-
واستدلوا بحديث عائشة: "إن الله تعالى حرّم القينة (أي الجارية) وبيعها وثمنها وتعليمه". والجواب عن ذلك: أولا أن الحديث ضعيف، وكل ما جاء في تحريم بيع القيان ضعيف. ثانيًا، قال الغزالي: "المراد بالقينة الجارية التي تغني للرجال في مجلس الشرب. وغناء الأجنبية للفسّاق ومن يُخَاف عليهم الفتنة حرام. وهم لا يقصدون بالفتنة إلا ما هو محذور. فأما غناء الجارية لمالكها فلا يفهم تحريمه من هذا الحديث. بل لغير مالكها سماعها عند عدم الفتنة بدليل ما رُوِيَ في الصحيحين من غناء الجاريتين في بيت عائشة رضي الله تعالى عنها، وسيأتي. ثالثًا، كان هؤلاء القيان المغنيات يُكَوِّنَّ عنصرًا هامًّا من نظام الرقيق، الذي جاء الإسلام بتصفيته تدريجيًا، فلم يكن يتفق وهذه الحكمة إقرار بقاء هذه الطبقة في المجتمع الإسلامي. فإذا جاء حديث بالنعي على امتلاك "القينة " وبيعها والمنع منه، فذلك لهدم ركن من بناء "نظام الرق" العتيد.
واستدلوا بما روى نافع: أن ابن عمر سمع صوت زمارة راعٍ فوضع أصبعيه في أذنيه وعدل راحلته عن الطريق، وهو يقول: يا نافع، أتسمع؟ فأقول: "نعم"، فيمضي حتى قلت: "لا"، فرفع يده وعدل راحلته إلى الطريق، وقال: "رأيت رسول الله صلي الله عليه وآله و سلم يسمع زمارة راعٍ فصنع مثل هذا". والحديث قال عنه أبو داود: حديثٌ مُنْكَرٌ. ولو صح لكان حجة على المحرِّمين لا لهم، فلو كان سماع المزمار حرامًا ما أباح النبي صلي الله عليه و آله وسلم لا بن عمر سماعه، ولو كان عند ابن عمر حرامًا ما أباح لنافعٍ سماعه ولأَمَرَ عليه السلام بمنع وتغيير هذا المنكر. فإقرار النبي صلي الله عليه وآله وسلم لابن عمر دليل على أنه من الحلال. وإنما تجنب عليه السلام سماعه كتجنبه أكثر المباح من أمور الدنيا، كتجنبه الأكل متكئًا، وأن يبيت عنده دينار أو درهم... إلخ.
واستدلوا أيضًا بما روي: "إن الغناء يُنْبِت النفاق في القلب". ولم يثبت هذا حديثًا عن النبي صلي الله عليه وآله وسلم، و إنما ثبت قولا لبعض الصحابة أو التابعين، فهو رأي لغير معصوم خالفه فيه غيره. فمن الناس من قال، وبخاصة الصوفية: إن الغناء يرقق القلب، ويبعث الحزن والندم علي المعصية، ويهيج الشوق إلى الله تعالى. ولهذا اتخذوه وسيلة لتجديد نفوسهم، وتنشيط عزائمهم، وإثارة أشوقهم. قالوا: وهذا أمر لا يُعْرَف إلا بالذوق والتجربة والممارسة. ومن ذاق عرف، وليس الخبر كالعِيَان! على أن الإمام الغزالي جعل حكم هذه الكلمة بالنسبة للمغنى لا للسامع، إذ كان غرض المغنى أن يعرض نفسه على غيره ويروج صوته عليه، ولا يزال ينافق ويتودد إلى الناس ليرغبوا في غنائه. ومع هذا قال الغزالي: وذلك لا يوجب تحريما، فإن لبس الثياب الجميلة، وركوب الخيل المهملجة، وسائر أنواع الزينة، والتفاخر بالحرث والأنعام والزرع وغير ذلك، ينبت النفاق في القلب، ولا يطلق القول بتحريم ذلك كله. فليس السبب في ظهور النفاق في القلب المعاصي فقط، بل المباحات التي هي مواقع نظر الخلق أكثر تأثيرا.
