كلنا في خدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم
مجموعة محاضرات ألقاها فضيلة الشيخ محمود غريب إمام وخطيب جامع المعشني بمدينة صلالة بسلطنة عمان.
أنقلها لكم كما هي وبدون تصرف مني .. نفع الله بها.

أخطأ بعض الدعاة
للشيخ محمود غريب
مركز السلطان قابوس للثقافة الإسلامية

أخطأ بعض الدعاة . حاولوا شغل الناس عن الدنيا ، وحاولوا تهميشها لحساب الدين ، في تصوّرهم ، حتى قال بعضهم إن علوم الحياة علوم كفّار ، والله قد سخّر الكفار ليخدموننا بهذه العلوم . وهذا جهل فاضح يحتاج إلى شيء من الدراسة لنعرف براءة الإسلام من هذه الأوهام التي يقول أصحابها : إن كلّ علم غير علوم الدين لا نفع فيه ولا فائدة منه . وليس هو ممّا أمرنا الله به ، لأنّ كلّ علم نافع فهو من الكتاب والسنة ، وما ليس في الكتاب والسنة فليس بعلم نافع . وهذا واضح الخطأ ، ظاهر الجهل بالإسلام .

والإمام ابن تميمة عندما اعتبر العلوم العقلية علماً يقرّها الشرع ، فإنّ العلوم التجريبية اليوم مثل الطب والرياضيات والطبيعيات وغيرها كانت تعتبر علوماً عقلية ، وهي من العلوم الشرعية لأنّ الشارع أمر بها في مثل قوله سبحانه وتعالى وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ (الأنفال :60).

يقول الدكتور محمد رشاد سالم " وإذا كان إعداد القوة أمراً واجباً، وكان العلم هو من أهم وسائل أعداد القوة، فالعلم التجريبي في عصرنا واجب، من باب مالا يتمّ الواجب إلا به فهو واجب.اﻫ.

وقديماً قال أئمتنا أن هذه العلوم فرض كفاية. فإذا لم يكن في كلّ مدينة الطبيب المسلم، والمحاسب المسلم ، ومتخصص تطوير السلاح المسلم إذا لم يتوفر هذا في كل مدينة فالبلد كلها آثمة .
وفي التوراة والإنجيل تجسيد للنعيم والعذاب

وقد نقل الأستاذ / عباس محمود العقاد نصوصاً من الكتابين التوراة والإنجيل يؤكد بهما هذا الموضوع ليردّ على الذين يعيبون على القرآن تجسيد المشاهد في الجنة والنار .

كما أخطأ من حاول أن يشغل المسلمين بالملأ الأعلى ومن فيه وما فيه. أعني أنّهم يشغلون الناس بالحديث عن العرش وعن الكرسي، وعن اللوح، وهل رأى النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج ربّه أم لا ؟ وشغلنا كلّ هذه القضايا إجهاد للعقل فيما لم يُخلق له، إنّ العقل خُلق لعمار الدنيا. وحسبنا هو الإيمان بمجمل هذه الأمور.

وقد أخطأ من شغل الناس بهذا ، كما أخطأ من شغل الناس بأمور هي من المحسّنات أعنى من الإسلام – لا نجادل في هذا ، وهي من السنّة ، لا خلاف في هذا ، ولكنّها كلباس الجيش في عصرنا ، ونظام سيره الجماعي ، وتحيّة الجندي للضابط ، شيء جميل ، ولكنه لا يُسبّبْ النصر .

وإذا وضعنا كل شعبة من شعب الإيمان السبعين في مكانها مبتدئين بلا إله إلا الله – كما بدأ النبي صلى الله عليه وسلم ، منتهين بإماطة الأذى عن الطريق فسوف يعلم هؤلاء الدعاة أهمية ما يشغلون الناس به عمّا يشغلونهم عنه من أمور كبيرة .

إنّ السلاح التافه يجرّ الهزيمة على الجنود الأبطال .

والمحامي الهازل إن دافع عن الحق قد يُسبّب ضياعه ، ويسبب اتهام البرئ.

وكما يقول أستاذي محمد الغزالي : الإسلام قضية عادلة ، بيد أنه وقع في أيدي محامين فاشلين .

فالاعتدال هو ما قاله العلماء من قوم موسى لقارون:

[ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ]. (القصص : 77 ).

