زعمت الرافضة أن أبا بكر وعمر وعثمان حرَّفوا القرآن وأسقطوا كثيرًا من آياته وسوره.
وتعلقوا في ذلك بأحاديث وردت في آيات منسوخة، كحديث أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: كَمْ تَقْرَءُونَ سُورَةَ الأَحْزَابِ؟ قَالَ: بِضْعًا وَسَبْعِينَ آيَةً. قَالَ: لَقَدْ قَرَأْتُهَا مَعَ رَسُولِ اللهِ r مِثْلَ الْبَقَرَةِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْهَا، وَإِنَّ فِيهَا آيَةَ الرَّجْمِ.(19)
وكحديث عائشة السابق في عدد الرضعات الْمحرمات،(20) وكحديث عمر في آية الرجم.
فعن عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قال: إِنَّ اللهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا r بِالْحَقِّ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ، فَكَانَ مِمَّا أَنْزَلَ اللهُ آيَةُ الرَّجْمِ، فَقَرَأْنَاهَا وَعَقَلْنَاهَا وَوَعَيْنَاهَا، رَجَمَ رَسُولُ اللهِ r وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ، فَأَخْشَى إِنْ طَالَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: وَاللهِ مَا نَجِدُ آيَةَ الرَّجْمِ فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ أَنْزَلَهَا اللهُ، وَالرَّجْمُ فِي كِتَابِ اللهِ حَقٌّ، عَلَى مَنْ زَنَى إِذَا أُحْصِنَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، إِذَا قَامَتِ الْبَيِّنَةُ أَوْ كَانَ الْحَبَلُ أَوِ الاعْتِرَافُ، ثُمَّ إِنَّا كُنَّا نَقْرَأُ فِيمَا نَقْرَأُ مِنْ كِتَابِ اللهِ: أَنْ لا تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ؛ فَإِنَّهُ كُفْرٌ بِكُمْ أَنْ تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ، أَوْ: إِنَّ كُفْرًا بِكُمْ أَنْ تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ.(21)
كما تعلَّقوا بأكاذيب افتروها من عند أنفسهم، ونسبوها لأهل البيت كذبًا وبُهتانًا، فمن ذلك ما رووه عن أبي عبد الله جعفر الصادق(22) أنه قال: إن القرآن الذي جاء به جبريل إلى محمد r كان سبعةَ عشرَ ألفَ آيةٍ.(23)
وما رووه عنه أيضًا أنه قال: كان في سورة } لم يكن{ اسم سبعينَ رجلاً من قريش بأسمائهم وأسماء آبائهم.
وغير ذلك كثير مما ادَّعَوا فيه التغيير والتحريف.(24)
وقد اختلف الروافض في القرآن: هل زِيدَ فيه أو نُقص منه؟ على ثلاث فرق:(25)
فالفرقة الأولى: منهم يزعمون أن القرآن قد نقص منه، وأما الزيادة، فذلك غير جائز أن يكون قد كان، وكذلك لا يجوز أن يكون قد غُيِّر منه شيءٌ عمّا كان عليه، فأما ذهاب كثير منه، فقد ذهب كثير منه، والإمام يُحيط به.
والفرقة الثانية: يزعمون أن القرآن قد زِيد فيه ونقص منه، وغُيِّر وبدِّل عمّا كان عليه.
والفرقة الثالثة: يرون أن القرآن لم ينقص منه، ولا زِيدَ فيه، وأنه باقٍ على ما أنزل الله تعالى على نبيه r، لم يغير ولم يبدِّل عمّا كان عليه.(26)
وعامة الروافض مِمَّن يزعم أن القرآن قد غُيِّر وبدِّل ونُقص منه، وكتبهم طافحةٌ بِهذا الهذيان، حتى إن أحد متأخريهم، وهو الحاج ميرزا حسين بن محمد تقي النوريّ قد ألَّف كتابًا سمَّاه: فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب، جمع فيه مئات النصوص عن علماء الشيعة ومجتهديهم في مختلف العصور بأن القرآن قد زِيدَ فيه ونُقِصَ منه.