واستدلوا على تحريم غناء المرأة خاصة بما شاع عند الناس من أن صوت المرأة عورة. وليس هناك دليل ولا شبه دليل من دين الله على أن صوت المرأة عورة. وقد كان النساء يسألن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ملإ من أصحابه، وكان الصحابة يذهبون إلى أمهات المؤمنين ويستفتونهن ويفتينهم ويحدثنهم، ولم يقل أحد إن هذا من عائشة أو غيرها كشفٌ لعورةٍ يجب أن تُسْتَر. فإن قالوا: هذا في الحديث العاديّ لا في الغناء، قلنا: روى "الصحيحان" أن النبي سمع غناء الجاريتين ولم ينكر عليهما، وقال لأبي بكر: دعهما. وقد سمع ابن جعفر وغيره من الصحابة والتابعين الجواري يغنين.
تلك هي أدلة المحرّمين، وقد سقطت واحدا بعد الآخر، ولم يقف دليل منها على قدميه. وإذا انتفت أدلة التحريم بقى حكم الغناء على أصل الإباحة بلا شك، ولو لم يكن معنا نص أو دليل واحد على ذلك غير سقوط أدلة التحريم، فكيف ومعنا نصوص الإسلام الصحيحة الصريحة، وروحه السمحة، وقواعده العامة، ومبادئه الكلية؟ وهاك بيانها: أولا من حيث النصوص: استدلوا بعدد من الأحاديث الصحيحة منها حديث غناء الجاريتين في بيت النبي صلى الله عليه وسلم عند عائشة، وانتهار أبي بكر لهما، وقوله: "مزمور الشيطان في بيت النبي صلى الله عليه وسلم؟". وهذا يدل على أنهما لم تكونا صغيرتين كما زعم بعضهم، فلو صح ذلك لم تستحقا غضب أبي بكر إلى هذا الحد. والمعوَّل عليه هنا هو رد النبي صلى الله عليه وسلم على أبي بكر رضى الله عنه وتعليله أنه يريد أن يعلم اليهود أن في ديننا فسحة، وأنه بُعِث بحنيفيةٍ سمحة. وهو يدل على وجوب رعاية تحسين صورة الإسلام لدى الآخرين، وإظهار جانب اليسر والسماحة فيه. وقد روى البخاري وأحمد عن عائشة أنها زفت امرأة إلى رجل من الأنصار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا عائشة، ما كان معهم من لهو؟ فإن الأنصار يعجبهم اللهو". وروى النسائي والحاكم، وصححه عن عامر بن سعد، قال: دخلتُ على قرظة بن كعب وأبي مسعود الأنصاري في عرس، وإذا جوارٍ يغنين. فقلت: أيْ صاحَبْى رسول الله أهلَ بدر، يُفْعَل هذا عندكم؟ فقالا: اجلس. إن شئت فاستمع معنا، وإن شئت فاذهب، فإنه قد رُخِّص لنا اللهو عند العرس. وروى ابن حزم بسنده عن ابن سيرين أن رجلا قدم المدينة بجَوَارٍ، فأتى عبد الله بن جعفر فعرضهن عليه، فأمر جارية منهن فغنت، وابن عمر يسمع، فاشتراها ابن جعفر بعد مساومة. ثم جاء الرجل إلى ابن عمر فقال: يا أبا عبد الرحمن، غُبِنْتُ بسبعمائة درهم! فأتى ابن عمر إلى عبد الله بن جعفر فقال له: إنه غُبِن بسبعمائة درهم، فإما أن تعطيها إياه، وإما أن ترد عليه بيعه. فقال: بل نعطيه إياها. قال ابن حزم: فهذا ابن عمر قد سمع الغناء وسعى في بيع المغنية. وهذا إسناد صحيح لا تلك الأسانيد الملفقة الموضوعة. واستدلوا بقوله تعالى: "وإذا رَأَوْا تجارةً أو لهوًا انفضُّوا إليها وتركوك قائما. قل: ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين". فقرن اللهو بالتجارة، ولم يذمّهما إلا من حيث شُغْل الصحابة بهما، بمناسبة قدوم القافلة وضرب الدفوف فرحا بها، عن خطبة النبي صلى الله عليه وسلم وتَرْكه قائما. واستدلوا بما جاء عن عدد من الصحابة رضي الله عنهم أنهم باشروا السماع بالفعل أو أقروه، وهم القوم يُقْتَدَى بهم فيُهْتَدَى. واستدلوا بما نقله غير واحد من الإجماع على إباحة السماع كما سنذكره بعد.
