واستدلوا بحديث عائشة: "إن الله تعالى حرّم القينة (أي الجارية) ‏وبيعها وثمنها ‌وتعليمه". والجواب عن ذلك: أولا أن الحديث ضعيف، وكل ‏ما جاء في تحريم بيع القيان ضعيف. ثانيًا، قال الغزالي: "المراد بالقينة ‏الجارية التي تغني للرجال في مجلس الشرب. وغناء‌ الأجنبية للفسّاق ومن ‏يُخَاف عليهم الفتنة حرام.‌ وهم لا يقصدون بالفتنة إلا ما هو محذور. ‏فأما غناء الجارية لمالكها فلا يفهم تحريمه من هذا الحديث. بل لغير مالكها ‏سماعها عند عدم الفتنة بدليل ما رُوِيَ في الصحيحين من غناء الجاريتين في ‏بيت عائشة رضي الله تعالى عنها، وسيأتي. ثالثًا، كان هؤلاء‌ القيان ‏المغنيات يُكَوِّنَّ عنصرًا هامًّا من نظام الرقيق، الذي جاء الإسلام بتصفيته ‏تدريجيًا، فلم يكن يتفق وهذه الحكمة إقرار بقاء هذه الطبقة في المجتمع ‏الإسلامي. فإذا جاء حديث بالنعي على امتلاك "القينة " وبيعها والمنع ‏منه، فذلك لهدم ركن من بناء "نظام الرق" العتيد.‏
واستدلوا بما روى نافع: أن ابن عمر سمع صوت زمارة‌ راعٍ فوضع ‏أصبعيه في أذنيه ‌وعدل راحلته عن الطريق، وهو يقول: يا نافع، أتسمع؟ ‏فأقول: "نعم"، فيمضي حتى قلت: "لا"، فرفع يده وعدل راحلته إلى ‏الطريق،‌ وقال: "رأيت رسول الله صلي الله عليه وآله و سلم يسمع زمارة ‏راعٍ فصنع مثل هذا". والحديث قال عنه أبو داود: حديثٌ مُنْكَرٌ. ولو ‏صح لكان حجة على المحرِّمين لا لهم، فلو كان سماع المزمار حرامًا ما أباح ‏النبي صلي الله عليه و آله وسلم لا بن عمر سماعه، ولو كان عند ابن عمر ‏حرامًا ما أباح لنافعٍ سماعه ولأَمَرَ عليه السلام بمنع وتغيير هذا المنكر. ‏فإقرار النبي صلي الله عليه وآله وسلم لابن عمر دليل على أنه من الحلال. ‏وإنما تجنب عليه السلام سماعه كتجنبه أكثر المباح من أمور الدنيا، كتجنبه ‏الأكل متكئًا،‌ وأن يبيت عنده دينار أو درهم... إلخ.‏
واستدلوا أيضًا بما روي: "إن الغناء يُنْبِت النفاق في القلب". ولم ‏يثبت هذا حديثًا عن النبي صلي الله عليه وآله وسلم، و إنما ثبت قولا ‏لبعض الصحابة أو التابعين، فهو رأي لغير معصوم خالفه فيه غيره. فمن ‏الناس من قال، وبخاصة الصوفية: إن الغناء يرقق القلب، ويبعث الحزن ‏والندم علي المعصية،‌ ويهيج الشوق إلى الله تعالى. ولهذا اتخذوه وسيلة‌ ‏لتجديد نفوسهم، وتنشيط عزائمهم، وإثارة أشوقهم. قالوا: وهذا أمر لا ‏يُعْرَف إلا بالذوق والتجربة والممارسة. ومن ذاق عرف، وليس الخبر ‏كالعِيَان! على أن الإمام الغزالي جعل حكم هذه الكلمة بالنسبة للمغنى لا ‏للسامع، إذ كان غرض المغنى أن يعرض نفسه على غيره ويروج صوته ‏عليه، ولا يزال ينافق ويتودد إلى الناس ليرغبوا في غنائه. ومع هذا قال ‏الغزالي: وذلك لا يوجب تحريما، فإن لبس الثياب الجميلة، وركوب الخيل ‏المهملجة، وسائر أنواع الزينة، والتفاخر بالحرث والأنعام والزرع وغير ذلك، ‏ينبت النفاق في القلب، ولا يطلق القول بتحريم ذلك كله. فليس السبب في ‏ظهور النفاق في القلب المعاصي فقط، بل المباحات التي هي مواقع نظر ‏الخلق أكثر تأثيرا.‏
