يتبع تاريخ القد س وأحداثها
حطين تفتح الطريق إلى القدس:
غربيَّ طبرية، وعلى الطريق المؤدية إلى القدس جنوبًا، وسط منطقة خضراء فيها زروع وبحيرة وماء كثير، تقع حطين، ويشرف عليها تل مرتفع..
كانت فلسطين في القرن السادس الهجري مملوءة بالصليبيين الذين أشعل صلاح الدين الأرض من تحتهم نارًا منذ وفاة نور الدين، فكان يفاجئهم بالحرب في مواقع كثيرة، ويختطف منهم الحصون والمدن، ويَهزمهم ويُهزم منهم، حتى جاء موعد حطين في سنة خمسمائة وثلاث وثمانين، حيث خرج صلاح الدين من دمشق في شهر المحرم، وتوجه إلى بصرى، وانتظر عودة الحجاج من الحجاز ليؤمنهم من غدر أمير الكرك الذي قتل رَكْبًا للحجيج قبل ذلك، وتعرض بالإهانة لنبي الإسلام ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأقسم صلاح الدين على الانتقام منه بنفسه.
فلما عبر الحجيج سالمين، سار السلطان الناصر صلاح الدين بجنوده نحو الكَرَكِ، فنزلها "وقطع ما حولها من الأشجار، ورعى الزرع، وأكلوا الثمار".. وأقبلت القوات إلى صلاح الدين من مصر وشتى أنحاء مملكته.
وبلغت تحركات صلاح الدين مسامع الصليبيين، فأخذوا يجمعون جحافلهم، ويُجَيِّشون جيوشَهم، وفيهم ملوكهم الكبار، وخرجوا إلى صلاح الدين وقواته، وأقبل السلطان الناصر زاحفًا، "ففتح طبرية، وتقوّى بما فيها من الأطعمة والأمتعة وغير ذلك"، ومنع الماء عن الصليبيين حتى كاد العطشُ يهلكُهم، وتقدم المسلمون حتى نزلوا حطين.
وفي يوم حار من أيام شهر يوليو، في الرابع والعشرين من ربيع الآخر سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، كانت حلوق الصليبيين يوم المعركة ملتهبة من العطش، وهم يحملون شعارهم المقدس، صليبًا من الخشب، وقد زينوه بالذهب والجوهر الكثير، وأسموه صليب الصلبوت؛ لاعتقادهم أن المسيح صُلب عليه..
وأخذوا يزحفون جهة صلاح الدين الذي انسحب من أمامهم ليستدرجهم إلى موضع أفضل للقتال بالنسبة لجيشه، وسيطر المسلمون على المياه ومصادرها، وأعطوا ظهورهم للأردنّ، واستقبلوا العدو في جمعه الكبير، خمسين ألفًا..
في هذه اللحظة انطلق الفرسان من الجانبين في قتال مرير، وارتفعت صيحات المسلمين بالتكبير، وقاتل الناصر صلاح الدين بنفسه، وطاف بين جنوده يحرضهم على القتال، وأمر بإشعال الأرض بالنفط من تحت أقدام عدوّه حين رأى العُشب الجاف يكسوها، فاجتمع على الصليبيين "حَرُّ الشمس وحر العطش وحر النار وحر السلاح وحر رشق النبال"، وحمل القائدُ المسلم وجنودُه حملة صادقة كان فيها الحسم، حيث وقعت في الصليبيين مقتلة عظيمة، وراحوا يستسلمون للمسلمين جماعاتٍ، فكان الرجل الواحد من المسلمين يأسر بالعشرات من الصليبيين، يقيّدهم بالحبال، حتى استسلم ملوك الصليبيين، ووقع أكثرُهم في الأسر.
وواصل السلطان الناصر سيره، حتى استولى على قلعة طبريّة الحصينة، وافتتح عكا صلحًا، "ثم سار منها إلى صيدا وبيروت وتلك النواحي من السواحل يأخذها بَلدًا بلدًا، لخلوّها من المقاتِلَةِ والملوك، ثم رجع سائرًا نحو غزة وعسقلان ونابلس وبيسان وأرض الغور، فملك ذلك كله.. وكان جملة ما افتتحه السلطان في هذه المدة القريبة خمسين بلدًا كبارًا..".
لقد فتحت كل هذه الفتوح الطريق إلى بيت المقدس، وأصبح الهدف المركزي من شن الحرب ضد الصليبية قريب التحقق، وراح الشاعر العماد الأصفهاني يقول لصلاح الدين وجيوش المسلمين:
غَزَوْا عُقْر دار المشركين بـ"غزة"
جِهَارًا، وطرف الشرك خزيان مُطْرِقُ
وهيَّجْـتَ للبيـت المقـدَّس لوعـة
يطول بها منه إليك التشوُّقُ
هـو البيـت إن تفتحْـه، والله فاعل،
فمـا بعـده بـاب مـن الشـام مغلَــق!