وثانيا من حيث روح الإسلام وقواعده: أ-لا شئ في الغناء إلا أنه من طيبات الدنيا التي تستلذها الأنفس، وتستطيبها العقول، وتستحسنها الفِطَر، وتشتهيها الأسماع، فهو لذة الأذن، كما أن الطعام الهنيء لذة المعدة، والمنظر الجميل لذة العين، والرائحة الذكية لذة الشم... إلخ. فهل الطيبات، أي المستلذات، حرام في الإسلام أم حلال؟ من المعروف أن الله تعالى كان قد حرم على بني إسرائيل بعض طيبات الدنيا عقوبة لهم على سوء ما صنعوا، كما قال تعالى: "فبِظُلْمٍ من الذين هادوا حرَّمْنا عليهم طيباتٍ أُحِلَّتْ لهم وبِصَدِّهم عن سبيل الله كثيرا * وأَخْذِهم الربا وقد نُهُوا عنه وأَكْلِهم أموالَ الناس بالباطل"، فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم جعل عنوان رسالته في كتب الأولين: "الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويُحِلّ لهم الطيبات ويحرّم عليهم الخبائث، ويضع عنهم إِصْرَهم والأغلال التي كانت عليهم". فلم يبق في الإسلام شئ طيب، أي تستطيبه الأنفس والعقول السليمة، إلا أحله الله رحمة بهذه الأمة لعموم رسالتها وخلودها. قال تعالى: "يسألونك: ماذا أُحِلَّ لهم؟ قل: أُحِلّ لكم الطيبات". ولم يبح الله لواحد من الناس أن يحرم على نفسه أو على غيره شيئا من الطيبات مما رزق الله مهما يكن صلاح نيته أو ابتغاء وجه الله فيه، فإن التحليل والتحريم من حق الله وحده، وليس من شأن عباده. قال تعالى: "قل: أرأيتم ما أنزل اللهُ لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا؟ قل: آلله أذن لكم أم على الله تفترون؟"، وجعل سبحانه تحريم ما أحله من الطيبات كإحلال ما حرّم من المنكرات، كلاهما يجلب سخط الله وعذابه، ويُرْدِى صاحبه في هاوية الخسران المبين والضلال البعيد. قال جل شأنه يَنْعَى على من فعل ذلك من أهل الجاهلية: "قد خَسِر الذين قتلوا أولادهم سَفَهًا بغير علم وحرَّموا ما رزقهم الله افتراءً على الله. قد ضلوا، وما كانوا مهتدين".
ب-ولو تأملنا لوجدنا أن الغناء والطرب للصوت الحسن يكاد غريزة إنسانية وفطرة بشرية حتى إننا لنشاهد الصبي الرضيع في مهده يسكته الصوت الطيب عن بكائه، وتنصرف نفسه عما يبكيه إلى الإصغاء إليه. ولذا تعودت الأمهات والمرضعات والمربيات الغناء للأطفال منذ زمن قديم. بل نقول: إن الطيور والبهائم تتأثر بحسن الصوت والنغمات الموزونة حتى قال الغزالي في الإحياء: "من لم يحركه السماع فهو ناقص مائل عن الاعتدال، بعيد عن الروحانية، زائد في غلظ الطبع وكثافته على الجِمَال والطيور وجميع البهائم، إذ الجمل مع بلادة طبعه يتأثر بالحُدَاء تأثرا يستخف معه الأحمال الثقيلة، ويستقصر لقوة نشاطه في سماعه المسافات الطويلة، وينبعث فيه من النشاط ما يُسْكِره ويُوَلِّهه. فنرى الإبل إذا سمعت الحادي تمد أعناقها، وتصغي إليه ناصبة آذانها، وتسرع في سيرها حتى تتزعزع عليها أحمالها ومحاملها". وإذا كان حب الغناء غريزة وفطرة، فهل جاء الدين لمحاربة الغرائز والفطر والتنكيل بها؟ كلا، إنما جاء لتهذيبها والسمو بها وتوجيهها التوجيه القويم. قال الإمام ابن تيمية رحمه الله: إن الأنبياء قد بُعِثوا بتكميل الفطرة وتقريرها لا بتبديلها وتغييرها. ومصداق ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال: "ما هذان اليومان؟". قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية. فقال عليه السلام: "إن الله قد أبدلكم بهما خيرا منهما: يوم الأضحى ويوم الفطر". وقالت عائشة: "لقد رأيت النبي يسترني بردائه، وأنا أنظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد، حتى أكون أنا التي أسأمه، أي اللعب. فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن الحريصة على اللهو". وإذا كان الغناء لهوا ولعبا فليس اللهو واللعب حراما، فالإنسان لا صبر له على الجِدّ المطلق والصرامة الدائمة. قال النبي صلى الله عليه وسلم لحنظلة حين ظن نفسه قد نافق لمداعبته زوجه وولده وتغير حاله في بيته عن حاله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا حنظلة، ساعة وساعة". وقال علي بن أبي طالب: رَوِّحُوا القلوب ساعة بعد ساعة، فإن القلوب إذا أُكْرِهَتْ عَمِيَتْ. وقال كرم الله وجهه: إن القلوب تَمَلُّ كما تمل الأبدان، فابتغوا لها طرائف الحكمة. وقال أبو الدرداء: إني لأستجمّ نفسي بالشيء من اللهو ليكون أقوى لها على الحق. وقد أجاب الإمام الغزالي عمن قال: "إن الغناء لهو ولعب" بقوله: هو كذلك، ولكن الدنيا كلها لهو ولعب... وجميع المداعبة مع النساء لهو، إلا الحراثة التي هي سبب وجود الولد، وكذلك المزح الذي لا فحش فيه، حلال. نُقِل عن ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة.
تلك هي الأدلة المبيحة للغناء من نصوص الإسلام وقواعده، فيها الكفاية كل الكفاية ولو لم يقل بموجبها قائل، ولم يذهب إلى ذلك فقيه. فكيف، وقد قال بموجبها الكثيرون من صحابة وتابعين وأتباع وفقهاء؟ وحسبنا أن أهل المدينة على ورعهم، والظاهرية على حَرْفِيّتهم وتمسكهم بظواهر النصوص، والصوفية على تشددهم وأخذهم بالعزائم دون الرُّخَص، رُوِيَ عنهم إباحة الغناء. قال الإمام الشوكانى في "نيل الأوطار": "ذهب أهل المدينة ومن وافقهم من علماء الظاهر وجماعة الصوفية إلى الترخيص في الغناء ولو مع العود واليراع. وحكى الأستاذ أبو منصور البغدادي الشافعي في مؤلفه في السماع أن عبد الله بن جعفر كان لا يرى بالغناء بأسا، ويصوغ الألحان لجواريه، ويسمعها منهن على أوتاره. وكان ذلك في زمن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه. وحكى الأستاذ المذكور مثل ذلك أيضا عن القاضي شريح وسعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح والزهري والشعبي". وقال إمام الحرمين في "النهاية" وابن أبي الدنيا: "نَقَل الأثباتُ من المؤرخين أن عبد الله بن الزبير كان له جَوَارٍ عوَّادات، وأن ابن عمر دخل إليه وإلى جنبه عود، فقال: ما هذا يا صاحب رسول الله؟ فناوله إياه، فتأمله ابن عمر فقال: هذا ميزان شامي؟ قال ابن الزبير: يوزن به العقول!". وروى الحافظ أبو محمد بن حزم في رسالة في السماع بسنده إلى ابن سيرين قال: "إن رجلا قدم المدينة بجَوارٍ، فنزل على ابن عمر، وفيهن جارية تضرب. فجاء رجل فساومه، فلم يَهْوَ فيهن شيئا. قال: انطلقْ إلى رجل هو أمثل لك بيعًا من هذا. قال: من هو؟ قال: عبد الله بن جعفر... فعرضهن عليه، فأمر جارية منهن فقال لها: خذي العود، فأخذته، فغنت، فبايعه ثم جاء إلى ابن عمر... إلخ القصة". وروى صاحب "العِقْد" العلامة الأديب أبو عمر الأندلسي أن عبد الله بن عمر دخل على ابن جعفر فوجد عنده جارية في حجرها عود، ثم قال لابن عمر: هل ترى بذلك بأسا؟ قال: لا بأس بهذا. وحكى الماوردي عن معاوية وعمرو بن العاص أنهما سمعا العود عند ابن جعفر. وروى أبو الفرج الأصبهاني أن حسان بن ثابت سمع من عزة الميلاء الغناء بالمِزْهَر بشعر من شعره. وذكر أبو العباس المبرّد نحو ذلك. والمزهر عند أهل اللغة: العود. وذكر الأدفوي أن عمر بن عبد العزيز كان يسمع جواريه قبل الخلافة. ونقل ابن السمعاني الترخيص عن طاووس، ونقله ابن قتيبة وصاحب "الإمتاع" عن قاضى المدينة سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن الزهري من التابعين. ونقله أبو يعلى الخليلي في "الإرشاد" عن عبد العزيز بن سملة الماجشون مفتى المدينة. هؤلاء جميعا قالوا بتحليل السماع مع آلة من الآلآت المعروفة، أي آلات موسيقى. وأما مجرد الغناء من غير آلة فقال الإدفوى في "الإمتاع": إن الغزالي في بعض تآليفه الفقهية نقل الاتفاق على حله، ونقل ابن طاهر إجماع الصحابة والتابعين عليه، ونقل التاج الفزاري وابن قتيبة إجماع أهل الحرمين عليه، ونقل ابن طاهر وابن قتيبة أيضا إجماع أهل المدينة عليه، وقال الماوردي: لم يزل أهل الحجاز يرخِّصون فيه في أفضل أيام السنة المأمور فيها بالعبادة والذكر. وقال ابن النحوي في "العمدة": وقد رُوِيَ الغناءُ وسماعُه عن جماعة من الصحابة والتابعين: فمن الصحابة عمر كما رواه ابن عبد البر وغيره، وعثمان كما نقله الماوردي وصاحب "البيان" والرافعي، وعبد الرحمن بن عوف كما رواه ابن أبي شيبة، وأبو عبيدة بن الجراح كما أخرجه البيهقي، وسعد بن أبي وقاص كما أخرجه بن قتيبة، وأبو مسعود الأنصاري كما أخرجه البيهقي، وبلال وعبد الله بن الأرقم وأسامة بن زيد كما أخرجه البيهقي أيضا، وحمزة كما في "الصحيح"، وابن عمر كما أخرجه ابن طاهر، والبراء بن مالك كما أخرجه أبو نعيم، وعبد الله بن جعفر كما رواه ابن عبد البر، وعبد الله بن الزبير كما نقل أبو طالب المكي، وحسان كما رواه أبو الفرج الأصبهاني، وعبد الله بن عمرو كما رواه الزبير بن بكار، وقرظة بن كعب كما رواه ابن قتيبة، وخَوّات بن جيبر ورباح المعترف كما أخرجه صاحب "الأغاني"، والمغيرة بن شعبة كما حكاه أبو طالب المكي، وعمرو بن العاص: حكاه الماوردي، وعائشة والرُّبيّع كما في "صحيح البخاري" وغيره. وأما التابعون فسعيد بن المسيب وسالم بن عبد الله بن عمر وابن حسان وخارجة بن زيد وشريح القاضي وسعيد بن جبير وعامر الشعبي وعبد الله بن أبي عتيق وعطاء بن أبي رباح ومحمد بن شهاب الزهري وعمر بن عبد العزيز وسعد بن إبراهيم الزهري. وأما تابعوهم فخَلْقٌ لا يُحْصَوْن منهم الأئمة الأربعة وابن عيينة وجمهور الشافعية". انتهى كلام ابن النحوي. هذا كله ذكره الشوكاني في "نيل الأوطار".