واستدلوا على تحريم غناء المرأة خاصة بما شاع عند الناس من أن ‏صوت المرأة عورة. وليس هناك دليل ولا شبه دليل من دين الله على أن ‏صوت المرأة عورة. وقد كان النساء يسألن رسول الله صلى الله عليه ‏وسلم في ملإ من أصحابه، وكان الصحابة يذهبون إلى أمهات المؤمنين ‏ويستفتونهن ويفتينهم ويحدثنهم، ولم يقل أحد إن هذا من عائشة أو غيرها ‏كشفٌ لعورةٍ يجب أن تُسْتَر. فإن قالوا: هذا في الحديث العاديّ لا في ‏الغناء، قلنا: روى "الصحيحان" أن النبي سمع غناء الجاريتين ولم ينكر ‏عليهما، وقال لأبي بكر: دعهما. وقد سمع ابن جعفر وغيره من الصحابة ‏والتابعين الجواري يغنين.‏
تلك هي أدلة المحرّمين، وقد سقطت واحدا بعد الآخر، ولم يقف ‏دليل منها على قدميه. وإذا انتفت أدلة التحريم بقى حكم الغناء على ‏أصل الإباحة بلا شك، ولو لم يكن معنا نص أو دليل واحد على ذلك غير ‏سقوط أدلة التحريم، فكيف ومعنا نصوص الإسلام الصحيحة الصريحة، ‏وروحه السمحة، وقواعده العامة، ومبادئه الكلية؟ وهاك بيانها: أولا من ‏حيث النصوص: استدلوا بعدد من الأحاديث الصحيحة منها حديث ‏غناء الجاريتين في بيت النبي صلى الله عليه وسلم عند عائشة، وانتهار ‏أبي بكر لهما، وقوله: "مزمور الشيطان في بيت النبي صلى الله عليه ‏وسلم؟". وهذا يدل على أنهما لم تكونا صغيرتين كما زعم بعضهم، فلو ‏صح ذلك لم تستحقا غضب أبي بكر إلى هذا الحد. والمعوَّل عليه هنا هو ‏رد النبي صلى الله عليه وسلم على أبي بكر رضى الله عنه وتعليله أنه ‏يريد أن يعلم اليهود أن في ديننا فسحة، وأنه بُعِث بحنيفيةٍ سمحة. وهو ‏يدل على وجوب رعاية تحسين صورة الإسلام لدى الآخرين، وإظهار ‏جانب اليسر والسماحة فيه. وقد روى البخاري وأحمد عن عائشة أنها ‏زفت امرأة إلى رجل من الأنصار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا ‏عائشة، ما كان معهم من لهو؟ فإن الأنصار يعجبهم اللهو". وروى النسائي ‏والحاكم، وصححه عن عامر بن سعد، قال: دخلتُ على قرظة بن كعب ‏وأبي مسعود الأنصاري في عرس، وإذا جوارٍ يغنين. فقلت: أيْ صاحَبْى ‏رسول الله أهلَ بدر، يُفْعَل هذا عندكم؟ فقالا: اجلس. إن شئت ‏فاستمع معنا، وإن شئت فاذهب، فإنه قد رُخِّص لنا اللهو عند العرس. ‏وروى ابن حزم بسنده عن ابن سيرين أن رجلا قدم المدينة بجَوَارٍ، فأتى ‏عبد الله بن جعفر فعرضهن عليه، فأمر جارية منهن فغنت، وابن عمر ‏يسمع، فاشتراها ابن جعفر بعد مساومة. ثم جاء الرجل إلى ابن عمر ‏فقال: يا أبا عبد الرحمن، غُبِنْتُ بسبعمائة درهم! فأتى ابن عمر إلى عبد ‏الله بن جعفر فقال له: إنه غُبِن بسبعمائة