وقد طُبِع كتاب النوريّ هذا في إيران سنة ثَمانٍ وتسعين ومائتين وألفٍ من الهجرة، فأثار ضجة كبيرة، لأن دين القوم المبني على التقية والكذب أن لا يُطلعوا على طوامِّهم أحدًا من غيرهم.(27)
والجواب عن هذه الشبهة بوجوه:
الوجه الأول: أن هذه الشبهة تُهمةٌ مجردة عن السند والدليل، ومثلها لا يستحق الرد عليه.
فإن استدلالهم بالأحاديث التي صحَّت عند المسلمين كحديث عمر في آية الرجم لا يدل على نقص القرآن، بل كل ما فيه أنه يُخبر أن هذه الآية كانت من القرآن ونسخت، ويدل على ذلك قول عمر في بعض الروايات: وَايْمُ اللهِ! لَوْلاَ أَنْ يَقُولَ النَّاسُ زَادَ عُمَرُ فِي كِتَابِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- لَكَتَبْتُهَا.(28)
وأما حديث أبيِّ بن كعب، فلم يثبت، وعلى فرض صحته فمعناه أنَّها نسخت تلاوتُها، وأزيلت، لأنه لم يقل فرَّطنا فيها ولا ضيَّعناها.(29)
وأما حديث عائشة -رضي الله عنها- في عدد الرضعات المحرمات، فقد استوفينا الكلام عليه قريبًا.
وأما ما تعلقوا به من الأكاذيب التي نحلوها أهل البيت زورًا وبُهتانًا، فلا حاجة لنا بنقاشها، لأنَّها لم تنقل نقلاً يوجب النظر، بل رواتُها إما مجاهيل، وإما من أفَّاكي الرافضة، الذين يدينون الله تعالى بالكذب -لعنهم الله!
قال أبو محمد بن حزم في دعوى الروافض تبديل القرآن: إن الروافض ليسوا من المسلمين، إنَّما هي فرقة حدث أولُها بعد موت رَسُول اللهِ r بخمس وعشرين سنة … وهي طائفة تجري مجرى اليهود والنصارى في الكذب والكفر… وكل دعوى بلا برهانٍ فلا يشتغل بِها عاقل، سواء كانت له أو عليه.(30)
الوجه الثاني: أنه قد حصل لنقل القرآن شروط التواتر، وجُمِع بِمشهد من الصحابة، ومنهم عليُّ بن أبي طالبٍ t، الذي يزعمون أنَّهم أشياعه، وهم في الحقيقة أعداؤه.
وانعقد أيضًا إجماع الأمة على أن الموجود بين دفتي المصحف هو كتاب الله من غير زيادة ولا نقصان، ولا تغيير، ولا تبديل، ولا يجوز مُخالفة إجماع المسلمين، كما أن التواتر يفيد العلم القطعي اليقيني،(31) فثبت أن القرآن لم يُزد فيه، ولم يُنقص منه شيء.(32)
ولو قُدِّر أن القرآن تغيَّر فيه حرف واحدٌ لوجب في مستقر العادة ظهور ذلك وانتشاره، لتوفُّر الدواعي على نقل هذا، ويدل على ذلك أنه قد نقل إلينا ما هو أقل خطرًا من التحريف والتبديل، كاختلاف الصحابة في لفظ (التابوت) هل يكتب بالتاء أم بالهاء.(33)
قال ابن حزم: واعلموا أنه لو رام أحدٌ أن يزيد في شعر النابغة أو شعر زُهيرٍ كلمةً أو ينقص أخرى ما قدر؛ لأنه يفتضح للوقت، وتُخالفه النسخ المثبوتة، فكيف والقرآن في المصاحف، وهي من آخر الأندلس وبلاد البربر، وبلاد السودان، إلى آخر السند وكابُلَ وخُراسان والتُّرك والصقالبة وبلاد الهند، فما بين ذلك؟ فظهر حمق الرافضة ومُجاهرتُها بالكذب.(34)
والوجه الثالث: أن القرآن قد جُمِع بِمرأًى من أمير المؤمنين عليِّ بن أبي طالبٍ، وقد وافق الصحابة y فيما صنعوه، وقال: رحمةُ اللهِ على أبي بكرٍ؛ كانَ أعظمَ الناسِ أجرًا في جمع المصاحفِ، وهو أوَّل من جمع بين اللَّوْحَيْنِ.(35)
ولو كان القرآن عند الجمع قد نُقص منه أو زِيدَ فيه لكان الظن بعليٍّ أن يكون أول من ينكر، فقد كان من أشجع خلق الله في نصرة الإسلام.
