "الواو" هنا هى "واو العطف"، وأن "إذا" فى آيتنا هى إما للشرط أو للتأكيد، وأن "الباء" فى قوله تعالى: "وما ربك بظلام للعبيد" هى للتأكيد، وأن "مِنْ" فى قوله جل شأنه: "هل من خالقٍ غير الله يرزقكم من السماء والأرض؟" هى لاستغراق النفى... وهكذا.
حتى قوله عز شأنه: "وما من دابَّةٍ فى الأرض إلا على الله رزقُها" يسخر منه أبو الأعباس الهَلاّس مخطئا ومشككا، إذ لا يعنى عنده إلا أن الدابة، أية دابة، لا يمكن أن تموت من الجوع أبدا. وما دامت هناك دواب تموت من الجوع فالآية كاذبة إذن ولا تقول الحقيقة. لقد فاته أن الرزق لا يلزم بالضرورة أن يكون كافيا فلا يموت العبد أو الحيوان أو الحشرة من الجوع، بل قد يكون كافيا أو شحيحا، ومع هذا يسمى رزقا: "يَبْسُط الرزقَ لمن يشاء من عباده ويَقْدِر". وعلى كل حال فالمقصود بالآية أنه سبحانه الخالق لكل شىء. وما دمنا فى هذا المساق فيحسن بى أن أورد مناقشة دارت بينى وبين رجل ريفى متمرد بجهلٍ كان يتحدث عن الله بنفس الأسلوب الذى يتحدث به عِبْس حتى لقد كان يقول أحيانا إنه لو تولى أمر الكون بدل الله لكان تنظيمه له أفضل كثيرا مما هو عليه. وكان الرجل يشتغل فى شبابه زمارا، ثم كسرت يده فظل إلى آخر عمره لا يحسن العمل بها، فكان يقضى وقته بلا عمل، على حين تجرى زوجته عليه وتوفر له الطعام والشراب والشاى واللحم، وهما أهم شىء فى حياته: إذا توفرا له رضى عن حياته وعن الله وتأدب فى الحديث عنه. أما إذا نشفت الأمور فيا داهية دقى! ويا سواد يوم زوجته، التى لم توفر له الأحمرين! ويا ويل من يشير له إلى أنفه مجرد إشارة. إنه ليتحول ساعتها إلى بركان يقذف حمم السخط والتطاول على الذات الإلهية لاعنا كل شىء، محقرا من أوضاع الحياة وتصريفات الدنيا.
والطريف فى حكاية كسر يده أنه كان ذات يوم مسافرا للزَّمْر فى عرس ببلدة من بلاد المركز تحت قيادة عمه "رَيِّس" الفرقة، وكان اليوم يوم جمعة، وحان وقت الصلاة وهم داخلون البلدة التى فيها العرس، وقد أخذوا يزمرون ويطبلون، فاقترح على عمه أن يؤجلوا ذلك إلى ما بعد الصلاة حتى لا يُجْلِبوا على الخطيب و المصلين، فنهره عمه قائلا: حين تكون أنت "الريس" يا روح أمك فافعل ما بدا لك. أما، وأنا "الريس" هنا، فاشتغل وأنت ساكت. فاشتغل الرجل وهو ساكت. وفى طريق العودة ركبوا الأوتوبيس كما جاؤوا، وكان جالسا جنب الشباك وواضعا يده على حافته، وتصادف أن مرت الحافلة بجوار أحد الجدران فحدث ما ألجأ السائق إلى الاحتكاك بالجدار ودُعِكَتْ يد عم عثمان فيه فتكسرت أصابعه. ورغم أنه قد أُسْعِف وعولج فقد صار لزاما عليه طول عمره حسب أوامر الأطباء أن يفردها فى الهواء ويحرك أصابعه دائما كمن يعزف على مزمار حتى لا تتشنج. ومربط الفرس فى الحكاية أنه كان دائما ما يقول لله: أهذا جزائى منك لقاء إنكارى على عمى الزمر والطبل ساعة صلاة الجمعة؟وهو نفس منطق عباس عبد الديجور كما ترى!
المهم أننى فى ضحى ذات يوم من إجازة أحد الأصياف أيام الشباب جرى بينى وبينه نقاش فى موضوعه الخالد: ترى كيف يقول الله فى كتابه: "مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ" (الشورى/ 20)، وهأنذا لا أريد شيئا من حرث الآخرة، بل أريد حرث الدنيا، ولا شىء غير حرث الدنيا، لكنه لا ينفذ ما أريد، فكيف لى أن أصدقه؟ قلت له وأنا أبتسم ابتسامة لا تخلو من مكر: وإذا أجبتُ يا عم عثمان على سؤالك، أتسكت ولا تفتح ثانية هذا الموضوع الذى لا تكف عن إثارته منذ أيام الشيخ يوسف الشيخ؟ (والشيخ يوسف هذا رحمه الله هو جد د. عبد الفتاح الشيخ رئيس جامعة الأزهر الأسبق. ولم أكن رأيت فى حياتى الشيخ الكبير لأنه مات قبل أن أولد فيما أتصور). أجابنى: وهو كذلك. قلت: لو أننى قلت لك مثلا: من كان يريد ما فى جيبى هذا أعطيته منه، ثم فضل أحدهم هذا الجيب على الجيب الآخر، فمددت يدى وأخرجت له مما فيه من زهور مختلفة الأصناف بعضا من زهور فساء الكلاب، أأكون قد أخلفت وعدى له؟ فرد من تحت أسنانه وهو مغتاظ أشد الغيظ: ولكن أفلم تجد ما تعطينيه إلا فساء الكلاب؟ قلت له: لقد قلت: سأعطيك "مما" فى جيبى. و"مما" هذه ليس معناها أن أعطيك أحسن ما فى الجيب أو كل ما فيه، بل "مما" فيه. وهأنذا قد فعلت. قال متبرما: ولكن جواب الشيخ يوسف كان أفضل من جوابك. قلت: وماذا قال لك؟ قال بزهو وفخر واضحين: لقد قال لى: تأدب مع مولاك يا عثمان! والآن أيها القراء الكرام، هل ترون من فارق بين الشيخ عثمان والشيخ عباس؟ ومع هذا لقد كان فى الشيخ عثمان رحمه الله بقية من حياء وإنسانية نَمَّ عنها جوابه الأخير علىّ كما هو واضح.
وبالمثل يرى عباس الهجّاص أن استجابة الله للدعاء لا تتحقق إلا بأن يحقق لصاحبه ما يريد، وعلى النحو الذى يريد، وبالمقدار الذى يريد (ص270)، مع أن تحقيق الدعاء على النحو الذى يريده صاحبه قد يكون ضارا به بل قاتلا، فى الوقت الذى يحسبه هو السعد كله. ومعروف أن إجابة الدعوة تختلف باختلاف المجيب، فنحن إذا دعينا إلى حضور حفل مثلا فليس شرطا أن تكون الإجابة تحقيقا لما يريده الداعى، إذ قد تكون اعتذارا أو حضورا أو تحديا وتمردا أو شتما وتطاولا أو شكرا وثناء أو إرسال شخص آخر لحضور الدعوة.


يتبع...