درهم، فإما أن تعطيها إياه، وإما ‏أن ترد عليه بيعه. فقال: بل نعطيه إياها. قال ابن حزم: فهذا ابن عمر قد ‏سمع الغناء وسعى في بيع المغنية. وهذا إسناد صحيح لا تلك الأسانيد ‏الملفقة الموضوعة. واستدلوا بقوله تعالى: "وإذا رَأَوْا تجارةً أو لهوًا انفضُّوا ‏إليها وتركوك قائما. قل: ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير ‏الرازقين". فقرن اللهو بالتجارة، ولم يذمّهما إلا من حيث شُغْل الصحابة ‏بهما، بمناسبة قدوم القافلة وضرب الدفوف فرحا بها، عن خطبة النبي ‏صلى الله عليه وسلم وتَرْكه قائما. واستدلوا بما جاء عن عدد من ‏الصحابة رضي الله عنهم أنهم باشروا السماع بالفعل أو أقروه، وهم القوم ‏يُقْتَدَى بهم فيُهْتَدَى. واستدلوا بما نقله غير واحد من الإجماع على إباحة ‏السماع كما سنذكره بعد. ‏
وثانيا من حيث روح الإسلام وقواعده: أ-لا شئ في الغناء إلا أنه ‏من طيبات الدنيا التي تستلذها الأنفس، وتستطيبها العقول، وتستحسنها ‏الفِطَر، وتشتهيها الأسماع، فهو لذة الأذن، كما أن الطعام الهنيء لذة المعدة، ‏والمنظر الجميل لذة العين، والرائحة الذكية لذة الشم... إلخ. فهل ‏الطيبات، أي المستلذات، حرام في الإسلام أم حلال؟ من المعروف أن الله ‏تعالى كان قد حرم على بني إسرائيل بعض طيبات الدنيا عقوبة لهم على ‏سوء ما صنعوا، كما قال تعالى: "فبِظُلْمٍ من الذين هادوا حرَّمْنا عليهم ‏طيباتٍ أُحِلَّتْ لهم وبِصَدِّهم عن سبيل الله كثيرا * وأَخْذِهم الربا وقد ‏نُهُوا عنه وأَكْلِهم أموالَ الناس بالباطل"، فلما بعث الله محمدا صلى الله ‏عليه وسلم جعل عنوان رسالته في كتب الأولين: "الذي يجدونه مكتوبا ‏عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويُحِلّ لهم ‏الطيبات ويحرّم عليهم الخبائث، ويضع عنهم إِصْرَهم والأغلال التي كانت ‏عليهم". فلم يبق في الإسلام شئ طيب، أي تستطيبه الأنفس والعقول ‏السليمة، إلا أحله الله رحمة بهذه الأمة لعموم رسالتها وخلودها. قال ‏تعالى: "يسألونك: ماذا أُحِلَّ لهم؟ قل: أُحِلّ لكم الطيبات". ولم يبح الله ‏لواحد من الناس أن يحرم على نفسه أو على غيره شيئا من الطيبات مما ‏رزق الله مهما يكن صلاح نيته أو ابتغاء وجه الله فيه، فإن التحليل ‏والتحريم من حق الله وحده، وليس من شأن عباده. قال تعالى: "قل: ‏أرأيتم ما أنزل اللهُ لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا؟ قل: آلله أذن ‏لكم أم على الله تفترون؟"، وجعل سبحانه تحريم ما أحله من الطيبات ‏كإحلال ما حرّم من المنكرات، كلاهما يجلب سخط الله وعذابه، ويُرْدِى ‏صاحبه في هاوية الخسران المبين والضلال البعيد. قال جل شأنه يَنْعَى ‏على من فعل ذلك من أهل الجاهلية: "قد خَسِر الذين قتلوا أولادهم سَفَهًا ‏بغير علم وحرَّموا ما رزقهم الله افتراءً على الله. قد ضلوا، وما كانوا ‏مهتدين".‏
