حوار مع المعارضين القائلين بوجوب ستر الوجه 29
يقولون: لا يتصور أن تأمر الآية والأحاديث الصحيحة المؤمنين بغضِّ الأبصار، في حين نجد في حديث أسماء تصريحاً بإباحة النظر إلى الوجه والكفين.
الجواب:
في الرد علي من قال " إن الأمر بغضِّ البصر مطلق، فيشمل كل ما ينبغي أن يغضَّ البصر عنه". قال الألباني: (( فقولك: " مطلق" خطأ جرَّك إلى رد هذا الحديث الصحيح (حديث أسماء ,المرأة إذا بلغت المحيض..) ،فإنه خلاف ما عليه المفسرون:كابن جرير والقرطبي وابن كثير فقالوا-واللفظ لابن كثير-:
" هذا أمر من الله تعالى لعباده المؤمنين أن يغضوا من أبصارهم عما حرم عليهم، فلا ينظرون إلا إلى
ما أباح النظر إليه…".
ففي الآية إذن ما يحرم النظر إليه وما يباح على الرجال والنساء..والمقصود أن الغضّ ليس على إطلاقه كما زعمت، ولذلك قال ابن كثير في تمام كلامه السابق:
" فإن اتفق أن وقع البصر على محرَّم من غير قصد ، فليصرف بصره عنه سريعاً، كما رواه مسلم عن جرير قال: سالت النبي صلي الله عليه وسلم عن نظرة الفجأة؟ فأمرني أن أصرف بصري".
قلت: فالآية إذن كالحديث (حديث أسماء)، إنما تأمر بغض النظر عما حرم فقط، فالإنصاف أن يقال: إن كان وجه المرأة مما يحرم عليها كشفه أمام الأجانب، حرم عليهم النظر ، وإن جاز جاز.
فهل أنصف القوم؟ الجواب مع الأسف: لا، والدليل: أنهم لا يجيزون للمرأة أن تنظر إلى وجه الرجل وما دونِه، مما ليس بعورة منه،واحتجبوا بهذه الآية، أي: بإطلاقها، وقد عرفت خطأهم بخطأ مقلّدهم، كما احتجوا عنه على افتراض صحته , ثم تكلّفوا في رد أدلة المجيزين للنظر بدون ريبة ، كما فعلوا بحديث نظر عائشة رضي الله عنهما،وفيه: أن النبي صلي الله عليه وسلم قال لها:" أتحبين أن تنظري إليهم؟".وقولها: فطأطأ لي منكبيه لأنظر إليهم. وقولها: وما بي حب النظر عليهم، ولكن أحببت أن تبلغ النساء مقامه لي ومكاني منه.ومع هذه النصوص الصريحة في نظرها إليهم، فقد عطَّلوا دلالاتها- كما هي عادتهم- بقولهم تارة:
"ليس في الحديث أنها نظرت إلى وجوههم وأبدانهم،وإنما نظرت إلى لعبهم"
فأقول: يكفي القارئ الكريم أن يتصوَّر هذا الجواب ليظهر له بطلانه ، إذ لا يمكن الفصل بين النظر إلى الصفة وهو اللعب ، وبين الموصوف وهو اللعب ، فكانت عائشة تنظر في زعمهم إلى اللعب دون الملاعب! هكذا فلتعطل النصوص! ولو أنهم قالوا: لم تنظر إلى عورة ، أو لم تنظر إليهم بنظرة مريبة ، أو بخشية الفتنة ، لأصابوا ، فإن هذا هو المحرَّم بين الجنسين ، أن ينظر أحدهما إلى عورة الآخر ، أو إلى ما ليس بعورة ولكن بشهوة ، أو يخشى الفتنة كما تقدم عن ابن عبد البر وغيره.
قال الحافظ ابن القطان : " وقد قدمنا في مواضع أن إجازة الإظهار دليل على إجازة النظر ، فإذا نحن قلنا: يجوز للمرأة أن تبدي وجهها وكفيها لكل أحد على غير وجه التبرُّج من غير ضرورة، لكون ذلك مما ظهر من زينتها، ومما يشق تعاهده بالستر في حال المهنة، فقد جاز للناس النظر إلى ذلك منها، لأنه لو كان النظر ممنوعاً مع أنه يجوز لها الإبداء ، كان ذلك معاونة على الإثم ، وتعريضاً للمعصية،وإيقاعاً في الفتنة، بمثابة تناول الميتة للآكل غير مضطر! فمن قال من الفقهاء بجواز الإبداء، فهو غير محتاج إلى إقامة دليل على جواز النظر، وكذلك ينبغي أن يكون من لم يجز للمرأة الإبداء والإظهار، غير محتاج إلى إقامة الدليل على تحريم النظر، وقد قدمنا أنه جائز للمرأة إبداء وجهها وكفيها، فإذن النظر إلى ذلك جائز لكن بشرط أن لا يخاف الفتنة، وأن لا يقصد اللذة،، وأما قصد اللذة، فلا نزاع في التحريم".