صلاح الدين يحرر القدس:
كانت أنشودةً رائعة للنصر، تلك التي غنّاها صلاح الدين في حطين، حيث التقط بعدها المدن والقلاع من يد الصليبيين واحدة بعد الأخرى. وكان المسلمون بعدها يترقبون بشوق عارم أن يعلن السلطان التوجه إلى بيت المقدس، فلما أعلن ذلك طارت بهم أرواح الشوق، فقصده المتطوعون من العلماء والصالحين من أنحاء العالم الإسلامي، وأتاه أخوه الملك العادل من مصر في قواته، فاجتمع لدى صلاح الدين جيش كبير، سار به من عسقلان إلى القدس.
وقف الجيش المسلم أمام المدينة المُطلة على الدنيا من فوق مرتفعاتها في كبرياء وشموخ، بعد أن وجه صلاح الدين أسطوله البحري في مصر إلى الشواطئ قُبالة القدس، ليمنع وصول أي مساعدة إلى الصليبيين.
وأنزل صلاح الدين أخاه العادل في جيشه جنوب سور المدينة ليشغل العدو بهذه الناحية، ويشتت قواتهم حول الأسوار المنيعة، ونزل السلطانُ نفسُه في الناحية الغربية من القدس، وبقي في موضعه هذا خمسة أيام يحاول اقتحام المدينة، والعدو يزيد هذه الناحية تحصينًا، حتى أيقن صلاح الدين أن الصليبيين قد ركزوا أكثر اهتمامهم وقواتهم وعتادهم في السور الغربي للمدينة، فتحول فجأة إلى السور من جهته الشمالية، ووقع القتال ساخنًا، حتى استشهد بعض أمراء المسلمين، فازدادت النفوس حماسة وإصرارًا على القتال، وأبصر المسلمون الصلبان فوق قبة الصخرة وفوق الأسوار، فازدادوا حماسة لإبطال هذا كله، وتساقطت الأحجار من المجانيق على السور كالمطر الغزير، وتحت وابل هذه الأحجار نقب المسلمون السور من زاويته الشرقية الشمالية، حتى انهدم البرج القائم هناك، وانفتح الطريق أمام المسلمين لاقتحام المدينة.
كان أمام المسلمين أن يُعْمِلوا في أعدائهم قتلاً وذبحًا، ويملأوا شوارع المدينة المباركة من دماء القتلى، لكن صلاح الدين قَبِل أن يصالح الصليبيين، وتسلم منهم القدس المباركة في السابع والعشرين من شهر رجب، أي ما يوافق ليلة الإسراء والمعراج من سنة خمسمائة وثلاث وثمانين.
ومسح القائد المنتصر عن المدينة دموعها، وعالج آلامها، وردَّها إلى سالف عهدها مدينةً إسلامية يُرفع فيها الأذان، وتقام الجُمُعَات.
صلاح الدين يتسلَّم القدس:
لم تكن مشاهد المأساة الرهيبة التي ارتكبها الصليبيون في القدس يوم استولوا عليها تفارق خيال صلاح الدين، الذي لم يشاهدها بعينيه، إذ لم يكن قد وُلد حين وقعت، غير أن مشاعر هذا الجيل كله قد تأثرت بهذه المأساة الكبيرة.
وحين استطاع صلاح الدين بقواته فتح طريق في سور القدس، أراد أن يقتحمها على أهلها، وصورة المأساة الأولى ماثلة أمام عينيه؛ دماء قَلَبَتْ لون الأرض حُمْرةً قانية، تميل إلى السواد في بعض المواضع، وأشلاء بشر مقطعةٌ لا يَدْري أيٌّ منها مَن صاحبُه، وملابس الصليبيين وأجسادهم ملطخة بدماء الضحايا، كأنهم ذئاب فرغت لتوها من فرائسها!
لكن الصليبيين راحوا يلتمسون عند السلطان الناصر الصلح، وهو يحاصرهم، فقال لهم في غيظ شديد: "لا أفتحها إلا عنوة (أي بالقوة) كما افتتحتموها أنتم عنوة، ولا أترك بها أحدًا من النصارى إلا قتلته كما قتلتم أنتم من كان بها من المسلمين" !!
إلا أنهم عادوا يترققون إلى السلطان، ويذلون بين يديه، وخلطوا بذلك التهديد بقتل خمسة آلاف أسير من المسلمين في أيديهم، وبتخريب البيوت، وإتلاف كل ما يمكن الانتفاع به، وهدم قبة الصخرة، ثم الاستماتة في القتال حتى يُفنوا من يقدرون عليه من المسلمين قبل أن يموتوا هم، فرضي السلطان بالصلح ـ بعد استشارة أمرائه ـ صونًا لدماء المسلمين، وحفظًا للمدينة المقدسة من الدمار.