ب-ولو تأملنا لوجدنا أن الغناء والطرب للصوت الحسن يكاد غريزة ‏إنسانية وفطرة بشرية حتى إننا لنشاهد الصبي الرضيع في مهده يسكته ‏الصوت الطيب عن بكائه، وتنصرف نفسه عما يبكيه إلى الإصغاء إليه. ‏ولذا تعودت الأمهات والمرضعات والمربيات الغناء للأطفال منذ زمن ‏قديم. بل نقول: إن الطيور والبهائم تتأثر بحسن الصوت والنغمات الموزونة ‏حتى قال الغزالي في الإحياء: "من لم يحركه السماع فهو ناقص مائل عن ‏الاعتدال، بعيد عن الروحانية، زائد في غلظ الطبع وكثافته على الجِمَال ‏والطيور وجميع البهائم، إذ الجمل مع بلادة طبعه يتأثر بالحُدَاء تأثرا يستخف ‏معه الأحمال الثقيلة، ويستقصر لقوة نشاطه في سماعه المسافات الطويلة، ‏وينبعث فيه من النشاط ما يُسْكِره ويُوَلِّهه. فنرى الإبل إذا سمعت الحادي ‏تمد أعناقها، وتصغي إليه ناصبة آذانها، وتسرع في سيرها حتى تتزعزع ‏عليها أحمالها ومحاملها". وإذا كان حب الغناء غريزة وفطرة، فهل جاء ‏الدين لمحاربة الغرائز والفطر والتنكيل بها؟ كلا، إنما جاء لتهذيبها والسمو ‏بها وتوجيهها التوجيه القويم. قال الإمام ابن تيمية رحمه الله: إن الأنبياء قد ‏بُعِثوا بتكميل الفطرة وتقريرها لا بتبديلها وتغييرها. ومصداق ذلك أن ‏رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما، ‏فقال: "ما هذان اليومان؟". قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية. فقال ‏عليه السلام: "إن الله قد أبدلكم بهما خيرا منهما: يوم الأضحى ويوم ‏الفطر". وقالت عائشة: "لقد رأيت النبي يسترني بردائه، وأنا أنظر إلى ‏الحبشة يلعبون في المسجد، حتى أكون أنا التي أسأمه، أي اللعب. فاقدروا ‏قدر الجارية الحديثة السن الحريصة على اللهو". وإذا كان الغناء لهوا ولعبا ‏فليس اللهو واللعب حراما، فالإنسان لا صبر له على الجِدّ المطلق ‏والصرامة الدائمة. قال النبي صلى الله عليه وسلم لحنظلة حين ظن نفسه ‏قد نافق لمداعبته زوجه وولده وتغير حاله في بيته عن حاله مع رسول الله ‏صلى الله عليه وسلم: "يا حنظلة، ساعة وساعة". وقال علي بن أبي ‏طالب: رَوِّحُوا القلوب ساعة بعد ساعة، فإن القلوب إذا أُكْرِهَتْ ‏عَمِيَتْ. وقال كرم الله وجهه: إن القلوب تَمَلُّ كما تمل الأبدان، فابتغوا لها ‏طرائف الحكمة. وقال أبو الدرداء: إني لأستجمّ نفسي بالشيء من اللهو ‏ليكون أقوى لها على الحق. وقد أجاب الإمام الغزالي عمن قال: "إن ‏الغناء لهو ولعب" بقوله: هو كذلك، ولكن الدنيا كلها لهو ولعب... ‏وجميع المداعبة مع النساء لهو، إلا الحراثة التي هي سبب وجود الولد، ‏وكذلك المزح الذي لا فحش فيه، حلال. نُقِل عن ذلك عن رسول الله ‏صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة.‏
