يتبع تاريـــــــــــــخ القدس وأحداثها


الاحتلال الصليبي لبيت المقدس:


في الوقت الذي جاء فيه الصليبيون إلى القدس، لم يكن ممنوعًا على أي مسيحي من أنحاء الدنيا أن يأتي إلى المدينة المقدسة ليحج إلى المواضع التي يقدسها، ككنيسة القيامة، وكنيسة المهد، وكنيسة ستنا مريم، بل كان الطريق دائما مفتوحًا وميسرًا أمامه، سواء أتى من صقيع أوروبا أو من البلاد القريبة المحيطة ببيت المقدس.

وقد أتى بطرس الناسك من جنوب القارة الباردة البائسة حينئذٍ أوروبا، في هيئةٍ رَثَّةٍ، يركب حمارًا، مخترقًا الطريق نحو بيت المقدس، وهناك قضى مناسكه وأدى طقوسه الدينية، وكانت كنيسة القيامة التي خربها الحاكم قد أعيد إعمارُها، فزارها، ولكن قلبه بدلاً من أن يرجع شاكرًا لهؤلاء الذين أتاحوا له فرصة الحج إلى المواضع التي يقدسها، رجع بشيء آخر.

اغتاظ بطرس الناسك ـ وهو رجل دين مسيحي غربي ـ من وقوع كنائس المسيحية وأماكنها المقدسة تحت سيطرة المسيحيين العرب الذين يخالفونه في المذهب والنظرة إلى المسيح، وزاد من غيظه وحقده أنْ تقع مدينة بيت المقدس، مدينة المسيح، تحت سيطرة المسلمين الكفار ـ في رأيه!

وفي طريق العودة راح بطرس الراهب في نوبة من التفكير العميق، حتى شُغل عن رفاقه من الحجيج، وتقلبت في رأسه أفكار وأفكار، حتى قرر أنه لابد من السيطرة على بلد المسيح، وأفضل طريق إلى ذلك تحريض الكنيسة لأوروبا وملوكها على غزو الشرق الإسلامي، وهو التحريض الذي قام به البابا أوربان الثاني منطلقًا من فرنسا.

واستمعت أوروبا إلى خطاب البابا، وتردد صداه في كل أنحاء القارة، واجتمع له الملوك وأصحاب النفوذ، وأعدوا جحافل من القوات والمقاتلين، حتى هبطوا على بلاد الإسلام في الحملة الصليبية الأولى، التي نجحت في الاستيلاء على بيت المقدس سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة، وأقامت إمارة بيت المقدس الصليبية.

وفشل المسلمون في صد العدو الزاحف من الغرب لأسباب عديدة، وجاءت الهزيمة نذيرًا شديدًا لهم، ولم يَطُل الزمن حتى تنبه أُولُو الغيرة والدين من المسلمين إلى خطورة الوضع، وسعوا إلى دحر الصليبية، واستخلاص بلاد المسلمين من بين أيديها.


تحريض الكنيسة للأوروبيين:


لم يكن يخفَى أن هنالك مضايقات تعرض لها حجاج المسيحية إلى بيت المقدس أثناء الصراع الساخن بين السلاجقة والفاطميين للسيطرة على بلاد الشام، حتى منع الحج المسيحي وتوقفت الزيارات فترة من الزمن ـ إلا أن الكنيسة البابوية في فرنسا بالغت في تضخيم هذه الحوادث الطارئة، وقامت بحملة شعواء تحرض فيها أوروبا على حرب الكفار من المسلمين!

ففي نوفمبر عام ألف وخمسة وتسعين للميلاد، وقف البابا أوربان الثاني في كاتدرائية مدينة "كليرمونت" جنوب فرنسا يخطب في جموع النصارى، يحرض أوروبا كلها ضد المسلمين فقال: "لقد دخلت الكلاب إلى الأماكن المقدسة، وجرى تدنيس المقدسات، وإذلال الناس عبدة الرب.. كما أن كنيسة القيامة تتحمل حكمهم، وقد دنستها قذارة الذين ليس لهم نصيب في القيامة..".

وزاد في دَغْدَغَة العواطف الملتهبة للجموع من حوله، وقال: "سلِّحُوا، أيها الإخوة، أنفسَكم بغيرة الرب، وشُدُّوا أحزمة سيوفكم على أوساطكم، أيها الجبارون .. فمِن الأفضل أن نستشهد من أن نرى مصائب قومنا ومصائب أقداسنا...".

ودعا البابا الجموع المنصتة إليه، في لحظة تاريخية خطيرة وفاصلة، إلى غزو الأرض التي تفيض "لبنًا وعسلاً" حتى تقوى عزيمة الجميع في طلب الدنيا، إن لم تكن لديهم عزيمة لخدمة دينهم!

وقال بطرس الناسك: "إني نظرت قبر المسيح محتَقَرًا مُهانًا، وزوَّارُه مضطهدون"، فنادى الحاضرون بالحرب قائلين: "الله يريد ذلك"!

وراح أتباع البابا ينتشرون في الشارع الأوروبي، يدعون الناس في خطاب مثير إلى إنقاذ الأرض المقدسة، واسترجاعها من يد المسلمين الذين اغتصبوها، وأهانوا ما فيها من المقدسات ـ كما أشاعوا…

وسار هذا الخطاب الدعائي، الذي لم يهتم بالتزام الحقيقة، في أنحاء أوروبا، ووصلت مخاطبات البابا للملوك والأمراء في أوروبا تحرضهم على الخروج مع الجموع الذاهبة لتخليص "بلد المسيح" ! فقد كانت القدس ـ كما بدا ـ هي مقصدهم وهدفهم، لكن لعابهم سال للخيرات التي تمتلئ بها مدن الشام المحيطةُ ببيت المقدس، فاحتلوا العديد منها أيضًا، وبدا أن وراء الحرب أهدافا أخرى خفية.


دوافع الحروب الصليبية:


في دعوتها لشن الحروب الصليبية، نجحت البابوية في تصويرها على أنها حرب مقدسة، لتخليص بلد المسيح من يد "الهمج" المسلمين، وركَّز الخطاب البابوي على ذلك، مستغلاً العاطفة الدينية لدى نصارى الصقيع الأوروبي.

لقد بدا الدين دافعًا ظاهريًا لشن "حرب (أوروبية) مقدسة" ضد المسلمين، أخذت اسمها عند الأوروبيين أنفسهم من أحد الرموز الكبرى في العقيدة النصرانية في الشرق والغرب، وهو الصليب.

لكن كان هذا هو الدافع الظاهر فقط، وإن كان له تأثير ضخم في إشعال حماس العامة الذين دُعوا إلى الخروج للحرب في الشرق.


أما الدوافع الحقيقية والعميقة لشن الحروب الصليبية، فهي:

ـ توسيع سلطة البابا بالسيطرة على الأماكن المسيحية المقدسة في الشرق، وإلغاءِ السيطرة المسيحية الأرثوذكسية هناك، ونجدة البيزنطيين الذين تعرضوا لانكسارات وهزائم متعددة أمام السلاجقة، وهو أمر يتيح للبابا قيادة الكنيسة المسيحية في كل مكان، حتى في الدولة البيزنطية.

ـ شَغْلُ الأمراء والإقطاعيين الأوروبيين بالحرب في الشرق، بدلاً من التقاتل الداخلي فيما بينهم.

ـ الانتفاع بما في الشرق من ثراء لإنعاش الحياة الأوروبية، فالبلاد التي يتوجه إليها الغزاة الصليبيون تفيض "لبنًا وعسلاً"!


يتبع