وقال ابن القطان أيضا: " لا خلاف أعلمه في جواز نظر المرأة إلى وجه الرجل ما كان ، وإذا لم تقصد اللذة، ولم تخف الفتنة، كنظر الرجل إلى وجه الغلمان والمردان إذا لم يقصد ولا خوف… وكذلك أيضاً لا خلاف في جواز إبداء الرجال شعورهم، وأذرعهم، وسوقهم بحضرة الرجال وبحضرة النساء".
وعقب الألباني بقوله: إذا عرفت هذا، فأنا أقول دون أي تردد: إن هؤلاء المتشددين على النساء مع مخالفتهم للنصوص الشرعية وأقوال الأئمة، فإنهم لا يفكرون فيما يخرج من أفواههم، أو على الأقل لا ينتبهون إلى أبعاد أقوالهم، وإلا فكيف يتصورون أن تغضّ المرأة بصرها عن الخطيب يوم الجمعة مثلاً وهو يخطب، أو عن المفتي وهي تستفتيه؟ ! بل كيف يمكن لهذا المفتي وأمثاله من الباعة أن لا ينظروا إلى وجهها ويديها وهم يتعاملون معها؟ فالحق أقول: إن هؤلاء المتشددين يقولون ما لا يعقلون، ويعلمون بخلاف ما يقولون فأخشى أن يعُمَّهُم قول رب العالمين {يا أيها الذي آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون}.
...وذلك أن التأويل لأي نص شرعي لا يُصار إليه إلا عند عدم إمكان الجمع، وليس الأمر كذلك في هذا الحديث، فقد وفق العلماء –على اختلاف اختصاصاتهم ومذاهبهم- بحمل المطلق على المقيد، أو العام على الخاص-كما تقدم عن القرطبي- أو بقاعدة استثناء الأقل من الأكثر كما تقدم نقله عنه .
وإليك الآن ما وعدتك به من جمع أقوال العلماء المتقدمة ، الذين صرحوا بما دلَّ عليه هذا الحديث الصحيح من جواز كشف المرأة عن وجهها وكفيها، ونظر الرجال إلى ذلك منها دون شهوة أو ريبة ، ليتبين للقراء الكرام أن بعض المشايخ المخالفين يتشددون على الناس، ويدلِّسون على قرائهم، ويوهمون أن الإجماع على خلاف أقوال العلماء المشار إليهم، ملاحظين في سردها تاريخ وفياتهم، ليتبين لهم استمرار القول بذلك إلى يومنا هذا كاستمرار العمل به، مذكرين مرة أخرى بأن الغرض من ذلك هو بيان ما أمر الله ببيانه من العلم، ونهى عن كتمانه، وبخاصة بعد أن قام أولئك المشايخ بكتمانه عن الناس، وقلب الحقائق الشرعية.....
ومن بعض الأسماء التي ذكرها الألباني :
1. أبو جعفر الطحاوي (ت 321هـ):
" أبيح للناس أن ينظروا إلى ما ليس بمحرم عليهم من النساء، إلى وجوههن وأكفهن، وحرم ذلك من أزواج النبي صلي الله عليه وسلم ، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومجمد".
2. ابن عبد البر (ت463هـ):
" وجائز أن ينظر إلى يديها ووجهها كل من نظر إليها لغير ريبة ولا مكروه".
3. البغوي في شرح السنة (ت516هـ):
" ولا يجوز للرجل أن ينظر إلى شيء منها إلا الوجه والكفين، إلا عند خوف الفتنة" .
4. ابن القطان (ت 628هـ):
" وقد قدمنا أنه جائز للمرأة إبداء وجهها وكفيها، فالنظر إلى ذلك جائز، لكن بشرط أن لا يخاف
الفتنة، وأن لا يقصد اللذة، وأما إذا قصد اللذة، فلا نزاع في التحريم"
5. ابن مفلح الحنبلي (ت 763هـ):
"قولنا وقول جماعة من الشافعية وغيرهم : إن النظر إلى الأجنبية جائز من غير شهوة ولا خلوة ، فلا ينبغي الإنكار عليهن إذا كشفن عن وجوههن في الطريق" .
6. ابن رسلان من شرح " سنن الترمذي" (ت 805هـ ):
"يجوز نظر الأجنبية عند أمن الفتنة".
7. جماعة من علماء المذاهب الأربعة المعاصرين قالوا في " الفقه على المذاهب الأربعة":
" أما إذا كانت بحضور رجل أجنبي أو امرأة غير مسلمة فعورتها جميع بدنها ما عدا الوجه والكفين فإنهما ليسا بعورة فيحلُّ النظر لهما عند أمن الفتنة" .
قلت: وبالجملة، فهذه الأقوال من هؤلاء العلماء الأجلاء متفقة على أمرين اثنين:
الأول: أن وجه المرأة وكفيها ليس بعورة ، وهو مذهب أكثر العلماء ورواية عن الإمام أحمد ، كما أثبتنا ذلك في " البحث الخامس"
والآخر: أنه يجوز النظر إلى ذلك من المرأة بغير شهوة.انتهي
المفضلات