تلك هي الأدلة المبيحة للغناء من نصوص الإسلام وقواعده، فيها ‏الكفاية كل الكفاية ولو لم يقل بموجبها قائل، ولم يذهب إلى ذلك فقيه. ‏فكيف، وقد قال بموجبها الكثيرون من صحابة وتابعين وأتباع وفقهاء؟ ‏وحسبنا أن أهل المدينة على ورعهم، والظاهرية على حَرْفِيّتهم وتمسكهم ‏بظواهر النصوص، والصوفية على تشددهم وأخذهم بالعزائم دون ‏الرُّخَص، رُوِيَ عنهم إباحة الغناء. قال الإمام الشوكانى في "نيل الأوطار": ‏‏"ذهب أهل المدينة ومن وافقهم من علماء الظاهر وجماعة الصوفية إلى ‏الترخيص في الغناء ولو مع العود واليراع. وحكى الأستاذ أبو منصور ‏البغدادي الشافعي في مؤلفه في السماع أن عبد الله بن جعفر كان لا يرى ‏بالغناء بأسا، ويصوغ الألحان لجواريه، ويسمعها منهن على أوتاره. وكان ‏ذلك في زمن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه. وحكى الأستاذ المذكور ‏مثل ذلك أيضا عن القاضي شريح وسعيد بن المسيب وعطاء بن أبي ‏رباح والزهري والشعبي". وقال إمام الحرمين في "النهاية" وابن أبي الدنيا: ‏‏"نَقَل الأثباتُ من المؤرخين أن عبد الله بن الزبير كان له جَوَارٍ عوَّادات، وأن ‏ابن عمر دخل إليه وإلى جنبه عود، فقال: ما هذا يا صاحب رسول ‏الله؟ فناوله إياه، فتأمله ابن عمر فقال: هذا ميزان شامي؟ قال ابن ‏الزبير: يوزن به العقول!". وروى الحافظ أبو محمد بن حزم في رسالة في ‏السماع بسنده إلى ابن سيرين قال: "إن رجلا قدم المدينة بجَوارٍ، فنزل على ‏ابن عمر، وفيهن جارية تضرب. فجاء رجل فساومه، فلم يَهْوَ فيهن شيئا. ‏قال: انطلقْ إلى رجل هو أمثل لك بيعًا من هذا. قال: من هو؟ قال: عبد ‏الله بن جعفر... فعرضهن عليه، فأمر جارية منهن فقال لها: خذي ‏العود، فأخذته، فغنت، فبايعه ثم جاء إلى ابن عمر... إلخ القصة". ‏وروى صاحب "العِقْد" العلامة الأديب أبو عمر الأندلسي أن عبد الله بن ‏عمر دخل على ابن جعفر فوجد عنده جارية في حجرها عود، ثم قال ‏لابن عمر: هل ترى بذلك بأسا؟ قال: لا بأس بهذا. وحكى الماوردي ‏عن معاوية وعمرو بن العاص أنهما سمعا العود عند ابن جعفر. وروى أبو ‏الفرج الأصبهاني أن حسان بن ثابت سمع من عزة الميلاء الغناء بالمِزْهَر ‏بشعر من شعره. وذكر أبو العباس المبرّد نحو ذلك. والمزهر عند أهل ‏اللغة: العود. وذكر الأدفوي أن عمر بن عبد العزيز كان يسمع جواريه قبل ‏الخلافة. ونقل ابن السمعاني الترخيص عن طاووس، ونقله ابن قتيبة ‏وصاحب "الإمتاع" عن قاضى المدينة سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن ‏الزهري من التابعين. ونقله أبو يعلى الخليلي في "الإرشاد" عن عبد العزيز ‏بن سملة الماجشون مفتى المدينة. هؤلاء جميعا قالوا بتحليل السماع مع آلة ‏من الآلآت المعروفة، أي آلات موسيقى. وأما مجرد الغناء من غير آلة فقال ‏الإدفوى في "الإمتاع": إن الغزالي في بعض تآليفه الفقهية نقل الاتفاق على ‏حله، ونقل