عن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ r أَخَذَ الرَّايَةَ فَهَزَّهَا، ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَأْخُذُهَا بِحَقِّهَا؟ فَجَاءَ فُلاَنٌ فَقَالَ: أَنَا. قَالَ: أَمِطْ،(36) ثُمَّ جَاءَ رَجُلٌ، فَقَالَ: أَمِطْ، ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ r: وَالَّذِي كَرَّمَ وَجْهَ مُحَمَّدٍ، لأُعْطِيَنَّهَا رَجُلاً لاَ يَفِرُّ، هَاكَ يَا عَلِيُّ. فَانْطَلَقَ حَتَّى فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ خَيْبَرَ وَفَدَكَ.(37)
فأين ذهبت شجاعة عليٍّ t عندما بدَّل الصحابة وحرفوا -على حدِّ زعم الروافض- قبَّحهم الله!
الوجه الرابع: أن عليًّا t الذي هو عند أكثر الروافض إلهٌ خالقٌ، وعند بعضهم نبيٌّ ناطقٌ، وعند بقيتهم إمامٌ معصوم -ولِيَ الأمر بعد الأئمة الراشدين الثلاثة، وملك نحو ستة أعوام خليفةً مطاعًا، ظاهر الأمر، حاكمًا للدنيا عدا الشام ومصر والفرات.
فما الذي منعه أن يَجهر وقتئذٍ بالحق في القرآن، وأن يبين ما زعموه من التبديل والتحريف، وأن يُصحِّح ما أخطؤوا فيه، وقد كان من سادات حفظة كتاب الله، وقد كان القرآن يقرأ في المساجد، وفي كل مكان، وهو يؤم الناس به، والمصاحف معه وبين يديه، فلو رأى تبديلاً كما تقول الرافضة أكان يقرُّهم على ذلك؟!
ثم تولى الأمر بعده ابنه الحسن t، وهو عند الروافض كأبيه، فجرى على ذلك، ولم ينكر، ولم يغير شيئًا، ولقد كان جهاد من حرَّف القرآن، وبدَّل الإسلام أوكد عليه من قتال أهل الشام، الذين إنَّما خالفوه في رأي يسير رأوه، ورأى خلافه فقط، فظهر كذب الرافضة ببرهانٍ أسطع من شمس النهار، والحمد لله رب العالمين.(38)
وأما من زعم من الرافضة أن القرآن نقص منه ولم يزد فيه، فقد وافقونا في عدم جواز الزيادة على القرآن؛ قالوا: لأنه لو زِيد فيه لم يذهب على الأمة، ولأنه معجزٌ، والخلق غير قادرين على الإتيان بِمثله، وهذان مانعان من الزيادة فيه.
واحتجوا على النقص بِما سبق من شبهات إخوانِهم.
وأما كلامهم هذا فمردودٌ أيضًا، بأن النقص أيضًا لم يكن ليذهب على الأمة، مع توفر دواعي الحفظ والتثبت في النقل.