ولا ننسى أن نضيف إلى هذه الفتوى قيودا لا بد من مراعاتها في سماع الغناء: 1-فقد أشرنا في أول البحث إلى أنه ليس كل غناء مباحا، فلا بد أن يكون موضوعه متفقا مع أدب الإسلام وتعاليمه. فالأغنية التي تقول: "الدنيا سيجارة وكاس" مخالفة لتعاليم الإسلام، الذي يجعل الخمر رجسا من عمل الشيطان، ويلعن شارب "الكاس" وعاصرها وبائعها وحاملها وكل من أعان فيها بعمل. والتدخين أيضا آفة ليس وراءها إلا ضرر الجسم والنفس والمال. والأغاني التي تمدح الظلمة والطغاة والفسقة من الحكام الذين ابتليت بهم أمتنا مخالفة لتعاليم الإسلام، الذي يلعن الظالمين وكل من يعينهم بل من يسكت عليهم، فكيف بمن يمجدهم؟ والأغنية التي تمجد صاحب العيون الجريئة أو صاحبة العيون الجريئة أغنية تخالف أدب الإسلام، الذي ينادي كتابه: "قل للمؤمنين يَغُضّوا من أبصارهم... وقل للمؤمنات يَغْضُضْن من أبصارهن". ويقول صلى الله عليه وسلم: "يا عليّ، لا تُتْبِع النظرة النظرة، فإن لك الأولى، وليست لك الآخرة". 2-ثم إن طريقة الأداء لها أهميتها، فقد يكون الموضوع لا بأس به ولا غبار عليه، ولكن طريقة المغني أو المغنية في أدائه بالتكسر في القول وتعمد الإثارة والقصد إلى إيقاظ الغرائز الهاجعة وإغراء القلوب المريضة ينقل الأغنية من دائرة الإباحة إلى دائرة الحرمة أو الشبهة أو الكراهة من مثل ما يذاع على الناس ويطلبه المستمعون والمستمعات من الأغاني التي تلح على جانب واحد هو جانب الغريزة الجنسية وما يتصل بها من الحب والغرام وإشعالها بكل أساليب الإثارة والتهيج، وخصوصا لدى الشباب والشابات. إن القرآن يخاطب نساء النبي فيقول: "فلا تَخْضَعْن بالقول فيطمعَ الذي في قلبه مرض". فكيف إذا كان مع الخضوع في القول الوزن والنغم والتطريب والتأثير؟ 3-ومن ناحية ثالثة يجب ألا يقترن الغناء بشيء محرم كشرب الخمر أو التبرج أو الاختلاط الماجن بين الرجال والنساء بلا قيود ولا حدود. وهذا هو المألوف في مجالس الغناء والطرب من قديم، وهي الصورة الماثلة في الأذهان عندما يُذْكَر الغناء، وبخاصة غناء الجواري والنساء. وهذا ما يدل عليه الحديث الذي رواه ابن ماجة وغيره: "ليشربنّ ناس من أمتي الخمر، يسمونها بغير اسمها، يُعْزَف على رؤوسهم بالمعازف والمغنيات، يخسف الله بهم الأرض ويجعل منهم القردة والخنازير". وأود أن أنبه هنا على قضية مهمة، وهي أن الاستماع إلى الغناء في الأزمنة الماضية كان يقتضي حضور مجلس الغناء ومخالطة المغنين والمغنيات وحواشيهم. وقلما كانت تسلم هذه المجالس من أشياء ينكرها الشرع ويكرهها الدين. أما اليوم فيستطيع المرء أن يستمع إلى الأغاني وهو بعيد عن أهلها ومجالسها. وهذا لا ريب عنصر مخفف في القضية، ويميل بها إلى جانب الإذن والتيسير. 4-هذا إلى أن الإنسان ليس عاطفة فحسب، والعاطفة ليست حبا فقط، والحب لا يختص بالمرأة وحدها، والمرأة ليست جسدا وشهوة لا غير. لهذا يجب أن نقلّل من هذا السيل الغامر من الأغاني العاطفية الغرامية وأن يكون لدينا من أغانينا وبرامجنا وحياتنا كلها توزيع عادل، وموازنة مقسطة بين الدين والدنيا، وفي الدنيا بين الحق الفرد وحقوق المجتمع، وفي الفرد بين عقله وعاطفته، وفي مجال العاطفة بين عواطف الإنسانية كلها من حب وكره وغيرة وحماسة وأبوة وأمومة وبنوة وأخوة وصداقة... إلخ، فلكل عاطفة حقها. أما الغلو والإسراف والمبالغة في إبراز عاطفة خاصة فذلك على حساب العواطف الأخرى، وعلى حساب عقل الفرد وروحه وإرادته، وعلى حساب المجتمع وخصائصه ومقوماته، وعلى حساب الدين ومثله وتوجيهاته. إن الدين حرّم الغُلُوّ والإسراف في كل شئ حتى في العبادة، فما بالك بالإسراف في اللهو وشغل الوقت به ولو كان مباحا؟ إن هذا دليل على فراغ العقل والقلب من الواجبات الكبيرة والأهداف العظيمة، ودليل على إهدار حقوق كثيرة كان يجب أن تأخذ حظها من وقت الإنسان المحدود وعمره القصير. وما أصدق وأعمق ما قال ابن المقفع: "ما رأيت إسرافا إلا وبجانبه حق مضيَّع"! وفي الحديث: "لا يكون العاقل ظاعنا إلا لثلاث: مَرَمَّة لمعاش، أو تزوُّد لمعاد، أو لذة في غير محرم". فلنقسم أوقاتنا بين هذه الثلاثة بالقسط، ولنعلم أن الله سائل كل إنسان عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه؟ 5-وبعد هذا الإيضاح تبقى أشياء يكون كل مستمع فيها فقيه نفسه ومفتيها. فإذا كان الغناء أو نوع خاص منه يستشير غريزته، ويغريه بالفتنة، ويسبح به في شطحات الخيال، ويطغى فيه الجانب الحيواني على الجانب الروحاني، فعليه أن يتجنبه حينئذ، ويسد الباب الذي تهب منه رياح الفتنة على قلبه ودينه وخلقه فيستريح ويريح.