ابن طاهر إجماع الصحابة والتابعين عليه، ونقل التاج الفزاري ‏وابن قتيبة إجماع أهل الحرمين عليه، ونقل ابن طاهر وابن قتيبة أيضا إجماع ‏أهل المدينة عليه، وقال الماوردي: لم يزل أهل الحجاز يرخِّصون فيه في ‏أفضل أيام السنة المأمور فيها بالعبادة والذكر. وقال ابن النحوي في ‏‏"العمدة": وقد رُوِيَ الغناءُ وسماعُه عن جماعة من الصحابة والتابعين: ‏فمن الصحابة عمر كما رواه ابن عبد البر وغيره، وعثمان كما نقله ‏الماوردي وصاحب "البيان" والرافعي، وعبد الرحمن بن عوف كما رواه ‏ابن أبي شيبة، وأبو عبيدة بن الجراح كما أخرجه البيهقي، وسعد بن أبي ‏وقاص كما أخرجه بن قتيبة، وأبو مسعود الأنصاري كما أخرجه البيهقي، ‏وبلال وعبد الله بن الأرقم وأسامة بن زيد كما أخرجه البيهقي أيضا، ‏وحمزة كما في "الصحيح"، وابن عمر كما أخرجه ابن طاهر، والبراء بن ‏مالك كما أخرجه أبو نعيم، وعبد الله بن جعفر كما رواه ابن عبد البر، ‏وعبد الله بن الزبير كما نقل أبو طالب المكي، وحسان كما رواه أبو الفرج ‏الأصبهاني، وعبد الله بن عمرو كما رواه الزبير بن بكار، وقرظة بن كعب ‏كما رواه ابن قتيبة، وخَوّات بن جيبر ورباح المعترف كما أخرجه صاحب ‏‏"الأغاني"، والمغيرة بن شعبة كما حكاه أبو طالب المكي، وعمرو بن ‏العاص: حكاه الماوردي، وعائشة والرُّبيّع كما في "صحيح البخاري" ‏وغيره. وأما التابعون فسعيد بن المسيب وسالم بن عبد الله بن عمر وابن ‏حسان وخارجة بن زيد وشريح القاضي وسعيد بن جبير وعامر الشعبي ‏وعبد الله بن أبي عتيق وعطاء بن أبي رباح ومحمد بن شهاب الزهري ‏وعمر بن عبد العزيز وسعد بن إبراهيم الزهري. وأما تابعوهم فخَلْقٌ لا ‏يُحْصَوْن منهم الأئمة الأربعة وابن عيينة وجمهور الشافعية". انتهى كلام ابن ‏النحوي. هذا كله ذكره الشوكاني في "نيل الأوطار".‏
ولا ننسى أن نضيف إلى هذه الفتوى قيودا لا بد من مراعاتها في ‏سماع الغناء: 1-فقد أشرنا في أول البحث إلى أنه ليس كل غناء مباحا، ‏فلا بد أن يكون موضوعه متفقا مع أدب الإسلام وتعاليمه. فالأغنية التي ‏تقول: "الدنيا سيجارة وكاس" مخالفة لتعاليم الإسلام، الذي يجعل الخمر ‏رجسا من عمل الشيطان، ويلعن شارب "الكاس" وعاصرها وبائعها ‏وحاملها وكل من أعان فيها بعمل. والتدخين أيضا آفة ليس وراءها إلا ‏ضرر الجسم والنفس والمال. والأغاني التي تمدح الظلمة والطغاة والفسقة ‏من الحكام الذين ابتليت بهم أمتنا مخالفة لتعاليم الإسلام، الذي يلعن الظالمين ‏وكل من يعينهم بل من يسكت عليهم، فكيف بمن يمجدهم؟ والأغنية التي ‏تمجد صاحب العيون الجريئة أو صاحبة العيون الجريئة أغنية تخالف أدب ‏الإسلام، الذي ينادي كتابه: "قل للمؤمنين يَغُضّوا من أبصارهم... وقل ‏للمؤمنات يَغْضُضْن من أبصارهن". ويقول صلى الله عليه وسلم: "يا عليّ، ‏لا تُتْبِع النظرة النظرة، فإن لك الأولى، وليست لك الآخرة". 