واشترط صلاح الدين على المحتلين أن يغادروا القدس تمامًا في خلال أربعين يومًا، ولا يصطحبوا معهم خيلاً ولا سلاحًا، ويدفع الرجل عن نفسه عشرة دنانير، والمرأة خمسة، والصغير يُدفع عنه ديناران، ومن عجز عن ذلك صار رقيقًا في يد المسلمين، ومع ذلك تسامح صلاح الدين والمسلمون مع الكثيرين ممن عجزوا عن دفع هذه الدنانير، وتركوهم يغادرون القدس، وتركوا البطريرك يخرج بنفائس الكنائس وكنوزها، وأعاد صلاح الدين زوجات الأمراء والكبراء من الصليبيين إلى أزواجهن، معهن كل ما يملكن من جوارٍ وخدم ومال.
وراح الصليبيون يجمعون متاعهم وهم في ذهول عما يجري حولهم، لا يصدقون أنهم يتركون القدس، ولا يصدقون أن المسلمين يتعاملون معهم بهذا الرفق، وهذا الصون للعهد، وراحوا يتسللون من المدينة المقدسة في ذل، فذهب أكثرهم إلى صور التابعة لهم، وبيتوا في أنفسهم مواصلة الصراع الشرس مع المسلمين حول القدس.
وصلى المسلمون وقائدُهم أول جمعة في القدس ـ منذ الاحتلال الصليبي ـ بعد الفتح بسبعة أيام.
صلاح الدين يمسح عن القدس دموعها:
في يوم الجمعة السابع والعشرين من رجب سنة خمسمائة وثلاث وثمانين، قبل وقت الصلاة بقليل، وفي صورة مهيبة دخل صلاح الدين بيت المقدس، وحوله قُرابة عشرة آلاف عمامة من العلماء والزهاد، كانت دموع الفرح والإحساس بالنعمة تملأ عيون الناس، فالمدينة المباركة قد عادت بعد غربةٍ أكثرَ من تسعين عامًا إلى الحضن الإسلامي الدافئ، وراحت العيون تصافح شوارع القدس وأحياءَها ومساجدها التي طالتها يد التشويه، وصلى المسلمون الجمعة ظهرًا، إذْ لم يتسع الوقت لهم لأداء صلاة الجمعة يوم الفتح المسمَّى بالفتح الأكبر، كما سُمِّى فتح مكة بالفتح الأعظم.
وبعد أن جلس صلاح الدين يتلقى التهنئة على الفتح، وأنشأ الشعراء قصائدهم السعيدة تسجل الحادث العظيم، وأرسل صلاح الدين إلى جميع بلاد الإسلام بالفتح العظيم ـ بعدها بدأ صلاح الدين والمسلمون يمسحون عن وجه القدس الدموع، فأزالوا كل التشويهات والتعديات التي قام بها الصليبيون، فأعيدت المساجد كما كانت، ورفعت عنها الصلبان، "وغسلت الصخرة بالماء الطاهر، وأعيد غسلها بماء الورد والمسك الفاخر، وأبرزت للناظرين، وقد كانت مستورة مخبوءة عن الزائرين"، وكان غسل الصخرة على يد صلاح الدين نفسه، حيث قام يغسلها وهو يبكي، ودارت في ذهنه هنا صورة أمير المؤمنين عمر وهو ينظِّف الصخرة بنفسه بثوبه، ويحمل التراب وهو أمير المؤمنين وحاكم الدنيا!!
وهُدمت البِنايات الإضافية التي زادها الصليبيون في المسجد الأقصى، والتي كانت نزلا لصفوة جنودهم، ووضعت في المسجد المبارك القناديل، وفُرش بالبُسُطِ، وحمل منبر نور الدين محمود الرائع ووضع في المسجد الأقصى، شاهدًا لهذا البطل الذي عمل الكثير من أجل القدس، ورحل قبل أن يتحقق أمله في دخولها والصلاة في مسجدها.
ورتب الناصرُ صلاحُ الدينِ يوسفُ بنُ أيوبَ إمامًا لمسجد قبة الصخرة، وإمامًا للمسجد الأقصى، وبنى المدرسة الصلاحية للشافعية، وشيد للصوفية رِباطًا.
وأراد صلاح الدين أن ينتصر للمساجد، فيهدم كنيسة القيامة، فقال له المسلمون: "قد فتح هذا البلدَ قبلك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وترك هذه الكنيسة بأيديهم، ولك في ذلك أسوة"، فتركها قائمة، ولم يترك فيها من النصارى سوى أربعة يخدمونها.
ورتب القائد سكان المدينة من جديد، بحثا عن الأمن والأمان للمدينة ومن يقيم فيها.
يتبع
المفضلات