ونختم بحثنا هذا بكلمة أخيرة نوجهها إلى السادة العلماء الذين يستخفّون بكلمة "حرام" ويطلقون لها العِنَان في فتاواهم إذا أَفْتَوْا، وفي بحوثهم إذا كتبوا: عليهم أن يراقبوا الله في قولهم ويعلموا أن هذه الكلمة: "حرام" كلمة خطيرة. إنها تعنى عقوبة الله على الفعل، وهذا أمر لا يُعْرَف بالتخمين ولا بموافقة المزاج، ولا بالأحاديث الضعيفة، ولا بمجرد النص عليه في كتاب قديم. إنما يعرف من نص ثابت صريح أو إجماع معتبر صحيح، وإلا فدائرة العفو والإباحة واسعة، ولهم في السلف الصالح أسوة حسنة. قال الإمام مالك رضي الله عنه: "ما شيءٌ أشدَّ علىّ من أن أُسْأَل عن مسألة من الحلال والحرام لأن هذا هو القطع في حكم الله. ولقد أدركت أهل العلم والفقه ببلدنا، وإن أحدهم إذا سُئِل عن مسألة كأن الموت أشرف عليه. ورأيت أهل زماننا هذا يشتهون الكلام في الفتيا، ولو وقفوا على ما يصيرون إليه غدا لقللوا من هذا. وإن عمر بن الخطاب وعليًّا وعامة خيار الصحابة كانت تَرِدُ عليهم المسائل، وهم خير القرون الذين بُعِث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم، فكانوا يجمعون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ويسألون، ثم حينئذ يفتون فيها. وأهل زماننا هذا قد صار فخرهم، فبقدر ذلك يُفْتَح لهم من العلم. قال: ولم يكن من أمر الناس ولا من مضى من سلفنا الذين يُقْتَدَى بهم ومُعَوَّل الإسلام عليهم أن يقولوا: هذا حلال، وهذا حرام، ولكن يقول: أنا أكره كذا، وأرى كذا. وأما "حلال" و"حرام" فهذا الافتراء على الله. أما سمعتَ قول الله تعالى: "قل أرأيتم ما أنزل اللهُ لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا؟ قل آللهُ أَذِنَ لكم أم على الله تفترون؟"؟ لأن الحلال ما حلله الله ورسوله، والحرام ما حرماه. وقال الله تعالى: ولا تقولوا لما تَصِفُ ألسنتُكم الكذبَ هذا حلالٌ وهذا حرامٌ لتفتروا على الله الكذب. إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون".
معلومات الموضوع
الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
المواضيع المتشابهه
-
بواسطة مريم في المنتدى منتدى الديكور والأثاث المنزلي
مشاركات: 2
آخر مشاركة: 20-12-2011, 01:52 PM
-
بواسطة ابوحازم السلفي في المنتدى المنتدى الإسلامي
مشاركات: 0
آخر مشاركة: 19-05-2010, 09:10 PM
-
بواسطة طالب عفو ربي في المنتدى المنتدى الإسلامي
مشاركات: 2
آخر مشاركة: 06-05-2010, 07:07 AM
-
بواسطة مريم في المنتدى منتدى الديكور والأثاث المنزلي
مشاركات: 1
آخر مشاركة: 18-01-2010, 12:59 AM
-
بواسطة النبع الصافي في المنتدى المنتدى الإسلامي
مشاركات: 4
آخر مشاركة: 02-06-2009, 07:21 PM
الكلمات الدلالية لهذا الموضوع
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى
المفضلات