2-ثم إن ‏طريقة الأداء لها أهميتها، فقد يكون الموضوع لا بأس به ولا غبار عليه، ‏ولكن طريقة المغني أو المغنية في أدائه بالتكسر في القول وتعمد الإثارة ‏والقصد إلى إيقاظ الغرائز الهاجعة وإغراء القلوب المريضة ينقل الأغنية من ‏دائرة الإباحة إلى دائرة الحرمة أو الشبهة أو الكراهة من مثل ما يذاع على ‏الناس ويطلبه المستمعون والمستمعات من الأغاني التي تلح على جانب ‏واحد هو جانب الغريزة الجنسية وما يتصل بها من الحب والغرام وإشعالها ‏بكل أساليب الإثارة والتهيج، وخصوصا لدى الشباب والشابات. إن ‏القرآن يخاطب نساء النبي فيقول: "فلا تَخْضَعْن بالقول فيطمعَ الذي في قلبه ‏مرض". فكيف إذا كان مع الخضوع في القول الوزن والنغم والتطريب ‏والتأثير؟ 3-ومن ناحية ثالثة يجب ألا يقترن الغناء بشيء محرم كشرب ‏الخمر أو التبرج أو الاختلاط الماجن بين الرجال والنساء بلا قيود ولا ‏حدود. وهذا هو المألوف في مجالس الغناء والطرب من قديم، وهي ‏الصورة الماثلة في الأذهان عندما يُذْكَر الغناء، وبخاصة غناء الجواري ‏والنساء. وهذا ما يدل عليه الحديث الذي رواه ابن ماجة وغيره: ‏‏"ليشربنّ ناس من أمتي الخمر، يسمونها بغير اسمها، يُعْزَف على رؤوسهم ‏بالمعازف والمغنيات، يخسف الله بهم الأرض ويجعل منهم القردة ‏والخنازير". وأود أن أنبه هنا على قضية مهمة، وهي أن الاستماع إلى ‏الغناء في الأزمنة الماضية كان يقتضي حضور مجلس الغناء ومخالطة المغنين ‏والمغنيات وحواشيهم. وقلما كانت تسلم هذه المجالس من أشياء ينكرها ‏الشرع ويكرهها الدين. أما اليوم فيستطيع المرء أن يستمع إلى الأغاني وهو ‏بعيد عن أهلها ومجالسها. وهذا لا ريب عنصر مخفف في القضية، ويميل ‏بها إلى جانب الإذن والتيسير. 4-هذا إلى أن الإنسان ليس عاطفة ‏فحسب، والعاطفة ليست حبا فقط، والحب لا يختص بالمرأة وحدها، ‏والمرأة ليست جسدا وشهوة لا غير. لهذا يجب أن نقلّل من هذا السيل ‏الغامر من الأغاني العاطفية الغرامية وأن يكون لدينا من أغانينا وبرامجنا ‏وحياتنا كلها توزيع عادل، وموازنة مقسطة بين الدين والدنيا، وفي الدنيا بين ‏الحق الفرد وحقوق المجتمع، وفي الفرد بين عقله وعاطفته، وفي مجال العاطفة ‏بين عواطف الإنسانية كلها من حب وكره وغيرة وحماسة وأبوة وأمومة ‏وبنوة وأخوة وصداقة... إلخ، فلكل عاطفة حقها. أما الغلو والإسراف ‏والمبالغة في إبراز عاطفة خاصة فذلك على حساب العواطف الأخرى، ‏وعلى حساب عقل الفرد وروحه وإرادته، وعلى حساب المجتمع ‏وخصائصه ومقوماته، وعلى حساب الدين ومثله وتوجيهاته. إن الدين ‏حرّم الغُلُوّ والإسراف في كل شئ حتى في العبادة، فما بالك بالإسراف في ‏اللهو وشغل الوقت به ولو كان مباحا؟ إن هذا دليل على فراغ العقل ‏والقلب من الواجبات الكبيرة والأهداف العظيمة، ودليل على إهدار ‏حقوق كثيرة كان يجب أن تأخذ حظها من وقت الإنسان المحدود وعمره ‏القصير. وما أصدق وأعمق ما قال ابن المقفع: "ما رأيت إسرافا إلا ‏وبجانبه حق مضيَّع"! وفي الحديث: "لا يكون العاقل ظاعنا إلا لثلاث: ‏مَرَمَّة لمعاش، أو تزوُّد لمعاد، أو لذة في غير محرم". فلنقسم أوقاتنا بين هذه ‏الثلاثة بالقسط، ولنعلم أن الله سائل كل إنسان عن عمره فيم أفناه، وعن ‏شبابه فيم أبلاه؟ 5-وبعد هذا الإيضاح تبقى أشياء يكون كل مستمع فيها ‏فقيه نفسه ومفتيها. فإذا كان الغناء أو نوع خاص منه يستشير غريزته، ‏ويغريه بالفتنة، ويسبح به في شطحات الخيال، ويطغى فيه الجانب الحيواني ‏على الجانب الروحاني، فعليه أن يتجنبه حينئذ، ويسد الباب الذي تهب ‏منه رياح الفتنة على قلبه ودينه وخلقه فيستريح ويريح.‏
ونختم بحثنا هذا بكلمة أخيرة نوجهها إلى السادة العلماء الذين ‏يستخفّون بكلمة "حرام" ويطلقون لها العِنَان في فتاواهم إذا أَفْتَوْا، وفي ‏بحوثهم إذا كتبوا: عليهم أن يراقبوا الله في قولهم ويعلموا أن هذه الكلمة: ‏‏"حرام" كلمة خطيرة. إنها تعنى عقوبة الله على الفعل، وهذا أمر لا يُعْرَف ‏بالتخمين ولا بموافقة المزاج، ولا بالأحاديث الضعيفة، ولا بمجرد النص عليه ‏في كتاب قديم. إنما يعرف من نص ثابت صريح أو إجماع معتبر صحيح، ‏وإلا فدائرة العفو والإباحة واسعة، ولهم في السلف الصالح أسوة حسنة. ‏قال الإمام مالك رضي الله عنه: "ما شيءٌ أشدَّ علىّ من أن أُسْأَل عن ‏مسألة من الحلال والحرام لأن هذا هو القطع في حكم الله. ولقد أدركت ‏أهل العلم والفقه ببلدنا، وإن أحدهم إذا سُئِل عن مسألة كأن الموت ‏أشرف عليه. ورأيت أهل زماننا هذا يشتهون الكلام في الفتيا، ولو وقفوا ‏على ما يصيرون إليه غدا لقللوا من هذا. وإن عمر بن الخطاب وعليًّا ‏وعامة خيار الصحابة كانت تَرِدُ عليهم المسائل، وهم خير القرون الذين ‏بُعِث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم، فكانوا يجمعون أصحاب النبي صلى ‏الله عليه وسلم ويسألون، ثم حينئذ يفتون فيها. وأهل زماننا هذا قد ‏صار فخرهم، فبقدر ذلك يُفْتَح لهم من العلم. قال: ولم يكن من أمر الناس ‏ولا من مضى من سلفنا الذين يُقْتَدَى بهم ومُعَوَّل الإسلام عليهم أن يقولوا: ‏هذا حلال، وهذا حرام، ولكن يقول: أنا أكره كذا، وأرى كذا. وأما ‏‏"حلال" و"حرام" فهذا الافتراء على الله. أما سمعتَ قول الله تعالى: "قل ‏أرأيتم ما أنزل اللهُ لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا؟ قل آللهُ أَذِنَ ‏لكم أم على الله تفترون؟"؟ لأن الحلال ما حلله الله ورسوله، والحرام ما ‏حرماه. وقال الله تعالى: ولا تقولوا لما تَصِفُ ألسنتُكم الكذبَ هذا حلالٌ ‏وهذا حرامٌ لتفتروا على الله الكذب. إن الذين يفترون على الله الكذب لا ‏يفلحون".