وأما استدلالهم بأن إعجاز القرآن مانع من الزيادة، فصحيحٌ عندنا، وأما عندهم فهم متفقون على أنه ليس كل كلمة وكل حرف من القرآن معجزًا، فيعترض على دليلهم بأنَّهم قد يكونون زادوا آلاف الكلمات المتفرقة، فلم تستطيعوا تبينها، فظهر أنه لا دليل لهم على الفرق بين النقص والزيادة، فمن أثبت أن القرآن لا يُمكن الزيادة عليه، لا بد أن يثبت أيضًا أنه لا يُمكن النقص منه، فلا فرق بين الزيادة والنقصان في القرآن، فالأمران مُمتنعان.(39)
(19) رواه أحمد في مسنده: مسند الأنصار (6/158) ح 20701، 20702، قال ابن كثير: وهذا إسناد حسن، وهو يقتضي أنه قد كان فيها قرآن، ثم نُسِخ لفظه وحكمه أيضًا، والله أعلم. تفسير القرآن العظيم (3/465)، ورواه الحاكم في المستدرك (2/415) وصححه، ووافقه الذهبي.
(20) وقد سبق، وسبق الرد على ما تعلق به الطاعنون منه، في الشبهة الثانية، التي قبل هذه مباشرة.
(21) رواه البخاري في صحيحه: كتاب الحدود بَاب رَجْمِ الْحُبْلَى مِنَ الزِّنَا إِذَا أَحْصَنَتْ (12/148) ح 6830.
(22) الإمام الصادق، شيخ بني هاشم، أبو عبد الله القرشي الهاشمي، المدني، أحد الأعلام، ولد سنة 80هـ، كان ثقة مأمونًا، فصيحًا بليغًا، له كلمات ومواعظ وحكم خالدة مشهورة. توفي سنة 148هـ. سير أعلام النبلاء (6/255)، وشذرات الذهب (1/20).
(23) عدد آي القرآن عند الكوفيين ستة آلافٍ ومائتان وست وثلاثون آية، وهو أكثر ما قيل في عدد آي القرآن، وأقل ما قيل ستة آلافٍ ومائة وتسعون وسبع آيات. ويرجع هذا الخلاف إلى اختلاف السلف في عدِّ بعض الآي، فبعضهم يعد موضعًا ما، وبعضهم لا يعدُّه. انظر بصائر ذوي التمييز (1/559-560).
(24) مناهل العرفان (1/280)، ونكت الانتصار لنقل القرآن ص 95-97.
(25) انظر مجمع البيان في تفسير القرآن للطبرسي (1/16-17).
(26) انظر مقالات الإسلاميين (1/119-120)، ومناهل العرفان (1/280-281).
(27) انظر الخطوط العريضة للأسس التي قام عليها دين الشيعة الإمامية، للسيد محب الدين الخطيب ص 11-12.
(28) رواه أبو داود في السنن كتاب الحدود باب في الرجم (4/144-145) ح 4418.
(29) انظر نكت الانتصار لنقل القرآن ص 95، ومناهل العرفان (1/280-281).
(30) الفصل في الملل والأهواء والنحل (2/213).
(31) انظر نزهة النظر في شرح نخبة الفكر ص 21-22.
(32) انظر مناهل العرفان (1/281/282).
(33) انظر نكت الانتصار لنقل القرآن ص 100.
(34) الفصل في الملل والأهواء والنحل (2/216).
(35)رواه ابن أبي داود في كتاب المصاحف، باب جمع القرآن. ص 11-12.
(36) قال ابن الأثير: أي تَنَحَّ واذهبْ. النهاية في غريب الحديث والأثر (4/381).
(37) رواه الإمام أحمد في مسنده: باقي مسند المكثرين (3/391) ح 10738.
(38) انظر مناهل العرفان (1/282)، والفصل في الملل والأهواء والنحل (2/216-217).
(39) نكت الانتصار لنقل القرآن ص 240-241.
المفضلات