فالمسلم يرى جمال الدنيا منظار لجمال الله الذي أبدع ، وعظيم قدرته التي أنشأت ، والتي بها قد عرفنا الله ففاقد الجمال كيف يهب الجمال للأشياء ؟

[إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ ](الصافات : 6 ).

[ وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاء بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ ](الحجر : 16 ).

[إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ](الكهف : 7 ).
* الزينة في كلّ شيء خلقه الله في هذه الحياة ، ومعلوم أنّ الزينة تأتي بعد الضروريات.
* الزينة في الطعام
طلب القرآن منّا أن ننظر إلى الثمر قبل أكله ، لنشاهد البهجة التي أودعها سبحانه وتعالى في النبات "انظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (الأنعام :99).
هذه الآخرة فماذا نفعل للدنيا ؟

لا يعني حديثنا عن الآخرة ودعوتنا المسلمين لحبّها أن نهمل الدنيا التي عرفنا الله بها ، وعرفنا الله فيها ، وطلب منّا عمارها :
[ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ ](هود : 61 ).

والله سبحانه وتعالى عندما تكلّم عن الدنيا وما فيها من زينة وجمال أراد أن يعرّفنا عظمته وقدرته وجماله . وكثيراً ما نعرف عظمة المهندس عندما يعرض علينا عبقريّة صنعة أبدعها . ولله المثل الأعلى .
فالله زيّن الدنيا لنعرف شيئاً عن إبداعه وجماله وقدرته ، وأمرنا بعمارها لنؤدي ما خلقنا له ، ولنتمتّع بما عمّرناه ، ويده معنا دائماً [ لِيَأْكُلُوا مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ ](يس : 35 ).
ولا يشغلنا هذا عن الخلود ، وجنات الخلود .
* والدواب التي نركبها لكم فيها زينة وجمال .

[ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ](النحل : 8 ).
وعن عنصر الجمال في الدواب التي نركبها قال سبحانه وتعالى [ وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (النحل:5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ ](النحل:6) .

(ولكم فيها جمال) وزينة . وليست جمع جمل كما يتصّور البعض ، قال أبو ذئيب:
جمالك أيها القلب القريح
ستلقى من تحبّ فتستريح
يريد الزم تجملك وحياءك ولا تجزع جزعاً قبيحاً .

* وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم الرزق مقسوم فأجمل في الطلب . وجاء في حديث الإسراء عن تشبيه الدنيا : " ثم عرضت له امرأة جُمّلاً ، قال صاحب لسان العرب أي امرأة حسناء . وفي الحديث " إن الله جميل يحبّ الجمال " (راجع لسان العرب في حديثه عن "الجمل" ج11 ص123 وفيه "حتى يلج الجمل في سم الخياط" .
الجمل هنا الحبال الغليظة التي يشد بها السفن في البحر والجمل يجمع على جماله .
ومنه قوله سبحانه وتعالى في سورة المرسلات"انها ترمي بشرر كالقصر . كأنه جمالت صفر" 32 المرسلات وقول الشاعر العربي مال الجمالت مشيها وئيداً أجندلا يحملن أم حديداً ؟)
وبعد : إنّ الله زيّن الدنيا لنعرف بها قدرته وإبداعه وجماله . وألزمنا عمارها . ويده الكريمة دائماً معنا .

[ فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا ](النمل : 60 ).

وزيّن الآخرة ، وحبّبها للصالحين من المؤمنين .
والفطناء هم الذين جمعوا بينهما . ولا تعارض أبداً .
والله سبحانه وتعالى جعل من نعمه على النبي صلى الله عليه وسلم أنّه أغناه في الدنيا [ وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى ](الضحى : 8 ) .

والعشرة المبشرون بالجنة من أغنى الصحابة – كما يقول الشيخ محمد الغزالي . فاغتنم دنيا الطائعين ، وجنات الخلود . وما ورد من نصوص تهوّن من شأن الدنيا فذلك للتخفيف من حبّها ، ليبقى في القلب مكان للآخرة .
فاعدل بين الزوجات إن جمعت بينهنّ . واجمع بين الحياتين إن أردت النجاة " وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (القصص : 77 ) واجعل أملك في الدنيا لا يقف عند حدودها ، فأمامك آخرة وجنّات ونعيم .